ملابسات المجتمع الأول

لنا سبيلان إلى تحقيق الحالة الاجتماعية الأولى التي كانت تلابس الناس عند أول ظهورهم على الأرض:
  • الأول: معرفة أحوال الهمج والمتوحشين الآن، ودرس عقائدهم الدينية وشبه الدينية من سحر وغيره؛ فإن الإنسان قبل أن يتحضَّر كان في الأرجح كثير الشبه في حالته الاجتماعية بالهمج الآن.
  • الثاني: معرفة بعض العادات الفاشية بين المحضرين الآن، والتي فقد المتحضرون دلالتها، ولكننا نفهم هذه الدلالة إذا نظرنا إلى هذه العادات في ضوء الأحوال الفاشية بين الهمج.
وأهم ما يجب اعتباره في درس الهيئة الاجتماعية الأولى هو هذه المسائل الثلاث:
  • (١)

    حالة الزواج وملابساته.

  • (٢)

    نشوء الرياسة التي هي أصل الحكومة.

  • (٣)

    الطَّوْطَم والطَّبُو.

وإنما نبحث عن هذه الأشياء في حالة البداوة الأولى حين كان يعيش الإنسان بالصيد، دائم الرحلة من مكان إلى آخر في طلب القوت، أما حين ظهرت الزراعة وهدأ الإنسان في مكان، فإن أحواله الاجتماعية كانت قد ارتقت، فانتظمت الحكومة ورسخت عادات مرعية في الزواج والدين لا تكاد تختلف عن عاداتنا الآن.

وقد تكلَّمنا في فصل سابق عن الزواج، كيف بدأ بالنظام الأموي وقت الرحلة والتجوال، وانتهى بالنظام الأبوي بعد الزراعة.

ولكن يجب ألَّا نستسلم لقواعد جامدة؛ ففي مدة الرحلة ظهرت عادة السبي، فإن بعض الذكور كانوا يجدون مشقة في الحصول على الأنثى فيخاطرون بالقتال، ويخطفون فتاة أو صبية، وكان بعض الذكور من القوة بحيث يجبرون بضع إناث على مرافقتهم، فيحرمون غيرهم من الأنثى، ويضطرونهم إلى القتال لخطف أنثى من مكان ناءٍ، وعادة السبي هذه علَّمت الإنسان الحرب.

والحرب درجة من درجات رقي الإنسان، فإنها تتطلب الاتحاد والجلد والتضحية والطاعة والشجاعة والرياسة، وكل هذه خصال إنسانية اجتماعية، ولا يمكن الإنسان أن يعقل أن حربًا كانت تنشب بين قبيلتين في زمن البداوة القديم إلا لأجل المرأة؛ لأنه لم يكن هناك شيء يملك غير المرأة.

وكذلك عادة السبي عوَّدته الزواج بامرأة واحدة؛ لأنه قبل أن يعرف السبي كان كثير من الإناث ملكًا لأقوى إنسان في القبيلة، فلما شاعت عادة السبي صار لكل إنسان تقريبًا زوجة.

ولا يزال بين الهمج الآن عادات تُمارس في العرس وتدل على أن السبي هو أصل الزواج، فإن الزوج يتظاهر بخطف المرأة بين ولولة النساء وصراخ الفتاة المفتعَلَيْن، وبين المتحضرين يُلقى الرز في وجه الضيوف، ويحمل الرجل عروسه فوق عتبة الباب، والرز إشارة إلى الكفاح القديم في طرد الرجل ومن يساعده من عشيرته، وحمل العروس رمز إلى خطفها وسبيها.

وقد نشأت عادة أخرى من السبي، وهي أن لا يتزوج الإنسان من عشيرته؛ فالصينيون للآن لا يتزوج منهم الشاب فتاة يتفق اسمه واسمها، وليس لهذا من معنى إلا أن القدماء كانوا يستحسنون السبي، ويعدونه الطريقة المشروعة للزواج، واتفاق الاسمين كان يدل على اتفاق الأصل، فلا يصح — عندئذ — الزواج.

وربما لم يكن الصَّدَاق الذي صار يدفع لأهل المرأة بعد ذلك إلا فدية يفتدي بها الجاني جنايته في سبيه إحدى الفتيات، فيعوِّض أهلها من خسارتهم، ولكن يجب أن نذكر أن الصداق لم ينشأ إلا بعد الزراعة وهي الحضارة، أما قبل ذلك فلم يكن شيء جديرًا بالامتلاك غير المرأة، فلم يكن سبيل إلا الافتداء.

ولننظر الآن في الرياسة، كيف نشأت، وكيف ارتقت إلى حكومة؛ فإن رئيس القبيلة أو العشيرة كان أقوى فرد فيها، ولكنه لم يكن يمارس سلطانه على أفراد القبيلة إلا حيث يَرِد اعتداء على نسائه؛ لأنه لم يكن يبالي بشيء آخر؛ فكانت زوجاته يتَّقينَ غضبه على أولادهن بمنعهم من النظر إليهن؛ وخاصة إذا شبُّوا، ومن هنا عادة لا تزال شائعة بين المتوحشين، وهي أنه عندما تمر زوجة الأب يخفي ابنه وجهه؛ حتى لا يراها فيدخل في قلب أبيه الشك، فهذا هو أول المحرمات الأخلاقية التي يعرفها أفراد القبيلة.

ولم يكن للإنسان في أول عهده منازل، والمتَّبَع بين المتوحشين الآن إذا أراد الرئيس أن يتشاور مع كبار رجال قبيلته في شأن مهم عن حرب أو غارة أن يجتمع بهم في مكان بعيد عن سائر أفراد القبيلة، وفي هذه الحالة يعاقب كل فرد يقترب من هذا المجلس بالقتل.

وكيفية استدعاء هذا المجلس وإنذار سائر الأفراد به أن يحمل واحد شيئًا يدعى «هدَّارة»، وهي ليست سوى عصًا قصيرة محزوزة في أحد طرفيها، ويربط بها حول هذا الجزء خيط قوي من شعر، ويربط في طرفه الآخر مثقلة من خشب، فإذا أدار الإنسان هذه المثقلة حول العصا أحدثت ما يشبه هدير الرعد، فيفهم رجال القبيلة أن هناك مجلسًا فلا يقتربون منه.
figure
(الهدَّارة وحولها ثلاثة أنواع من المثاقل التي تُربط بالعصا)

وهذه الهدَّارة ضرورية — كما قلنا — لأنه ليس للمتوحشين منازل يمكنهم أن يجتمعوا فيها، وهذا المجلس هو أول تلميح إلى وجود سلطة ورياسة وحكومة، وربما كان عند الإنسان الأول نظام أبسط من هذا، ولكن الهدارة معروفة عند المتوحشين في أمريكا وأستراليا وإفريقيا، مما يدل على قدمها.

والبحث في الحكومات القديمة التي بلغت شيئًا من الرقي يثبت أنها نشأت من أحد أصلين، أو منهما معًا:
  • فالأصل الأول: يرجع إلى القائد في الحرب (وهذا إلى رئيس القبيلة)، ومنه نشأت فكرة الملوكية.
  • والأصل الثاني: يرجع إلى الساحر، ومنه ظهر الكهنة، ولا يزال معنى السحر باقيًا في هذه اللفظة في لغتنا، لأن الكاهن ساحر، وفي التكهن عرافة وتنبؤ، وقد عاش بنو إسرائيل وهم لا يعرفون سوى حكومة الكهنة مدة طويلة.

وقد يجتمع الاثنان معًا فيصير الملك كاهنًا، ولكن الملوك والكهنة لم يظهروا إلا بعد أن ارتقى الإنسان، أما في حالة البداوة القديمة فلم يكن شيء من ذلك.

ولننظر الآن في شيئين لا يخلو منهما أحد المجتمعات عند المتوحشين، ولا بد أن الإنسان الأول قد عرفهما، وهما الطَّوْطَم والطَّبُو، وليس شيء كتب عنه العلماء وخطُّوا فيه أكثر مما كتبوا وخطُّوا فيهما؛ وعلة ذلك أن المتوحش نفسه لا يحسن التعبير عن معتقداته، وليست لغته مما يمكِّن عالمًا أن يتقنها.

وصفوة ما يقال في الطَّوْطَم أن نساء المتوحشين لا يعرفن أن الرجل هو سبب الحمل في المرأة، فإذا مرَّت المرأة الحبلى على ثعبان أو عظاية، أو سنح لها طائر أو حيوان، اعتقدت أن هذا الحيوان هو سبب حملها وولادتها، فإذا ولدت وشبَّ ابنها صار هذا الحيوان طوطمًا له، لا يجوز أن يقتله أو يؤذيه للصلة التي وهمت الأم وجودها بينها وبينه!

فلكل فرد من الهمج طوطم لا يجوز له أن يقتله، وللقبيلة طوطم عامٌّ له هذه الحرمة أيضًا، وربما كان في ذلك أصل لتقديس بعض الحيوان بعد ذلك.

ثم هناك الطَّبُو، وهي لفظة بولينيزية عمَّمها العلماء على كل ما هو محرَّم عند المتوحشين، وفكرة التحريم عند المتوحش تختلف عمَّا نفهمه من هذه الكلمة؛ فمثلًا زوجة الأب طَبُو لأولاده؛ أي إنهم محرومون من أن ينظروا إليها أو أن يتعاملوا معها، فإذا فعلوا ذلك صاروا هم أيضًا طَبُو يحرُم على رجال القبيلة أن ينظروا إليهم أو يتعاملوا معهم.

فمن ارتكب شيئًا محرَّمًا عند المتوحشين صار نجسًا يحرُم على سائر أفراد القبيلة النظر إليه، وبعبارة أخرى نقول إن من ارتكب طبوًا صار هو نفسه طبوًا، وفي شريعة موسى ما يدل على أن بعض الناس كانوا طبوًا في نظر الغير لا يجوز لهم ممارسة الأعمال الدينية، ومن الطَّبُو نشأت الأخلاق؛ إذ عرف الإنسان ما يجوز له أن يعمله وما يجب عليه أن يتجنبه.

وفي طور آخر من أطوار الإنسان المتقدمة صار بعض الحيوانات طبوًا لا يجوز للإنسان أن يأكله؛ كالخنزير مثلًا، إنما لا ينبغي أن نفرض حدوث ذلك في المجتمع الأول؛ فإن الخنزير — مثلًا — لم يصر طبوًا إلا بعد انتشار عقيدة التقمُّص، وهذه العقيدة تحتاج إلى رقي فكري لم يكن قد بلغه الإنسان الأول، وهي قائمة على أنه إذا أكل الإنسان الخنزير صار هو نفسه خنزيرًا مثله؛ لأنه بعد أن أكله قد تقمَّص جسمه وروحه.

وليس يمكننا أن نترك موضوع المجتمع الأول بدون أن نذكر شيئًا عن السحر وعقيدة المتوحشين الآن، أو الإنسان الأول قديمًا وكيفية نظره للموت والمرض.

والسحر نوعان: سحر التقليد، وسحر العدوى؛ فسحر التقليد، أو المحاكاة، نراه في الأسترالي حين يريد الساحر قتل إنسان، فيقلد حركات القاتل في قتله وإن كان بعيدًا عن الشخص المراد قتله، وكالعربي الجاهلي حين يستنزِل الأمطار بصبِّ ماء من إناء؛ أي كما ينزل الماء من الإناء كذلك ينزل المطر من السماء.
figure
(تكوين لبعض الأناسي الذين انقرضوا ويعثر على أحافيرهم في عصرنا)
figure
(أستراليان يقتلان أحد الناس بالسحر، والشخص الذي يراد قتله في مكان ناءٍ لا يريانه)

أما الثاني فسحر العدوى؛ فالساحر يحرق ثوب الشخص المراد قتله فتنتقل عدوى الفناء (= الموت) من الثوب إلى صاحبه، وفي مصر الآن نرى آثار هذا السحر في الرُّقية.

وقد ذكرنا أن المتوحشين لا يعرفون سبب الحمل والولادة، وهم كذلك لا يعرفون سبب الموت أو المرض؛ فالقتل والجرح كثيران بينهم، ولذلك فهم يعزون الموت الطبيعي أو المرض إلى قوة غير منظورة وجَّهها أحد الأشخاص إليهم، ويساعدهم على هذا أنهم يرون هؤلاء الأشخاص في أحلامهم.

ووظيفة الساحر عند أحط المتوحشين تنحصر تقريبًا في إصابة أحد الأشخاص بالمرض أو بالموت، فيقبض على حربة صغيرة ويلقيها في ناحية الشخص المراد قتله وهو بعيد عنه، فإذا عرف هذا الشخص ما فعله الساحر عَمَد إلى ساحر آخر كي يشفيه، أو يمتلكه الخوف فيموت بقوة الإيحاء والوهم.

وإصابة الناس على بعد بالشر والضرر لا تزال موجودة عند العامة، كما نرى في وضع الكف بهيئة «كُبَّة»، والأصبع الثاني المسمى «السبابة» يدل على هذا المعنى القديم؛ لأن الاسم مشتق من السب؛ أي الشتم.

ومن السحر نشأ بعد ذلك الطب (ولا يزال معنى هذه الكلمة في العربية السحر)، والكهانة، ولها أيضًا هذا المعنى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤