نصائحي للشباب

وما عليهم من واجبات

إن آمالنا معقودة بقيام شباب الجيل بواجباتهم نحو أنفسهم ونحو بلادهم؛ فالشباب عُدة الوطن وذخيرته، ومن حقنا أن ننتظر منهم أن يؤدوا واجباتهم على أكمل وجه. ولست أريد شططًا فيما أذكره من واجبات الشباب، ولا أبتغي إرهاقًا لهم، بل إني أستملي في هذه الكلمة روح الاعتدال والرفق بالشباب.

إن أول واجبات الشباب — فتيان وفتيات — هو واجب كل شاب نحو نفسه، وإني لأبدأ بهذا الواجب عن عقيدة واقتناع، ولا يدهشن أحد؛ إذ أقدِّم هذا الواجب على واجب الشباب نحو وطنه؛ فإن خير النصح ما كان مطابقًا لحقائق الأمور، والوطنية حقيقة واقعية لا خيال كما يدَّعون.

أنا لا أتملق الشباب إذا قلت إن أول واجب عليهم نحو المجتمع هو تكوين أنفسهم ليكونوا مواطنين صالحين في المجتمع، فكلما كان الشاب ذا مركز محترم وذا مكانة مستقلة، ولا يعيش عالة على غيره، استطاع أن يخدم بلاده بأكثر مما لو كان يعتمد على غير نفسه في الحياة.

فنصيحتي إلى الشباب أن يكوِّنوا لأنفسهم مراكز محترمة في المجتمع، وأن يعتبروا واجبهم نحو أنفسهم هو الحجر الأساسي لِما تطلبه البلاد منهم، وأنهم بتكوينهم هذه المراكز يمهدون لأنفسهم سبيل العمل المنتج والجهاد المثمر في سبيل إحياء البلاد ورُقيِّها وعظمتها.

وواجب الشباب نحو أنفسهم يتضمن واجبهم نحو أسرهم وذويهم، ذلك لأنهم ينتظرون منهم أن يكونوا عونًا لهم في هذه الحياة؛ فالآباء عندما يبذلون جهودهم لتربية أبنائهم يحق لهم أن ينتظروا منهم أن يكونوا عونًا لهم في مستقبل حياتهم، وأن هذا العون لَمما يشرِّف الشاب ويرفع شأنه بين الناس.

ثم تأتي في المرحلة الثانية واجبات الشباب نحو وطنه، ولا أقول إن هذه الواجبات تأتي في الصف الثاني من الأهمية، بل على العكس فإن واجب الشباب نحو وطنهم أعظم وأوسع مدًى من واجبهم نحو أنفسهم. ذلك لأن البلاد ما هي إلا عائلة كبيرة تتألف من مجموع عائلات المواطنين، فعندما يؤدي الإنسان واجبه نحو نفسه عليه أن يؤدي واجباته نحو عائلته الكبرى وهي الوطن.

وواجبات الشباب نحو وطنهم تتفرع إلى ثلاثة أقسام: واجبات سياسية، وواجبات اقتصادية، وأخرى اجتماعية.

(١) الواجبات السياسية

والواجب السياسي هو أن يساهم الشاب بجهوده وبعلمه وبكفاءته وبإخلاصه في النهوض بالبلاد من الناحية السياسية، وأول ما يجب على الشباب هو أن تكون له عقيدة سياسية، أو بعبارة أوضح عقيدة وطنية؛ لأن الذي يعمل بغير عقيدة قلَّما تفيد البلاد منه فائدة ما.

قد يقال إن هذا الكلام نظري، وإن البيئة والوسط والظروف وحالة البلاد تدعو إلى عدم تقيُّد الإنسان بعقيدة سياسية، ولكني على العكس أقول إنه يجب على الشباب ألا يعيش على هامش الحوادث والأحزاب، بل يجب أن يكون له رأي وتكون له عقيدة يدافع عنها ويصدر عنها في أعماله واتجاهاته.

على الشباب إذن أن يختار لنفسه الهيئة السياسية التي تتفق مع عقيدته ولا يتحول عن هذه العقيدة.

إني أدعو الشباب أن يَحيَوا بالعقيدة الوطنية لأنها أساس التقدم والكفاح، كما أنها الملاذ الأخير للإنسان إذا ما صادفته في حياته عقبات أو صدمات أو نكران للجميل، والرجل الذي يخلو من العقيدة لا يلبث أن يتخاذل ويتراجع وينتهي في آخر الأمر إلى اطِّراح الجهاد.

إني أدعوهم إلى تنمية روح العقيدة الوطنية في نفوسهم وألا يتعجلوا تقدير الناس لجهودهم، فأنا أعلم الناس بأن المواطن الذي يعلِّق عمله على تقدير الناس لجهوده لا يلبث أن يصاب من المجتمع بخيبة أمل قد تؤدي به إلى أن ينقلب على عقبيه، كما أن الوطنية الحقة أساسها أن يؤدي الإنسان واجبه دون أن ينتظر من الناس جزاءً ولا شكورًا.

إن الشباب وإن كان يجب عليهم أن يتمسكوا بعقيدتهم فليس من الخير أن يسخطوا على الناس إذا كانوا لا يشاركونهم في عقائدهم، ولا أن يحاسبوهم حسابًا عسيرًا إذا خالفوهم فيما يعتقدون. إن لهم أن يتشددوا في عقائدهم، ولكن عليهم أن يكونوا أشداء على أنفسهم، رحماء على الناس، فلعلَّ ذلك أدعى لخدمة عقائدهم واجتذاب القلوب إليها، وأقرب إلى اعتناق الناس مع الزمن لمبادئهم.

إننا في خلال أربعين عامًا عندما كنا ننادي بالجلاء والملحقات لم يكن نداؤنا يقابل في الجملة إلا بالتهكم والسخرية، لا من الأشخاص العاديين فحسب، بل من الأشخاص ذوي المراكز الكبيرة والأسماء الضخمة، ولقد كنت أرى دائمًا ألا نناصب من يخالفوننا في عقائدنا العداء، بل كنت أدعو إلى التسامح معهم لعلهم يرجعون آخر الأمر إلى مبادئنا، وأظنني كنت محقًّا في أن هذه الخطة أقرب إلى تعميم هذه المبادئ، وأنها كسبت مع الزمن الأنصار والمؤيدين من طبقات الشعب كافة، حتى أولئك الذين كانوا يجرحون مبادئنا ويعتبرونها خيالًا في خيال.

وأود أن أضيف نصيحة أخرى، وهي أن يعمل الشباب دائمًا على تأليف القلوب لا على تفريقها؛ لأن تأليف القلوب وتوحيد الصفوف من أمضى الأسلحة التي نعتمد عليها في كفاحنا.

فليكن الشباب رسل وئام ومحبة وسلام، لا دعاة فُرقة وكراهية وانقسام.

إن الشباب هم طليعة جيش الوطن، فعليهم أن يكونوا قدوته في التماسك والتكتل، وبدون ذلك لا يستطيع الشباب أن يؤدوا رسالتهم.

إن الإنسان مهما ضحى في سبيل الوحدة؛ فإن تضحيته لها قيمتها، وهي جديرة بأن يُشكر صاحبها عليها.

(٢) الواجبات الاقتصادية

من الناس من يظن أن الحياة الوطنية هي السياسة، وهذا خطأ أربأ بالشباب أن ينحدروا إليه؛ لأن الحياة القومية يجب أن تشمل الجانب الاقتصادي والاجتماعي. فلا يمكن لأمة أن تحقق أهدافها إذا لم تهتم بالناحية الاقتصادية فيها؛ فالنهضة الاقتصادية هي من الأسلحة التي تتميز بها الأمم القوية عن الأمم الضعيفة، والأمة الغنية أقوى في ميدان الكفاح السياسي من الأمة الفقيرة.

لقد لاحظنا كيف كان لعامل المال الأثر الفعَّال في نتائج الحرب العالمية الأولى والثانية؛ فقد كُتِب النصر للأمم التي تفوقت على أعدائها في ميدان المال؛ ولذلك قالوا إن النصر يكون لأقوى الأمم وأكثرها مالًا.

ولعل من الخير أن نلاحظ أن الحركة الوطنية قد اقترنت بالنهضة الاقتصادية؛ فقد كان مصطفى كامل يعمل في الناحية السياسية، بينما كان طلعت حرب وعمر لطفي يعملان في الناحية الاقتصادية، فكلتا النهضتين إذن ضرورية للأخرى بل مكملة لها؛ ومن ثَم كان من الواجب علينا أن نتعاون على تشجيع كل ما هو مصري من الإنتاج؛ فالأمم الأوروبية تؤْثر إنتاجها الوطني على أي إنتاج آخر.

إني لا أقصد أن أدعو الشباب إلى التعصب، وإنما أقصد دعوتهم إلى تشجيع الإنتاج المصري؛ لأن هذا من العوامل الكفيلة بالنهوض الاقتصادي للبلاد.

كما أنني أدعوهم إلى المساهمة في المنظمات الاقتصادية التي تنهض بالثروة القومية، وأدعوهم على الأخصِّ إلى تشجيع المنظمات التعاونية بحيث لا تخلو جمعية تعاونية من مساهمتهم فيها. ولا يصح أن يحتج أحدهم بعدم وجود جمعية تعاونية ينضم إليها في بلده أو في بيئته، بل يجب عليه في هذه الحالة أن يتعاون مع إخوانه على إنشاء جمعيات تعاونية لا جمعية واحدة؛ ولذلك فإني أوجِّه اللوم إلى الشباب المثقَّف الذي يعيش في القرى أو المدن ولا يعمل على إنشاء الجمعيات التعاونية فيها.

(٣) الواجبات الاجتماعية

لا شك أن المجتمع الراقي السليم أقوى على مواجهة الأزمات السياسية العالمية من المجتمع المتأخر وأقدر منه على احتمال أعباء الدفاع الوطني. ومما تجدُر ملاحظته أن الجمعيات الرياضية في أوروبا تساعد على تكوين المواطنين الصالحين والجنود المكافحين؛ فعلى الشباب إذن أن يساهموا في نهضة البلاد الرياضية والصحية والتعاونية والاجتماعية والخيرية. إن الجمعيات الرياضية الواسعة المدى في أوروبا قد وضعت نُصْب عينيها تطبيق المثل القائل: «العقل السليم في الجسم السليم»؛ ومن ثَمَّ كونت جيلًا قويًّا رياضيًّا، هذا بينما نحن في مصر نجد أن ٨٠٪ من شباب الجامعة لا يصلحون للجندية لضعف بنيتهم واعتلال صحتهم.

وعلى الشباب أن ينتظموا جماعات للعمل على الرقي الاجتماعي، وأن يؤسسوا هذه المنظمات إن لم تكن موجودة. عليهم أن يكونوا دائمًا دعاةً للخير، عاملين على تخفيف آلام الإنسانية، مساهمين في الخدمات الاجتماعية، ساعين في التخفيف عن الفقراء والمرضى والمعوزين وأن يساهموا في نشر الثقافة بين مواطنيهم. فإذا اتجهوا إلى هذه الناحية نمَت في نفوسهم الروح الاجتماعية التي تجعل من الإنسان مواطنًا صالحًا يحس بآلام مواطنيه فيعمل على التخفيف منها، ويشعر بشعورهم فيعمل على إسعادهم، وفي هذا معنى التسامي في الوطنية.

وأرجو أن يكون الشباب رسل تطوُّر، وألَّا يتخذوا العنف وسيلة لهم في الكفاح.

وأود من الشباب ما داموا لا يزالون في معاهد التعليم على اختلاف درجاتها ألَّا يساهموا في السياسة الحزبية؛ إذ ليس من مصلحتهم ولا من مصلحة البلاد أن يساهموا في هذه السياسة. وعليهم إذا كانت لهم ميول نحو هذا الحزب أو ذاك أن يرجئوا الجهر بهذه الميول وتحقيقها حتى يتخرجوا من معاهد العلم؛ لأن هذه المعاهد يجب أن تصان عن أن تكون مسرحًا لخلافات الأحزاب وتطاحنها.

إن السياسة الوطنية هي وحدها السياسة التي لا يُلام عليها الشباب من الطلبة. ومن السهل على الشباب المثقف أن يفرِّقوا بين السياسة الوطنية والسياسة الحزبية، وإن وحي الوطنية في نفوسهم لكفيل بأن يلهمهم الفوارق بين السياستين. فعلى الطلبة أن يتعهدوا في نفوسهم روح الوطنية، لا روح الحزبية، وأن يُنموا هذه الروح ويحافظوا عليها، حتى إذا تخرَّجوا من معاهدهم أمكنهم أن يستلهموا روح الوطنية في حياتهم الشخصية وحياتهم العامة. لأننا إذا أمعنَّا النظر في نقائص المجتمع في بلادنا وتعمَّقنا في دراسة علل هذه النقائص وأسبابها نجد أن أول سبب لها هو ضعف الروح الوطنية في نفوسنا. فإن هذا الضعف يميل بالمرء إلى أن يحيا حياة شخصية، لا حياة قومية، وهذه الحالة النفسية لا تجعل منه مواطنًا صالحًا يؤدي لبلاده ما يجب عليه من التزامات وواجبات، وأول هذه الالتزامات أن يؤْثر مصالحها العامة على أطماعه الشخصية. والروح الوطنية هي كالأخلاق، لا تُكتسب بعد تخرُّج الشباب من معاهدهم، بل يجب أن تنشأ وتتكون في البيت، وفي المدرسة الابتدائية؛ فالثانوية، ثم في الجامعة، وإذا لم تتكون في هذه المراحل فمتى — ليت شعري — تتكون؟

وصفوة القول أن على طلبة العلم أن يتعهدوا في نفوسهم روح الوطنية وينمُّوها ويقدِّسوها ويحرصوا عليها، ولكن ليس لهم أن يشتغلوا بالسياسة العملية إلا بعد تخرُّجهم من معاهدهم، وعليهم أن يحترموا النظام والقانون وأن يتخلقوا بالأخلاق القويمة.

(٤) الأخلاق

الأخلاق! الأخلاق! هي أساس الوطنية وركنها الركين، هي سياجها وحصنها الحصين، هي قوامها وغذاؤها الدائم. وإن أمة بلا أخلاق لا تستطيع أن تحمل أعباء الوطنية أو تسير خطوة إلى الأمام.

فلنتعهد الأخلاق، وليبدأ كلٌّ منا بنفسه، كبارًا وصغارًا، شيبًا وشبانًا. فإن الأخلاق والفضائل الوطنية لا تنمو ولا تقوى إلا إذا كان أساس الدعوة إليها القدوة الصالحة. فليتعهد كلٌّ منا أخلاقه، ويقوِّم المعوج منها، ويحصِّن السليم منها؛ فإنه بذلك يؤدي أعظم خدمة للمجتمع، ويضع لبنة في صرح الاستقلال والإصلاح والنهضة القومية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤