وثبات في التطور

تمر الدهور المتطاولة على بعض الأمم فلا يظهر فيها زعيم أو عبقري، تنسل الآباء نسلهم فيخرجون على غرارهم؛ وجوههم مثل وجوههم، يتكلمون لغتهم ويعتادون عاداتهم، ثم يظهر فيهم فجأة عبقري أو زعيم فيقلب حال الأمة ويسومها السير في وِجهات خاصة لم تكن تحلم بها.

وكذا الحال في الطبيعة؛ مرت عليها ملايين السنين والأبناء تخرج كالآباء وتسير على غرارها، إلا في فترات ظهر فيها أفراد من النبات والحيوان شذَّت عن الآباء، واختلفت في تركيب الجسم، فكانت أنواعًا جديدة غيَّرت وجه الطبيعة، والنوع الجديد في اعتبار الطبيعة كالعبقري أو الزعيم في اعتبار الأمة، عزيز الوجود؛ لأن الجري على العادة القديمة أسهل على الدوام من اختطاط خطة جديدة، فمن الأيسر على العود أن ينمو على طريقة أبويه من أن يثبت شخصيته ويندفع في طريق خاص.

وكما أن الأمة تخطو خطوة واسعة نحو الأمام بظهور أحد الزعماء أو العبقريين بينها، كذلك كانت الطبيعة تثب وثبات كبيرة بظهور بعض الأنواع الجديدة من الحيوان، ونقول بعضها ولا نقول كلها؛ لأن كثيرًا من الأنواع لا قيمة له في تقدم الأحياء وتطورها، فلو لم يظهر الذئب في العالم لما كان في ذلك ما يدل على شيء كبير، ولو لم يوجد الضبع لما قلَّت معلوماتنا عن تطور الأحياء، وإنما هناك وثبات وثبها الحيوان في الأزمنة القديمة فغيرت وجهات تطوره، فكانت الخطوات الكبرى في تقدم الأحياء.

فأول ذلك انفصال الحيوان عن النبات؛ فقد كانت الخلية الأولى التي ظهرت في العالم مشتركة، أو نباتية فقط على الأرجح، ثم ظهرت خلية الحيوان، فصار التطور أسرع مما كان؛ لأن خلية الحيوان تتناول طعامها مجهَّزًا بخلاف خلية النبات التي تأخذه خامًّا من الأرض والهواء، فتوافر بذلك لخلية الحيوان قوة أمكنها أن تصرفها إلى الحركة والتنازع والتطور.
figure
(خلايا حيوانية مختلفة)
figure
(نوعان من القنديل، وهو من الحيوانات الجوفاء)
والخطوة الثانية كانت في ظهور أجسام مركبة؛ فقد كانت الأحياء الأولى خلايا مفردة تتكاثر بالانقسام، ثم ظهرت أنواع الإسفنج، ثم المرجان وغيره مما يسمى بالحيوانات «الجوفاء»؛ لأنها مؤلفة من طبقتين من الخلايا حول كيس أجوف، فمنذ ظهور هذه الأحياء أخذت الأجسام تتطور وتتخصص أعضاؤها.
figure
(المرجان، وهو من الحيوانات الجوفاء)
figure
(خيار البحر، وهو من الحيونات الشائكة)

والخطوة الثالثة كانت ظهور الجنسين؛ الأنثى والذكر، فقد كان ظهور الجنس بمثابة مضاعفة سير التطور؛ لأن الحي الناتج من فردين كان أكثر كفاءة وحرية في التطور، لوجود عنصرين في جسمه، من الحي الناتج من فرد واحد، حتى النباتات — على بطء تطورها — قد ظهر فيها الجنس وأسرع في تطورها، والحيوان والنبات المجنَّسان قد تغلبا على جميع الأحياء الأخرى التي تتكاثر بلا تلاقح بين الذكر والأنثى.

والخطوة الرابعة الكبرى في التطور كانت باتخاذ الحيوان شكلًا ذا جانبين؛ فإن الإسفنج لم يكن له شكل منتظم، أما الحيوان الأجوف؛ كالقنديل، والشائك؛ كخيار البحر ونجمة البحر، فكانا كلاهما كري الشكل تقريبًا شعاعيه، يكون مستديرًا له أطراف كالأشعة، ومثل هذا الشكل يوافق النبات كي يحصل على أكبر قسط من ضوء الشمس، ولأنه لا يتحرك، ولكنه لا يوافق الحيوان إلا إذا سكن في مكانه؛ كالإسفنج والمرجان، أو كان قليل الحركة تحمله الأمواج؛ كنجمة البحر، ثم لا يوافق تخصيص الكفايات.

ولذلك يعد ظهور الحيوان ذي الجانبين؛ كالديدان والحشرات وجميع ما ظهر بعدها إلى الإنسان، خطوة كبيرة في التطور؛ لأن هذا الشكل سهَّل على الحيوان الحركة، فجعل التنازع وبقاء الأصلح وانقراض غيره سريعًا، ثم إنه سهَّل أيضًا تخصص الأعضاء؛ لأن الحيوان ذا الجانبين قد صار له بهذا الشكل رأس وذَنَب؛ لأنه ما دام يضطر إلى الاتجاه بجنب واحد إلى الأمام فإن هذا الجنب لا يمضي عليه زمن طويل حتى يحتوي على أهم وسائل الدفاع والاحتماء من دماغ وأعين وآذان وفم، ثم يكون له بذلك ظهر وبطن.

وهذا كله بخلاف ما هو حاصل في الحيوان الأجوف أو الحيوان الشائك؛ فإنَّ ظَهْر كلٍّ منهما هو بطنه، ورأسه هو ذَنَبه، فهيئة تركيبه لا تساعده على تخصص كفاياته في أمكنة معينة من جسمه؛ لأن نجمة البحر وهي تندفع في الماء تتجه بأية جهة من جسمها، فليس لها مصلحة بأن تتمركز كفاياتها في جهة دون أخرى، وكذلك الحال في القنديل، أما نحن والحشرات والزواحف والأسماك حتى الديدان، فإننا نتجه بجانب واحد من أجسامنا، فمن مصلحتنا أن يحتوي هذا الجانب على أهم حواسنا؛ فلذلك لنا رءوسنا ووجوهنا التي نواجه بها الأشياء وفيها جميع حواسنا، ولولا هذا الاتجاه لما تمركز الدماغ والحواس في الرأس.

ومن الخطوات الكبرى أيضًا ظهور الفِقْريات؛ أي الحيوانات التي لها عمود فِقْري؛ فإن أحياء العالم كله تكاد تكون مقسومة قسمين من حيث القوة العصبية؛ ففي القسم الواحد نجد الحيوانات غير الفِقْرية؛ كالحشرات والقشريات والديدان وما هو أحط منها، تعيش عيشة غريزية كأنها النبات، وفي الآخر نجد الحيوانات الفِقْرية، وهي كلها على اختلاف دوجاتها تستند إلى الغريزة، ولكن مع شيء من الوجدان أو العقل المكتسب الذي نراه على أقواه في الإنسان، وليس يُعرف للآن سبب وقوف القسم الأول عن التطور في ناحية العقل، ولماذا اكتفى بالغريزة، وإنما هذا هو الواقع؛ فنحن نرى بذور العقل في أحط الحيوانات الفقرية، ونرى الغريزة المتقنة في الحشرات.
figure
(أول الفقاريات: سمكة اللامبري، وهي من أرقى أنواع السمك، لها سبعة شقوق للخياشيم، وفم مستدير ماص، وبعضهم لا ينسبها إلى السمك؛ لأنها ليس لها زعانف ولا حراشيف ولا فكان للفم، وعمودها الفقري في حال ابتدائية جدًّا، يبلغ طولها أحيانًا ثلاث أقدام)

ومما يدل القارئ على عظم قيمة العمود الفقري في التطور أن الحيوانات الحاصلة عليه قد أخذت تتقدم تقدمًا رائعًا في جملة نواحٍ من تركيب الجسم وتأهيله للتنازع والبقاء؛ فسمكة اللامبري — مثلًا — هي أول حيوان ظهر له جمجمة، وإن لم يكن لها فكَّان في فمها، والأسماك هي أول حيوان له فكَّان يمضغ بهما، والضفادع هي أول حيوان ظهر له أصابع في اليدين والقدمين، وهي أيضًا أول حيوان حصل على رئة وعلى لسان متحرك وعلى صوت؛ فإن جميع الأسماك خرس لا تقدر على النطق.

والزواحف هي أولى الحيوانات التي صار لجنينها كيس يحفظه، وأول قلب يحتوي على أربع فجوات ظهر في التمساح، وأول ما ظهر الدم الدافئ في الطيور واللبونات التي لها أكبر مقدار من الدماغ عند مقابلتها بسائر الحيوان، فظهور الفقريات كان من أكبر فتوحات الطبيعة في ميدان الحياة.
figure
(من أول اللبونات: البلاتيبوس، حلقة الصلة بين الزواحف واللبونات، يبيض كالزواحف، ويتبرز ويبول من مخرج واحد مثلها، ولكنه يرضع أطفاله)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤