العصر الحجري

تمتاز يد الإنسان على يد القرد بأن لها إبهامًا، فيمكن اليد بذلك أن تتناول الأشياء تناولًا حسنًا وتصنع الآلات، وليس بين القردة ما يمكنه أن يصنع آلة — وإن كانت بعض القردة العليا تحمل العصا وتقذف الأحجار — وليس ذلك إلا لأن إبهام اليد في القرد صغيرة جدًّا لا تصلح للقبض على الأشياء وتحريكها بما يلائم صناعتها وصياغتها في شكل خاص.

وقد نتساءل هنا: لماذا صغر إبهام القردة العليا دون إبهام الإنسان ما دام قد نشأ كلاهما من أصل واحد هو «القرد الإنساني المنتصب» كما يظن كروكشانك، أو من حيوان آخر يشبهه؟

والجواب على ذلك أن الإنسان اتخذ الأرض مقامًا له، أما القردة فاتخذت الأشجار، ومعيشة الأشجار تقتضي القدرة على القفز من غصن إلى غصن، والإبهام في هذه الحالة لا تسعف صاحبها، بل تعوقه؛ فإننا إذا أردنا أن نتعلَّق بغصن أو قصبة اكتفينا بأصابعنا الأربع ولا حاجة لنا إلى الإبهام.

وعلى ذلك نعود فنكرر بأن الإنسان يمتاز على القردة بجملة أشياء صغيرة في ذاتها، كبيرة في نتائجها، وليس ينكر أننا نمتاز على القردة بضخامة الرأس وما يتبع ذلك من عقل كبير، ولكن هذا العقل لم يكن ليفيدنا شيئًا لو لم تكن لنا يد ماهرة في صنع الأشياء، ولو لم يكن لنا لغة نفهم بها ما ينطق به غيرنا وما ننطق به أنفسنا، بل إن اللغة هي الأصل في ضخامة الدماغ وليس العكس.

والإنسان في أول عهده بالصناعة لم يكن يعرف سوى الأحجار والأصداف والقرون والخشب والعظم، يصنع بها آلاته الحادة التي يستعملها في القطع والقتال، وقد أُطلق على هذا العهد اسم «العصر الحجري»؛ لأن معظم آلاته فيه كانت من الحجر، كما نعرف بعد ذلك عصر «البرونز»، ثم عصر «الحديد» الذي لا نزال فيه إلى الآن.

وبعض الهمج لا يزال يعيش للآن في العصر الحجري، فلا يمكنه أن يصنع آلة من البرونز أو الحديد، وهذا هو الحال — مثلًا — في بعض شعوب إفريقيا وشعب أستراليا القديم، وكان العرب إلى عهد قريب يستعملون سكاكين من الحجر، كما تدل على ذلك لفظة «ظران».
figure
(فأسان من الحجر)
figure
(إبر من عظم)
figure
(سكاكين من حجر)

وقد تطوَّر العصر الحجري أيضًا، فأقدمُ ما نجده من الآلات،

وهو بالطبع أعمقها في أودية الأنهار ومسيل الأمطار، يكون على الدوام حجرًا يكاد يكون مخروطًا، كان الإنسان يقبض عليه بيده فيستعمل طرفه المستدق للتمزيق وسلخ الحيوان، وإحداث الجروح في العدو، والحفر وما إلى ذلك، أما طرفه الغليظ فيستعمل في الدق والضرب.
figure
(أقدم الآلات الحجرية كانت تستعمل للضرب والتمزيق)

ثم ارتقت الآلات الحجرية بعد ذلك، فصارت تُصنع منها السكاكين والفئوس، وتوضع في نصاب من الخشب أو العظم، واستمر استعمال الأحجار مدة طويلة حتى بعد ظهور البرونز؛ فإن تهيئة البرونز كان يحتاج إلى ثقافة، من معرفة بالنار إلى كيفية استنباط مواده الخامة، إلى غير ذلك مما لم يكن في مقدور كافة الناس أن يعرفوه.

ومن الآلات الحجرية ما نجده غاية في إتقان الصنعة، كبعض السكاكين والفئوس والحراب، بل بلغ الإنسان من الإتقان في ذلك أن صار يرسم على الحجر صور الحيوان الذي كان يصيده؛ كالفيل والثور وغيرهما، وكان يخيط ملابسه المصنوعة من الجلود والفراء بإبر من العظم.

وكثيرًا ما نجد هذه الآلات الحجرية في مكان غريب يدل على عقلية الإنسان الأول، والبواعث التي كانت تدفعه إلى الاجتماع والعمل المشترك؛ ففي بعض الأحيان نجد ربوة عالية تنتهي إلى هوة عميقة، وفي هذه الهوة نجد هذه الآلات الحجرية مع ركام من عظام الحيوانات؛ كالفيل أو الحصان أو الثور.

وتعليل ذلك أن الإنسان كان يصيد هذه الحيوانات بأن يطردها إلى مثل هذه الربوة ويحتاشها إليها، فإذا اندفعت عادية إليها، وجماعة الناس وراءها يضجِّون ويصيحون، لم يسعها أن ترتد لقوة اندفاعها فتقع في الهاوية وتتردى، فتذهب إليها الجماعة وتسلخ جلدها، وتأخذ بعض عظامها، وقد تأكل شيئًا من لحمها.

وربما كان صيد الحيوان أول ما دعا الناس إلى الاجتماع والقيام بعمل مشترك، وفي الاجتماع تنشأ الرياسة والنظام، ثم عرف بعد ذلك الحرب، وهي إحدى درجات الرقي في الإنسان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤