الفصل الثالث

(حمَّام، وبه أربعة غلمان، الصورة على الباب.)

المنظر الأول

لحن :
إن هذا الحمَّام راحة
للأجسام خصه ذو الإنعام
لكل غريب يبتغي الإكرام
بادروا للنعيم وسط حر الجحيم
فيه ماء سجيم
كعطر وطيب
يُذهب الآلام
غلام أول :
هلمُّوا لحمَّام المسرة والصفا
وبيت التهاني والنظافة والطُّهرِ
حميم له يدعى الحميم إلى الشفا
بسلسال طِيب من ينابيعه يجري
غلام ثانٍ :
بُشرى لمن وافى لحمَّام غدت
تُثني عليه جوارح الزُّوَّارِ
بيت ترى الجدران فيه ينابعًا
وترى السماء كثيرة الأقمارِ
ثالث :
بادروا إلى النعيم الذي فيـ
ـه صلاح الأجسام والأرواحِ
وتُلاقي الجسوم في خلع منـ
ـه رقاق على الجسوم ملاحِ
رابع :
بيت بنته حكماء الورى
فهو إلى الحكمة منسوبُ
مُجاور النار ولكنه
يجاور النار به الطيبُ
غريب :
أين بيت الطُّهْر
وشفاء السقمِ؟
غلمان :
هذا يا ذا البشر
باب بيت الكرمِ
غلام أول : انظر أولًا أيها الغريب، إلى هذا الجمال العجيب، وادخل بعدها بالأمانِ، ولك التهانِ.
غريب :
جمال جميل زاهرٌ
وحسن بديع باهرٌ
وخد أسيل ناضرٌ
وطرف كحيل ساحرٌ
جمال خالٍ من العيوب، يجذب حبات القلوب، فطوبى لمن نزه بمعناه طرفه، وجال في ميدان ظُرفه، صورة مَن هذا يا كِرام؟
الأول : ادخل، فلا يعنيك هذا الشان.
الثاني : ما حصلنا منه على مرام.
الثالث : سيحصل من غيره إن شاء العلَّام.
الرابع : أنا أقول هيهات.
الأول : وأنا كذلك يا حميد الصفات، لكن أمر مولانا السلطان، لا يُمكن أن نلقاه إلا بالإذعان، فنجتهد بما أمر، والله يوضِّح ما استتر.
الثاني : هذا هو الصواب، والرأي الذي لا يُعاب، فانعشوا الآن الأسماع، بما يحلو من السماع.
لحن :
تثنى كغصن رشيق القوام
وأحرم عيني لذيذ المنام
غزال ربيب به القلب هام
وأمسى كليمًا أسير الغرام
خلعت عذاري بحب العذار
وليس بعارٍ انتهاك الستار
به جل نار من الجُلنار
إلا فاعذروني براني الغرام
هلمُّوا إلى الحمَّام مجانًا أيا أغراب.
سابق ولاحق : أتينا أيا سلام عذابي بهذا.
سابق : طاب … أبِكَ يطيب عذابي؟
لاحق : ما أحلى جنابي.
سابق : ما هذا يا مهيصل؟
لاحق : اسكت يا مُغفَّل، هذا الكلام المُسجَّع.
سابق : من الكلام المُسجَّع؟
لاحق : نعم، من الكلام المُسجَّع، ويسمونه أيضًا نثرًا، وهو قريب من الشعر.
سابق : ما هذا الذكاء البديع؟
لاحق : اسمع يا صقيع، أما قلتَ مستفهمًا أبِكَ يطيب عذابي؟
سابق : بلى.
لاحق : وأنا قلت ما أحلى جنابي.
سابق : غاب صوابي.
لاحق : فاصلتان متفقتان في حرف واحد، وهو الباء، ألست أنا من الفصحاء الأدباء؟
سابق : نعم، ومن الشعراء البلغاء، ادخل الآن إلى الحمام، مُتنا من البرد.
لاحق : طبع أخي حَدٌّ.
سابق : ادخل يا غبي ادخل بردنا.
لاحق : شاهد أدبي.
سابق : أما شهدنا؟ أسرع بالدخول.
لاحق : لا لا لا لا، هذا يطول.
سابق : ماذا الذهول؟
لاحق : أنا شلبي.
سابق : للطف عُدنا، أما شهدنا لك بالأدب؟ وأنك معدن ما يُحبُّ، فادخل الآن متنا من البرد.
لاحق : أنقذتني، أزعجتني.
سابق : أرعبتني، قتلتني.
لاحق : لو كنتَ مُؤدبًا، ومثلي مهذبًا، لما أزعجتني بالكلام.
سابق : آه علتني جميع الأسقام، وما ترغب أن أكون؟
لاحق : كُن مثلي لطيف الشئون، وادخل إلى الحمام بكل أدب واحترام.
غلام أول : أنتما من الأغراب؟
الاثنان : نعم، من الأغراب.
غلام أول : انظرا أولًا ما على الباب.
لاحق : يظهر على صاحب الحمَّام أنه نجيب، ومُتمدِّن أريب.
سابق : وما دليلك يا معدن الآداب؟
لاحق : وضع صورة الحمام على الباب، وهل يوجد أعظم من هذا دليل؟
غلام أول : ادخل يا ثقيل، واتبعه أنت إلى سقر، وعذاب الله الأكبر.
الثاني : أهكذا يوجد في الناس أقوام، ما يميزون صورة الإنسان من صورة الحمام؟
الثالث : ويدَّعي أنه متمدن وأريب.
الرابع : أعوذ بالله من كل كئيب.
الثاني : متى نحصل أيها المُصان، على مطلوب السلطان؟
الأول : تأنَّ، المملوك لا يكون إلا مطيع، فلنصبر ويُفرجها السميع.
الثاني : الحصول على المطلوب مجهول، وقد يكون قريبًا، أو أنه يطول، فما لنا غير التسلي بالألحان، وطلب السؤال من الرحمن.
لحن :
اصرف همومك بالألحان
تُغنيك عن بنت الدَّنِّ
ومل على نغم العيدان
مع الندامى كالغصنِ
شحاتين ٤ : أين الحمَّام؟ أين الحمَّام؟
شحات : إني أسمع صوت أنغام.
شيخ : حقيقي، ولكن ما بها طعام.
شحات : وهل الطعام يوجد في الألحان؟
شيخ : آه، يا قليل العرفان، الطعام غذاء الأرواح التي تقوم بها الأجسام، وقوام الأجسام الشراب والطعام، ما هذا الجهل؟!
شحات : خلط النغم بالأكل.
شيخ : اسمع مني يا جهول، واروِ عني لكل أكول.
شحات :
أسمعنا يا معدن العرفان
وأنجب آل ساسان
شيخ : صحن الكباب إلى القلوب شفاءُ.
الجميع : شفاءُ.
شيخ : ولكل داء في الجسوم دواءُ.
الجميع : دواءُ.
شيخ : يا رب شبِّعنا القطائف عندما.
الجميع : عندما.
شيخ : تُبنى عليه قبضة بيضاءُ.
الجميع : بيضاءُ.
شيخ : يا صدر بصمة كم برزت أحارب.
الجميع : أبرز أبرز.
شيخ : والقَطر طابت للنفوس مشارب.
الجميع : اشرب اشرب.
شيخ : ما من أرز، واللحوم تصاحب؟
الجميع : به به به به.
شيخ : إلا وبالتحقيق ها أنا جاذب.
الجميع : اجذب اجذب.
شيخ : بالكف للأسنان.
شحَّاتون : جوعان.
شيخ : قم سَقْسِق الرُّغْفان.
شحَّاتون : سقسق سقسق.
شيخ : بالسمن، والأدهان.
شحَّاتون : ادهن ادهن.
شيخ : فالجوع شين، والطعام يناسب.
شحَّاتون : صِدقًا صِدقًا.
شيخ : ما أطيب القرع الطويل أناله!
شحَّاتون : احفر احفر.
شيخ : إذا كان محشيًّا، فبطني أنا له.
شحَّاتون : ادفن ادفن.
شيخ : صدر البغاشا جئته لأناله.
شيخ : فهو الذي ضاءت على كواكبه.
شحَّاتون : تلمع تلمع.
شيخ : مذ كان في الأفراح.
شحَّاتون : جوعان.
شحَّاتون : خروف محشي طب به يطيب قلبي، عن كل شيء صحب، بوصله أقنع، بادر أخي، واقطع، وادفع إلى المبلع، إلى الأرز هيَّا، ولا تكن بطيًّا، واشرب مهلبيًّا؛ لأنها تنفع، يا صاحبي ما أبدع! بياضها الألمع، واسْعَ بها في الحارة، بالدست والمغارة، وحاذرِ من البسارة؛ لأنها أشنع، من ذهنه الأقرع، حقًّا لها فامنع، واجعل ختام الأكل، من طيبات النقل، وإن تخَف من ثُقل، فاستعمل النعناع؛ لأنه ينفع، للبطن إذا قرقع، وادخل إلى الحمَّام، بالطبل، والأنغام.
غلام أول : يا معشر الأنام جسمي لقد ضعضع.
ثاني : هيا لهم نتبع.
ثالث : قد صاروا في مصرع.
رابع : ما أريناهم الصورة.
أول : الآن وقت المهجورة.
رابع : هذا محلها يا بارد.
أول : ما هذا الكلام الفاسد؟
ثالث : كلام لا يقبله إنسان.
رابع : نعم، إنه هذيان.
بنات : أهذا هو الحمَّام الذي أُعِدَّ للأغراب؟
أول : نعم، أيها الأنجاب، وعليكم أولًا أن تنظروا هذه الصورة الحسناء، وتتنعمون بالشفاء بعدها.
بنات (لحن) :
ذي صورة الحسن الجميل
ومظهر الخد الأسيل
فيا تُرى من التي
ذا رسم معناها الجليل؟
غلمان (لحن) :
حيث جهلتم فادخلوا
وبالتهاني فاغسلوا
أجسامكم وعجِّلوا
لا تجعلوا المكث طويل
همت :
الراح مع الرحيق من ريقته
والثغر برد در وعقيق
والجنة والجحيم في وجنته
ما بين زر ورد وشقيق
لو صُوِّرَ آدم على صورتِهِ
من فرد صمد بالخلق رفيق
ما كان أبى إبليس عن سجدتهِ
بل كان سجد في كل طريق
بأبي الشموس الجانحات غواربا
اللابسات من الحرير جلاببا
الناهبات قلوبنا وعقولنا
وجناتهنَّ الناهبات الناهبا
الناعمات القاتلات المحييا
ت المُبديات من الدلال غرائبا
أهذا هو الحمَّام الذي أعده مولانا السلطان للغرباء؟
غلام أول : نعم، يا نخبة الأدباء.
همت :
ولم أدخل الحمَّام قصد تنعم
وكيف ونار الشوق بين جوانحي
ولكنني لم يكفِني فيض أدمعي
دخلت لأبكي من جميع جوانحي
غلام أول : انظر يا سيدي أولًا إلى هذه الصورة، واستجلب لقلبك بعدها من الضيم حبوره.
همت : زهر الرياض وا شوقاه، آه من العشق وحالاته، أحرق قلبي بحرارته، ما عشقت عيني سوى حسنكم، أقسم بالله وآياته.

(يُغمى عليه.)

غلام أول : قد حصل الأمير محمود على مناه، احفظوه في هذا المكان، وها أنا ذاهب لأخبر مولانا السلطان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤