بين السياسة والاقتصاد

كنت ولا أزال أعتقد أن السياسة والاقتصاد بينهما ارتباط متين وصِلات ووشائج وثيقة، وأن الجانب الاقتصادي للحركة الوطنية لا يقل أهمية عن الجانب السياسي منها، وأن البعث الوطني كما يحفز النفوس إلى تحرير البلاد سياسيًّا فإنه يهيب بها في الوقت نفسه إلى تحريرها ماليًّا وتحقيق استقلالها الاقتصادي. وقد لاحظت أن زعامة «الوفد» للثورة قد أهملت الجانب الاقتصادي، وهنا تبدو ناحية من نواحي النقص في تلك الزعامة إذا قورنت بالزعامة الوطنية قبل الثورة؛ فإن زعامة قبل الثورة — زعامة الحزب الوطني — تفضُل زعامة الوفد في توجيه الأمة إلى البعث الاقتصادي؛ مما بدا أثره في تأسيس البنوك التعاونية منذ سنة ١٩٠٩، ومنشآت التعاون عامة، والمؤسسات النقابية والعمالية، كما أن «غاندي» وأنصاره في الهند قد جعلوا أيضًا لدعوتهم جانبًا اقتصاديًّا واسع المدى كان له الأثر الفعال في زيادة الثروة الأهلية وفي قوة الحركة الوطنية عامة في الهند، أما زعامة الوفد فلم توجِّه الأمة إلى البعث الاقتصادي.

على أن منطق الثورة السليم قد اتجه من تلقاء نفسه إلى بعث النهضة الاقتصادية، وقد ساهمت في هذا البعث قدر ما استطعت.

(١) جمعية تعميم النقابات الزراعية (سنة ١٩١٩)

ففي يوليو سنة ١٩١٩ أَسَّست مع لفيف من أصدقائي بالمنصورة جمعيةً لتعميم النقابات الزراعية (جمعيات التعاون الزراعية) بمديرية الدقهلية، ووضعنا لها قانونًا طبعناه ووزعناه، وجعلنا من أهم أغراضها نشر الجمعيات التعاونية في أنحاء المديرية ومساعدتها في تحقيق أغراضها، ووجدت أن الفرصة سانحة لإحياء الحركة التعاونية التي ركدت في خلال الحرب العالمية الأولى، وأذعت نداءً للانضمام إلى هذه الجمعية وقَّعه معي كلٌّ من: الدكتور محمد حسين هيكل «باشا»، إبراهيم الطاهري بك، حسين بك هلال، الأستاذ عبد الوهاب البرعي، الدكتور إبراهيم الوكيل، محمود بك نصير، عبد الفتاح بك نور، الأستاذ محمود موسى.

ووضعنا نموذجًا لقانون جمعية تعاونية زراعية تنشأ الجمعيات على أساسه، ووزعناه في أرجاء المديرية، وكان له صداه في تأسيس بعض الجمعيات التعاونية بها.

(٢) جمعيات التعاون الخيرية (سنة ١٩٢٠)

وفي أوائل سنة ١٩٢٠ فكرت في الاستعانة بالتعاون على مكافحة الغلاء، واتجهنا بالتعاون إلى ناحية اقتصادية وخيرية معًا، بإنشاء جمعيات أسميناها جمعيات التموين الخيرية، وكتبت في صحيفة «الأخبار» التي أصدرها أخي أمين بك الرافعي منذ فبراير سنة ١٩٢٠ عدة مقالات بعنوان: «تطبيق مبادئ التعاون لمكافحة الغلاء وجمعيات التموين الخيرية»،١ وألقيت كلمةً في اجتماعٍ عُقِد بدار الأوبرا في الدعوة إلى إنشاء هذه الجمعيات يوم ٥ مارس سنة ١٩٢٠، وكان صاحب الدعوة إلى إنشاء هذا الاجتماع وخطيبه صديقي المرحوم الأستاذ محمد أمين يوسف بك.

وهذه الجمعيات هي تنويع وتفريع للجمعيات التعاونية، وقد أدخلنا فيها هذا التنويع للجمع بين قواعد التعاون وقواعد البر بالفقراء ومساعدتهم على مكافحة الغلاء؛ لأن أساس التعاون أن تكون فائدته الجوهرية والأساسية لأعضاء الجمعيات التعاونية. ولكن الحالة التي واجهناها سنة ١٩٢٠ اضطرتنا أن نُعفي جمهور المستهلكين من الفقراء ومتوسطي الحال من عضوية جمعيات التعاون، وعلى هذا الأساس أنشأنا جمعية التموين الخيرية بالمنصورة، والغرض منها مشترى المواد الغذائية والحاجات الضرورية وبيعها لأعضاء الجمعية ولطبقة صغار المستخدمين والعمال والفقراء بدون ربح، بقصد تخفيف وطأة الغلاء عنهم ومساعدتهم على الحصول على حاجاتهم بأرخص الأسعار الممكنة، وجعلنا رأس مال الجمعية مقسمًا إلى حصص قِيمة الحصة الواحدة خمسون جنيهًا تُوزَّع على الموسرين من أهل المدينة. وجعلنا مهمة مجلس إدارة الشركة شراء الأصناف بالجملة وقت نزول أسعارها، وعليه أن يسعى لدى الخيِّرين من أصحاب المزارع والمتاجر من أعضاء الجمعية أو من غيرهم في مديرية الدقهلية أو غيرها للحصول على تعهدات منهم بتوريد بعض الأصناف الضرورية للتموين بأسعار تقل عن الأسعار التي يبيعون بها في الأسواق؛ مساعدةً منهم لصغار المستهلكين التي أُنشئت الجمعية لدفع الضر عنهم، وعلى مجلس الإدارة أيضًا أن يجتهد في الحصول من جهات الحكومة على توريد بعض الأصناف للجمعية بأسعار مخفضة، وأعددنا كشوفًا بأسماء صغار المستهلكين في أقسام المدينة، وعهدنا إلى لجان من أعضاء الجمعية حصر أسمائهم في كل قسم، وتقدير حاجات كلٍّ منهم وعائلته، واتفقنا على أن تُباع الأصناف لصغار المستهلكين بالثمن الأصلي، ولمجلس الإدارة أن يأخذ في بعض الأصناف ربحًا لا يزيد عن الخمسة في المائة، وأن تباع هذه الأصناف للجمهور من غير المقيدة أسماؤهم في كشوفها بالثمن المناسب لأسعار السوق، وكل ما تربحه الجمعية من هذا الباب تُخفِّض بمقداره أسعار البيع لصغار المستهلكين. وجعلنا مجلس الإدارة ضامنًا لحمَلة الحصص قيمة حصصهم.

أُسِّست جمعية التعاون للتموين الخيري بالمنصورة في فبراير سنة ١٩٢٠، وأُسِّست جمعيات أخرى على هذا الغرار في بعض المدن، وقد أقبل بعض الموسرين على الاكتتاب في حصصها، وكان الاكتتاب بمثابة قرض يُرد إلى صاحبه بعد انتهاء مهمة الجمعية. وقد دفع هؤلاء الموسرين إلى الاكتتاب في حصصها حبُّهم للخير من جهة، ولأنهم هم أيضًا كانوا من المستفيدين بالشراء من الجمعية بالأسعار المخفضة، هذا إلى ما في عملهم من الحدب على الفقراء والمحتاجين.

وقد أدت هذه الجمعيات خدمات جليلة لصغار المستهلكين، وانخفضت بفضلها أسعار الحاجات والأصناف الضرورية، فكانت من خير الوسائل لمكافحة الغلاء.

(٣) لجنة لتوزيع أسهم بنك مصر

وفي أواخر سنة ١٩٢١ أَسَّست في المنصورة أيضًا لجنة لتوزيع أسهم بنك مصر في الدقهلية، جعلت اسمها «لجنة الدقهلية للاكتتاب في أسهم بنك مصر» كانت بمثابة دعاية للاكتتاب في أسهم البنك. وكان المرحوم طلعت حرب بك «باشا» يرسل إليَّ خطابات بإيصالات سداد مبالغ الاكتتاب، وأغلب هذه الخطابات في سنة ١٩٢١ وسنة ١٩٢٢، كان ذلك سنة ١٩٢١ حيث كان البنك في حاجة إلى مثل هذه الدعاية، أما الآن فهو والحمد لله في غير حاجة إليها ولا إلى مثلها بعد أن أصبح النواة المالية لنهضة مصر الاقتصادية.

وكتبت عدة مقالات في «الأخبار» تحت عنوان: «بنك مصر وبنوك بولونيا»٢ جعلتها بمثابة دعوة للإقبال على أسهم البنك.

(٤) ظهور كتابي في الجمعيات الوطنية (سنة ١٩٢٢)

إن حوادث سنة ١٩١٩ وسنة ١٩٢٠، والتواء السياسة الإنجليزية تجاه مصر، وتصريحات أقطابها ومناوراتهم ودسائسهم، ودراستي السابقة للمسألة المصرية، كل أولئك قد أقنعني بأنه لا يزال أمام مصر نضال طويل لتحقيق أهدافها، وأن ما كان يظنه البعض من أن حل القضية المصرية على أساس سليم أمر قريب المنال إنما هو وهم من الأوهام، وأن معنويات الأمة في حاجة إلى أن يلمَّ المشتغلون بالحركة الوطنية أو من يودُّون الاشتغال بها بجهاد الأمم في سبيل حريتها واستقلالها. فاتجهت في سنة ١٩٢١ إلى عرض صفحات من هذا الجهاد على أنظار المواطنين، وإبراز ما تحتويه من مثابرة وثبات وصدق وإخلاص، ليترسَّموا الخطوات الصحيحة للجهاد الصحيح. نشرت هذه المقالات تباعًا في صحيفة «الأخبار»، ثم جمعتها في كتاب واحد عنوانه: «الجمعيات الوطنية، صحيفة من تاريخ النهضات القومية» دعوت الأمة فيه إلى التمسك بأهداب المقاومة الوطنية وتدعيمها بالإخلاص وإنكار الذات، قلت في هذا الصدد في مقدمة الكتاب:

«إن الأمم تختلف في وسائل جهادها وطرائقه باختلاف أحوالها وظروفها وميراثها القومي. على أن هناك حقيقة ثابتة لا تتبدل ولا تتغير، وهي أن قوام الجهاد الصحيح المثمر في كل أمة هو تنظيم المقاومة الوطنية المرتكزة على إرادة الشعب وقوته القائمة على مبدأ الإخلاص وإنكار الذات.

هذا هو الأساس الثابت الذي تُبنى عليه النهضات القومية، هذه هي الدعامة التي ترتكز عليها حياة الأمم العاملة لاستقلالها، هذه هي السبيل التي تكفل للأمم تحقيق آمالها ولو بعد حين.

وما من أمة تتنكب هذه السبيل وتستسلم للأمانيِّ والأحلام أو تسير وراء الأهواء وتتراخى في خطة المقاومة الوطنية إلا وتصاب حركتها بالشلل فتصبح حركة عرجاء تتعثر في سيرها ولا تلبث أن ترجع بها إلى الوراء، وفي هذا الرجوع هدم لصرح الوطنية وتقويض لبناء الجهاد الوطني الذي أُسِّس على مجهودات الأمة ومتاعبها وأحزانها وآلامها وضحاياها.

إن سياسة المقاومة الوطنية هي سياج الأمم المهضومة الحقوق وسبيلها لاستقلالها؛ فهي مناط الفضائل ومصدر الأخلاق، وقوام الشجاعة والنبل، هي روح الاتحاد الوطني، هي كلمة الأمة التي تجمعها وتحث أبناءها على العمل، هي الوقاية الكبرى من انحلال العزائم وفتور الهمم وفساد النفوس وتفرُّق الكلمة، هي المدرسة الكبرى التي يكتسب فيها أبناء البلاد فضائل الإخلاص والصدق والمثابرة وإنكار الذات وتذليل العقبات، هي مصدر القوى المعنوية للشعب، هي عماد نهضة الأمم وقوام تربيتها السياسية، فبفضلها تكونت الأمم وغالبت اليأس وقاومت عوامل الفناء وحققت آمالها ووصلت إلى أسمى درجات الرقي السياسي والأخلاقي والاجتماعي.

إن العالم لا يستقر على وتيرة واحدة، وأحواله دائمة التبدل والتحول، فلا يجوز أن نيأس من طول الجهاد أو ننثني أمام العقبات؛ فإن الإنسانية سائرة حتمًا نحو الكمال، والأمم لا تذعن لحكم القوة، والأرض لا يستقر فيها سلام ولا وئام حتى تُشرق في أرجائها شمس الحرية وتعيش الأمم في ظل الاستقلال.

حاول أنصار الفتح والاستعمار أن يطوِّقوا الأمم بسلاسل الأسْر والاستعباد بعد أن تم لهم النصر في ميادين الحرب العامة «الأولى»، وظنوا أن العالم في قبضة يدهم والأمم سلع تُباع وتُشترى في سوق الأطماع والأهواء. ولكن إذا كان للسيف والمدفع في الدنيا أحكام، فلعزم الأمم وحزمها وجدِّها وإخلاص بنيها أحكامٌ وآثار؛ فالقوة الغشوم لا سلطان لها على الأرواح والمبادئ والعقول والأفكار، وليس في مقدورها أن تقف نهضةَ أمةٍ تسير إلى الأمام نحو المطمح الأسمى.

برهنت الحوادث التي تعاقبت بعد انتهاء الحرب العامة على أن العالم قد دخل دورًا جديدًا من أدواره التاريخية، وهو دور حرية الشعوب وحقها في تقرير مصيرها. ومهما يبذل دعاة الفتح والاستعمار من الجهود في مقاومة هذا الحق المقدَّس؛ فإن الشعوب تأبى أن تعيش مستعبَدة تسوقها إرادة المستعمرين؛ لأن من أعظم نتائج الحرب العامة ارتقاء القوى المعنوية في الأمم وإدراكها أن تلك القوى الكامنة فيها إذا اتحدت وعملت فلا سبيل للقوة أن تتغلب عليها.

لقد رُفعت الغشاوة القديمة عن أبصار الشعوب، وقرأت مبادئ الحرية ومعاني الحياة الصحيحة على ضوء النار التي اشتعلت في ميادين القتال أربع سنوات طوال؛ فإن التاريخ قد خطها بأحرف لا تُمحى من دماء الملايين من بني الإنسان، فسمع الناس في سائر أرجاء الدنيا نداء الحلفاء في كل آونة أن تلك الدماء والضحايا تُبذل دفاعًا عن حرية الشعوب؛ فالناس في مختلف الأرجاء قد سمعوا هذا النداء ووعوه، وهيهات أن ينسوه، وما من قوة في العالم تستطيع أن تغيِّر سير التاريخ أو تصد أمواج الحرية التي تتدفق في مشارق الأرض ومغاربها.

إن المؤتمرات والمعاهدات لم تعُد تملك البَتَّ في مصير الأمم، وقد أيدت حوادث التاريخ تلك الحقيقة الأزلية: «الحكومات تمر وتزول والأمم تبقى وتدوم.»

فقديمًا انعقد مؤتمر فيينا سنة ١٨١٥ بعد أن خرجت الدول الأوروبية فائزة من حروب نابليون، وظن الملوك والسياسيون أنهم قادرون على التصرف في أقدار الأمم بعد أن تخلَّصوا من خصمهم القوي العنيد، فوضعوا في فيينا أساس «المحالفة المقدسة» التي تعاهد الملوك فيها على أن يحكموا الشعوب حكمًا لا رأي فيه للأمم ولا قيمة فيه للحقوق الوطنية. ولكن الحوادث خيبت آمالهم؛ فإن الشعوب أخذت تعمل على استرداد حقوقها المشروعة في الحرية والحياة، وأخذت أركان معاهدة فيينا تتداعى تحت تأثير مبادئ الحرية التي انتشرت بين الشعوب الغربية في أثناء حروب نابليون. ولم تكد تمضي أعوام معدودات حتى انفرط عقد المحالفة المقدسة وتغلبت إرادة الشعوب على قوة السياسيين المتآمرين على حرية العالم، وتحطمت القواعد والأركان التي شيدتها الأهواء السياسة والمطامع الاستبدادية في مؤتمر فيينا.

فالتاريخ يعيد نفسه بعد مائة عام، مع فرقٍ عظيم في مبلغ ارتقاء الشعوب وانتشار مبادئ الحرية التي عمَّت الدنيا بأسْرها شرقًا وغربًا، ولا غرو فليس في التاريخ حرب أمكنها أن تهز أعصاب الإنسانية كلها وتُنبِّه الأمم التي كانت غارقة في بحار الخمول والجمود مثل الحرب الأخيرة. فلا عجب أن يسير العالم الآن إلى الأمام بخطوات سريعة لم يخطُها من قبلُ، وإن آثار ذلك لماثلةٌ للعيان في تطور الحركات الوطنية والنهضات القومية بين الأمم المهضومة الحقوق؛ فالأمم التي تصرفت مؤتمرات الحلفاء في مصيرها لا يمكن أن تستسلم لأحكام الهوى ولا أن تُذعن لقرارات تلك المؤتمرات؛ لأن الشعوب أقوى وكلمتها هي العليا، والإنسانية الجديدة، وليدة الأجيال المتعاقبة، وليدة الأحزان والآلام، وثمرة التجارب والمصائب والمتاعب، تأبى أن تعيش الآن في ظلام العبودية، فحسبها ما تحمَّلته الأمم من المصائب لتنفر من كل نظام يحُول بينها وبين حريتها واستقلالها، وليس في استطاعة العابثين بأقدار الشعوب مهما أوتوا من بطش وقوة أن يحرموا الأمم من رحمة الله ونعمة الحرية.

فالدور الذي دخلته الإنسانية بعد الحرب العامة هو دور حرية الشعوب والأمم، هو دور الأمل والعمل، فيجب أن نعمل ونور الأمل يضيء لنا السبيل، يجب أن نعمل لجهاد طويل تشترك فيه طبقات الأمة وتُنظمه إرادتها العامة.

يجب أن نمضي في سبيلنا دون أن نرجع إلى الوراء أو نقف في منتصف الطريق أو نتعب من طول الجهاد.»

٢٢ يناير سنة ١٩٢٢
١  «الأخبار» أول و٣ و١١ و١٨ مارس سنة ١٩٢٠.
٢  «الأخبار»: ١٧ و٢٠ و٢٤ مايو سنة ١٩٢٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤