تقديم

إنَّ صلة الأستاذ الدكتور عبد الغفار مكاوي بالشعر قديمة، فقد كان يقرض الشعر وهو حدث صغير، ثم أقلع عن ذلك بعد تخرجه في كلية الآداب وانشغاله بالدراسات الفلسفية ومؤلفاته وإبداعاته في فن القصة والمسرحية، وإن لم يفقد اهتمامه بالشعر والشعراء، فكان يقدم من وقت إلى آخر ترجمة لبعض القصائد، ويقوم بدراسة لها ولمبدعها، فقدَّم أشعار سافو اليونانية، ولاوتس الصيني، وبرشت الألماني، كذلك قام بتقديم الكثير من شعر جوته، وهلدرلين، وغيرهما من أدباء الغرب.

ولعل صلته الحميمة بالكثير من شعراء العصر جاءت نتيجة لذلك، أو لعل هذه الصلة هي التي جعلته يهتم بهذه الدراسات والترجمات، وليس أدل على ذلك من كتابه ثورة الشعر الحديث الذي صدر في جزءين، وجاء نتيجة لاتفاقه مع صلاح عبد الصبور وعبد الوهاب البياتي على أن يقوم كل منهما بتقديم شعراء أوروبا للقارئ العربي، ثم تبيَّن بعد فراغه من عمله بأنَّهما لم يوفقا إلى الوفاء بما اتفق عليه، فكان أن نشر ما قام بدراسته هو، وهذا يذكرنا بالاتفاق الذي تم بين دكتور طه حسين ودكتور عبد الحميد العبادي والأستاذ أحمد أمين على أن يقوموا بدراسة الحياة والأدب العربي في عصورهما المختلفة، ولم ينفذ الاتفاق إلا الأستاذ أحمد أمين الذي أصدر مجموعة فجر الإسلام وظهر الإسلام وضحاه.

وقد التزم الدكتور عبد الغفار مكاوي في ترجمته للشعر بما يراه من أننا لا نستطيع أن نعزل أنفسنا عن التَّجارب الشِّعرية عند الأمم المختلفة، وأننا لا يمكن أن نرجو لشعرنا العربي أن ينمو ويتجدد ويستجيب لعقولنا وأذواقنا وهمومنا إذا ظل بعيدًا عن التطور الهائل في الشعر العالمي الحديث، على الرغم من اعترافه بأن الشعر لا يكاد يترجم، فالترجمة عنده ضرورة نلجأ إليها اضطرارًا، مجرد جسر نعبر عليه من شاطئ لآخر، وسرعان ما ننسى الجسر ومَنْ مَدَّه بعد أن نضع أرجلنا على بر الأمان … (راجع مقدمة ثورة الشعر)، وهو هنا يتعرض لنص من النصوص السامية القديمة التي تُرْجِمَت إلى الكثير من اللغات الأوروبية وسبق ترجمتها أحيانًا إلى العربية، وهو نص ملحمة جلجاميش التي حاول البعض ترجمتها شعرًا أيضًا، ولعل من أفضل هذه الترجمات ترجمة شميكل Schmökel وترجمة شوت schott.
وقد سعدت كثيرًا حين طلب مني الأخ الصديق عبد الغفار مكاوي مراجعة ترجمته على النص الأصلي، إذ إن ملحمة جلجامش هي أكبر وأجمل شعر بابلي اكتُشِفَ بمنطقة دجلة والفرات، وهي إحدى الملاحم البطولية للعالم القديم، ولا يوجد نظير لها بأي لغة قديمة بالشرق الأوسط، سواء بالمصرية القديمة أو العربية أو غيرها، ويمكن أن يُطْلَقَ عليها الأوديسة البابلية، وقد أثارت اهتمامًا كبيرًا في العالم الغربي منذ أن اكتُشِفَت، بل لقد تقدم أحد الدارسين الأمريكيين ويُدْعَى Hope Nash Wolff برسالة دكتوراه في قسم الأدب المقارن بجامعة هارفارد قارن فيها بين ملحمة جلجامش والأوديسة وبيوفولف A Study in the narrative structure of three epic poems Gilgamesh, the Odyssey, Beowulf. اكتشفت معظم مواد الملحمة التي تتكون من اثنتي عشرة لوحة تشتمل كل منها على ما يقرب من ثلاثمائة سطر، باستثناء اللوحة الثانية عشرة التي لا تشتمل على حوالي نصف هذا العدد، في ركام بمنطقة دجلة والفرات واكتشفها الأثريون: أوستن لايارد وراسيم وسميث Austan H. Layard, Hormuzd Rassam, George Smith. حوالي منتصف القرن الماضي ضمن خرائب مكتبة معبد الإله نابو Nabu (بالبابلية Nebo) ومكتبة قصر الملك الآشوري آشور بانيبال (٦٦٨–٦٢٧ تقريبًا ق.م) وكلاهما كان في نينوى آخر عاصمة للإمبراطورية الآشورية.
ومنذ ذلك الوقت اكتُشِفَت عدة لوحات أخرى تتصل بملحمة جلجامش، وفي مطلع القرن العشرين اشترى برونو مايسنر Bruno Meissner شظايا كثيرة من تاجر في بغداد تتصل بالملحمة وُجِدَت في خرائب سبار Sippar القديمة (أبو حبة الآن)، وهي تشتمل على جزء كبير من اللوحة العاشرة، وفي عام ١٩١٤م اشترت جامعة بنسلفانيا من تاجر عاديات مجموعة كبيرة من الشظايا، وهي تكوِّن ستة ألواح تقريبًا تشتمل على اللوحة الثانية البابلية، وفي الوقت نفسه اقتنت جامعة ييل Yale شراءً من نفس التاجر لوحة تكمل ما حصلت عليه جامعة بنسلفانيا، وتكمل اللوحة الثالثة.

وفي عام ١٩١٤م وجدت البعثة الألمانية في آشور — عاصمة آشور القديمة — كمية من الشظايا للنسخة الآشورية، تشتمل على اللوحة السادسة.

وفي عام ١٩٢٨-١٩٢٩م اكتشف الأثريون الألمان في أوروك Uruk قطعتين صغيرتين يرجح أنهما تنتميان للوحة الرابعة، كما اكتشفت عدة شظايا بالسومارية لملحمة جلجامش في ركام مدينة نبور Nippur ومدينة كيش Kish ومدينة أور Ur، وقد تبين أن القدر الذي يتصل منها باللوحة الثانية عشرة يتفق تمامًا مع النسخة السامية، على حين أن البعض الآخر لا ينتفع به في الترجمة الحالية للملحمة وتختلف كلية عن الترجمة السامية، وأخيرًا اكتشفت في مدينة خاتوساس Hattusas الحيثية (بوغاز كوى الآن) عاصمة الحيثيين القديمة شظايا بابلية تشتمل على ترجمة مختصرة للوحة الخامسة والسادسة، وحوالي اثنتي عشرة شظية ونصف بالحيثية وقليل من القطع بالحوريانية Hurrian، وبالرغم من هذا كله فما زالت بعض المواضع غير واضحة وغير تامة.
وقد قام جورج سميث George Smith بأول ترتيب وترجمة للوحات التي اكتُشِفَت في خرائب نينوى، وقدم ذلك في دراسة قرأها في ٣/ ١٢/ ١٨٧٢م أمام جمعية آثار الكتاب المقدس Society of Biblical Archaeology بعنوان: التفسير الكلداني للطوفان The Chaldean Account of the Deluge وقدَّم ترجمة ومناقشة لعدد من الشظايا الخاصة بملحمة جلجامش — وبخاصة الجزء المتعلق بالفيضان — مما خلق اهتمامًا شديدًا بالدراسات المسمارية بوجه عام في أوروبا Published in the Transactions of the Society of Biblical Archaeology II 1873، وقد أشار سير هنري راولنسون Henry Rawlinson أيضًا إلى احتمال أن يكون ما وجد في سفر التكوين يرجع إلى أصول بابلية، وقام بالمشاركة في الترجمة والنشر أيضًا فوكس تالبوت Fox Talbot وبسكوفن St. Chod Boscowen ولينورمنت François Lenormant.
وفي عام ١٨٧٥م نشر هنري راولنسون وجورج سميث اللوحات السادسة إلى الحادية عشرة، ثم أعيد عام ١٨٩١م نشرها حيث حل بنش T. G. Pinches محل جورج سميث.
ونشر ديلتز Delizch في النصوص الآشورية  Assyr. Lesestücke. في طبعته الثالثة عام ١٨٨٥م نص اللوحة الحادية عشرة ثم طبعه، كاملة من باول هاوبت Paul Haupt عام ١٨٨٤–١٨٩١م ملحمة النمرود البابلية Das Babylobische Nimrodepos وكان يُطلق على جلجامش اسم النمرود (سفر التكوين ١٠:  ٨–١٠ دون تدليل على هذا) مع لوحة ثانية عشرة في Beitrăge zur Assyriologie/1890، ونشر ياسترو Jastrow ترجمة في «ديانة بابل وآشور» Religion of Babylonia and Assyria عام ١٩٠٥–١٩١٢م، وكذلك أرنولت Muss. Arnolt عام ١٩٠١م في مجلة Assyr. and Babyl. Lit.
ثم ظهرت بعد ذلك ترجمة بيتر ينسن Peter Jensen التي قدَّمها مع الكتابة بالحروف اللاتينية لنصوص الملحمة المعروفة آنذاك مع شرح تفصيلي وتعليق عليها في مجلة أساطير وملاحم آشورية وبابلية Assyrisch-Babylonische Mythen und Epen/Berlin 1900 ويعد هذا العمل خطوة واسعة بالنسبة لكل الأعمال السابقة، وما زال يشتمل على معلومات يُعتدُّ بها حتى الآن.
وظهر عام ١٩٠٢م النص الذي قدمه مايسنر Meissner للملحمة وترجمة دورم Dhorme عام ١٩٠٧م Choix de Textes، وظهرت شظية جديدة من النص الآشوري نشرها كنج King عام ١٩١٤م في Suppt. Kauyujik Catalogue، ومن الأعمال الهامة أيضًا في هذه الأيام المبكرة التي تحل شفرة ملحمة جلجامش ما قدمه العالمان: آرثر أونجناد Arthur Ungnad وهوجو Hugo بجوتنجن عام ١٩١١م بعنوان ملحمة جلجاميش Das Gilgamesh Epos وفي رسالته Kulturfragen، وهي تشتمل على ترجمة للملحمة ومناقشة تفصيلية لمحتوياتها.
وظهر لوحان آخران (الثاني والثالث): الثاني بملحوظات بويبل Poebel نشره لانجدون Langdon وأعاد ياسترو Clay Jastrow طبعه.
ثم ظهرت نسخة من الملحمة السومارية بواسطة تسمرن Zimmern تشتمل على أسماء جلجامش وعشتر وأنكيدو في Summer. Kultlieche عام ١٩١٣م.
وثمة جزازات أخرى مشابهة عن الطوفان تحكي قصة الطوفان في البابلية القديمة لا تتصل بالطوفان، وتذكر نوح باسم أترومخاسيس Atromhasis.
كذلك ظهر في الأناضول نصوص لملحمة جلجامش الحقيقية بالحيثية وُجِدَت في بوغاز كيوى Boghaz Keui، ووجد الألمان جزازات ترجع إلى القرن الثالث قبل آشور بانيبال.
ولعل أحدث طبعة بالخط المسماري للنص هي ما قدمها كامبل تومبسون R. Campbell Thompson بعنوان The Epic of Gilgamish/Oxford 1930 وهو لا يُقدِّم النص المسماري للنسخة الآشورية فحسب، بل يقدم أيضًا النص مكتوبًا بالحروف اللاتينية لكل المواد السامية عن جلجامش المعروفة في وقته.

وكل ما قدم بعد ذلك من ترجمات للنص إنما يعتمد على هذا النص الذي قدَّمه تومبسون ما لم ينص المترجم على غير ذلك.

ويقدم إيريش إيبلنج Erich Ebeling عام ١٩٢٦م ترجمة لهذا النص في نشريات: Gressmann, Altorientalische Texte zum Alten Testament Berlin/Leipzig 1926.
كذلك يقدم تومبسون Thompson: The Epic of Gilgamish/London 1928.
وقدم ألبرت شوت Albert Schott ترجمة بعنوان: Das Gilgamesh Epos/Leipzig 1934.
كما قدم كونتينو G. Contenau ترجمة بعنوان: L’Epopée de Gilgamesh/Paris 1939.
وليونارد W. E. Leonard ترجمة بعنوان: Gilgamesh Epic of old Babylonia/New York 1934.

وملحمة جلجاميش من الأعمال الأدبية الأكدية الجميلة التي أحب دائمًا أن أقدمها لطلاب الدراسات السامية وأن أقوم بتدريسها لهم، وبخاصة أن النص من نصوص الشعر الأكدي المتميز باعتماده على النبر، فكل بيت يشتمل على أربع نبرات مرتفعة؛ اثنان في كل شطرة وبينها من نبرة إلى ثلاث نبرات هابطة، وإلى جوار ذلك توجد أحيانًا أبيات تشتمل على نبرتين وثلاثة أو ثلاثة ونبرتين مرتفعة وبينها النبرات الهابطة، وتنتهي الأسطر الشعرية — بلا استثناء — نهايات مؤنثة، وغالبًا ما لا تتناسب أسماء الأعلام وافتتاحيات جمل القول مع وزن الشعر، وكثيرًا ما يقابل القارئ الأسطر المقفاة.

والملحمة مقسمة إلى مقطوعات كل منها به أربعة أسطر مثل: أغنية إشتر Ischtar، وقد تكون من عدة أسطر بكلِّ منها ثلاثة مقاطع منبورة يتلوها سطر من خمسة مقاطع منبورة.
وهي في هذا لا تختلف أيضًا عن الشعر الحماسي الأكدي الذي يوجد بجوار القصائد ذات المقاطع الأربعة نصف مقطوعات كل منها يحتوي على سطرين فقط، أما الأبيات المفردة فلا توجد إلا نادرًا، وبخاصة في الشعر القديم، وإن كان فون سودن يرى أنه لا يمكن التأكد منها؛ لأن عدد النبرات الموجودة في البيت غير مؤكدة، حيث إن الكلمات ليست منغمة، كما أن الكلمات القصيرة مثل حروف الجر والأدوات والأسماء في حالة الإضافة لم تكن بالضرورة مقاطع غير منبورة، كذلك يمكن أن نجد بصيغ الأفعال المسندة إلى الضمائر أكثر من مقطع منبور، وقد أثبت كارل هيكر Karl Hecker — في بحثه الذي طُبِعَ عام ١٩٧٤ — أن السطر في الشعر الأكدي ينقسم إلى مجموعة من النبرات المرتفعة والمنخفضة، عدد الأوائل منها محدد على حين أن الأخيرة غير محددة العدد.
وقد رجعت في مراجعتي للترجمة العربية للنص الأكدي وترجماته السامية الذي نشره كامبل تومبسون Campbell Thompson بعنوان The Epic of Gilgamish الذي صدر باكسفورد عام ١٩٣٠.
وأفدت من الترجمات والمؤلفات التالية مقارنًا إياها بترجمة شوت التي يقدمها الأستاذ دكتور عبد الغفار مكاوي بالعربية:
  • Alexander Heidel: The Gilgamesh Epic and Old Testament Parallels. The University Of Chicago Press 1949, 1965.
  • Hope Nash Wolff: A Study in the Narrative Structure of Three Epic Poems Gilgamesh, The Odyssey, Beowulf New York/London 1987.
  • Hartmut Schmŏkel: Das Gilgamesh Epos. Stuttgart/Berlin/Kŏln/Mainz 1966/1974.
  • Karl Oberhuber: Das Gilgamesch-Epos. Wissenschaftliche Buchgesellschaft/Darmstadt 1977.

وبخاصة عندما يكون الأصل الأكدي مطموسًا أو غير واضح.

(والله الموفق وبه نستعين.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤