تمهيد
والعمل الذي بين يديك محاولة لترجمة هذه الملحمة الجليلة الجميلة ترجمة يتذوقها القارئ العصري المتطلع لاستيعاب كنوز التراث الإنساني والاغتراف من منابع تراثه الحضاري والأدبي، ولا بُدَّ قبل الكلام عنه من نبذة مختصرة بقدر الإمكان عن النص الأصلي العريق من جوانبه المختلفة: قصة تدوينه ونسخه، وشذرات ألواحه المسمارية المشتتة في متاحف العالم، وملحمة اكتشافه وترجمته إلى اللغات القديمة والحديثة، وأصوله السومرية التي يحتمل أن يكون الكاتب أو الكُتَّاب البابليون قد اعتمدوا عليها — بجانب التراث الشفاهي القديم — في نسج ملحمتهم الخالدة، ثم مكانة جلجاميش من الأدب العالمي وأهميتها للوعي والوجدان العربي الحاضر الذي لم تصل إليه ولم يتواصل معها بالقدر الكافي …
(٣) تبدأ القصة الأولى — وهي جلجاميش وأرض الأحياء — بالقرار الذي اتخذه بطلنا المغامر بالسفر إلى أرض الخالدين أو أرض الأحياء «ليصنع له اسمًا عظيمًا» ويحدث «خادمه» أنكيدو — الذي أصبح في الملحمة البابلية رفيق دربه وأعز أصدقائه بل صديقه الأوحد! — برغبته التي صمم عليها، فينصحه بأن يتوجه بالصلاة والدعاء لإله تلك الأرض وهو إله الشمس أوتو (الذي سيصبح إله الشمس والعدل البابلي شمش)، ويقدم جلجاميش التضحية للإله ويتضرع إليه أن يعينه في سفره ويشد أزره في الصراع المقبل عليه، ويبتهل إليه أن يساعده على أن يصنع لنفسه اسمًا يخلد ذكره وينتشله من الفناء المحتوم على البشر، ويوافق «أوتو» ويعده بحبس «الأبطال السبعة» الذين يحرسون تلك البلاد النائية في الكهوف، ويختار جلجاميش خمسين رجلًا من شباب مدينته المتطوعين لمرافقته في رحلته، بعد أن يشترط عليهم ألا يكونوا قد كونوا أسرًا بعد …
ويبدأ البطل مغامرته بعد التزود من الحداد بالسلاح الضروري، وبعد اجتياز سبعة جبال وعرة يطوقه النوم العميق فلا يوقظه أنكيدو إلا بعد جهد جهيد، ويقسم جلجاميش بأمه «نينسون» وبأبيه «لوجال بندا» أنه لن يرجع أدراجه قبل قتل «الرجل»، ويحذره أنكيدو من سحر ذلك الرَّجل وقوته الشَّيطانيَّة، ويلح عليه أن يرجع إلى وطنه، لكن جلجاميش يصر على القرار الذي صمم عليه، ولا يلبث حواوا (وهو نفسه المارد خمبابا الموكل بحراسة غابة الأرز في الملحمة) أن يلمح المتطفلين على أرض الأحياء، غير أنه لا يتخذ أي خطوة جادة لمنعهم من قطع أشجاره … ويفرغ الرجال الخمسون من قطع أشجار الأرز وإعدادها للنقل، ثم يصل جلجاميش إلى «حجرة» حواوا أو مأواه الذي يختبئ فيه ويطلق منه تضرعاته لجلجاميش بأن يبقي على حياته، ويبدي هذا استعداده — كما في الملحمة تمامًا — للاستجابة شفقة عليه، غير أن أنكيدو يحذره من شر «نمتار» — وهو شيطان أو إله من العالم السفلي مختص بالأوبئة — الذي يمكن أن يصيبهم أذاه، عندئذٍ يسب حواوا «الخادم» أنكيدو ويصفه بأنه مرتزق أجير، وأنه قد تكلم ضده بالشر: «وعندما قال هذا قطعا رأسه، وحملا جثته للإله «إنليل» الذي أقامه حارسًا على أرضه ولزوجته ننليل.» (وإنليل هو إله العواصف الغضوب ورب مدينة نيبور أو نفر السومرية القديمة التي عُثِرَ فيها على بعض ألواح الملحمة …)
هنا يتوقف النص الأصلي لهذه القصة التي عبث الزمن بالألواح التي نُقِشَت عليها وملأها بالثغرات والفجوات، والملاحظ على سبيل المقارنة أن الملحمة البابلية تروي قصة الحملة على أرض الأحياء وغابة الأرز بمزيد من التفصيل في الثالث والرابع والخامس من ألواحها التي لم يرحمها الزمن كذلك من التشوه!
ولا شكَّ أن كاتب الملحمة قد تأثر بهذه القصة وبغيرها، وطوَّر عناصرها في بناء مُحْكَم، وأبرز أهم هذه العناصر — وهو حرص جلجاميش على الشهرة وخلود الاسم — في أكثر من موضع، وذلك قبل أن ينتقل من الدوران حول الأنا إلى الاهتمام بالنحن، وقبل العثور على «نبتة» الخلود التي عبر عن رغبته في أن يشاركه شعب مدينته أوروك وشيوخها في الأكل منها لتجديد الشباب والحياة، حتى إذا اختطفتها منه الحية وجددت بها جلدها، صورت لنا الملحمة بأسه وضياعه الذي تحول — بعد اقترابه من مشارف مدينته ورؤية سورها وأبراجها — إلى نوع من الفرح والتصميم على مشاركة شعبه في العمل والبناء …
(٤) وتأتي القصة السومرية الثانية التي يناظر مضمونها في خطوطه العريضة مضمون اللوح السادس من الملحمة البابلية، ومن المؤسف أن النص الأصلي قد وصلنا في حالة تشوه شديد، بحيث لا نملك إلا الحدس بمضمون البقية الباقية التي تبدأ سطورها بعد فجوة كبيرة يبدو من سياق النص، ومن الملحمة أيضًا أنها كانت تدور حول العرض الذي تقدمت به ربة الحب والحرب إلى جلجاميش ليكون زوجها وزينة بيتها وعربتها المزدانة بالذهب واللازورد … وما إن تشرع إينانا (وهي نفسها ربة الحب السومرية التي سماها البابليون عشتار) في وصف المنح والهدايا التي تعرضها على جلجاميش مقابل الزواج منها حتى ينقطع النص مرة أخرى ويمتلئ بالثغرات، ولا نجد شيئًا يدل دلالة واضحة على رفض جلجاميش للعرض المغري، ولذلك تتجه إلى أبيها آنو إله السماء لتشكو إليه وتلح عليه أن يسلمها الثور السماوي لتنتقم من جلجاميش، ونفهم من النص أن الأب يرفض طلبها، وأنها ستلجأ لكبار الآلهة في مجمعهم الخالد إن لم يستجب لدعائها، عندئذٍ ينتابه الخوف (ولا نعرف من النص إن كان قد أشفق على مصير سكان أوروك من الثور الهائل كما نجد في الملحمة أم على مصير الكون كله …) ويسمح لها بتسلم الثور والهبوط به إلى الأرض، فترسله إلى أوروك التي يلحق بها أفظع الكوارث (كالموت والقحط والجفاف التي اقترنت باسمه في تفسير بعض الباحثين) …
وقد بقيت من النص أجزاء شحيحة، من أهمها قطعة تسجل جانبًا من حديث أنكيدو مع جلجاميش، ولا شك أن القصة الأصلية قد روت مصرع الثور على يد البطلين، ولكننا لا نعلم إن كانت قد انتهت بهذا الخبر أو استمرت في رواية الأحداث التي نعرفها، والمرجح أن القصة لم تذكر الشتائم المهينة التي صبَّها كاتب الملحمة — على لسان جلجاميش — على رأس الربة الجميلة، كما أنها — فيما يبدو — لم تتطرق لغضب الألهة — بخاصة إنليل — على أنكيدو لتجديفه في حقهم، ولا لجرحه المهلك الذي تسبب في موته، وعبَّر بذلك عن عقدة الحبكة الدرامية التي أطلقت مأساة البطل المفزوع من «حظ البشر المحتوم»، ودفعته للبحث عن الخلود لنفسه ثم للبشر المساكين …
(٥) ونصل إلى القصة الرابعة التي أثرت تأثيرًا واضحًا على اللوح الثاني عشر الذي يُجْمِع العلماء على أنه مقحم على الملحمة ولا ينتمي إليها انتماءً عضويًّا كما نقول اليوم، وعنوان هذه القصة هو «جلجاميش وأنكيدو والعالم السفلي» وهي تبدأ — شأنها شأن كثير من القصص الشعرية والأساطير السومرية القديمة — بالتذكير بأسطورة الخلق أو التكوين السومرية، إذ نجدها تتحدث في البداية عن فصل السماء عن الأرض بقوة إله السماء آنو وإله الرياح إنليل، كما تتطرق باختصار للصراع بين إله المياه العذبة «إنكي» وإله العالم السفلي أو وحشه المخيف كور، ثم تحكي بعد ذلك عن شجرة ضخمة هي شجرة الخولويبو، ولعلها كانت شجرة صفصاف على شاطئ الفرات، وكيف أوشك الطوفان والعواصف أن يقتلعاها من جذورها، ويتصادف مرور إلهة الحب إينانا بهذا المكان، فتشفق على الشجرة وتحملها معها لكي تغرسها في بستانها المقدس في مدينة أوروك، وتُعْنَى الإلهة العطوف بالشجرة وتتعهدها بالرعاية، على أمل أن تصنع منها في المستقبل سريرًا تنام عليه وكرسيًّا يليق بها. أن الأيام لم تشأ أن تحقق حلمها الجميل، إذ نمت الشجرة وصارت جذوعها مأوى لحية عظيمة لم ينفع السحر في إخراجها منه، كما أصبحت أطراف فروعها مسكنًا لطائر العاصفة الإلهي «بدزو» الذي بنى عُشَّه فوقها، وغدت ساقها القوية بيتًا للشيطانة أو الروح الشريرة ليليت، تعذر إذن على إلهة الحب الرقيقة أن تقطع الشجرة فراحت تبكي بكاءً مرًّا وتبث شقيقها إله الشمس أوتو حزنها وتروي له المصير الذي آلت إليه شجرتها، ويبدو أن جلجاميش سمع شكاتها وقرَّر أن يمد لها يد العون، فأمر بتجهيز درع زنته خمسون رطلًا، وبلطة زنتها أربعمائة رطلًا، وهجم على الحية الجبارة التي تربض في جذع الشجرة فقتلها، وكان أن طار طير العاصفة وهربت الشيطانة مذعورين، وتمكن جلجاميش وأتباعه من قطع الشجرة وتسليمها لإينانا لتصنع من خشبها الكرسي والسرير، وأرادت الإلهة المحبة أن تكافئ جلجاميش على صنيعه، فأعدت له طبلة وعصا أو عودًا يدق بها عليها، (ويبدو أن البطل قد أساء استعمالهما — كما يعلمنا الكاتب البابلي — في استغلال شعب أوروك في أعمال السخرة وتأكيد سطوته عليهم، كما نرى في اللوح الثاني من ألواح الملحمة سطر ١٤٣ وبعده، وفي بداية اللوح الثاني عشر من سطر ١–٢٠)، ثم تأتي هذه العبارة الدالة التي لا نشك في أن الشاعر البابلي قد اعتمد عليها في تصوير طغيان جلجاميش قبل أن «يتحول» بعد موت صديقه ذلك التحول الذي أدى به كما قلنا إلى «التطهر» في نهاية الملحمة: «وبسبب صراخ البنات الصغيرات سقطت الطبلة والعصا إلى العالم السفلي»، والبنات الصغيرات هن اللائي دأب جلجاميش على اختطافهن من آبائهن والدخول عليهن قبل أزواجهن …
يتفق العلماء الذين درسوا الملحمة على أن كاتبها قد ترجم القسم الثاني من هذه القصة عن السومرية ترجمة شبه حرفية وألحقها بالنسخة الأخيرة للملحمة لتكون هي اللوح الثاني عشر فيها (وهي المعروفة بنسخة نينوى — العاصمة الآشورية الثانية — ووُجِدَت كما سبق القول في مكتبة قصر الملك آشور بانيبال)، ويبدأ هذا القسم في نصه الأصلي بشكوى جلجاميش من ضياع الطبلة والعصا (أو البوكو والموكو …) ومحاولته استدعاء روح أنكيدو الذي كان قد هبط إلى العالم السفلي استجابة لأمر سيده بإحضارهما له فأطلقت عليه «صرخة الأرض» أو ذلك العالم، وتخرج الروح من ثغرة في هذا العالم لتحدثه عن أهواله وظلماته وعن مصير أرواح الموتى فيه … والمهم أن نهاية القصة السومرية لم تصل إلينا، ولم يخبرنا كاتبها بشيء عن نجاح جلجاميش أو فشله في استرداد آداتي جبروته واستبداده العزيزتين على قلبه … لهذا لا أستبعد كما قلت من قبل أن يكون قد رجع إلى مسقط رأسه وقد تطهر من أوهام مجده وأنانيته الفردية، وعقد العزم على مشاركة شعبه في صنع الخلود الوحيد المتاح للبشر على هذه الأرض، ألا وهو بناء الحضارة وتأسيس ما ينفع الناس ويمكث في الأرض …
(٧) أما القصة الخامسة — وهي «موت جلجاميش» — فقد وصلت إلينا في حالة من التشوه يرثى لها، ويبدو من بقايا النص المبتور أنه يبدأ بالكلام عن سعي جلجاميش إلى الحياة الخالدة، ثم يبيِّن له إله لم يذكر اسمه أن إله الرياح إنليل لم يقدَّر له الخلود، وربما فعل ذلك تفسيرًا لأحد الأحلام الكثيرة التي ظلت تعاود جلجاميش وتتدخل في تحريك الأحداث، ومع ذلك يطمئنه الإله المجهول — كما سيفعل أنكيدو في مواضع عديدة من الملحمة — أن ذلك ليس مدعاة للحزن أو اليأس، إذ ضمن له الإله الملك والمجد والانتصار على عدوه مدى الحياة، ثم لا نلبث أن نرى جلجاميش على فراش المرض الذي لن يقوم منه، ويموت الملك وترتفع أصوات النواح عليه، ثم تفغر فاها الواسع فجوة كبيرة في النص فنجد أنفسنا في العالم السفلي، كما نفهم أن جلجاميش رُفِعَ إلى صفوف الملوك الذين يحكمون ذلك العالم، وأصبح واحدًا من آلهته الذين يسمون «الآنوناكي» ويقضون قضاءهم في أرواح الموتى، وأخيرًا يذكر النص أسماء أتباع جلجاميش وأفراد عائلته، والهدايا التي يقدمها باسمهم لآلهة العالم السفلي، ثم يختتم النص بترتيلة تتردد فيها أصوات البكاء على جلجاميش والثناء عليه، ويبدو من الحفائر التي قام بها «ليونارد وولي» في «أور» وكشفت عن كنوز مقبرتها الشهيرة أن معظم الملوك السومريين في تلك الفترة من منتصف الألف الثالثة قبل الميلاد كانوا يصطحبون حاشيتهم معهم إلى مقرهم الأخير، ولا يستبعد أن يكون أتباعهم قد تطوعوا في بعض الأحوال على الأقل بدفن أنفسهم معهم أحياءً وفقًا لطقوس الموت، ومع ذلك فربما تأتي الأيام بالشواهد الأثرية واللغوية التي تؤيد هذا الاحتمال المخيف — الذي لا أفتي فيه عن غير علم! — أو تنفيه …
(٨) أما عن قصة الطوفان السومرية التي يستند إليها اللوح الحادي عشر من الملحمة فقد وصلت إلينا في حالة لا تسمح حتى الآن بفهم سياقها المتكامل، كما أن صيغة القصة نفسها من العهد البابلي القديم لا تساعد أيضًا على ذلك، وتبدأ القطع الخمس المتبقية من النص بحديث أحد الآلهة عن الخدمات المفروضة على البشر تجاه الآلهة، ثم تستطرد إلى الكلام عن خلق البشر بواسطة الآلهة الكبار «آنو وإنليل وإنكي والإلهة الأم ننخور ساج»، وإلى نزول الملكية من السماء وتأسيس أقدم المدن في وادي الرافدين (مثل أريدو، أبو شهرين، ولاراك وسيبار بجانب مدينة الطوفان شوروباك التي تُعْرَف باسم فارة).
ولا شك أن هذا الشاعر الموهوب قد أضاف تفصيلات أخرى من خياله الخلَّاق أو من مأثورات شفاهية لم تبلغ إلى عالمنا حتى الآن في صورةٍ مدونة، وربما تكشف عنها الحفائر في مستقبل الأيام، ثم صنع من هذه الخيوط كلها نسيجًا عبقريًّا أصيلًا هو الذي يُعْرَف اليوم باسم ملحمة جلجاميش أو باسم أول سطر في أول لوح فيها وهو «هو الذي رأى» …
مهما يكن الأمر فقد استطاع شاعر موهوب عاش حوالي سنة ١٢٠٠ق.م أن يبدع هذا العمل الأدبي الرائع الذي نسميه جلجاميش، معتمدًا على ما سبق أن ذكرناه من التراث السومري والبابلي القديم ومتحررًا منه في آنٍ واحدٍ … وقد حفظ لنا أحد المأثورات المتأخرة التي لم تتأكد صحتها اسم هذا الشاعر، وهو «سين-ليكي-أونيني»، ولا نكاد نعرف عنه إلا أن إحدى الأسر التي كانت تشتغل بالكهنوت في وقت متأخر في مدينة أوروك قد ذكرت اسمه كأحد أسلافها، ومع ذلك يظل الاسم أمرًا غير ذي بال؛ لأن الشعراء والكُتَّاب السومريين لم يحرصوا أبدًا على ذكر أسمائهم، ولم يهتموا بأنفسهم كما نفعل اليوم للأسف إلى حد مرضي فظيع؛ لأن موهبة هذا الشاعر أَقْدَر على التعريف به وتخليده من كل الأسماء (التي لا تعدو أن تكون ضجيجًا ودخانًا يحجب وهج السماء، على حد تعبير «جوتة» على لسان فاوست).
(١٠) انتشر تأثير الملحمة منذ العصور القديمة وما يزال حيًّا وفعالًا إلى يومنا الحاضر، ولا يرجع هذا فحسب إلى القيم الجمالية والدينية والتاريخية والاجتماعية … إلخ التي تنطوي عليها، وإنما يرجع إلى أنها تخاطب «الإنسان» فينا قبل كلِّ شيء، وتذكي نيران أسئلته الكبرى التي لا يجد عنها إجابة شافية ولا يملك مع ذلك — على حد تعبير كانط (١٧٢٤–١٨٠٤م) في مقدمته لنقد العقل الخالص — أن يسكت عنها أو يتوقف عن طرحها، ولا نريد أن ندخل في تفصيلات التأثير والتأثر — التي لم تزل موضع التخمين والجدل والخلاف الشديد بين العلماء المجتهدين — إذ يكفي أن نشير إلى بعض مظاهر الاهتمام بترجمتها إلى اللغات القديمة والحديثة، ومحاولات صياغتها واستلهامها، واحتمالات التشابه بين بعض «ثيماتها» أو موضوعاتها الأساسية وشخصياتها وبين نظائرها في الأدب القديم والوسيط، بشرط أن تتذكر أن مكتبة جلجاميش والأدبيات التي أُلِّفَت عنه قد أصبحت تفوق الحصر وفجرت أمواجها المتلاحقة كل الحدود …
فقد تُرْجِمَت أجزاء من النص — كما ذكرنا في هامش سابق — إلى أربع لغات كانت تُكْتَب بالخط المسماري في الفترة الزمنية الواقعة بين القرنين الواحد والعشرين والقرن السادس قبل الميلاد، وفي حدود المنطقة الواقعة بين جنوب بابل في أرض النهرين وبين عاصمة الحيثيين في آسيا الصغرى، وتغلغل المأثور الشفاهي عن جلجاميش إلى ما وراء تلك الحدود، فانتشرت بعض موضوعاته وتشكلت على صور مختلفة في أساطير وحكايات شعبية، وقصص عجائب وخوارق أثرت من العصور القديمة حتى العصر الحديث على شعوب وثقافات أخرى عديدة، وأصبح بعضها جزءًا من الأدب العالمي (ويرجح بعض الباحثين أن تكون بعض «موتيفات» جلجاميش قد تسربت إلى عدد من الحكايات الشعبية الفارسية، مثلما حدث الشيء نفسه مع بعض الحكايات الخرافية البابلية على لسان الحيوان والنبات، وثبت أنها أثرت تأثيرًا واضحًا على بعض الحكايات الخرافية الفارسية وبعض حكايات أيزوب، وربما يعود أحد أسباب ذلك إلى أن الفُرْسَ ظلوا يستعملون الخط المسماري في كتابتهم لفترة طويلة بعد إهماله في بلاده نفسها).
وهنالك احتمالات أخرى — تحتاج إلى دراسات مقارنة مستفيضة لم يبلغ إلى علمي شيء منها — عن تأثير شخصية جلجاميش على الروايات الشعبية العربية عن النمرود وذي القرنين — كما وردت في كتاب التيجان وأخبار ملوك اليمن لعبيد بن شريه الجرهمي — وحكايات العجائب والخوارق التي اقترنت بمولد الإسكندر الأكبر، وعلى شخصيات كثيرة من الملاحم الأوروبية في العصور الوسطى وروايات الفرسان في أواخرها، وربما تستحق مسألة تأثيره الممكن على بعض أبطال السير الشعبية العربية أو على بعض حكايات ألف ليلة وليلة شيئًا من عناية الباحثين في الأدب الشعبي العربي وعلاقته بالآداب السامية القديمة … أضف إلى هذا أن مؤرخي الفن لم يغفلوا عن النقوش التي صورت جلجاميش في صراعه مع الثيران والأسود والوحوش الكاسرة على الأختام الأسطوانية، ولا عن مجسماته بالنحت البارز في قصور الملوك الآشوريين وبخاصة قصر خورساباد …
•••
- (أ)
إذا لم يكن جلجاميش هو أول بطل إنساني، فهو على التحقيق أول بطل مأساوي في تاريخ الأدب العالمي، وإذا كانت مأساته تكمن في فشله النهائي في التوصل للخلود الذي شقي شقاءً لا يوصف في السعي إليه، فإن هذا الفشل نفسه هو سر بطولته وإنسانيته التي تجعله أقرب إلينا من كثير من أبطال المآسي القديمة والحديثة، ومع أن شاعر الملحمة قد جارى الكهنوت والتقاليد الدينية والأسطورية القديمة في تصوير جماله وقوته في صورة خارقة للمقاييس البشرية، وصرَّح أكثر من مرة بأن ثلثيه إلهي والثلث الباقي بشري فانٍ، فقد حرص — في تصوري على الأقل — على تأكيد إنسانيته وفرديته، وإبراز ضعفه وتردده في كثير من مواقفه وهواجس رؤاه وأحلامه، وعلى تتبع «تطهره» التدريجي من تألهه وتجبره وتسلطه على شعبه، بل من تمرده المؤلم والعقيم على قوانين الموت والفراق المحتوم، حتى وصوله إلى مرحلة الوعي بالوضع البشري وقانون اللحظة العابرة والواقع هنا والآن، والاقتناع بأن الخلود الوحيد المتاح للبشر إنما يكون في إنجاز أعمال حضارية من نوع السور الذي يثني عليه ثناءً حارًّا وهو في الطريق إلى موطنه ومسقط رأسه، والحق أن بنية الملحمة نفسها توحي بأنها نوع من القص الإنساني أو «العلماني» كما نقول اليوم، فلم يثبت للعلماء أنها كانت تُتْلَى مع الطقوس الدينية، كما كان الحال مع قصيدة الخلق البابلية «إينوما ايليش» (عندما في الأعالي)، وبقيت قصة إنسانية على الرغم من إطارها الأسطوري وتدخل الآلهة — وبخاصة إله الشمس والعدل شمش — في كثير من أحداثها، أضف إلى هذا أن موت صديقه أنكيدو كان ضربة ساحقة لألوهيته المزعومة، فجَّرت فيه بشريته المذعورة من «حظ البشر»، وأطلقت بحثه اللاهث وسؤاله المحموم عن الخلود لنفسه أولًا ثم لشعبه بعد ذلك، ولا ننسى أخيرًا أن مأساويته ترجع في جانب منها إلى التشاؤم القاتم الذي طبع منذ القدم وجود الإنسان في أرض النهرين، بسبب قلقه الدائم من قوى الطبيعة المدمرة، وهجمات المدن والشعوب المجاورة، وغزوات القبائل البدوية وغاراتها المفاجئة، وخوفه المقيم من مصيره التعس بعد الموت في عالم لا عودة منه، عالم سفلي خال من النور والأمل، كُتِبَ فيه على أرواح الموتى أن تعيش كالطيور الصامتة على التراب، وأن تقتات من الطين، وتتعذب خلف الأبواب السبعة المغلقة في قبضة الملكة المخيفة أريشكيجال وزوجها نيرجال وحراسهما وزبانيتهما الأشداء …
- (ب)
وإذا كان الغربيون يؤكدون أن «أوديب» هو أول فرد حاول أن يخرج من حصار الأسطورة والملحمة، ويستقل بنفسه عن روح الجماعة ويحررها من نسيج تقاليدها وأساطيرها وكهنوتها، وإذا كانوا يفتخرون بأن سقراط هو أول من طبق حكمة معبد دلفي والحكماء السبعة «اعرف نفسك» بصورة أخلاقية عقلية، وأول من تمثَّلت فيه «الذاتية» الوجودية الحقة بكل تمزقها بين النهائي واللانهائي، وبين المحدود والمطلق (على نحو ما صورها كيركجارد في رسالته المبكرة عن مفهوم الدعابة مع التركيز المستمر على سقراط)، فمن حق أبناء حضارة هذه المنطقة من العالم أن يردوا عليهم بأن «جلجاميش» قد سبق «أوديب» في إصراره على فرديته مهما كلَّفه ذلك من الاغتراب عن وطنه وشعبه، والمغامرة في اقتحام المخاطر والمهالك، وأنه لا يقل عن سقراط في «الذاتية» الفردية التي قادته على الطريق الوعر، طريق معرفة النفس وحدودها ومكانها من العالم وعلاقتها بالآلهة والبشر، وطريق البحث الشائك عن معنى الحياة والموت والخلود … والدليل على هذا أن ملحمته التي ترجع إلى الألف الثالث قبل الميلاد ما زالت تحرك عقولنا وقلوبنا في أواخر القرن العشرين، وما فتئت تثيرنا ببساطتها وعفويتها، دون أن يقلل من استمتاعنا بها أسلوب الاستطراد والتكرار والتقرير والارتجال الذي يطبع الأدب الشعبي والقصص الشعبي بوجه عام …
- (جـ) انتقد بعض فلاسفة الغرب (مثل فيلسوفي مدرسة فرانكفورت ومؤسسي النظرية النقدية الجدلية وهما: ماكس هوركهيمر وتيودور أدورنو في كتابهما المشترك عن جدل التنوير الذي صدر عام ١٩٤٧م)،١٣ انتقدا حركة التنوير العقلي الأوروبي، وأكدا أن التنوير ظل طوال تاريخه الطويل متداخلًا مع الأسطورة التي كان ينتزع نفسه منها لكي يرتد إليها من جديد بصورة أبشع (كما حدث للعقل الذي سقط في اللاعقلانية المروعة مع كارثة قيام الأسطورة النازية وتحطمها …) والمعروف أن التنوير الأوروبي قد بلغ ذروته في القرنين: السابع عشر والثامن عشر، وأن أقطابه قد أكدوا سلطة العقل النقدي الذي تقاس عليه كل سلطة أخرى، بما في ذلك سلطة التراث الديني، وعرَّفه كانط — رأس المثالية الألمانية الحديثة — بأنه هو خروج الإنسان من الوصاية وبلوغه مرحلة الرشد؛ أي مرحلة معرفة الذات والتحرر من الخرافة والإقطاع والتعصب، والاتجاه — على هدي النزعة الإنسانية والفلسفة العقلانية وتطور العلوم الطبيعية — إلى توحيد البشرية العاقلة تحت لواء التسامح والتقدم والاستنارة … والذي يهمنا في هذا المقام أن الفيلسوفين السابقي الذكر قد أرجعا التنوير إلى جذوره الأولى في التاريخ الغربي، وزعما أن «أوديسيوس» — بطل ملحمة الأوديسة لهوميروس — هو أول «مستنير» أوروبي استطاع بخبثه وذكائه التخلص من سحر الأسطورة ومن كيد بعض الآلهة والعمالقة له ولرفاقه في رحلته الخطرة، وبصرف النظر عن مدى صحة هذا الرأي، وعن تأرجح التنوير الغربي منذ ذلك الحين بين التقدم والتراجع، ففي تقديري أن جلجاميش كان أسبق إلى التنور أو الاستنارة من أوديسيوس بألف وخمسمائة عام على الأقل … فقد كانت مغامراته تحديًا مستمرًّا للأساطير المسئولة إلى حد كبير عن تألهه وجبروته واستعباده لشعبه ولهاثه المضني وراء حلم الخلود المستحيل، وظل يخرج من أساطيره وأحلامه بالتدريج ويتحول عنها خطوة بعد خطوة، حتى يئس منها بعد ضياع نبتة الخلود من يديه وانخراطه في البكاء على تعاسته وانهياره وانكساره، ثم تطهر من تلك الأساطير والأحلام — أو هذا على الأقل هو تفسيري لخاتمة الملحمة! — مع عودته إلى مسقط رأسه في أوروك، وعزمه — الذي نستشفه من فرحته الغامرة برؤية سورها وأبراجها من بعيد! — على وضع يده في يد شعبه لتحقيق الخلود الوحيد المتاح للبشر أثناء حياتهم المتناهية على الأرض، وهو — كما قلت — بناء الحضارة وإيثار ما ينفع الناس ويمكث في الأرض على الشهر الكاذبة والتسلط الأناني والمجد الشخصي الزائف، ومع ذلك فربما ينظر إليَّ القارئ نظرة المتشكك الساخر وهو يسأل: إلى أين أوصلهم التنوير الذي بدأ مع أوديسيوس؟ وإلى أين وصلنا بالتنوير الذي بدأه جلجاميش بطل أوديسة الرافدين القديم؟! وله وحده أترك الإجابة على هذا السؤال على ضوء محنتنا الراهنة أو بالأحرى في غياهب ظلماتها …
(١٣) تزخر الملحمة بشواهد عديدة على التفكير السومري والبابلي القديم وأوضاعه التاريخية والنفسية والاجتماعية والثقافية والطبقية … إلخ، ومواقفه من البيئة المحيطة به ومن العالم السفلي الذي لا رجاء فيه ولا عودة منه (بالأكدية: ايرصة لاتاري أو أشار لاتاري …)، وتقاليده وحكمته وأحلامه ورؤاه التي تتنبأ بسلوكه وتوجهه كما تكشف عن رعبه من أرض اللاعودة وأسرارها، وحياته اليومية المنغصة بالسخرة والقهر والطاعة المطلقة للحاكم الإلهي أو المتأله (الإنسي) والكهنوت ومجمع الآلهة الرهيب الذي يحكم الكون والمدن ويُعيِّن مندوبين عنه من صغار الآلهة لحكم البيوت والعائلات أيضًا … وهي تدلنا كذلك على علاقاته السياسية والاقتصادية بجيرانه (فالرحلة المحفوفة بالمخاطر إلى غابة الأرز في جبل لبنان تُبيِّن حاجته إلى الخشب والمعادن الشحيحة في بلده)، وعلى صلته بالآلهة الذين يخشى غضبهم وانتقامهم (مثل إنليل رب العواصف) والآلهة الذين يتضرع إليهم وينعم بعطفهم وتعاطفهم (مثل أيا وشمش) وتمتعه بنوع من الديموقراطية البدائية التي تجلَّت في وجود مجلسَين للشورى من الشيوخ والشباب، وبدايات زحف الحضارة (ممثلة في جلجاميش وبغي المعبد) بترفها وفسادها على البداوة (ممثلة في أنكيدو وحش البرية) بقيمها الفطرية النقية … إلى آخر الشواهد الدالة على تصور الرافدي القديم للعالم والبشر والحياة والموت، والقيم المختلفة كالشجاعة والحب والإيثار والعفو والخير وأضداها من الضعف والأنانية والتسلط والاستبداد والتهالك على الملذات الفاحشة، بجانب لمحات قليلة عن «علوم» الحكمة العملية في تلك العهود كالسحر والتنبؤ وتفسير الأحلام وطقوس التطهير من الأرواح الشريرة … إلخ.
لن يتسع المجال المحدود للخوض في هذه الموضوعات التي يمكن الرجوع فيها إلى الكتب المتخصصة؛ ولذلك أستأذن القارئ في الاكتفاء بالمعلومات الضرورية التي قدمتها، وتسجيل بعض الملاحظات عن علاقتي بالملحمة وبطلها الشهير، ومحاولتي المتواضعة في قراءتها وتفسيرها من منظور ذاتي وتاريخي، ومبررات هذه الترجمة العربية الجديدة التي أتمنى أن تصل إلى الوعي المثقف، وتفتح عيون وجدانه الفردي والجمعي على آلام الماضي الممتدة في الحاضر، لعله أن يجرب تراثه ويحاول تجاوزه …
(١٤) يرجع حبي واهتمامي بهذه الملحمة إلى سنوات الطلب، كنت قد اطلعت عليها لأول مرة في ترجمة الأديب الألماني جورج بوخارت التي سبقت الإشارة إليها، وخطر لي في ذلك الحين — أوائل الستينيات — أن أستلهمها في عمل أدبي لا أذكر معالمه على وجه التحديد (وإن كنت قد عثرت قبل شهور قليلة على مسودته المدفونة مع غيرها من المسودات والمشروعات الموئودة في توابيت الأدراج ومقبرة الذاكرة …)
ولا بُدَّ أنني استبعدت ذلك الخاطر النزق الذي ظل يتقلب كالشوكة في أغوار الوجدان مع غيره من الأشواك التي لا يتوقف وخزها المؤلم البطيء … كانت التجربة فوق طاقتي المحدودة، ولم تكن قد نضجت إلى الدرجة التي تكفي لتحريك الشوكة فيتحرك القلم! ومَنْ أنا حتى أتجاسر على الاقتراب من كنزٍ أدبيٍّ خالد، لا يسبر أغواره إلا مَنْ يقدر على الغوص في بحار عالم حضاري كامل، عالم أقف أمامه وقفة التلميذ البائس البليد، فلا أنا أعرف اللغة الأصلية التي كُتِبَ بها، ولا لديَّ فكرة عن علم الآشوريات وأسراره المحجوبة إلا عن أهل الاختصاص! ثم لمن أقدِّم هذه التجربة وجلجاميش غائب عن وعي القارئ العام، وبيننا وبينه فجوة زمنية سحيقة لا تقل عن خمسة آلاف عام؟!
خرجت من هذه التجربة — التي لم تكن أقل خطرًا ومعاناة من أسفار جلجاميش ومعاناته التي نقشها على لوحٍ حجري! — بضرورة إنجاز ترجمة عربية جديدة، وبأفكار وانطباعات أخرى أعرضها على القارئ قبل الحديث عن مبررات هذه الترجمة، راجيًا أن يتذكر ما قلته من قبل من أنها انطباعات على وجدان أديب متعاطف، وليست أفكار عالم محقق؛ ولذلك تقع خارج مجال الصدق واليقين العلمي أو وراء حدوده …
(١٥) يبدو لي من قراءة الملحمة ومعايشتها — وربما أكون مخطئًا في هذا الرأي! — أن شخصية جلجاميش قد مرت بتغيرات حاسمة جعلتها تتحول من «الأنا» إلى «النحن»، ومن التسلط إلى التطهر، ومن اللهفة المحمومة على الخلود الإلهي إلى الخضوع للوضع البشري والتسليم به والاتجاه بهدوء إلى مشاركة «الناس» في أعمالهم وهمومهم، وبذلك تحررت من الذعر من الموت وآمنت بقانون اللحظة الواعية الفاعلة، لحظة العمل الخلَّاق مع الآخرين ومن أجلهم، ويكاد يتملكني حدس غلاب بأن جلجاميش قد تطهر من استبداده الأناني ولهاثه العقيم إلى الشهرة وخلود الاسم بعد تحسره على ضياع «النبتة» في جوف الأفعى وبكائه بكاءً مفجعًا على الجهد الذي ذهب سدًى، وسنوات الشباب التي تبددت في الغربة عن الوطن وعن الشعب الذي رجع إليه صفر اليدين من كلِّ أمل.
ومع ذلك فربما تكون نجمة هذا الأمل قد أرسلت شعاعًا رحيمًا إلى عقله وعينيه مع اقترابه من أسوار أوروك ورؤية شبح السور العظيم الذي اقترن باسمه إلى اليوم، وظلال الأبراج (الزقورات) والمعابد التي شيدها — قبل القيام برحلته — لإله السماء «آنو» وإلهة الحب «إينانا»، وربما يكون هذا الشعاع الرحيم قد أوحى إليه بهذا الخاطر الإنساني حقًّا: إن الخلود الوحيد المتاح للبشر الفانين على الأرض الفانية يكمن في مثل هذا «العمل»، لا في ذلك الحلم المستحيل أو ذلك «الوهم» الذي ساقه للاغتراب عن وطنه وشعبه، كما ساق غيره من الجبابرة والطغاة من بعده وراء أوهامهم الزائفة وشطحاتهم المدمرة …
ومَن يدري؟ فلعله أن يكون قد أحس في لحظات الندم والتطهر المأسوية بالذنب تجاه شعبه الذي طالما سخَّره واغتصب بناته وساق أبناءه إلى الموت أو إلى الذبح في مغامراته الفاشلة (ومن أسف أن الكاتب أو الناسخ البابلي لم يلتقط الخيط الذي قدَّمه له سلفه السومري عندما ذكر في إحدى القصص الخمسة التي لخصناها من قبل أن جلجاميش أخذ معه خمسين من خيرة شباب أوروك، واشترط فيهم أن يكونوا غير متزوجين! …) وليس أدل على هذا كله — في تقديري على الأقل — من الفرحة التي لم يستطع شاعر الملحمة أن يخفيها عندما انتقل فجأة في خاتمة الملحمة إلى ترديد هتاف جلجاميش برفيق رحلته الملَّاح أورشنابي أن انظر يا أورشنابي إلى سور أوروك، اصعد عليه وتفحص لبناته … إلخ!
ربما يساعد هذا على اعتبار جلجاميش صورة مبكرة جدًّا من صور «الرواية التربوية» والتعليمية التي ازدهرت في الأدب الغربي منذ أوائل القرن التاسع عشر، وهي روايات تتابع تطور البطل في معرفته بنفسه وبالعالم والمجتمع، وتحوله من الاغتراب عن الذات إلى الانتماء إليها، ومن التبدد والضياع إلى معرفة النفس وتحديد دورها وواجبها في العالم والواقع، فهل يمكننا القول بأن كاتب جلجاميش أو كُتَّابها قد قصدوا إلى هذه المهمة التعليمية والتربوية غير المباشرة بطبيعة الحال، فأرادوا أن يصححوا نموذج المستبد الشرقي العريق باختيار أشهر ممثليه في هذه الحضارة وإصلاح انحرافه وفساده بحيث يكون عبرة لغيره من مسوخ الطغاة المتتابعين، وأمثولة تقول لكلِّ مستبدٍّ نرجسي وانتهازي مثله: قد كنت كذلك وطغيت، لكني الآن تطهرت؟!
هل حاولوا — بالأسلوب الشعبي البسيط الهادئ الذي يكتفي بالتلميح دون التصريح — أن يعبروا كذلك عن تحول جلجاميش من أحلامه المستحيلة المشوشة إلى الحلم الواقعي بإقامة «وطن الإنسان» الدافئ بالحرية والعدل والبناء، الزاخر بالمشكلات «الحقيقية» التي تؤرق الناس في حياتهم «هنا والآن» دون التوقف عن متابعة الحلم وتدعيم أسس ذلك الوطن المأمول؟ أليس هذا أمرًا ممكنًا وجزءًا من مضمون «الرسالة» التي يبلغها هذا العمل إلينا، كما بلغها لمستمعيه وقرائه الأقدمين؟!
(١٦) يخيل إليَّ كذلك أن «جلجاميش» تعبر عن أول صورة من صور الاعتراف «باللحظة الخصبة الممتلئة» (كما أشار إليها بندار في أناشيده البيتية وكما سماها جوته ونيتشه وأفاض مؤخرًا في وصفها الفيلسوف الماركسي إرنست بلوخ في كتابه الأكبر مبدأ الأمل)، لقد شبهها القديس أوغسطين (٣٥٤–٤٣٠م) بالقوس المتوتر بين لحظة ماضية ذهبت بغير عودة وإن بقيت ذكراها في الذاكرة، ولحظة لم تأتِ بعدُ ولم يزل القوس مشرعًا عليها بكل ما فيه من طاقة الحلم والتوقع والتأهب.
ولعل إشراقة اليقين بمسئولية هذه اللحظة الموجودة والمعدومة في وقتٍ واحدٍ — لأن وجودها أو عدمها، وتحقيقها أو التفريط فيها رهن بمدى شعورنا بحريتنا ومدى وعينا بالواجب الذي تفرضه علينا — لعلها قد أشرقت في نفس جلجاميش — التي اغتسلت بدموع الندم — لحظة أن وقعت عيناه على السور والأبراج البعيدة، وربما يكون قد صمم في تلك اللحظة ذاتها على أن يضع يده في يد شعبه ليعاهده على المزيد من البناء والتأسيس؛ أي على الشكل الأسمى للإبداع في ذلك الزمان، والاحتمال غير مستبعد وإن لم تجد علينا يد الزمان ولا أيدي علماء الآثار والحفريات بالشواهد والأسانيد التي تعززه من خلال أعماله وتفاصيل حياته بعد رجوعه إلى مسقط رأسه.
(١٧) وأخيرًا فقد ذكرت من قبل أنني أتصور جلجاميش في صورة «النموذج الأول» أو «النمط الأصلي» الكامن في أغوار اللاوعي الجمعي للمستبد الشرقي بوجه عام والعربي السامي بوجه أخص. تغلغل هذا النموذج في أقدم طبقات الوعي كالعنكبوت أو الأخطبوط الذي يلتف حول نواته منذ أقدم العصور، استقرَّ فيه وتمكن منه وأقام عرشه المرعب، وراح يجدده بمختلف وسائل القمع والتخويف والتعذيب والإرهاب التي تجددت كذلك أشكالها ونظمها وفنونها عبر العصور.
وإذا كان كُتَّاب جلجاميش — إذا صح الفرض الذي قدمته — قد حاولوا تصحيح هذا النموذج وتقديم أمثولة المستبد المتطهر لتتعلم منها الأجيال اللاحقة معاني الثورية الصادقة، فلم يزل العنكبوت-الأخطبوط ينسج خيوطه اللعينة في ظلمات اللاوعي الفردي والجمعي وفي ضوء الوعي أيضًا، ولم يزل ينفث حمم مصائبه ولعناته وأهواله المشئومة كلما تصورنا أننا اقتربنا من تثبيت أقدامنا على درب التحرر والتقدم والاستنارة، وبعيدًا عن لغة المجاز أقول باختصار: إن هذه هي قضية القضايا في حياتنا الراهنة، وليس ثمة قضية أخرى أولى منها بالتفكير والكتابة والتحليل والعلاج، خصوصًا بعد محنة عربية لم يكتف فيها الأخطبوط-العنكبوت المتجدد بتدمير بلدين عربيين، وسَوْق عشرات الألوف إلى المذبحة، وتمريغ تراث حضاري كامل في الوحل، بل ما يزال ينسج خيوطه ويدبر لمحنٍ أخرى ربما تكون أدهى وأَمَر.
حسب «جلجاميش» إذن أن يثير مثل هذه الأسئلة وغيرها كثير، وإذا كان من الظلم — بطبيعة الحال — أن نحمِّل الملحمة وبطلها مسئولية تراث ثقيل ممتد من القهر والتسلط والطغيان والاستبداد، فقد أَثَرْتُ قضية «النموذج الأولى» للمستبد الشرقي كما أَثَرْتُ غيرها من القضايا والأسئلة؛ لكي أؤكد أن معايشة النص القديم (والوسيط والحديث) من داخله ومحاولة قراءته وتفسيره من وجهة نظر ذاتية–تاريخية تجعله يحتمل قراءات وتفسيرات ويثير أسئلة لا حصر لها، والمهم أن يكون التفسير مقنعًا ومتسقًا وإن عجز عن أن يكون ملزمًا من الناحية العلمية، والأهم من ذلك أن ينطلق من الحاضر — بعيدًا عن أي إسقاط فج؛ لأن رؤية الماضي في الحاضر أو الحاضر في الماضي أمر مشروع من حيث المبدأ عند من يأخذون بذلك المنحى في القراءة والتفسير، أو إن شئت في «الترجمة» بالمعنى الذي أشرت إليه، وبخاصة في الأحوال التي نتصدى فيها لفهم وترجمة نص قديم ينتمي لحضارة قديمة كادت أن تنقطع بيننا وبينها أسباب التواصل والاتصال …
(١٨) هل بقيت ثَمَّ مبررات لهذه الترجمة الجديدة؟
أجل، فالأعمال الأدبية الكبرى تعرف ترجمات عديدة في كلِّ اللغات الحية الحديثة والقديمة (التي نصفها ظلمًا بأنها لغات ميتة!) ومن هذه الأعمال ما يجب ترجمته من حين إلى حين، تبعًا لتطور فهمه وتفسيره واكتشاف المزيد من أبعاده ودلالاته و«أسراره» على ضوء المعطيات المستجدة، وجلجاميش بالذات تستحق أن تُتَرْجَم أكثر من مرة في أي لغة من اللغات الحية، لا لأنها درة أدبية لا يسطع بريق جوهرها الأصيل إلا بلمسات عدد كبير من الصائغين، مثلها في ذلك مثل ملحمتَي: هوميروس وأوديب وهاملت وفاوست … وغيرها من الروائع الغربية والشرقية، ولكن لسببٍ آخر أهم، وهو أن الحفريات الأثرية لا تفتأ تظهر من طوايا الأرض والبلى والنسيان كسرات جديدة من ألواح الملحمة أو من ترجماتها القديمة، مما يساعد على إكمال الفجوات الناقصة وإصلاح السياق المضطرب؛ ولذلك كانت من الأعمال التي تفرض ترجمتها أو على الأقل مراجعة الترجمات المتوفرة، كلما اكتُشِفَت رقم أو لقي أثرية جديدة تحمل شواهد لغوية أو معلومات تاريخية لم تُعْرَف من قبل …
ويكفي أن نعلم أن لها في الإنجليزية مثلًا أكثر من عشر ترجمات يلتزم بعضها بالأمانة العلمية الدقيقة، ويميل بعضها الآخر إلى التصرف الأدبي الحر، مع التفاوت بينها في مستوى الرصانة والتقيد بالأصل الأكدي، أو في درجة الحساسية والمرونة وشاعرية التعبير، ويصدق هذا أيضًا على الترجمات العربية المتاحة التي سننظر فيها بعد قليل.
وأما عن ترجمة الدكتور سامي سعيد الأحمد فهي جهد كبير لتحقيق ترجمة علمية شديدة الأمانة إلى حدِّ الوقوع في الحرفية وإغفال المعنى والسياق الكلي، وتقديم أعمدة بل ألواح كاملة في حالة يُرثى لها من التفكك والاضطراب بحيث لا يخرج منها القارئ بشيءٍ، ويبدو أن العالم الكبير في اللغة الأكدية والتاريخ القديم قد تصوَّر أن الترجمة «العلمية» هي الترجمة الحرفية الدقيقة، وأن هذه الدقة تتنافى مع الاجتهاد في حدس المعنى واقتراح البدائل الممكنة، والاهتداء بالمحاولات الأخرى في اللغات الحديثة؛ ولذلك تقتصر فائدة ترجمته على الدارسين للنص الأكدي، إذ تجشَّم المترجم الفاضل مشقة كتابته بالحروف العربية وشرحه شرحًا مفصلًا بالغ الدقة والاستقصاء، أما بالنسبة للقارئ العام فتُعَد هذه الترجمة — في تقديري — مأساة حقيقية … وأخيرًا فإن أحدث الترجمات للأستاذ فراس السواح قد تلافت معظم الأخطاء التي وقعت فيها الترجمتان السابقتان، كما بذلت جهدًا فائقًا في الرجوع إلى الترجمات الإنجليزية مع الاعتماد على ترجمة هايديل، وزودت القارئ بنص بالغ الحساسية والشاعرية — وذلك على حساب التركيب العربي الصحيح في بعض الأحيان! — مع مقدمة وتعليق رائعين يدلان على الاستبصار العميق والمكابدة الباطنة لروح النص وعلاقاته المتشابكة …
(٢٠) ولقد شجعني على الإقدام على هذه الترجمة أمور ثلاثة: أولها أنني وجدت أن ترجمة شوت — بمراجعة العلامة فولفرام فون سودن — هي أَكْمَل الترجمات التي تيسَّر لي الاطلاع عليها وأكثرها اتساقًا وترابطًا في ترتيب الألواح، وقد بذل المترجم والمراجع غاية جهدهما في إكمال النسخة الآشورية ومحاولة سد ثغراتها والاجتهاد في تعويض نقصها بالاستعانة بالترجمتين: الحيثية والحورية وبالأصول السومرية، مع الحرص في كل الأحوال على تقديم نص دقيق ومقروء في آنٍ واحدٍ؛ ولذلك اعتمدت عليها وتقيدت بها مع تسجيل القراءات الأخرى الممكنة التي بَدَتْ لي أكثر معقولية وأقرب إلى المعنى الكلي، ولما كنت غير مختص في الآشوريات — كما اعترفت بذلك أكثر من مرة — فقد اكتفيت بهذه الترجمة التي ثبت لي أنها قد أضافت عشرات من السطور التي لم أجد لها أثرًا في أيِّ ترجمة أخرى، واجتهدت في تكملة عدد كبير من الكلمات والجمل والسطور التي أغفلتها تلك الترجمات أو تركتها ناقصة، وتجد كل هذه الاجتهادات المؤقتة في الكلمات والجمل والسطور التي كُتِبَت بالخط الأسود المكثَّف، أما النقط الموضوعة بين قوسين منكسرين […] فتُشِير إلى كلمات أو جمل تشوَّهت تمامًا بحيث استحال إصلاحها، وأما الكلمات القليلة التي وُضِعَت بين حاصرتين أو قوسين منحنيين (…) فهي زيادات أضفتها من عندي؛ بغية التوضيح والتيسير على القارئ، علاوة على الهوامش التي شرحت فيها ما وجب شرحه من الأساطير والقصص والأحداث وأسماء الآلهة والأشخاص والأماكن، ولست أدري إن كان البحث الحديث في علوم الآشوريات قد اهتدى إلى ألواح أو كسر من ألواح جديدة تعوض بعض النقص الملحوظ في مواضع عديدة من الملحمة، ولكن الذي أدريه أن الترجمات السابقة الذِّكر كانت نعم الرفيق والدليل الهادي طوال رحلتي المتواضعة مع هذه الترجمة؛ ولذلك يطيب لي أن أوجِّه لأصحابها — باسم القُرَّاء وباسمي — أصدق آيات الشكر والعرفان والتقدير …
(٢١) والأمر الثاني الذي شجَّعني على الإقدام على المحاولة الخطرة أن صديق العمر الأستاذ الدكتور عوني عبد الرءوف العالم في فقه اللغات السامية القديمة قد أبدى استعداده لمراجعة الترجمة على الأصل الأكدي (ومبلغ علمي أنه هو العالم المصري الوحيد الذي يتقن هذه اللغة، ويقوم بتعليمها في كلية الألسن التابعة لجامعة عين شمس)، وإني لأتقدم إليه بصادق الامتنان والعرفان، كما أعبر عن سعادتي بالاشتراك معه في هذا العمل …
والأمر الثالث والأخير: إن تجربة الترجمة كانت ضرورة اقتضتها تجربة أسبق منها، وهي كتابة الملحمة في عشر لوحات درامية تضمها مسرحية ملحمية بعنوان: «هو الذي طغى: محاكمة جلجاميش»، وقد خطر لي أن القارئ الذي اطلع على هذه المسرحية ربما يشعر بالحاجة إلى الرجوع للملحمة الأصلية على سبيل الائتناس بها أو المقارنة معها …
والله أسأل أن لا أكون في الحالين قد حمَّلت «جلجاميش» أكثر مما يحتمل من شجون زماننا وهمومه، كما أتمنى أن ينبهني الإخوة والزملاء المختصون إلى الأخطاء التي وقعت فيها، وأرجو ألا تكون أخطاء جسيمة! …
أشكره سبحانه إن كنت قد وُفِّقْتُ، وأستغفره إن كنت قد قصَّرت، فمنه وحده الهدى والسداد، وإليه ألجأ وإليه المصير.
عبد الغفار مكاوي
هوامش
Gilgamesh et sa legende. Etudes receuillies à L’occasion de la VII Rencontre Assyriologique Intrernationale (Paris, 1958) Paris, 1960, par Garelli.
وجدير بالذكر أن بعثة الآثار الألمانية قد عثرت في مدينة أوروك نفسها — وهي مدينة جلجاميش أو الوركاء حاليًّا والورقاء كما سماها العرب وتقع أطلالها اليوم قرب خضر الدراجي في محافظة المثنى — على شذرتين مدونتين باللغة الأكدية، ويرجَّح أنهما يرجعان للقرن السادس قبل الميلاد، ووُجِدَت شذرات أصغر حجمًا في أطلال العاصمة الآشورية القديمة آشور على نهر دجلة، وكذلك على تل «سلطان تبة» جنوبي تركيا بالقرب من مدينة حرَّان، وقد توفَّر بعض علماء الآشوريات — مثل فلكنشتين وايبيلنج وجورني وهايدل — على نشر هذه الشذرات، وأفاد منها مترجمو الملحمة في إصلاح وتكملة أجزاء عن بعض ألواحها (كالثاني والرابع والسابع والثامن) ومحاولة التنسيق بين مختلف أجزائها في وحدة متجانسة، وذلك على الرغم من الفروق الكثيرة التي تفصل بين الأصول الأكدية والترجمات الحيثية، كما تباعد بين الأماكن والأزمان التي وُجِدَت فيها تلك الشذرات … (راجع مقدمة ألبرت شوت لترجمته للملحمة ومراجعة العلَّامة فون سودن، اشتوتجارت، ركلام ١٩٥٨م، ص٨–١٣.)
Das Gilgamesch Epos-Neu ubersetzt und mit Anmerkungen versehen von Albert Schott. Durchgesehen und ergänzt von Wolfram von Soden Stuttgart, Reclam-veriag, 1958, s. 8–16.
ولا يستبعد أن يكون آشور بانيبال قد سمع شيئًا من الإلياذة من أحد المنشدين الإغريق، إذ ليس ذلك أيضًا بمستحيل … والمهم أن الجو العام السائد من القرنين الثامن والسابع إلى القرن الخامس قبل الميلاد يرجح احتمالات التأثير أو التأثر بين الإغريق وغيرهم من شعوب الشرق الأدنى القديم في الفلسفة والعلم الطبيعي والرياضي والأدب والاقتصاد، وإن لم تتوفر الأدلة والشواهد الأثرية التي تؤكد ذلك على نحو قاطع … ومع ذلك فهناك عدد كبير من بحوث الأدب المقارن التي تقرب بعض أبطال الأوديسة والإلياذة والأساطير الإغريقية من جلجاميش، فمغامرة أوديسيوس وجلجاميش وأسفارهما تنتهي بعودتهما إلى مسقط رأسهما، وكلاهما رفض طلبًا من ربة للزواج منه، وتكلم مع صديقه الذي سبقه إلى عالم الموتى، وكما حملت الربة تيتيس أخيل ورعته فإن جلجاميش هو ابن الربة الحكيمة نينسون، والعلاقة الحميمة بين أخيل وباتروكليس في الإلياذة تشبه علاقة المحبة والوفاء النادرة بين جلجاميش وأنكيدو، وكلاهما بكى صديقه بكاءً مفجعًا … وكما كان بوزايدون إله البحر هو الإله الوحيد الذي تآمر على أوديسيوس ودبر لهلاكه، فقد كان إنليل هو الرب الوحيد في مجمع الأرباب السومريين الذي رفض إنقاذ أوتنابشتيم من الطوفان وصمَّم على موت أنكيدو … وإذا كان الأرباب هم الذين بنوا أسوار طروادة، فإن الحكماء السبعة الأسطوريين هم الذين أسسوا سور أوروك الذي يتغنى به شاعر الملحمة وبطلها في البداية والنهاية، وربما كان التشابه بين هرقل وجلجاميش أكثر وضوحًا، سواء نظرنا إلى أعمالهما البطولية وصراعهما مع الوحوش الضارية، أو إلى أصولهما الإلهية، أو صداقتهما المؤثرة لأيولوس وأنكيدو على الترتيب، أو مواقفهما من الآلهة المحبة (ديانيرا وعشتار)، أو عثورهما على عشب الخلود … (سامي سعيد الأحمد، ملحمة جلجاميش، بيروت وبغداد ١٩٨٤م، ص٢٤–٢٦.)