ذكرياتي عن ثورة ١٩١٩

كنت سنة ١٩١٩ لا أزال في الثلاثين من عمري أزاول مهنتي (المحاماة) في «المنصورة»، وكانت تغلِب عليَّ نزعة الشباب وأتوق إلى أن تسلك الأمة سبيل العنف في جهادها. أما الآن فإني أميل إلى مبدأ عدم العنف وأراه أقوم السبل وأقربها إلى النجاح والتقدم، وبعبارة أخرى لست من دعاة الثورة révolution وأوثر عليها التطور في النهضة évolution، ومع ذلك لم تتغير وجهة نظري في الجهاد؛ فإني أشعر والحمد لله بأن الشعلة التي تضطرم في نفسي لا تزال كما كانت لم تهبط لها حرارة ولم يضعف لها أوار؛ فالمقاومة الوطنية هي سبيلي في الحياة، وهي هي السبيل التي أدعو إليها وأنشد للوطن المزيد منها والثبات عليها، وهي سبيل كل أمة تريد المحافظة على كيانها في خضم هذا المعترك العالمي؛ إذ لا بد لها من ذخيرة من المناعة تدافع بها الحادثات، على أن المقاومة أو المناعة شيء والعنف شيء آخر، وقد يكون عدم العنف أدعى أحيانًا لدوام المقاومة واستمرارها وأجدى عليها من عنفٍ يعقبه فتور ثم تراجع وخمود.

تتبعت منذ نوفمبر سنة ١٩١٨ حركة تأليف الوفد المصري، وسعيت جهدي مع الساعين في التوفيق بين الوفد والحزب الوطني، على أن يُمثَّل الحزب في هيئة الوفد، وجرت مفاوضات بينهما في هذا الصدد. وذهبت يومًا لمقابلة المغفور له سعد باشا للتحدث إليه في هذا الشأن، يصحبني الأستاذ عبد المقصود متولي، والأستاذ عبد الفتاح رجائي، والمرحوم محمد بك رمضان القاضي السابق، بُغية الاتفاق على هذا الأساس، وقَبِل الحزب مبدأ تمثيله في هيئة الوفد، ولكن وقع الخلاف بينه وبين الوفد على أشخاص الأعضاء الذين يمثلونه، وانتهى الأمر إلى عدم الاتفاق على أشخاصهم، واختار الوفد من تلقاء نفسه مصطفى النحاس بك «باشا» وحافظ عفيفي بك «باشا» باعتبار أنهما يمثِّلان مبادئ الحزب الوطني.

وكنت منذ اشتداد الحركة أقضي معظم الأيام بالعاصمة، وشهدت وقائع الثورة الأولى وامتدادها إلى الأقاليم، فرأيت بعثًا جديدًا للأمة، رأيت روح الإخلاص والتضحية تعم طبقاتها بعد أن كانت من قبلُ محصورة في دائرة ضيقة.

حدث الإضراب في المدارس يوم ٩ مارس سنة ١٩١٩ على أثر اعتقال الزعيم سعد زغلول وصحبه، وخرج الطلبة من معاهدهم متظاهرين محتجين منادين بالحرية والاستقلال، فانتعشت لذلك نفوسنا إذ رأينا في هذا الشباب طليعة جيش الإخلاص الذي يغضب لمصر ويثور من أجلها.

حقًّا لم يكن هذا أول إضراب من نوعه؛ فلقد شهدت من قبلُ إضراب طلبة الحقوق في فبراير ١٩٠٦ كما تقدَّم بيانه، ولكنه اقتصر على طلبة الحقوق ولم يشاركهم فيه طلبة المدارس الأخرى الذين اكتفوا بإظهار العطف عليهم، وانتهى برجوع طلبة الحقوق إلى مدارسهم في مارس من تلك السنة.

وشهدت بعد ذلك وقف الدراسة في جميع المدارس يوم تشييع رفات الزعيم «مصطفى كامل»، وخروج الطلبة جميعًا من معاهدهم في ذلك اليوم المشهود (١١ فبراير سنة ١٩٠٨) إظهارًا لشعورهم، فكان أول إضراب عام حدث في مدارس العاصمة جميعها، وكان جزءًا من المظاهرة الهائلة التي تجلت في موكب الجنازة، واشتركت فيها طبقات الشعب كافة توديعًا وتقديرًا لزعيم الوطنية الأول.

وقد رأيت في إضراب ٩ مارس سنة ١٩١٩ صورة مصغرة من إضراب ١١ فبراير سنة ١٩٠٨، فكأن شباب سنة ١٩١٩ قد تلقَّى وحي الوطنية من مشهد ذلك اليوم العظيم.

عادت بي الذكرى إلى مظاهرات اشتركت فيها وأخرى شهدتها منذ سنة ١٩٠٨، كمظاهرة طلبة الحقوق سنة ١٩٠٨ لمناسبة عرض جيش الاحتلال في ميدان عابدين، وموكب الذكرى الأولى لوفاة مصطفى كامل (١١ فبراير سنة ١٩٠٩)، ومظاهرات الاحتجاج على تقييد حرية الصحافة وإعادة قانون المطبوعات (مارس-أبريل سنة ١٩٠٩)، ومظاهرات المعارضة في مشروع مد امتياز قناة السويس (يناير–أبريل سنة ١٩١٠)، ومظاهرات الاحتجاج على الكولونل تيودور روزفلت الرئيس الأسبق للولايات المتحدة لمناسبة خطبته في مناصرة الاحتلال (مارس سنة ١٩١٠)، ومظاهرات الشباب تكريمًا للمرحوم فريد بك (ديسمبر سنة ١٩١٠)، ومظاهرات المطالبة بالدستور سنة ١٩١٠ وسنة ١٩١١، ومواكب الذكريات السنوية لوفاة مصطفى كامل، وغير ذلك من المظاهرات الوطنية، وأخذت أقارن بينها وبين مظاهرات سنة ١٩١٩، فرأيت أن غرس الوطنية قد نما واشتد على تعاقب السنين؛ إذ إن مظاهرات سنة ١٩١٩ وإن كانت استمرارًا لمظاهرات السنين السابقة إلا أنها في مجموعها أضخم منها وأكثر جموعًا وجنودًا، ولم تقتصر على العاصمة بل عمَّت مدن الوادي وقراه، وبدا لي فيها أن روح التضحية والفداء قد تغلغلت في نفوس الشعب أكثر مما كانت من قبلُ، وكان هذا دليلًا على تطور الروح الوطنية واتساع مداها. وكان الذين يسيئون الظن في وطنية هذه الأمة يعتقدون أن الإرهاب كفيلٌ بإخماد الحركة في مهدها، وأخذوا في صحفهم المناصرة للاحتلال يُزْجُون إلى الشباب نصائح معكوسة بِحثِّهم على الخضوع والاستسلام تحت ستار الإشفاق على مستقبلهم، ولكن هذه الظنون قد تلاشت أمام استمرار الإضراب واتساع المظاهرات واستمرارها في الأيام التالية، بالرغم من أن السلطة العسكرية قد تصدت لها بإطلاق الرصاص على المتظاهرين منذ يوم ١٠ مارس، فلم يرهب الناس القتل وأخذوا يألفون رؤية الدم المسفوك في الشوارع، وتقبَّل الشعب، شبابه وسائر طبقاته، التضحية بلا خوف ولا تراجع، فكان لهذه التضحية وهذا الإجماع الرائع أثرهما في رفع صوت مصر عاليًا مدويًا في أرجاء العالم، بعد أن كان خافتًا طيلة سني الحرب، وأخذت الصحف التي كانت تمالئ الاحتلال وتزدري بالأمة طوال السنين تغيِّر أسلوبها وتتملق الشعب وتكتب عنه وعن مطالبه الوطنية بلهجة جديدة ملؤها التقدير والإعجاب.

رأيت الجماهير يشتركون في المظاهرات ولا يبالون ما يُستهدفون له من الأخطار، كانوا يواجهون رصاص البنادق والمدافع الرشاشة (المتراليوزات) بشجاعة لا تقل عن شجاعة الجند في ميادين القتال، وسقط كثيرون منهم قتلى أثناء المظاهرات.

كان إذا سقط رافع العلَم في موكب المظاهرة مضرجًا بدمائه، تقدَّم غيره ورفع العلم بدله مناديًا بحياة الوطن، فيردد إخوانه نداءه.

كان الجرحى منهم لا ينفكون ينادون بحياة مصر والدم ينزف منهم، وكثيرًا ما شاهد المارة مركبات الإسعاف تحمل جريحًا في مظاهرة يسيل دمه ومع ذلك يرفع ستار المركبة وهي تسير إلى مركز الإسعاف ويطل على الناس وينادي: «نموت ويحيا الوطن!»

تبدلت حالة الشعب النفسية بتأثير الثورة، وحاكى في الضحية أرقى الأمم وطنية وإخلاصًا.

ويتصل بهذا السياق أن رجال البوليس قبضوا في إحدى المظاهرات على جماعة من الطلبة المتظاهرين وساقوهم إلى القسم واعتقلوهم به، فلم يكد إخوانهم يرون هذا المشهد حتى تقدموا جميعًا إلى القسم وطلبوا أن يُقبض عليهم كلهم لأنهم قد اشتركوا مع إخوانهم المعتقلين فيما يسميه البوليس جريمة، وأنهم شركاء معهم فيها ولا يريدون أن يختص زملاؤهم بشرف التضحية والألم في سبيل الوطن، فكان لهذا التضامن البديع وهذه التضحية أثر بالغ في نفوس الشعب.

كانت هذه المشاهد وغيرها دليلًا ناهضًا على أن الحركة الوطنية قد خطَت خطوات واسعة إلى الأمام، وقويَ فيها عنصر الإخلاص الذي هو أساس الوطنية الحقة؛ فإن هؤلاء الذين استُهدفوا للأذى والقتل لم يكونوا ينتظرون جزاءً ولا مكافأة على جهادهم، بل كانوا يشعرون وهم يجودون بحياتهم أنهم يؤدون واجبًا نحو بلادهم فحسب، وتلك لَعَمري أقصى درجات الإخلاص والبطولة.

ومن المشاهد التي أثَّرت في نفسي مناظر جنازات الشهداء؛ فقد كانت هائلة حقًّا. كانت الجموع تسير فيها دون أن تعرف شخصية الشهيد أو الشهداء الذين تُشيَّع جنازاتهم، بل دون أن يعرف المشيعون بعضهم بعضًا. كان يكفي أن يذاع أن جنازة أحد الشهداء ستُشيع في ساعة ما من مكان ما حتى يجتمع الألوف من الناس من مختلف الأوساط والطبقات يسيرون فيها يعلوهم الحزن العميق. لم نكن نسمع فيها عويلًا أو نحيبًا، بل كنا نرى جلالًا وخشوعًا، وحزنًا رهيبًا يتخلله الهتاف بين آونة وأخرى بحياة ذكرى الشهداء والتضحية وضحايا الحرية. فكانت هذه الجنازات مظاهر رائعة لتقدير الشعب معاني التضحية والبطولة، كانت بعثًا جديدًا لحياة جديدة.

كان الظن عندما وقعت الحوادث الأولى في ثورة سنة ١٩١٩ أنها مقصورة على العاصمة، ولكن لم تلبث أن غمرتنا الأنباء من مختلف الأقاليم بأن مظاهرات قامت فيها على غرار مظاهرات القاهرة وزاد عليها قطع السكك الحديدية، وشهدنا بأعيننا انقطاع المواصلات بين العاصمة والأقاليم كما انقطعت بين أحياء القاهرة نفسها، فأدركنا أننا أمام ثورة عامة شملت البلاد من أدناها إلى أقصاها، وفي الحق إنني مع ما أشعر به من ميل دائم إلى التفاؤل، لم أكن أتوقع أن تقوم في البلاد ثورة في مثل هذه الظروف، وبمثل هذا الاتساع، وبتلك السرعة والقوة والروعة التي تجلت في سنة ١٩١٩. ولم أكن أنا وحدي في هذا الشعور، بل إن فريدًا رحمه الله حين بلَغته وهو في منفاه أنباء الثورة عدَّها من الحوادث المفاجئة، وقال عنها في مذكراته: «من الأمور التي كانت غير منتظرة ما حصل بمصر في شهرَي مارس وأبريل من هذه السنة (١٩١٩) وهو قيام ثورة عامة اشتركت فيها الأمة بجميع طبقاتها.» وقال عنها أيضًا: «إن هذه الحركة لم تكن في الحسبان، وإن ما أظهره المصريون من التضامن والاتفاق ما كان أحدهم ليحلم به.»

تتابعت حوادث الثورة، وارتسمت في ذهني صورة واضحة عنها، وأدركت مع الأيام عِظم مداها.

شعرت أمام هذه المشاهد بغبطة كبيرة تتملكني؛ إذ أدركت أن روح الحياة قد سرت في الأمة وأنها أخذت تنفضُ عنها أكفان الخضوع والاستسلام. ورأيت في اتساع الحركة واتحاد الصفوف تحت لوائها تحقيقًا للوحدة التي طالما كنا ننشدها ونتمناها، كما رأيت في تعدد مظاهر التضحية نجاحًا لدعوة الإخلاص في الجهاد، تلك الدعوة التي هي أساس كل نهضة قومية وسبيل النجاح لكل أمة تريد لنفسها الحياة والعزة.

(١) رحلة نيلية في إبان الثورة (مارس سنة ١٩١٩)

في ١٨ مارس سنة ١٩١٩ وقعت مظاهرة بالمنصورة قُتِل فيها تسعة عشر من المتظاهرين، وكنت وقتئذٍ في القاهرة، وعلمت وأنا بها أن قائد القوة العسكرية البريطانية في تلك المنطقة أنذر سكان المدينة بأنه إذا حدثت مظاهرة أخرى فإنه سيلقي مسئوليتها على عاتق أربعة منهم عيَّنهم بأسمائهم وهم: محمود بك نصير، والدكتور محمود سامي، والأستاذ عبد الوهاب البرعي، وأنا، وأنه سيأمر بضربنا بالرصاص في حالة قيام أية مظاهرة.

وكانت المواصلات منقطعة، وكنت معتزمًا العودة إلى المنصورة لأتعهد الروح المعنوية فيها، فقابلني صديق لي قدِم منها، وأفضى إليَّ بأمر هذا الإنذار، ورغَّب إليَّ أن أبقى في العاصمة؛ لكيلا أُستهدف لتنفيذ ما توعَّدونا به. فرأيت في نفسي شعورًا قويًّا، لم أعرف مصدره أو سببه، يدفعني إلى العودة إلى المنصورة بالرغم من تحذير إخواني والأقربين. فأخذت أبحث عن سبيل للعودة، وكانت السكك الحديدية مقطوعة، وما أُصلح منها كان السفر عليه ممتنعًا إلا بترخيص من القيادة البريطانية بالعاصمة، وكانت ترفض كل طلبات السفر التي يتقدم بها المصريون غير الموظفين، وكذلك شأن السفر بالسيارات، فضلًا عن حدوث فجوات في الطرق الزراعية تمنع مواصلة السير فيها. ولم يبقَ سوى السفن الشراعية (المراكب) تنقل الناس بطريق النيل وفروعه إلى الجهات التي يقصدونها، وقد شاعت هذه الطريقة في تلك الأيام، وارتفعت لذلك أجور السفن ارتفاعًا كبيرًا. فطفقت أبحث عن رفقاء لي يقصدون المنصورة أو البلاد التي في طريقها، فاجتمعت إلى نخبة من الأصدقاء والمعارف كانوا أيضًا يبحثون عن سفينة يقصدون بها بلادهم في مديرية الدقهلية، واهتدينا إلى صاحب سفينة شراعية كان قادمًا من المنصورة ويسرُّه العودة إليها فيربح ذهابًا وإيابًا، وطلب منا سبعة جنيهات أجرة الرحلة، فقبلناها عن طيب خاطر؛ لأنها كانت أجرة زهيدة بالنسبة لِما كان يطلبه أصحاب المراكب في ذلك الوقت، وكانت في ذاتها يسيرة إذ وزعناها على المقتدرين منا.

وتواعدنا على أن نلتقي بمرسى روض الفرج يوم ٢٦ مارس سنة ١٩١٩ في الساعة الأولى بعد الظهر؛ فالتقينا في الميعاد المحدد، وركبنا السفينة بعد أن اشترينا ما يلزمنا من المئونة لمدة ثلاثة أيام؛ إذ قدَّر ربان المركب (الريِّس) أنها المدة التي تكفي لقطع المسافة بحرًا بين القاهرة والمنصورة. وكنا سبعة عشر راكبًا عدا الريس وزميله، أذكر منهم: محمود بك عبد النبي، والوجيه بكير الجندي، وكريمته الآنسة لطفية الجندي (الآن زوجة الأستاذ حسين مطاوع)، وكريمة أخيه الآنسة سنية محمود الجندي (الآن زوجة الأستاذ رياض الجندي)، وعبد اللطيف بك غنام، والشيخ محمد الخشاب قاضي محكمة أجا الشرعية، والدكتور صدِّيق أبو النجا (وكان طالبًا بالطب)، وأخاه محمود أفندي أبو النجا، وبعض الطلبة الذين لا تحضرني الآن أسماؤهم.

أقلعت بنا السفينة في نحو الساعة الثانية بعد ظهر ذلك اليوم إلى القناطر الخيرية، وفي أثناء الطريق قابلتنا باخرة حربية من بواخر الدوريات البريطانية التي كانت تجوب النيل لتعاون القوات المسلحة على قمع الثورة، فخشينا أن تمنعنا عن متابعة السير، ولكنها لم تتعرض لنا بسوء، وتابعنا السير، فوصلنا إلى القناطر الخيرية قُبيل غروب الشمس، واجتزنا هاويس الريَّاح التوفيقي في نحو ساعة. وتابعنا السفر ليلًا إلى بنها، وكان الجو باردًا؛ فقد كنا في فصل الشتاء، والليل غير مقمر، والسماء مقنعة بالسحب، فأخذت السفينة تسير الهُوَيْنا في بطء وعلى حذر؛ لأن مياه الرياح التوفيقي كانت منخفضة وشواطئه مرتفعة مما يزيد في ظلمة الليل. فلما قاربنا الوصول إلى بنها في نحو منتصف الليل، أشار علينا النوتي أن لا بد من رسوِّ السفينة على بُعد كيلومتر من كوبري بنها وألَّا تجتاز هذه المنطقة وإلا استُهدفت لإطلاق النار عليها من الدوريات البريطانية، فبِتنا الليلة في السفينة وهي راسية على الشاطئ، وشعرت ببرودة الجو؛ إذ كان مبيتنا في العراء تقريبًا، ولم نستعدَّ بغطاء كافٍ، ولم يكن مما يتفق والحالة النفسية للثورة أن نُعنى بغطاء أو فراش، وقضينا مع ذلك ليلة هادئة لم نشعر فيها بأي تعب أو عناء. واستيقظنا يوم ٢٧ مارس أكثر ما نكون نشاطًا وابتهاجًا، وتناولنا طعام الفطور، وكان طعامًا بسيطًا، فأكلنا منشرحين. واستأنفت السفينة سيرها على طول الرياح التوفيقي، وشاهدنا على الجانبين معالم الثورة ومظاهرها، وما أحدثته من تغيير في نفسية الشعب، فكنا نرى الأهلين في كل ناحية، نساءً ورجالًا، شيبًا وشبانًا، يحيُّوننا على الجانبين دون أن يعرفوا أشخاصنا، وينادون بهتافات لم نعهدها من قبلُ في الطرق الزراعية وعلى شواطئ الترع، فكنا نسمع نداء: لتحيَ مصر، ليحيَ الاستقلال، لتحيَ الثورة. واسترعى سمعي بوجه خاص نداء كنت أسمعه بين حين إلى آخر: «ليحيَ العدل». وقد تساءلت أولًا عما يقصد القوم من هذا النداء، وهل ظنونا قضاة جئنا لنحكم بينهم بالعدل؟ ثم أدركت شعورهم الحقيقي وأنهم لا يطلبون العدل لأنفسهم، بل يطلبونه لمصر؛ فإن مصر لم تكن تطالب إلا بالعدل والمساواة بينها وبين الأمم الحرة المستقلة، وليس من العدل في شيء أن تهدر حريتها وتُسلب حقوقها، فأكبرت هذا الشعور تفيض به نفوس القرويين ويدل على فطرتهم السليمة.

هذه الروح التي شاهدناها على طول الطريق، هي غرس الثورة ونتيجتها، وهي من ناحية أخرى عتادها وعُدتها، وهي علامة الحياة في شعب نهض نهضة قوية يطالب بحقوقه المهضومة.

كانت نفوسنا تفيض بِشرًا وفرحًا؛ إذ شاهدنا هذا التبدل في نفسية الشعب، وشعرت بأن آمالًا قديمة كانت تجول في نفسي قد بدأت تتحقق وأنه لا يجوز لنا أن نيأس من هذه الأمة، بل هي من أكثر الأمم استعدادًا للرقي، إنما ينقصها أن توجَّه دائمًا توجيهًا صادقًا نحو المُثل العليا، وهي مستعدة لتلبية كل دعوة صالحة صادقة، والعيب الذي نشكو منه أحيانًا لا يرجع إلى جمهرة الشعب، بل هو عيب الخاصة أحيانًا والعامة أيضًا في انصرافهم في كثير من المواطن عن المُثل العليا إلى الأغراض الشخصية، وهذا العيب يزول بالقدوة الصالحة، يُبدأ بها الخاصة أولًا ثم يقلدهم فيها العامة؛ فالخاصة هم أول المسئولين عن حالة الأمة، وعلى الخاصة أن ترفع من مستواها الأخلاقي وأن تُصلح نفسها، ثم تعمل على إصلاح أخلاق الشعب وتهذيبه وترقيته؛ فإنهم المطالبون بهذا الإصلاح.

تابعت السفينة سيرها وسط هذه المشاهد الرائعة حتى وصلت إلى «طنامل» في نحو الساعة السادسة مساءً، فغادرَنا بكير الجندي والآنستان كريمته وكريمة أخيه، ثم وصلنا ليلًا إلى منشأة عبد النبي حيث نزل محمود بك عبد النبي وقضينا الليلة بمنزله، وفي صباح اليوم الثالث من الرحلة (٢٨ مارس) أقلعت بنا السفينة، حتى إذا وصلنا إلى «نوسا الغيط» نزل بها الدكتور صديق أبو النجا وأخوه، وتابعت سيرها حتى وصلنا إلى المنصورة عصر ذلك اليوم.

كانت هذه أطول رحلة لي من القاهرة إلى المنصورة؛ إذ إن المسافة تُقطع عادةً بين المدينتين سواءً بالقطار أو بالسيارة في نحو ثلاث ساعات، بل دون ذلك، وقد قطعناها هذه المرة في ثلاثة أيام. وتذكرت ما كان يتحدث به أسلافنا من أنهم قبل إنشاء السكك الحديدية كانوا يقطعون المسافات بين مختلف العواصم في عدة أيام، إما بطريق المراكب في النيل وفروعه أو على ظهور الإبل والدواب، فازددت شعورًا بما كانوا يعانون من المشاقِّ في قطع المسافات بهذه الوسائل وبما أحدثه العمران والاكتشافات العصرية من التيسير على الناس في سفرهم وإقامتهم وريفهم وحضرهم.

وصلت إلى المنصورة عصر يوم ٢٨ مارس سنة ١٩١٩ بالبحر الصغير، وما إن علم أهل المدينة بحضوري في تلك الملابسات العصيبة حتى دُهشوا، وكان ظنهم أن أبقى بالقاهرة ولا تثريب عليَّ في ذلك، وعدُّوها لي عملًا قالوا عنه إنه شجاعة، وقلت لهم إنه عمل عادي. ولاحظت أنهم وأهل البلدان المجاورة من مركز المنصورة لم ينسوا لي هذا الموقف، وكان له أثر في نجاحي بعد هذه الحوادث بنيفٍ وأربع سنوات في انتخابات سنة ١٩٢٣-٢٤؛ إذ على الرغم من ترشيح نفسي للبرلمان عن مركز المنصورة معارضًا لمرشح الوفد فقد فزت عليه ونلت النيابة عن المركز في البرلمان الأول، في حين ليست لي به عصبية عائلية أو حزبية. وقد دلَّني هذا الفوز على أن الشعب بالرغم من تأثُّره من مختلف الدعايات يقدِّر (أحيانًا) أعمال الناس. حقًّا إنه قد يضل حينًا وقد يضل كثيرًا، ولكن يجدُر بمن يتصدى لخدمته — وخدمته واجب محتَّم على كل فرد — ألَّا ينقم من الشعب خطأه في التقدير، ولا يثور عليه لمجرد أن يتنكر له في بعض المواقف أو يتخطاه في تقديره مرة أو مرات. فإذا كانت الجماهير تتنكر أحيانًا لمن يخدمها، فإن هذا العيب لا يقتصر عليها؛ وما أكثر ما يقع فيه المثقفون والممتازون، بَلْهَ أقرَب الناس إلى الإنسان وأعرَفهم بفضله وأكثرهم علمًا بإخلاصه وخدماته. وقد تُعذر الجماهير لجهلها أو عجزها عن إدراك الحقائق، ولكن ما عذر الخاصة والمثقفين والأصدقاء والأقربين في تنكُّبهم سبيل الحق وهم له عارفون؟

فعلينا أن نعالج الشعب في رفقٍ وهوادة؛ فإن الشعب معذور، وهو سهل الرجوع إلى الحق، ولا ينقصه في ذلك إلا النصح والزمن الكافي، وصدق الإرشاد، واستمساك مرشديه بالمُثل العليا واتباعهم الآية الكريمة: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ. فعلى من يتطوعون لإرشاده وقيادته أن يكونوا له دعاةً للهدى وأن يظلوا له ناصحين مرشدين، لا طغاة مستبدين، ولا حكامًا متجبرين.

وقفت على تفاصيل الحوادث الدامية التي وقعت بالمنصورة في يوم ١٨ مارس وما يليه، وعرفت أسماء الشهداء الذين قُتلوا في تلك الأيام العصيبة، وأدركت أن أهلهم، على الرغم من الحزن الذي تملَّكهم لفقد أعز الناس لديهم، فإنهم قابلوا مصابهم بالصبر والجلَد وبروحٍ من الاعتزاز بأنهم ساهموا بأشخاص شهدائهم في التضحية في سبيل الوطن، فأكبرت فيهم هذه الروح العالية التي كانت مظهرًا من مظاهر التبدل في الروح العامة للشعب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤