قَيصَر

افسحوا الطريق لقَيصر.

مِن هنا سيعبرُ موكبُه.

عما قليل ستهلُّ عليكم طَلعتُه.

– قَيصر، يا ظلَّ اللهِ في الأرض.

أصوات الرعية تُهمهم من بعيد.

والحاشية تحف بالعربة الإمبراطورية.

الموكب لا ريبَ قادمٌ في الطريق. أنا إذن سأبصره بعيني هاتين، بل ربما استطعتُ أن أندسَّ بين صفوف الجند العظام، وأن أهتفَ مع الهاتفين، وأمدَّ يدي فألمس — أقول ألمس! — العربة الإمبراطورية المُزيَّنة بالورود، المتوَّجة بالذهبِ وبالفضة. ومَن يدري؟ فلعلي أستطيع أن ألفتَه إلى وجودي، ولعل الشجاعة أن تواتيني فأمدَّ إليه يدي بشكواي. سيطرق قيصر العظيم برأسه، وربما ابتسم، وربما مال على أذني ليقول لي: «أنا لم أنسكَ قَط. أنا لن أنساك في يوم من الأيام.» ولكن هل أستطيع حقًّا أن أنفذ من الستار العظيم الذي يطوقه بالرجال والسلاح؟ هل أستطيع حقًّا أن أعبرَ السِّياجَ المتين الذي تصنعه الهيبةُ والجلال حول مجدِه الإمبراطوري؟!

وا فرحتي بين العالمين!

من كان يُصدِّقُ أنني سأرى قيصر؟

هل يمكن أن يتحقَّقَ الحلمُ في لحظة واحدة؟

سيعبر الموكبُ بعد قليل.

يا إلهي! ماذا يحدث لو أن قلبي خانته الشجاعة؟ سترهبه الأبواقُ التي تزعق من حولي، ستُخيفه مواكب الجنود التي تزحم المكان، سيتلفت حوله فيجد نفسَه غريبًا، مفقودًا، عبر به الموكب، وانفضت الجموع، وخرس الضجيج.

جاري يَصيح وحنجرتُه تكاد تنشق: الموكب في الطريق.

وامرأة عجوز تداعب حفيدَها وتُشير بيدها النحيلة قائلة: عما قليل يمرُّ من أمامنا قيصر.

وطفلة تفتح عينيها وتهتف بصوتها اللطيف: أليست هذه هي العربة يا أبي؟

لكنني لا أرى على مدى البصر شيئًا.

ماذا يحدث لو لم يأتِ قيصر؟

اليأس لن يتسربَ إلى نفسي. سوف أرى القيصرَ على أية حال.

وسوف أهتف بملء صوتي: أنا رجل من شعبك الأمين يا مولاي. وسوف يضحك قيصرُ حتى يميلَ ظهرُه إلى الوراء، أما أنا فسوف أجري وراء الرَّكْب لألحقَ بعربة قيصر. وسوف يُبعدني الحراسُ عن موكبه برفق ومع ذلك لن أبعدَ حتى أعرفَه بشكواي، وأبسطَ له حالي، سيقول لي في آخر الأمر: اذهب إلى دار الطعام والكساء، قل لهم لقد بعثني قيصرُ إليكم.

دار الطعام والكساء قريبةٌ من هذا الشارع.

سأتوجه إليها بعد قليل، بعد أن أكونَ قد رأيتُ الموكبَ وحادثتُ قيصر.

سأتقدم في غير وجل ولا خوف لأقول للأمين على خزائن الطعام: هذا أنا يا سيدي. لا لن أقولَ له يا سيدي — ألسنا جميعًا سواء! — أتعرف من أين أنا آتٍ إليك؟ سيفتح الأمين فمَه من الدهشة، ستتسعُ عيناه اتساعًا كبيرًا عندما أقول في صوت لا تخونه الثقة: لقد بعثني قيصرُ إليك، قال لي: اذهب يا أحب رعيتي إليَّ، اذهب إلى الأمين ليفتحَ لك خزائني فكُلْ منها ما تشاء. أَشبِعْ بطنك التي هدَّها الجوع. اكسُ جسدَك الذي أكلتْه الرياحُ وهصرتْه أمطارُ الشتاء. سوف لا يصدقني الأمين في أول الأمر، وسوف يزمجر غاضبًا ويأمر أتباعه أن اطردوا هذا الرجل من دار الطعام. لكنه لن يعرف في سطوة كبريائه أنني قد انتصرتُ عليه. نعم! لقد بلغتْه شكواي. وماذا بوسعي أن أفعل أكثر من هذا؟!

أنا لن أيأسَ كما قلت؛ ففي يدي ورقة دفعتُ عليها رسمَ الضريبة، وسطَّرتُ عليها شكواي ونمقتُها بالخط الجميل، وحشوتُها بعبارات المدح والثناء على قيصر العظيم. كيف تصل ورقتي إلى يد قيصر؟ قد تأخذني الحيرةُ أو تذهب بلُبِّي، فغير بعيد من هذا الحي سأجدُ قصرَ العدالة. حقًّا إنني لم أدخل أبوابه من قبل، غير أنني سأصعد سلالم المرمر، وأمضي إلى الردهة الكبرى. سوف يسألني الحُجَّاب: ماذا تريد أيها الرجل؟ وسوف أردُّ عليهم في عزم ثابت: أريد أن ألتقيَ بقاضي القضاة.

– إنه مشغول بإقرار العدل في البلاد.

– ولكني أريد أن أُسمعَه شكواي.

– وهل نستطيع أن نعرف الرجلَ الذي تشكو منه؟

– حسنٌ أيها السادة، إنه قيصر!

سيعجب الحُجَّابُ من أمري، وسيمد أحدُهم يديه ليطردني بعيدًا عن قصر العدالة، ولكن سأقنعه أن قيصر هو الذي بعثني، وسوف أُفلِتُ من أيديهم لأَجري في ردهات القصر باحثًا عن قاعة المحاكمات، وسوف أظل في القصر، حتى أجدَها. هناك أصرخُ بملء صوتي: يا قاضي القضاة! يا قاضي القضاة! ألا تسمعُ شكواي! وسيرفع القاضي وَجهَه إلى الجريء الذي دنَّستْ قدماه قدسَ أقداس العدالة، وسيقول لي: ممن تشكو أيها الرجل؟ وسوف أقول بلا أدنى خوف: أنا أشكو قيصرَ أيها القاضي الجليل.

ماذا عسى أن يفعلَ القاضي؟ إمَّا أن يعطفَ على شكواي، ويؤجِّرَ المحامين للدفاع عنها — فأنا رجل فقير لا أملك حقَّ الدفاعِ عن نفسي — وإمَّا أن يثورَ ساخطًا: ضعوه بين المتهمين. أما أنا فلن أغضبَ أو أثور؛ يكفيني أنني أسمعتُ القاضيَ شكواي. وسواء عليَّ أن أقف بين المظلومين أو بين المذنبين، ألم أُوَفَّقْ إلى دخول قصر العدالة في آخر الأمر؟!

أنا أنتظر موكب قَيصر. سوف ينحني عليَّ، ويقرِّبُ وجهَه من أُذني، ويقول لي: ستجدني في القصر غدًا.

ها هو القصر بلغتُه بعد أن تمزَّقتْ قدماي وغطَّى الغبارُ بشرتي. وها أنا ذا أتقدَّمُ من الحرَّاس الأشداء. إنهم يُظلِّلون جدران القصر بهيبتهم، ويتسامقون عن جانبيه كالأشجار العتيقة المتكبرة. سوف لا أهابُ شيئًا، سوف أقولُ لهم: لقد بعثني الأميرُ إلى هذا القصر. سيضحك الحرَّاسُ بلا مِراء، وسيتخذون مني أُضحوكة لهم، وربما هجم أحدُهم فقبض عليَّ بين ذراعيه كأنني دميةٌ عاجزة، لكن هذا كلَّه لن يُخيفَني، لن يَضيرني أن أنتظرَ يومًا أو يومين، أو أن أقفَ عند البوابة المرمية شهرًا أو شهرين.

فسوف أَبعُدُ عن القصر وفي نفسي أحسنُ الذكريات، ألستُ قد عرفتُ الطريق إليه؟ ألستُ قد ألفتُ الحرَّاس، وضاحكتُهم، وحفظتُ ملامح وجوهِهم؟ ألم أفلحْ — إلى هذا كلِّه — في أن أُعطِّفَهم على حالي، وأن أسردَ عليهم حكايتي وتاريخي؟ ألستُ قد لمستُ يدَ الحارس؟ وأليستْ يدُ هذا الحارسِ ستلمس يدَ رئيسه الذي يفوقه قوةً وبأسًا؟! وهذا الأخير، من ذا يشكُّ في أنه سيسلم على كبير حرَّاس قيصر؟ أما كبير الحرَّاس فإنه يسلم على قيصر نفسِه في كل يوم مرات، أفلا أكون بهذا قد لمستُ يدَ قيصر؟!

ربما وجدتُهم في المرة التالية يقولون لي: تفضَّل، لقد أَذِن لك قيصر، وهو ينتظرُكَ في شوق وقلق في الردهة الكبرى!

سأَمضي في طريقي غيرَ هيَّاب.

– هل تسمحُ لي أيها الحارس المبجَّل.

– أراكَ رجلًا من الشعب.

– إني لكذلك يا سيدي.

– إذن فقد أخطأت الطريق.

– ولكن قيصر هو الذي بعث بنفسه إليَّ يا سيدي.

ويفطن هذا الحارس الغبيُّ إلى خطئه حين يهرع إلى حارس آخر أعلى منه رتبةً ليقول لي: تفضَّلْ مكرمًا، نحن ننتظرك من سنين وسنين، ألستَ أنت … (وهنا ينطق باسمي.)

– نعم أنا هو يا سيدي.

– ادخل، ادخل؛ إن قيصر العظيم مشتاقٌ إلى رؤياك!

وأصعدُ سلالمَ الرخام الناصعة، حريصًا حتى لا تنزلقَ قدمي. وأُمِرُّ يدي لأنعمَها بملمس الأعمدة الملساء، وأسيرُ في معبر طويل لا تكاد نهايتُه أن تُرَى — وحين أبلغُ قاعة فسيحةً عليها حرَّاسٌ متدثرون بسُتْرة زرقاء، تلمع فوق أكتافهم نجومٌ وأقمار ذهبية برَّاقة، أسألهم: أنبَّئوا قيصرَ أن رجلًا من شعبه الأمين قد جاء؟

– ولكن هذا مكان حاجب الوزير.

فأردُّ عليهم ساخطًا: مَن قال لكم إنني أريد مقابلة الوزير؟!

فيجيبني أحدُهم وهو يحاول أن يُرضيَني: أردْنا أن نقولَ إنه وزيرُ قيصر.

وأَنصرفُ عنهم لأواصلَ سَيري. عما قريبٍ سأجد قيصرَ وسأمثُلُ بين يديه. كيف يصدِّقُ أُخوتي وصِحابي أنني مثُلْتُ بين يدي قيصر؟! من كان يظنُّ أن هذا سيحدث لرجل مثلي؟! وأدور من قاعة إلى قاعة، مبهورًا بالسحر الذي يتخايل أمام ناظري، في الثريات، والطنافس، والرسوم، والمرايا، والرياش، والتحف الغالية. ولكني سأمضي قُدُمًا حتى أجدَ قيصر، وسوف تشغلني عما أرى أفكاري التي تضطرب في خاطري، وخطابي المنمَّق الطويل الذي سأُلقيه بين يديه.

ويقفز أمامي رجلٌ طويل غرق جسدُه في ثوب رمادي يبدو وكأنه قد خرج من بين الجدران ليقول لي: أيُّ شيطان جاء بك إلى هنا؟

فأقول له وشجاعتي لا تفارقني: لقد بعَث قيصرُ إليَّ.

فيقول وهو يرفع حاجبيه من الدهشة: ولكنَّ هذا الجناحَ مخصصٌ لكبير وزراء قيصر.

فأسألُه في صوت رزين: وأين إذن أجد قيصر؟

– اذهب إلى القاعة الكبرى، وهناك فلتسألْ كبيرَ التشريفات.

وأُقلِّبُ الورقة التي كتبت فيها شكواي بين يدي. وحين أفرغُ من قراءتها — للمرة الواحدة بعد المائة — يعاودني الأملُ في لقاء قيصر. ولكني أصحو على أصوات تناديني من خلفي: أيها الرجل، أيها الرجل.

فألتفتُ لأجدَ جماعةً من الحرَّاس يتقدَّمون نحوي. وأجفل لرؤيتهم، وتطرفُ عيناي؛ إذ تقع على ملابسهم المزركشة بالألوان الحمراء والزرقاء، ويقبض واحدٌ منهم على ذراعي ليقولَ لي: إنا نبحث عنك منذ ساعات.

فأقول لهم: وأنا أيضًا أبحث عن قيصر.

فيعتذر إليَّ حارسٌ طويل القامة في أدب رقيق: لقد أخطأْنا حين تركناك تدخل القصر.

فأتعلَّق بثيابهم وأنا أستنجد، ألست رجلًا من الشعب؟!

– نعم، ولكنه يريد رجلًا آخر!

وأعود معهم أشق ردهات القصر، وأعبر دُروبَه، وأجوز قاعاته، وأتفرج على بدائعه وكنوزه، ويلاحظ الحرَّاسُ أن رجليَّ أصابهما الوهن، فأنا أعرج بهما، وأنني في حاجة إلى الراحة بعد جهد المسير.

أنا ما زلتُ في موقفي على أفريز هذا الشارع.

ها قد انقضتْ ساعاتُ الظهيرة.

ولا بد لي من أن أرى قيصر.

سمعتُ أناسًا يهتفون وتبحُّ أصواتُهم. بعضهم يقول إنه قد رأى الموكب وهو يعبر الحي القريب، ولكن عاقتْه الجماهيرُ المتدافعة عن مسيره، والبعض الآخر يؤكِّد أنه قد سمع الأبواقَ على طول الطريق، وهي تُؤذِنُ بقدوم قيصر. وفريق ثالث يُقسِمُ الأيمان على أنه قد شاهد العربة الإمبراطورية وهي تخطر في الطريق كالعروس الجميلة في ليلة الزفاف. ثم يعتذر عن تقصيره في الوصف قائلًا: إن أحكم حكمائنا، وأعزَّ شعرائِنا لن يستطيعَ أن يصفَ لكم روعة الموكب الإمبراطوري. ونتحرق نحن شوقًا إلى رؤية هذا الموكب، وقد يحلم بعضُنا بالذهب يتناثر من يدي قيصر على جانبي الطريق، وقد يطمع الجياع منا في طعام هنيء يأمر به قيصر، والحفاة في أحذية جديدة يوصي بصنعها قيصر، والمظلومون في العدل الذي يأمر به قيصر.

لكن الشمس تَغرب، والشفق يصبغ بحمرته الدامية وجوهَنا الشاحبة كشحوب أنواره.

والأصوات التي كنا نتصور أنها تصمُّ آذانَنا أصبحت موجاتٍ من الصدى تنغمها الريحُ في الفضاء.

وفريق منا أضناهم التعبُ فانصرفوا إلى بيوتهم وهم يَعِدُون أنفسَهم برؤيته في زمن قريب.

أما أنا فأقلِّب بين يدي الورقة التي كتبت فيها شكواي، ودفعت عليها رسْمَ الضريبة، وأقول في نفسي: أفلا يصدق الحلم فأجثوَ أمام قيصر، وأُقبِّل قدميه وأبكي؟

يا ظلَّ الله في الأرض!

لمَ لمْ يَعبُرْ بي موكبُك؟

يا سيد البحار والأراضي!

أنا أنتظر موكبَك.

ألن يأتي هذا اليوم في عمري أبدًا؟

أنا لن أذهب إلى بيتي كما فعل غيري. فسوف أنتظر، وأنتظر، إلى صباح الغد، وبعد الغد، وأيام المستقبل كلِّه.

على هذا الجانب من الطريق سأسمر رجليَّ الضعيفتين حتى أسمعَ الأبواق تنفخ من بعيد، والرعية الأمينة تهتف، والعربة التي تجرُّها الجِيادُ المطهمة تسير أمامي. عندئذ سأمرق وسط الزحام، وأشق السياج المتين الذي يطوق قيصر، وأقف بين يديه، وألقي عليه بشكواي. حقًّا إن شكواي طويلة مستفيضة، ولكن قيصر لن يسأمَ منها. سيأمر بوقف الموكب ليراني، سيوصي بإخماد كل الأصوات ليسمع صوتي. وبعد أن أفرغ من شكواي التي ستستغرق أيامًا وأيامًا سيميل على أذني، ويُسِرُّ إليَّ بهذا السؤال: من أنت أيها الرجل المسكين؟ فأرفع إليه عينين تملؤهما الدموعُ وأقول: أنا رجل من شعبك الأمين يا مولاي. فيميل على أذني للمرة الأخيرة ليقول لي في حنان عظيم: يا أقرب الناس من قلبي.

انتظر حتى أراكَ في موكبي التالي.

ولكن متى يمر الموكب؟ ومن أين؟ من الشارع الآخر؟ لا! في مدينة أخرى؟ لا! في عالم آخر؟

أحقًّا أنني لن أراه أبدًا؟!

١٩٥٤

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤