بكاء

أوه! معذرة. طرقتُ على الباب طرقتين، فلم يردَّ أحد، قلت لا شك أنه خرج مبكرًا، ليتسلَّق الجبل أو يمشيَ في الغابة أو يتزحلق على الثلج، ولكن ها أنت ما تزال في الفراش، هل نسيتَ أن اليوم هو الأحد؟ أم يا ترى لم يحضرْ قاموسُك ذو ذيل الحصان؟ تقول إنك لا تفهم؟ آه! هذا شيء محزن. لا بد أنك ستفهم يومًا، لغتنا الصعبة، أليس كذلك؟ كثيرًا ما سألتُ نفسي كيف يستطيع أمثالكم أن يتكلموها؟ أرجوك أن تفهمني؛ لستُ أشعر بالطبع بأي تعصب ضدكم، نحن جميعًا بشر، وأنتم كذلك أيضًا. هل تسمح لي بأن أُقدِّمَ لك مجاملة؟ إن نطقك رائع، صحيح مائة في المائة، لولا شَعرُكَ الأكرت وبشرتُكَ السمراء وعيناك السوداوان لقلتُ إنك واحد منا. معجزة، هذه معجزة، هل تسمح بالنهوض لحظة واحدة؟ لا لحظة واحدة فحسب، بمجرد أن أُرتِّبَ السرير يمكن أن تعودَ للنوم. ماذا تقرأ؟ قصيدة لجوته؟ عظيم! عظيم! سمعت بالطبع أنه أعظم شعرائنا، كل إنسان هنا يذكر اسمَه، يحتفظ بمؤلفاته في مكتبته، لكن صدقني: ما أقلَّ الذين يقرءونه! وما أقلَّ مَن يفهمونه! هؤلاء المنافقون! لو أنهم عرفوه حقًّا ما حدث ما حدث. ما علينا، لا تؤاخذْني، هل أُثَرثِرُ كثيرًا؟ لا؟ هل أنت متأكد؟ ولكنَّ لونَك متغيرٌ قليلًا. تقول إنها الإنفلونزا؟ هل أُحضِر لك قرصَ أسبرين؟ تقول أخذتَ خمسة؟ لا، اسمح لي، هذا كثير، كثير جدًّا. لو كنتَ مثلي تُمارس اليوجا لما بلعتَ قرصًا واحدًا في حياتك. نعم اليوجا. هل تضحك؟ لك حق. وماذا تفعل إذن لو رأيتني كلَّ يوم واقفًا على رأسي وساقاي في السماء أمام البيانو؟ لا تصدق؟ ولكنني لا أستطيع أن أجربَ هذا أمامك، ثم إن ساقيَّ ليستا مما يحسن رؤيته. أشكرك. بعد هذه السن. الغرض. يمكنك أن تعودَ إلى الفراش، ولكن دَعْكَ الآن من جوته. شعر؟ مع هذا البرد؟ يظهر أنك عاطفيٌّ جدًّا. لو كنتُ مكانك لقرأتُ شيئًا آخر. مثل ماذا؟ عندك الرحلات، شاب في سنِّكَ لا بد أن يسافر ويرَى الدنيا، مرة في الجنوب ومرة في الشمال، أم هل تظن أنك ستعرف الدنيا وأنت جالس في حجرتك؟ أرجوك، لا تظن أنني أطردك. يمكنك أن تفعل ما تشاء. ثم إن الناس طِباعها مختلفة، ولكل بلد عاداته. أنا أيضًا كان ينبغي أن أكون اليوم في الجبل أو أتزحلق على البحيرة. تقول كيف؟ ألم ترَها في الشتاء؟! لا لا، أنت مقصِّرٌ جدًّا. صحيح أنك هنا من شهر واحد، ولكن لو كنتُ مكانك لتفرجتُ على كل شيء. يظهر أنك تحب البيت؛ ستكون زوجًا ناجحًا. نعم نعم، أنا لا أضحك أبدًا، ستكون زوجًا ناجحًا. على فكرة، لم أسألْكَ عن جوِّ الحجرة. هل يعجبك؟ صحيح؟ منذ أن حضرتَ في أول الشهر وأنا لا أجد فرصة للكلام معك، ربما تجدني لهذا السبب أُثرثِرُ كثيرًا. أرجوك أن تعذرني، لستُ دائمًا هكذا. أنت تضحك؟ يظهر أنك لا تصدق أبدًا. وبخاصة السيدات. ها ها! لا بد أنك لاحظتَ أنني مشغولة جدًّا؛ من السابعة صباحًا حتى التاسعة في المساء، أرجو ألا يكونَ صوتُ البيانو قد أزعجك، ماذا أفعل؟ أكل العيش كما يقولون، حذار أن تظن أن العزف السيءَ مني! إنهم الأطفال الصغار. نعم، من الخامسة إلى الخامسة والعشرين. مدرسة حقيقية، أنا فيها المعلمة والناظرة والمفتشة والتلميذة والفرَّاشة أيضًا. تقول إن العزف يعجبك كثيرًا؟ هذا شيء يسعدني. يظهر أنك تحب البيانو. ألم أقلْ لك إنك عاطفي أكثر من اللازم؟ وماذا لاحظتَ أيضًا؟ إنني أصحو بميعاد وأعمل بميعاد وأنام بميعاد؟ وماذا كنتَ تنتظر غيرَ هذا؟ ألم تسمعْ عن الفيلسوف كانت؟ يقولون إن الناس كانوا يضبطون ساعاتِهم عليه. دائمًا في الساعة الرابعة يخرج من بيته ليتمشَّى في الغابة. رجل عظيم بالطبع، وإن كنتُ لم أفهم منه حرفًا. أقول لك الحقيقة بل لم أحاول. نظام مزعج، ولكنه مفيد في بعض الأحيان، على الأقل يُنسِي الإنسانَ عذابَه. تستطيع أيضًا أن تقول إنه نوع من التعذيب يَنسَى به الإنسانُ عذابًا أكبر. معذرة، أنا لا أتفلسف ولا عمري ذقتُ طعمَ الفلسفة، إنما العرق دسَّاس كما يقولون. على فكرة، نسيت أن أقول لك: جاء لك خطابٌ أمس. نعم أنا التي تسلمتُه من الموزِّع. هل تصرفتَ في طابع البريد؟ أرجوك أن تحافظَ عليه دائمًا. تقول في درج المكتب؟ شيء بديع. أبو الهول نفسه. لا بد أنه شيء ساحر، الصحراء والصمت واللانهاية، خصوصًا في ضوء القمر. هل كنتَ تذهب إلى هناك أيضًا؟ ليس وحدك بالطبع. لا! يا للخسارة! تقول ربما قُدِّرَ لي أن أزورَه أنا أيضًا؟ آه! فات الأوان، أنت لا تعرف أنني تجاوزت الستين. لا يبدو عليَّ؟ الحمد لله على كل حال، أنا لا أطمع في أكثر من هذا. على فكرة، هل رأيتَ جارتَكَ في الحجرة المقابلة. لا، اطمئن، إنها ليست هنا. أردتُ فقط أن أحذرَك منها. نعم، تلك التي تسمي نفسها مدام شميت. ستعرفها من الإنجيل الذي تحمله دائمًا في يدها. تقول إنها تقية؟ يظهر أنك حسنُ النية. وماذا يفعل القسيس الشاب الذي يَحضُر إليها كلَّ أحد؟ ألم ترَه اليوم؟ أقولُ لك كل أحد؟ وربما كل يوم. من يدري؟ ثم إنني مشغولة بدروسي وتلاميذي. أنا شخصيًّا لا أطيقُ رجال الدين. لا تتصورْ أنني أُنكر وجود الله. بالعكس، إنني أتذكره على الأقل مرة كل أول شهر، عندما يخصمون مني ضرائب الكنيسة. لكن استغلال الدين لأشياء أخرى! أنت تفهم قصدي بالطبع. ثم ماذا يفعلان طول الليل؟ يلعبان الورق أو يقرآن الإنجيل؟ أنا لا أمانع في الزيارة كما قلتُ لك. يمكنك أنت أيضًا أن تأتيَ بصديقتك. بالطبع لغاية الساعة العاشرة فقط. تقول ليس لك صاحبة؟ هذا شيء محزن؛ لا يمكنك بالطبع أن تعيش وحدك طولَ العمر، لا يمكنك أبدًا. ألا يقول الإنجيلُ ليس حسنًا أن يكون آدمُ وحدَه؟ لا بد أن هذا أيضًا موجودٌ في إنجيلكم. تقول ليس عندكم إنجيل؟ تسمونه القرآن؟ لا بد أن شيئًا كهذا موجود فيه. وليس حسنًا أن تكون حواء وحدَها. ليس حسنًا بالمرة. أقول لك هذا بمنتهى الإخلاص، ربما لأنك تخطئ في بعض الأحيان وتناديني بالمدام. لستُ مَدامًا، أنا ما زلتُ آنسة. نعم في الستين وما زلت آنسة. أف! ها أنا أعود مرة أخرى إلى حكايتي القديمة. إن كان هذا لا يضايقك فسوف أرويها لك. تقول لا تضايقك؟ بالرغم من البرد والصداع ورغبتك في قراءة جوته؟

إذن فذنبك على جنبك. هل أستطيع أن أجلس هنا لحظة؟ الحجرة أصبحت نظيفة على كل حال. هل قلتُ لك ليس حسنًا أن يكون آدم وحده؟ نعم نعم. وليس حسنًا أن تكون حواء وحدها. أنا بالطبع لم أكن وحدي دائمًا. كان لي، مثل كل الناس، أهلٌ وأصدقاء وحبيب أيضًا إن شئت. هل قلت كان لي حبيب؟ أنا أبالغ بالطبع بعض الشيء. الحقيقة أنه هو الذي كان يحبني. حبٌّ من طرف واحد كما يقولون. بالطبع أنا أيضًا لم أكن أكرهه. بالعكس كنت أشعر بالرضا عندما أراه. لكنه العناد أو الطموح أو الأنانية — سمها كما تشاء — هو الذي كان يمنعني من أن أُحبَّه. ذلك الحب الحقيقي، الصريح، المتفاني. آه يا ربي! لماذا تُذكِّرُني بهذا كله؟ كان في مثل سنك تقريبًا. هل أخطئ كثيرًا إذا قلت حوالي الخامسة والعشرين. صامت ومتعب ومصفر الوجه دائمًا. تعارفنا في المعهد. معهد الموسيقى بالطبع. كنا معًا في قسم البيانو. لم نكن وحدنا بطبيعة الحال. كان هناك طلبة آخرون. لا يقلون عن عشرين. وربما أكثر أو أقل. آه يا ربي! ما الذي يجعل الشبان ينسون شبابهم؟ ما الذي يغمض عيونهم عن متعه الحلوة، عن لحظاته السعيدة الفانية؟ ما الذي يجعلهم يُديرون له ظهورَهم ويتذكَّرون كلَّ شيء إلا شبابَهم؟ هل يعرفون وهم يفعلون هذا أنهم سيشيخون في يوم من الأيام؟ إن شعرَهم سيبيض، وظهورَهم ستنحني، وعيونَهم سيتخلَّى عنها النور، وقلوبَهم ستصبح كساعات الحائط القديمة التي لا تفعل شيئًا سوى أن تُردِّدَ رنين الزمن الأجوف؟ لا داعي للندم. أقول إنني تجاهلتُه وأعترفُ لك. بالطبع كنتُ أقابله، وأتناقش معه، بل وأحتدُّ في النقاش إلى الحد الذي أتمنى معه أن أصفعَه أو أبصقَ في وجهه أو أشدَّ شعرَه. وماذا أفعل إذا كان يُصِرُّ دائمًا على تمجيد بتهوفن فوق كل شيء؟ هل تصدق أنه كان يرفع هذا المجنونَ المشوه فوق باخ نفسه؟! وأنا التي كنتُ لا أقدس أحدًا مثلَ باخ. صدقني يا سيدي. إنه في الموسيقى هو الألف والياء، المنبع والمصب، الأول والآخر. تستطيع أن تتأكد من هذا إذا ألقيتَ نظرةً على حجرة البيانو. هناك سترى لوحة تقول كل هذا الكلام، موضوعة تحت صورته التي يطالعك منها وجهُه الهادئ المكتنز، وعيناه الثابتتان، وجبهته الشامخة، كأنه هو بوذا الموسيقى في كل زمان ومكان، لكن هانز لم يكن يريد أن يفهم هذا. وعندما كنا نتقابل لم نكنْ نفعل شيئًا سوى أن نتناقشَ أو نعزف على البيانو أو نتكلم عن مستقبل الموسيقى والإنسانية.

لماذا لا يَسعدُ الإنسان بإنسان قريب منه؟ ما الذي يَشُلُّ يدَه فلا تمتد إلى الثمرة التي تدعوه لأن يقطفَها؟ أيُّ شيء في الوجود يجعل الأقوياءَ أقوياء والضعافَ ضعافًا؟ أليس هؤلاء يتركون الفرصة تفلتُ من أيديهم بينما يتشبَّثُ بها أولئك؟ تقول القَدَر؟ وهل القَدَر إلا أن تفعلَ الشيء المناسب في الوقت المناسب؟ أن تلتقطَ اللحظة المواتية من نهر الزمن فتُمسك بها وتُعانقها وتُقبِّلها قبل أن تذوب في الماء؟

كان الإغريق يسمون الفرصة «توخي». بالطبع ليس الإغريق مجهولين لك؟ هل تقول إن العرب أيضًا نقلوا تُراثَهم إلينا؟ ألستَ أكاديميًّا وأدرى مني. كانوا، كما نعلم، يصوِّرون كلَّ شيء بالأساطير. كل فكرة عندهم يقابلها مخلوقٌ حيٌّ مجسَّم. هل تعلم كيف كانوا يصورون التوخي؟! فتاة حسناء تنسكب خُصلاتُ شعرها على جبينها. نعم على جبينها. حتى يستطيعَ الإنسان أن يتشبثَ بها، أن يقبض على شعرها قبل أن تَفلِتَ منه. والويل لمن تَفلِتُ منه الفرصة! والويل لي أيضًا فقد فاتتني. أدارت ظهرَها لي قبل أن أمدَّ يدي لأُمسكَها من خُصلات شعرها. كنت أحسب أنها ستعود. لكنها لا تعود أبدًا. لا تعود. تقول كيف؟ جاءت الحرب كما تعلم وطلبوا هانز. هل قلتُ لكَ إن اسمَه كان هانز؟ حسنٌ. أستطيع إذن أن أُكملَ كلامي. إلى هنا والفرصة لم تَفُتْ. كان يمكن أن أمدَّ يدي فأُمسك بخُصلاتها الحريرية المغرية. ولو للحظات. لو كنتُ فعلتُ ما كان يهمني بعد ذلك ما يحدث. قال لي آخر مرة في المعهد: غدًا أسافر يا كلارا. قلت: إلى أين يا هانز؟ قال وهو يمدُّ يدَه يفتش عن يدي: ليس للنزهة بالطبع. فهمتُ ما يعني، فأطرقتُ وكتمتُ شلَّال الألم الذي يوشك أن ينفجرَ من عيني بعد أن طال إنكاري له. قال بعد لحظة صمت: هل أنتظر أن تكوني في وداعي؟ قلت في صوت تعمدتُ أن يكون جافًّا لكيلا يَشيَ باضطرابي: ربما. آه يا سيدي! لماذا نحاول أن نُخفيَ ضعفَنا أمام أحبابنا؟ أليس لهم حقٌّ أيضًا في دموعنا؟ ذهبتُ للمحطة. كانت تغلي بأفواج المسافرين. ما من شاب إلا ومعه زوجته أو عروسه أو صديقته. وأنا أقف مع هانز، وجهًا لوجه، الصمت يُكبِّلُنا، الخجل يَشلُّنا. لا كلمة ولا لمسة ولا دمعة، ليس هناك شيء أشد خجلًا من أن يخجل الإنسان من إظهار عاطفته. اللغط يشتد. الصراخ والبكاء من حولنا يحرك الصخر. القطار يصفِّر. حرَّاس القطار يدفعون الشبَّان دفعًا إلى القطار. وأنا هناك صخرة محرومة من نعمة الصخور. وفي لحظة شعرتُ بشفتَي هانز على شفتي. لم تكن ذراعُه تجدُ الوقتَ لتطوقني. لم تكن إلا لثمة واحدة. سريعة وملهوفة وتكاد أن تموت من الخجل. هل تدري ماذا فعلت؟ لم أفعلْ شيئًا على الإطلاق. وحين تحرك القطار وراح يشير إليَّ بيديه رفعتُ ذراعي وأخذتُ أُشير. بلا حماسة ولمجرد التقليد في أول الأمر، ثم في حماسة أخذتْ تزداد حتى وجدتني أجري وأجري وراء القطار. لكن الوقت فات. و«توخي» أعطتني ظهرها، وخُصلاتها السوداء الناعمة أفلتت إلى الأبد. لا أعلم ماذا حدث لي بعد ذلك. فلم أشعرْ بنفسي إلا وأنا مُلقاة على أرض الرصيف، وحارسان من حرَّاس المحطة فوق رأسي يرشَّان الماء على وجهي ويقومان بالتنفس الصناعي لي. وحين فتحتُ عيني وجدتهما يتحسسان رأسي بحنان ويقول أحدهما: هل تقتلين نفسك إذن؟ أمَن يؤدي واجبَه نحو الوطن يستحقُّ منك كلَّ هذا البكاء؟ ونظرتُ حولي فوجدتُ المحطة خالية والريح الباردة تبكي في أرجائها. شكرت الحارسين وقمتُ أتعثر في خجلي. كنت أحس بأن هذه هي آخر مرة أرى فيها هانز. لو أنني لمستُ يده فحسب؟ لو أنني بادلتُه قُبلة؟! لكن لا بأس. إن الإنسان يدفع ثمن لحظة ضعيفة بعشرين سنة، وربما تقول ألم تكن أمامك فُرَصٌ أخرى؟ هل انقرض الشباب من على وجه الأرض؟ بالطبع تأتي الفرصُ كثيرة. والشباب أيضًا موجودون في كل مكان. لكن ماذا تفعل فيمن خاب أملُه في نفسه؟ من الذي يهمُّه أن يعيدَ إليك ثقتك بنفسك حين تَفقدُها مرة؟ تخرجتُ من المعهد واشتغلتُ بالتدريس، وحين اشتدَّت الحربُ في سنواتها الأخيرة وأخذوا منا تلاميذَ المدارس لم يبقَ أمامي إلا أن أعزفَ للعجائز والمشلولين في البيوت أو للجنود في المعسكرات، وحين دخل الحُلفاءُ بلادَنا كانت مهمَّتي أن أعزفَ للعساكر في البارات والقشلاقات، هل تتصور أن تُساعدَ موسيقى باخ على السُّكْر أو الفجور؟ ثم إنني كنتُ أنفع بشيء آخر، فاللغات التي يتعلمها الإنسان لا بد أن يحتاجَها ذات يوم، نعم كنتُ أشتغل مترجمة لخطابات الحُبِّ — إن جازت هذه الكلمة — التي يرسلها الجنودُ إلى بناتنا، وبالطبع كنتُ أكسب، على الأقل لم أمُتْ من الجوع. لماذا لم يلتفتوا إليَّ؟ وهل يطمع فيك أحدٌ إذا كنتَ تضع نفسَكَ في صفيحة القمامة؟! وأين الفرصة التي تُقدِّم نفسَها إليك بعد الآن؟ لا أنكرُ بالطبع أن الكثيرين ناموا معي ولا إنني نمتُ مع الكثيرين. لكن «توخي» ذات الشعر الناعم المنسدل على الجبين الناصع الشفَّاف، من أين تأتي إن أدارتْ ظهرَها مرة واحدة؟! كيف تعودُ إن ذهبتْ إلى الأبد؟! لا. لم تَعُدْ قط بعد ذلك. ماذا؟ هل تقول إنني بكيتُ كثيرًا؟ حقًّا؟! شيء غريب. أنا نفسي لم أحسَّ بهذا، معك حق، لا بد أن أجفف عيني، أشكرك. يا إلهي! وأنت أيضًا تبكي، هذه دمعة تجري على خدِّك، احتفظْ إذن بالمنديل لنفسك. أأنتَ أيضًا فاتتْك «توخي»؟ لم تمدَّ يدَك في الوقت المناسب لتتشبثَ بشعرها؟ لا تقل هذا. وماذا أقول أنا إذن؟ من يدري؟ ربما كان في العمر بقيةٌ لزيارة أبي الهول. ستكون معي بالطبع. أعدُكَ أنني لن أتكلمَ كما تكلمتُ اليوم. أبدًا أبدًا. هل تسمح لي بطابع البريد؟ صحيح أنك تستغني عنه؟ يا له من وجه عجيب. تصوَّر أنه يبتسم، هذا الصامت الأبدي يبتسم، لا بد أنه يضحك علينا، وعليك أنت بالطبع أكثر، لن أتركَكَ حتى تبتسمَ مثلَه، مهما حاولت. نعم، من فضلك، هكذا.

١٩٦٥

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤