سكرتيريتي للحزب الوطني

١٩٣٢–١٩٤٦

بعد أن عُيِّن محمد زكي علي بك «باشا» مستشارًا بمحكمة الاستئناف في أواخر سنة ١٩٣٢، انتقلت إلى القاهرة وحللت محله في مكتبه الذي أخلاه منذ تولى القضاء. وقد شغر مركز سكرتير الحزب الوطني الذي كان يشغله زكي بك، فانتخبتني اللجنة الإدارية بجلستها المنعقدة يوم الاثنين ٢٦ ديسمبر سنة ١٩٣٢ سكرتيرًا للحزب ولم أكن قد عدت بعدُ إلى الحياة البرلمانية، إذ لم أُنتخب عضوًا بمجلس الشيوخ إلا في أكتوبر سنة ١٩٣٩.

توليت حمل أعباء السكرتيرية بقدر ما وسعني الجهد، فتجدد النشاط في الحزب وبرزت توجيهاته في الشئون العامة، بحيث كنا نتتبع ما يقع من التطورات فنبادر إلى الجهر برأي الحزب فيها وبالسياسة التي تقتضيها مصلحة البلاد.

وكان أول بيان نشرته الصحف بتوقيعي بصفتي سكرتيرًا للحزب الوطني في ٥ يناير سنة ١٩٣٣ متضمنًا قرارًا من اللجنة الإدارية بتوضيح خطة الحزب حيال الموقف السياسي وقتئذٍ، ولا سيما ما كان خاصًّا بالمساعي التي كانت تبذلها الوزارة القائمة (وزارة إسماعيل صدقي باشا) لعقد معاهدة مع الحكومة البريطانية، وتضمَّن قرار اللجنة ما يأتي:
  • أولًا: المثابرة على العمل لإحباط المفاوضات أو المحادثات التي ترمي إلى عقد معاهدة مع الحكومة البريطانية قبل الجلاء عن مصر داخل حدودها الطبيعية والتاريخية «أي حدود الوادي» ودعوة الأمة إلى الاستمساك بالاستقلال التام لمصر والسودان.
  • ثانيًا: دعوة حضرات نواب الحزب الوطني في البرلمان إلى تقديم مشروعات قوانين بإلغاء جميع القوانين الاستثنائية المقيدة للحرية التي وضعتها الوزارة القائمة أو أية وزارة سابقة.
  • ثالثًا: إعادة النظر في تكوين اللجان الفرعية في القُطر المصري التي يتسنى لها بث الدعوة لتحقيق مبادئ الحزب الخاصة بتقرير مصير مصر.
  • رابعًا: لفت نظر حضرات أعضاء الحزب الوطني إلى وجوب المحافظة على تقاليد الحزب في خُطبهم وتصريحاتهم ورسائلهم باعتباره حزب معارضة للحكم القائم ما دام لا يقوم على تحقيق مبادئ الحزب الوطني بل يعمل على نقيضها.

وابتكرت فكرة زيارة قبر مصطفى كامل وقبر محمد فريد جماعة في أيام الأعياد، بعد أن انقطعت سنين طويلة، فكنا نذهب إلى الضريحين ونُلقي الكلمات الوطنية المناسبة.

وأذكر أن أول مرة ذهبنا فيها جماعة إلى قبرَي الزعيمين كانت في يناير سنة ١٩٣٣، وقد ألقيت الكلمة الآتية أمام قبر مصطفى كامل:

«أي مصطفى!

أبناؤك الذين تلقَّوا عنك مبادئ الوطنية الأولى وحافظوا على عهدك السنين الطوال يجيئون اليوم وفي كل فرصة يؤدون واجب الوفاء لك، ويحيُّون روحك الكبيرة تحية الأبناء لأبيهم والتلاميذ لأستاذهم وإمامهم. لقد فارقتنا منذ خمس وعشرين سنة، وذكراك تتجدد في نفوسنا كل يوم، منك تعلَّمنا الوطنية، وفيك عرفنا الإخلاص والثبات والتضحية والجهاد المنزه عن الأهواء.

ضحيت يا مصطفى في سبيل مصر بأعز ما تملك، ضحيت بصحتك وشبابك، فكم كان الأطباء ينصحون لك أن تبقي على صحتك ولا تحمِّلها ما لا طاقة لها به من الجهاد المضني، ولكنك آثرت مصر على صحتك وراحتك، فذوت زهرة حياتك في الرابعة والثلاثين من عمرك. علمتنا يا مصطفى كيف يجب أن نجعل مجد الوطن وعظمته فوق مجد الأفراد وأطماعهم في الحياة.

اليوم نناجيك بأننا على عهدك باقون، وبمبادئك وتعاليمك مستمسكون، إننا خصوم الاحتلال وسياسته، خصوم أعوانه وأنصاره، مستمسكون بمبدأ الجلاء لا نبغي عنه بديلًا؛ فالجلاء هو الرمز الصحيح للاستقلال التام.

نحيِّيك يا مصطفى ونحيِّي صحبك وأنصارك الذين شاركوك في الجهاد واتبعوا مبادئك وترسَّموا خطاك، نحيي فريدًا وعليًّا وأمينًا وعبد العزيز وفؤادًا ولطفي ووجدي، وغيرهم وغيرهم، ممن يرقدون حولك أو على مقربة منك. نحيي أمك الحنون التي تسكن إلى جانبها، إن لها على الأمة فضل تربيتك التربية الأولى وتنشئتك النشأة الصالحة التي انبعثت منها شعلة الوطنية. نحيي الأقربين من آل بيتك الذين لحقوا بك في دار البقاء، نحيي المجاهدين من كل حزب وفي كل عهد، ونرسل تحياتنا إلى أرواح سائر الشهداء الذين جادوا بأرواحهم في سبيل مصر، أولئك الذين غُيِّبوا تحت أطباق الثرى هنا وهناك، واجبٌ علينا أن نذكرهم على الدوام وأن نعرف فضلهم ونقدس ذكراهم، فإلى أرواحهم جميعًا الفاتحة!»

ثم توجَّهنا إلى قبر المرحوم محمد بك فريد بالسيدة نفيسة، وهناك اجتمعنا حول الضريح، وألقيت الكلمة الآتية:

«هنا رمز الإخلاص، هنا التضحية في سبيل الوطن، هنا مثوى فريد، هنا الأخلاق والمبادئ، هنا الجهاد المحفوف بالحرمان والمتاعب، هنا مغالبة الدهر والصبر على المكاره، هنا رمز الآلام يحتملها القلب العامر بالإيمان، هنا النبل وكرم المَحْتِد، يمتزجان بالوطنية والتضحية، هنا احتمال النفي والحاجة والتشريد بعد العز والثروة والنعيم، هنا الوطنية الحقة مجسمة فيك يا فريد!

سلام عليك من قلوب تذكر فضلك عليها وعلى الوطن، بالأمس ودَّعنا شريكتك في الحياة، ودَّعنا زوجتك النبيلة التي قاسَمتك السرَّاء والضرَّاء، الآن تلتقي بك في دار الخلد بعد أن باعد الدهر بينكما السنين الطوال، في حياتك وبعد مماتك، فلتؤنسك في وحشتك، بعد أن حُرمت لقاءها في منفاك وغربتك، اليوم تلتقيان بعد طول النوى، فعليكما وعلى الشهداء السلام!»

وفي كلمتي أمام قبر محمد فريد إشارة إلى وفاة زوجته البارَّة الوفية، وقد توفيت إلى رحمة الله يوم ٢٠ يناير سنة ١٩٣٣، وشيعنا جنازتها يوم ٢١ منه، وشاركَنا في تشييعها أقطاب الوفد لمصاهرة الدكتور حيدر الشيشيني للمرحوم فريد بك.

وأخذت بوصفي سكرتيرًا للحزب الوطني أكتب سنويًّا المقالات عن ذكرى مصطفى كامل وذكرى محمد فريد، وذكريات الحوادث التاريخية الهامة كضرب الإسكندرية، واحتلال العاصمة، واتفاقية السودان … إلخ.

وأنشأنا ناديًا فخمًا للحزب بشارع قصر العيني في ملتقاه بشارع دار النيابة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤