سمكة السيلاكانت

في ديسمبر من ١٩٥٢، أذاعت الصحف نبأ يعد من أعظم الأنباء في تاريخ الأحياء، وهو العثور على سمكة «السيلاكانت» بالقرب من جزيرة مدغشقر شرق إفريقيا، والقيمة العظمى لهذه السمكة — كما يرى القارئ في صورتها — ظهور التجربة الأولى في تطور الأحياء للذراعين والساقين؛ أي المحاولة الأولى لصعود السمك من البحار إلى اليابسة والمشي عليها بدلًا من السباحة في البحر.

وكان المظنون أن هذه السمكة قد انقرضت منذ خمسين مليون سنة على الأقل؛ إذ وجدت أحافيرها المتحجِّرة، ولكن لم توجد حية إلا في ١٩٣٨، ثم في الشهر الماضي، وفي المرة الأولى أتلف المحنِّط أحشاءها، وأضاع الفرصة على البيولوجيين لدراستها، أما هذه المرة فقد عُني الدكتور سميث بصيانة أعضائها، ولما اصطيدت بقيت ثلاث ساعات بعد إخراجها وهي حية.

وقد سُمِّيت «سيلاكانت» لأنها جوفاء المِأْق، والمتأمل للصورة يجد المِأْق في خلف العين وهو أجوف.
figure
(السيلاكانت)

وقولنا إن المظنون أنها كانت قد انقرضت منذ خمسين مليون سنة لا يعني أنها ظهرت منذ خمسين مليون سنة؛ لأن الأرجح أن تجارب الخروج من البحر إلى اليابسة بدأت منذ أكثر من ٢٠٠ أو ٣٠٠ مليون سنة، ونعني هنا خروج السمك وليس خروج القشريات مثل السرطان والكابوريا والجنبري.

وقد كانت التجارب الأولى تقوم على حياة مشتركة في البحر واليابسة، بحيث تبيض السمكة في الماء، وينفقئ البيض وتسبح الصغار فترة من حياتها، ثم تخرج إلى اليابسة وتسعى، ولا يزال هذا الشأن في البرمائيات (البر والماء)؛ مثل الضفادع.

ثم استقل الحيوان على اليابسة، فظهرت الزواحف، وتفرَّعت الزواحف إلى فرعين: الطيور من ناحية، واللبونات من ناحية.

وسمكة السيلاكانت واحدة من مئات السمك الذي حاول الصعود إلى اليابسة والسعي عليه بذراعين وساقين ابتدائية، ولا بد أن كثيرًا منها قد فشل في هذه التجارب، ولا نعرف إذا كانت السيلاكانت من أسلافنا أم لا؛ إذ ليس بعيدًا أن تكون قد قامت بالمحاولة ثم ارتدت عنها وقنعت بالإقامة في الماء.

ويجب أن نتخيل عالمنا قبل مئتي أو ثلاث مئة مليون سنة على حال أخرى غير حاله الحاضرة؛ فقد كانت البحيرات والمخاضات وانسياب البحار فيه أكثر مما هي الآن في استقرار قاراته وبحاره، وكان بعض الأسماك التي تحيا في البحيرات يعاني من وقت لآخر جفافًا أو ما يقارب الجفاف، فكان يختبئ في الطين ويبقى أسابيع أو شهورًا إلى أن تعود الأمطار — مثلًا — فيهبُّ السمك المختبئ من رقاده ويسبح، وكثير من السمك يزحف على زعنفتيه على الطين.

وفي النيل سمكة خاصة به تسلك هذا السلوك، وهي تسمى «سمكة الطين»؛ لأنها تختبئ فيه وتزحف عليه إلى أن تأتي مياه الفيضان فتخرج وتسبح (شكل ١).

وسمك الطين هذا يحتوي «مثانة» هوائية يختزن فيها الهواء، ويستعملها كما لو كانت رئة بدلًا من الخياشيم التي يتنفس بها في الماء، وهذه المثانة هي الأصل في الرئة التي تتنفس بها الزواحف والطيور واللبونات، وفي العالم الآن أربعة أنواع من «سمك الطين» هذا، واعتقادنا أنه أرقى من السيلاكانت في سلم التطور.

ونحن نجزم من الآن بأن السيلاكانت تحتوي هذه المثانة، ولو بصورة أثرية؛ لأنها وإن كانت قد انقطعت عن تجاربها في المشي على اليابسة، فإنها بلا شك قد قضت ملايين السنين في هذه التجارب.
figure
(سمك البيريوفتلم، وهو هنا يتسلق جذور الكوريدا التي تنبت على الشواطئ، وقد تعرت هذه الجذور بتأثير الأمواج)

ولم يُعرف عن هذه السمكة أنها تخرج إلى البر؛ لأن الأغلب أنه بعد ظهور هذه الأعضاء الابتدائية للذراعين والساقين عادت فاستقرت في البحر، ولذلك لم تتقدَّم هذه الأعضاء.

وتركت ميدان اليابسة لغيرها، أو لِمَا قد تطوَّر من أقاربها وسلائلها، وعلى كل حال نحن باكتشاف السيلاكانت قد حططنا على حلقة كنا نظنها منقرضة في سلسلة التطور.

ونحن إزاء كشف جديد، ولا بد أننا سنعرف كثيرًا عن هذه السمكة مما ينيرنا عن تاريخنا القديم، أو عن أعظم انقلاب في تاريخنا القديم، وهو خروج الأحياء من البحار إلى اليابسة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤