الفصل الأول

(يُرفع الستار عن بيت شاه العجم، واثنين من الحرس، وغلمان.)

المنظر الأول

الغلمان :
بزغت شمس التهاني
في سماء الافتخارِ
مذ بدا قان الزمان
ذو المعالي والوقار
مَلكٌ فينا عطوف
منعمٌ برٌّ كريم
محسنٌ عدلٌ رءوف
طاهر القلبِ رحيم
فأدِمه بالسرور
يا إلهي والصفا
أبدًا مدى الدهور
مُسعفًا ومُنصفا
عِش أخا الإنشاد واسلم
ما انجلى البدر التمام
مُشرقًا سامي معظَّمُ
في ابتداء وختام

(ويذهبون.)

ملك :
لا يسلَم المرء من همٍّ ومن كَدرٍ
ولو ترفَّع فوق الشمس والقمرِ
إن أحسنت هذه الدنيا لطالبها
يومًا فتعقبه غمًّا مدى العمرِ
عليَّ بولدي محمود.
حاجب : أمرك يا معدن الجود.
ملك : ما أنعم الله على عبده بنعمة أوفى من العافية، وكل من عُوفِيَ في جسمه ودينه في عيشة راضية، أسفًا على رُشدك يا محمود، وعقلك الذي كنتَ عليه محسود، ما أصابه بعد الحزم والنبالة، فأضاع نكاله، وأفقده خِلاله، كان أديبًا عاقلًا، أريبًا كاملًا، إن تكلم فاضت الحِكَمُ من ينابيع لسانه، وأُعجِب البلغاء بفصيح نطقه وبيانه، والآن أراه يجتهد في الابتعاد، وتقليد مذهب الانفراد، لا يأنس بإنسان، ولا ينفك عن الكتمان، فبمَ أستطلع خبأة غَوره، وأقف على حقيقة أمره؟
ولدي محمود.
محمود : لبيك لبيك يا والدي، فإني سميع مجيب.
غرامي غريمي ودمعي غدا
من الوجد والسُّقم صَيْبًا صبيب
وجسمي براه الهوى والنَّوى
كواهٍ فأمسى كليمًا كئيب
وقلبي الولهان
تلظَّى بالنيران
وطال أيني
وحان حيني
من لوعة الهجران
يا بهجة الأكوان
وصل الشجي ما آن
جودي بقربي
أذهبتِ لُبِّي
بالصد والحرمان
ملك : بزغت أمارة الفرج، وانجاب غيم الحرج، وظهر أنه كليم هواه، وأسير وجده وجواه، ممن اعتراك يا ولدي هذا الغرام؟
محمود : آه هذا الغرام!
بذات حسنٍ تنجلي
كالشمس وسط الحملِ
لها الدموع قد جرت
مثل الفرات السلسلِ
يلوم فيها عاذلي
أين الشجي من الخليِ؟
ملك : ومَن هذه العشيقة يا ولدي؟
محمود : آه هي التي أذابت كبدي.
ذات القوام السمهري
أخت الغزالْ
من أخجلت بالخَفَر
ضوء الهلالْ
كادت بسهم الحور
واللطف تمحو أثري
فاعذروني ضاع فكري
من الجوى والسهرِ
ملك : أنت مغروم يا بُني، فأوضح عشيقتك لديَّ، لأُبلغك مُشتهاك، ولو كان في السِّماك.
محمود : آه يا أبي، السِّماك أقرب من طلبي؛ لأني عشقت صورة على ورق، واعتراني في حبها الوجد والأرق، ولو لم تكن صاحبتها في الوجود، لما استحوذ حبها على قلب ولدك محمود.
يا ليت شِعري من كانت وكيف سرت
أطلعة الشمس كانت أم هي القمرُ؟
أظنها العقل أبداها تدبُّره
أو صورة الروح أبدتها لي الفِكرُ
أو صورة مثَلت في النفس من أملي
فقد تحيَّر في إدراكها البصرُ
لو لم يكن كل هذا فهي حادثة
أتى بها سببًا في حتفي القدرُ
ملك : ما هذا الزَّيْغ يا محمود، الذي أخرجك عن الحدود؟ أسُمِع أن أحدًا من الناس، عشق صورة على قِرطاس؟
محمود : مذاهب العشق يا والدي تختلف، يدركها كل مُشوَّق كَلِف، فقد يكون باللمس، ويكون بالنظر، ويكون باستحسان بعض الصور، ويكون يا والدي بالسماع، فيُوقِع المُحبُّ في النِّزاع، وقد يكون بمجرد الوصف، فيُورد العاشق موارد الحتف، ومنهم من أصابه في الأحلام، فانتبه مرعوبًا من الوجد والهُيام، ومنهم من عشق باللثم، فكابد كل غمٍّ وهمٍّ، وقد يكون العشق اختياري، ويكون بمسارقة النظر اضطراري، وللعشق يا والدي مراتب وأحكام، يعرفها كل من عشق فهامَ، والخلاصة يا والدي الحنون، أن الجنون فيه فنون.
جنون العشق والبلوى فنون
إذا عبثتْ بذي لُبٍّ عيون
وتلك عن القلوب لها حديث
وأسرار تدق لها شئون
وما حركاتها إلا معانٍ
بما يُبديه تنبعث الشجون
فتنطق عن خبايا في الزوايا
بما يبدو به السر المصون
فيُطمع بالمُنى صبًّا تعنَّى
بمعناه وغايته المنون
الوزير (يدخل) :
سلام في سلام في سلام
عليك ورحمة الله السلام
محمود :
سلام في سلام في سلام
عليها ورحمة الله السلام
أضاعت بين أحشائي فؤادًا
وجمسي ضاع من بعد السَّقام
عَيْني لمعناك ذاتَ الحسن عاشقةٌ
يا صورة رسمُها للعقل فتَّانُ
الله في حال صبٍّ لا نصير له
في قلبه من جوى الأشجان نيران
ملك : انظر يا وزيري الودود، أحوال ولدي محمود!
وزير : ما هذا الحال أيها الأمير؟
محمود : دعني أيها الوزير.
دعني من اللوم إن العشق فعَّالُ
وإن تفصيله في القلب إجمالُ
واسْلَم بنفسك فالأشجان أولها
سقم وآخرها للناس قتَّالُ
لو كنت تدري يا صاحي
فعل الغرام
لملت عن لوم اللاحي
أين الحمام
فقد توالت أتراحي
من الهُيام
ريحان رُوحي وراحي
لثم اللثام
ملك : أما لهذا آخر يا ولدي؟
محمود : أوله إحراق كبدي، فكيف الآخر؟ جمال باهر، وطرف ساحر، وخد ناضر، ولُب طائر، وقلب حائر، أغثني يا قادر.
صورة الحسن والجمال تبدت
للمُعنَّى فراح في الحب صَبَّا
وغدا دمعه السجيم كسُحبٍ
كلما شام بارق الثغر حبَّا
ملك : ما هذه الأقوال، والأفعال؟ محمود، عُدْ عن هذا الضلال.
محمود :
أبي قلبي لكاس العشق نهَّال
ودمع العين هطَّال وسيَّال
ألا يا من علا من فيكِ إذلال
كُفي وجُودي فما لي عنكِ إبدال
والدي نأى عني، سائمًا ملول
آه في الهوى حزني، شرحه يطول
وا عنائي من يُدني ساعة الوصول

(يخرج الملك.)

وزير : يا بُنيَّ طاوعني، واترك الغرام.
محمود : دعني هائمًا، يا أخا الملام.
وزير : تنسِب لي يا مولاي الملام، وما أنا إلا عبدك، وعبد والدك الهُمام، وما تجاسرتُ عليكَ بمثل هذا الكلام، إلَّا أملًا برجوعك عن هذه الأوهام، وأن تجعل علاقتكَ بصورة، بعد لطائفكَ المشهورة، وإن أكثر الصور من نتائج الأفكار، لاستجلاب الدرهم، والدينار ما لها موضوع صحيح، ولا رسم صريح، أما عندك الهنديَّات والروميَّات والقينات الحِسان، ذوات الآداب والألحان؟ أما أنت محمود الاسم والفعال؟ أما أنت معدن الجمال والكمال؟ أين أخلاقك المحمودة؟ أين شمائلك المعدودة؟ فانتبه أيها الأمير المُكرَّم، وتدارك ما فرَط منكَ تُجاه والدكَ الأكرم، فإنه خرج من هنا حاقدًا عليكَ، ولا أعلم ما يوصله من السوء إليكَ، وأنا أضمن لك رضاه، إذا طاوعتني على مبتغاه.
محمود : ما فعلتُ ضد والدي أيها الوزير؟
وزير : أقليل ما فعلت أيها الأمير تُجاه والدكَ الجليل؟ ومتى كنت أيها النبيل تتغزل بالأشعار والألحان، في حضرة والدكَ المُصان؟ أما هو مُخلٌّ بشرف الملوك، ومن ذا الذي سلك قبلكَ هذا السلوك؟ وعشق نقشًا على قرطاس، وأصبح فاقد الرشد والحواس؟
محمود : أهذا هو ذنبي أيها الوزير؟
وزير : نعم، هذا هو ذنبك أيها الأمير، أما تعلم أيها الأكمل، أنك ابن ملك مُبجَّل، وأنك ولي عهده، والملك المطاع من بعده؟
محمود : آه يا جهول، وكثير الفضول، المُلك لمن مُلكه لا يبيد، وكل الملوك تحت أمره كعبيد، ولا راد لما قضاه، ولا مانع لما أمضاه، ولا هادم لما بناه، ولا صادَّ لما سوَّاه، حكم عليَّ أن أعشق صاحبة هذه الصورة، مع أنها مجهولة غير مشهورة، وما يُفيد التأنيب والملام، في قدر العليم العلَّام؟ والعشق أيها الوزير، جائز على الصغير والكبير، والشيوخ والغلمان، والسلطان والمُهان، ما له حد مفهوم، ولا قدر معلوم.
يقول أناس لو نعتَّ لنا الهوى
فوالله ما أدري لهم كيف أنعتُ
فليس لشيء منه حدٌّ أحده
وليس لشيء منه وقت مؤقَّت
ومنهم من جعل له أبوابًا وأصول، البحث في شرحها يطول، يدريه من عشق، فسلب رشده، وعلق فتجاوز حده، وله مراتب ولوازم وأسماء، تستعبد الأحرار، وتذل الأعزَّاء، فمنها الهوى، والعشق، والجَوى، والوَله، والكَلَف، والتتييم، والتتييه، والتَّبْل، والشغف، والتَّولُّه، والصبابة، والمِقة، والوجد، والهُيام، والشجَن، والتبريح، والفُتون، والآلام، والأرق، والجنون، والأنين، والكَمد، والاحتراق، والنُّحول، والاصفرار، والذُّل، والإهانة، وتحمل ما لا يُطاق، وكلها أيها الوزير لها في فؤادي زفير، وتكليم، وتأثير، فأعد نشر تأنيبكَ في الطيِّ، فما بي في الهوى مقدور عليَّ.
خلِّ ملامي فالقلب خالي
من الغرام والاشتعالِ
ذات الجمال رِقي لحالي
كم ذا التواني زاد انتحالي؟
عسكر :
أيها السيد بادرْ
صدر الأمر بقتلك
محمود :
دون قتلي حدٌ باتر
يخطب الروح ويهلك
وزير : لا تُكن للجند زاجر.
محمود : خِف، فلا أصغي لخِتْلكَ.
عسكر : زَيغه مولانا ظاهر.
وزير : انتصحْ، وارجع لعقلكَ.
محمود : والدي أمر بقتلي، والغرام أذهب عقلي، فما هذا البلاء؟ فليس لي أن أشاء.
كلُّ الحوادث مبداها من النظرِ
ومعظم النار من مستصغر الشررِ
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها
فتك السهام بلا قوس ولا وترِ!
يا صورة الوجه الجميل
فتنْتِ ربَّات الجمال
رفقًا بولهان نحيل
في الحب أمسى كالخيال
زاد ذُلي وانتحالي
في هوى ذات الجمال
مُنيتي أن احتمالي
قلَّ يا أخت الهلال
ما لمُدنف جواه لا يوصف
وقد غدَا مُتلف
بوصالي آه مني وجودي
باشتغالي آه آه آه قلبي محمودي (يُغشى عليه).
وزير : إن هذا الغرام، صاحبه لا يُلام، أَنهِضوا أيها الجنود، سيدي محمود.
محمود :
أنفُس العاشقين في الحب مرضى
وبلاء المحب لا يتقضى
زفرات المحب كيف تراها
بعضها يستحث في الحب بعضا
ليس يخلو أخو الهوى أن تراه
كل يوم يُلام أو يترضَّى
باكيًا ساهيًا ذليلًا نحيلًا
ليس يقضي وليس يطعم غمضا
خالفت نصاحي وعذل المُليم
فلا تُكن لاحي فؤادي كليم
ساعدني يا صاحي وكُن بي رحيم
كفيت أتراحي وخطبي العميم
وزير : أنا أيها الأمير البهي، أبذل روحي في كل ما تشتهي؛ لأني قد عذرتك يا هُمام، وتأكدت أن مثلك لا يُلام، فمُرني بما تريد، أن أسعى لك بقضائه أيها الفريد.
محمود : غيرتك أيها الوزير لا تُنكر، وفضلك أشهر من أن يُذكر، لكن أيها الوزير المُصان، عشيقتي لا يُعلم لها مكان، والوصول إليها ربما يتيسَّر، وأوانه لا يستعذر، فما لي غير السفر والسياحة؛ لأحصل على الراحة، ولعلي أحصل على المرام، أو أقضي شهيد الغرام.
وزير : أوَما وجدتَ غير السفر دواء؟
محمود : لا، والذي فلق النوى، ما وجدت غير الاغتراب دواء؛ ليذهب ما حاق بي من العذاب.
أجوب الأرض شرقًا ثم غربًا
وأجهد في الصباح وفي العشيَّة
فإما نيل غاية ما أرجي
وإما أن تصادفني المنيَّة
وزير : أرجو أيها الأمير الأكرم، أن تأذن لي باستئذان والدكَ المُعظَّم، وأسعى عنك في هذه الخدمة، وقضاء حاجتك المُلمة.
محمود : لا أيها الوزير، والملاذ الكبير، أنا أولى بجميع أمري، ما حكَّ جسمي غير ظُفري، فإن أصبت خيرًا فمن الله، وإن أصبت شرًّا فبقدره وقضاه.
وزير : أظن أن أباك لا يمكِّنك من السفر.
محمود : أنا أرغب عدم اطلاعه على هذا الخبر، فأرجوك أن تكتم سري، ولا تُطلع أحدًا على أمري، وأنتم كذلك أيها الجند، لا تُشيعوا عني هذا القصد، وأنا أكافئكم بكل خير، إذا رجعت سالمًا من الضير.
وزير : أما لك عن هذا القصد محيد؟
محمود : لا، وأبيك الفريد، لا أحيد عن هذا المرام، ولو سقيت الحِمام.
وزير : وما أقول لوالدكَ أيها النبيل؟
محمود : قل له: أيها الوزير الجليل، ولدك ذهب للصيد والقنص، واغتنام اللهو والفَرْص؛ ليذهب ما به من الهيام، ولواعج الغرام.
وزير : القدر لا يُرَدُّ، وحكمه لا يُصَدُّ.
محمود : وأرجو أيها الوزير المُهاب، أن تكتب لي عن لسان والدي كتاب، وتختمه لي بخِتمه، بدون اطِّلاعه، وعلمه؛ لأُظهره عند الاحتياج حُجة، وأشكر لك هذه المِنَّة.
وزير : هذا أمر ليس بعسير.
محمود : حُفظتَ أيها الوزير، وهذا موقف الوداع، أيها السيد المُطاع.
أوَدعكم فأوُدعكم فؤادي
وننثر أدمُعًا مثل الجُمان
ولو نلت الخيار لما افترقنا
ولكن لا خيار مع الزمان
عسكر :
سِرْ بالأمان مُوفَّقا
يا أيها الشهم الخطير
محمود :
ستعود أيام اللِّقا
… … … 
عسكر :
… … …  
ونرى مُحياك النضير
وزير :
اجمعنا يا باري الأنام
 … … …  …
محمود :
 … … …  … 
وجُد لي ربي بالمرام
عسكر :
وامنحه مع طول البقا
إسبال ستر يا قدير

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤