فَاتِحَةُ الْقِصَّةِ

(١) نَمُوذَجُ الْحُسْنِ

كَانَتْ أَبْرَعَ بَنَاتِ جِنْسِهَا جَمَالًا، وَأَبْدَعَهُنَّ قَوَامًا (أَحْسَنَهُنَّ قَامَةً وَتَكْوِينًا وَاعْتِدَالَ جِسْمٍ)، وَأَظْرَفَهُنَّ مَنْظَرًا. كَانَتْ — لِوَسَامَتِهَا، وَتَأَلُّقِ عَيْنَيْهَا، وَدِقَّةِ أَنْفِهَا الصَّغِيرِ الْوَرْدِيِّ، وَرَشَاقَةِ أَقْدَامِهَا الْمُبَطَّنَةِ بِالشَّعْرِ — مِثَالًا لِلْحُسْنِ وَنَمُوذَجًا لِلْمَلَاحَةِ.

لَوْ رَأَيْتَهَا — وَهِيَ تَخْتَالُ وَتَتَبَخْتَرُ فِي جِلْبَابِهَا الْأَبْيَضِ الْأَنِيقِ — لَمَا تَمَالَكْتَ مِنْ فَرْطِ الْإِعْجَابِ بِهَا، وَالِافْتِتَانِ بِمَنْظَرِهَا الرَّائِعِ الْأَخَّاذِ.

كَانَ أَشْهَى غِذَائِهَا: الْبِرْسِيمُ.

كَانَتْ تُؤْثِرُ هَذَا الطَّعَامَ (تُفَضِّلُهُ) عَلَى أَلْوَانِ الْأَطْعِمَةِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأُخْرَى.

لَا تَعْجَبْ إِذَا أَطْلَقَ عَلَيْهَا صَوَاحِبُهَا وَرَفِيقَاتُهَا لَقَبَ «زَهْرَةِ الْبِرْسِيمِ».

كَانَتْ — بَيْنَ الْأَرَانِبِ — فِي مِثْلِ جَمَالِ الزَّهْرَةِ الَّتِي يَزْدَانُ بِهَا نَبَاتُ الْبِرْسِيمِ، وَهُوَ — كَمَا حَدَّثْتُكَ — أَشْهَى طَعَامٍ تُحِبُّهُ الْأَرَانِبُ.

(٢) الْأُسْرَةُ السَّعِيدَةُ

كَانَتْ «زَهْرَةُ الْبِرْسِيمِ» — تِلْكَ الْأَرْنَبَةُ الصَّغِيرَةُ الظَّرِيفَةُ الشَّقْرَاءُ — تَعِيشُ مَعَ أَبَوَيْهَا، وَأُخْتَيْهَا، وَإِخْوَتِهَا الثَّلَاثَةِ، فِي جُحْرٍ عَمِيقٍ، حَفَرَهُ أَبُوهَا «الْخُزَزُ» فِي سَفْحٍ؛ أَعْنِي: مَكَانًا مُنْخَفِضًا — اخْتَارَهُ لِسُكْنَاهُ — يَكْتَنِفُهُ سِيَاجٌ (يُحِيطُ بِهِ سُورٌ) مِنَ الْأَعْشَابِ، بِالْقُرْبِ مِنْ بَعْضِ التِّلَالِ الْمُشْمِسَةِ الرَّمْلِيَّةِ.

كَانَ «الْخُزَزُ» خَيْرَ مِثَالٍ لِرَبِّ الْأَسْرَةِ الْبَارِّ الشَّفِيقِ.

كَانَتْ زَوْجَتُهُ «عِكْرِشَةُ» تُحِبُّهُ حُبًّا جَمًّا، لِإِخْلَاصِهِ وَدَمَاثَةِ خُلُقِهِ (سُهُولَتِهِ وَلِينِ طَبْعِهِ).

كَانَ «الْخُزَزُ» — فِي الْحَقِيقَةِ — جَدِيرًا بِكُلِّ إِعْجَابٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدَّخِرْ وُسْعًا فِي إِسْعَادِ أُسْرَتِهِ: كَانَ يَقْضِي وَقْتَهُ كُلَّهُ مَعَ أَوْلَادِهِ وَزَوْجَتِهِ، فَلَا يُفَارِقُهُمْ إِلَّا لِضَرُورَةٍ قَاهِرَةٍ. لَا عَجَبَ إِذَا نَعِمَتْ هَذِهِ الْأُسْرَةُ بِسَعَادَةٍ نَادِرَةٍ قَلَّمَا يَظْفَرُ بِهَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ.

(٣) مَرَضُ «عِكْرِشَةَ»

لَمْ يَكُنْ يُنَغِّصُ عَلَيْهِمْ سَعَادَتَهُمْ، وَيُكَدِّرُ صَفْوَهُمْ، إِلَّا شَيْءٌ وَاحِدٌ، هُوَ مَرَضُ «عِكْرِشَةَ»: أُمِّ الْأَرَانِبِ وَزَوْجَةِ «الْخُزَزِ».

كَانَتْ تَشْكُو السَّقَامَ وَلَا تَسْتَطِيعُ النُّهُوضَ.

اضْطُرَّ زَوْجُهَا النَّبِيلُ إِلَى تَعَهُّدِ أَبْنَائِهِ، وَالسَّهَرِ عَلَى رَاحَتِهِمْ.

(٤) نَشْأَةُ «الْخُزَزِ»

كَانَ «الْخُزَزُ» قَدْ جَابَ الْبِلَادَ وَطَافَ بِهَا — فِي أَوَّلِ شَبَابِهِ — وَعَاشَرَ النَّاسَ، وَاكْتَسَبَ أَكْرَمَ مِيزَاتِهِمْ، وَجَمَعَ — إِلَى إِخْلَاصِهِ وَوَفَائِهِ — تَجْرِبَةً نَادِرَةً، وَثَقَافَةً وَاسِعَةً. عَرَفَ كَيْفَ يُنَشِّئُ بَنِيهِ أَحْسَنَ تَنْشِئَةٍ، وَيُبَصِّرُهُمْ بِكُلِّ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي الْحَيَاةِ مِنْ فُنُونِ الْمَعْرِفَةِ وَأَنْوَاعِهَا. نَشَأَ «الْخُزَزُ» — مُنْذُ حَدَاثَتِهِ — فِي بَيْتِ زَارِعٍ يَعِيشُ فِي إِحْدَى الْقُرَى النَّائِيَةِ الْبَعِيدَةِ.

كَانَتْ حَفِيدَةُ الزَّارِعِ تُحِبُّهُ أَشَدَّ الْحُبِّ: لَا تَكَادُ تُفَارِقُهُ لِشِدَّةِ الْأُلْفَةِ وَالْحُبِّ وَالْإِينَاسِ بَيْنَهُمَا.

هَرَبَ «الْخُزَزُ» مِنْ بَيْتِ الزَّارِعِ، حِينَ رَأَى رَبَّةَ الْبَيْتِ تَذْبَحُ أَحَدَ رِفَاقِهِ (أَصْحَابِهِ)، لِتُهَيِّئَ لِزَوْجِهَا غَدَاءَهُ. لَمْ يُطِقِ الْبَقَاءَ فِي الْبَيْتِ — مُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْمِ — وَهَجَرَهُ إِلَى حَيْثُ يَعِيشُ مَعَ أُسْرَتِهِ.

(٥) اللَّيْلَةُ الْقَمْرَاءُ

لَمَّا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، اجْتَمَعَتِ الْأُسْرَةُ فِي مَكْوِهَا (جُحْرِهَا) قَالَ «الْخُزَزُ» لِأَبْنَائِهِ: «هَلْ أَنْتُمْ مُعِدُّونَ؟ فَإِنَّا عَلَى الرَّحِيلِ عَازِمُونَ.»

أَسْرَعَ «أَبُو نَبِيهٍ» — وَهُوَ أَكْبَرُ أَبْنَاءِ «الْخُزَزِ» — إِلَى أُمِّهِ «عِكْرِشَةَ» لِيُوَدِّعَهَا قَبْلَ سَفَرِهِ. كَانَتْ مُمَدَّدَةً فِي رُكْنٍ مُنْزَوٍ مِنَ الْجُحْرِ، تُعَانِي آلَامَ الْمَرَضِ.

سَأَلَهَا مَحْزُونًا لِسَقَامِهَا: «كَيْفَ أَمْسَيْتِ، يَا أُمَّاهُ؟»

أَجَابَتْهُ: «لَا زِلْتُ أُعَانِي آلَامَ الْمَرَضِ. إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ أَهُمَّ بِالْقِيَامِ، فَتَكَادُ سَاقَايَ لَا تَحْمِلَانِي لِضَعْفِهِمَا!»

قَالَتْ «زَهْرَةُ الْبِرْسِيمِ»: «كَلَّا. لَا تَقُولِي ذَلِكَ، يَا أُمَّاهُ!»

أَقْبَلَتْ عَلَى أُمِّهَا تُؤَسِّيهَا (تُصَبِّرُهَا)، وَتُمِرُّ لِسَانَهَا عَلَى أُذُنَيْهَا — فِي حُنُوٍّ وَرِفْقٍ — وَتُسَرِّي (تُذْهِبُ) عَنْهَا مَا تُكَابِدُهُ مِنْ أَلَمٍ، وَتُبَشِّرُهَا بِقُرْبِ شِفَائِهَا.

رَأَى «الْخُزَزُ» أَنَّ الْوَقْتَ يَمُرُّ سَرِيعًا، فَصَاحَ فِي أَبْنَائِهِ آمِرًا: «هَلُمُّوا أَيُّهَا الْأَبْنَاءُ. لَقَدْ أَرْسَلَ الْقَمَرُ — فِيمَا أَعْتَقِدُ — أَشِعَّتَهُ الْفَاتِنَةَ عَلَى الدُّنْيَا. لَا بُدَّ أَنْ نَتَعَشَّى. لَا تُضِيعُوا وَقْتَكُمْ عَبَثًا. سَأُرِيكُمْ: أَيُّ حَقْلٍ مِنْ حُقُولِ الْبِرْسِيمِ قَدْ وُفِّقْتُ إِلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ؟ إِنَّهُ حَقْلٌ حَافِلٌ (مُحْتَشِدٌ مَمْلُوءٌ) بِذَلِكُمُ الطَّعَامِ الشَّهِيِّ، السَّائِغ الْهَنِيِّ، الَّذِي يَتَحَلَّبُ رِيقُنَا (يَسِيلُ لُعَابُنَا) شَوْقًا إِلَيْهِ. لَا عَجَبَ فِي ذَلِكُمْ؛ فَهُوَ مِنْ لَذَائِذِ الْأَطْعِمَةِ الَّتِي تَصْبُو (تَمِيلُ) إِلَيْهَا نُفُوسُنَا.»

صَاحَ الْأَبْنَاءُ يُوَدِّعُونَ أُمَّهُمْ — فِي جَزَعٍ وَأَسَفٍ — ثُمَّ خَرَجُوا مِنْ جُحْرِهِمْ، وَرَفَعُوا آذَانَهُمْ وَأَذْنَابَهُمْ فِي الْهَوَاءِ، وَأَسْلَمُوا سُوقَهُمْ لِلرِّيحِ، سَاقًا بَعْدَ سَاقٍ، وَهُمْ يَقْفِزُونَ فِي رَشَاقَةٍ وَخِفَّةٍ عَجِيبَتَيْنِ.

وَقَفُوا عَلَى مَسَافَةٍ قَرِيبَةٍ يَنْتَظِرُونَ مَقْدَمَ أَبِيهِمُ «الْخُزَزِ» لِيُرْشِدَهُمْ إِلَى طَرِيقِ الْحَقْلِ.

كَانَ «الْخُزَزُ» — حِينَئِذٍ — يُؤَسِّي (يُعَزِّي) زَوْجَتَهُ «عِكْرِشَةَ» الْمَرِيضَةَ، وَيُوصِّيهَا بَالصَّبْرِ وَالتَّجَلُّدِ، وَيَتَمَنَّى لَهَا نَوْمًا هَادِئًا.

شَكَرَتْ لَهُ «عِكْرِشَةُ» ذَلِكَ الْعَطْفَ، وَتَمَنَّتْ لَهُ السَّلَامَةَ فِي رِحْلَتِهِ (سَفَرِهِ)، حَتَّى يَصِلَ إِلَى رِحْلَتِهِ (الْجِهَةِ الَّتِي يَقْصِدُهَا).

حَانَتْ مِنَ «الْخُزَزِ» الْتِفَاتَةٌ. رَأَى «زَهْرَةَ الْبِرْسِيمِ» لَا تَزَالُ بَاقِيَةً فِي الْجُحْرِ. قَالَ لَهَا: «مَا بَالُكِ لَمْ تَذْهَبِي مَعَ إِخْوَتِكِ؟ أَلَا تُحِبِّينَ أَنْ تُشْرِكِينَا فِي هَذِهِ الرِّحْلَةِ الْجَمِيلَةِ؟»

قَالَتْ «زَهْرَةُ الْبِرْسِيمِ»: «كَلَّا، يَا أَبَتِ. لَنْ أَتْرُكَ أُمِّي الْمَرِيضَةَ وَحِيدَةً فِي هَذَا الْجُحْرِ!»

قَالَ لَهَا «الْخُزَزُ»: «بَارَكَ اللهُ فِيكِ، يَا عَزِيزَتِي. إِنِّي مُكَافِئُكِ — عِنْدَ عَوْدَتِي — بِمَا يَسُرُّكِ. فَودَاعًا.»

خَرَجَ «الْخُزَزُ». رَأَى أَبْنَاءَهُ يَنْتَظِرُونَ مَقْدَمَهُ عَلَى مَسَافَةٍ قَصِيرَةٍ مِنَ الْجُحْرِ. لَمَّا رَأَوْهُ مُقْبِلًا هَتَفُوا فَرِحِينَ. تَقَدَّمَ «الْخُزَزُ»، وَتَبِعَهُ بَنُوهُ. كَانُوا يَقْفِزُونَ فِي الْهَوَاءِ مَسْرُورِينَ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤