أصل الدين

عاش الإنسان الأول حقبة طويلة من الزمن قبل أن يعرف ما هو دون الدين من ممارسات السحر والكهانة؛ فلم تكن اللغة تساعده بعدُ على أن يوضِّح لنفسه غوامض هذا الكون، فإذا فكَّر في مسائل الحياة والموت، والعالم والكون، وما إلى ذلك من نفس وجسد وعقاب وعقاب وثواب، اختلطت أفكاره وارتبكت خواطره؛ لأنه لم يكن في لغته الكلمات التي تؤدي هذه المعاني، وليس من الممكن أن نتصور معنى مجردًا ما دمنا نجهل الكلمات التي تعبر عنه.

دع عنك أن همَّ الإنسان الأول كان مصروفًا إلى إرضاء شهوة الطعام والشهوة الجنسية، ولم يكن الطعام وفيرًا؛ لأن الزراعة لم تكن قد عرفت بعد، ووسائل الصيد لم تكن أيضًا قد عرفت؛ فأوربا التي تَقِيتُ الآن أكثر من ثلاث مئة مليون نفس لم تكن تكفي نصف مليون إنسان، أو على الأكثر مليونًا يقطعونها جبالًا وأنهارًا لكي يهتدوا إلى بعض الجذور أو الحشرات أو الثمرات لكي يأكلوها.

ثم إن الشهوة الجنسية في الإنسان والقردة أشد مما هي عند سائر الحيوان، بل هي في الإنسان أشد من القردة، كما ترى في شعر العانة الذي اختص به الإنسان دون سائر حيوانات العالم أجمع، والذي لم ينشأ فيه إلا لفرط قواه الجنسية، ولفتًا للأنظار إلى أعضائه التناسلية، والزينة الخلفية الحمراء في بعض القردة الدنيا هي لهذا الغرض أيضًا.

فلم يكن الإنسان يهتم إلا لهاتين الشهوتين، ولم يكن يفكر إلا فيهما، وكانتا لذلك تستغرقان كل وقته، فلما عرف الصيد والاجتماع وارتقت لغته بعض الرقي بدأ «يعتقد» في أشياء، وأخذ يتدرج— عندئذ — من السحر إلى الوثنية، ثم إلى التوحيد.

وكان الموت أحد الشئون الكبرى التي انبنت عليها عقيدة الإنسان الأول؛ فإن الموت الطبيعي لم يكن من مألوفات الإنسان، وكان أكثر ما يرى الموت عند القتل أو التردِّي أو الغرق، فيعرف عندئذ سببه، أمَّا أن الموت يحصل بلا سبب فهذا ما لم يكن يعقله؛ لذلك صار يعتقد أن الإنسان عندما يموت وحده بشيخوخة أو مرض إنما يحدث له هذا الموت بفعل إنسان بعيد عنه أراد به المرض أو الموت ونجح في تحقيق إرادته بالسحر.

ومن هنا نشأ السحر؛ فإن المتوحشين للأن في أستراليا وإفريقيا يستأجرون ساحرًا لكي يوقع المرض أو الموت بعدوٍّ لهم بعيد عنهم، والساحر وهو يؤدي هذه الخدمة يقلِّد حركات القاتل، فيجمع جَرَاميزه ويضرب بسلاحه هذا الشخص المقصود.

ولكن الإنسان الأول لم يكن يعتقد أن الموت نهاية الحياة؛ وسبب ذلك أنه كان يرى أحيانًا أن بعض الأشخاص كان يغمى عليهم فتظهر عليهم أمارات الموت ثم يفيقون، وكان أحيانًا يرى بعض الموتى في أحلامه فيخاطبهم ويخاطبونه كأنهم أحياء، فيتوهَّم من ذلك أن الموت لا يناقض الحياة، وقد نتج عن ذلك عدة أشياء:
  • (١)

    صار الإنسان يُعنى بالجثة ويقدم لها الطعام معتقدًا أن صاحبها حي، فنشأ من ذلك صناعة التحنيط وفكرة القربان والتضحية.

  • (٢)

    عندما كان يموت عدوُّه أو أحد كبار المجرمين الذين آذوا القبيلة أو العشيرة، كان يخشى بأسهم بعد الموت، فكان يقيد أيديهم وأرجلهم إذا ماتوا، أو كان يضع فوقهم ركامًا من الأحجار حتى لا يستطيعوا القيام من تحتها، فنشأت من ذلك صناعة القبور ثم المعابد.

  • (٣)

    عندما كان يموت رئيس العشيرة أو القبيلة، أو أحد الأبطال المحبوبين، أو الذين كان يخافهم ويحترمهم في حياته وينظر إليهم كأنهم حماة القبيلة، كان يستمر على احترامهم بعد الموت، ويذكرهم هو وذريته من بعده، فيصير هؤلاء الأبطال آلهة، وتصير قبورهم معابد تُزار.

  • (٤)

    كانت الجثة تَبْلى فيزول فمها ويداها، فيعرف أنها لا يمكنها أن تأكل، فيضع شبهًا من الطين أو الحجر ويقدِّم له الطعام، ومن هنا نشأت صناعة الأصنام والتماثيل، بل الفنون الجميلة الأولى.

ولكن هنا يجب أن نذكر أن للفنون الجملة أصلًا آخر، وهو السحر؛ فإن بعض السحرة إذا أرادوا أن يؤذوا أحدًا صنعوا تمثالًا له من الطين ثم قتلوه؛ اعتقادًا بأن ما يحصل للتمثال يحصل لصاحبه (وهذا سحر التقليد أو المحاكاة)، وعلى كل حال، يجب أن نعتبر هذين الأصلين في نشأة الفنون الجميلة.

وقد كان الإنسان الأول يأكل بعض أعضاء الموتى المشهورين لكي يحصل على قوتهم، وكان يفعل ذلك أيضًا بمن يقتله من الأعداء إذا كان يعتقد فيه القوة والبأس، ومن هذه العادات نشأت فكرة التقمُّص وفكرة الروح، والغالب أنها نشأت متأخرة جدًّا؛ أي بعد ممارسة تلك العادة مدة طويلة.

ومعظم المتوحشين الذين يعرفون الآلهة لا يعرفون عقيدة الشيطان، وهذا يدل على أن هذه الفكرة حديثة العهد، وربما كانت فارسية، وعلى كل حال فلفظة شيطان عبرانية، لعلها مشتقة من سيت (شيت) إله الشر المصري، وإبليس لاتينية (ذيابولوس).

أما خروج الإنسان من الوثنية إلى التوحيد فيحتاج إلى شرح طويل، وإنما خلاصة ما يقال إن التوحيد نشأ عند الأمم التي لا تحسن صناعة البناء والتماثيل والأصنام؛ ولذلك ظهر بين الأمم البدوية التي تعيش في الخيام؛ مثل الهكسوس والإسرائيليين والعرب، والأغلب الهكسوس هم أول من آمن بإله واحد يجدونه في كل مكان يترحلون إليه، ولا يحتاجون إلى تمثيله في صنم يرهقهم حمله ونقله، أما الأمم المتحضرة فكانت تجيد صناعة الأصنام، تنحتها من المرمر فتخلب أفئدة المتعبِّدين، وكانت لها هياكل ثابتة عليها كهنة ولها أوقاف، فكان من الصعب جدًّا أن تروج بينها فكرة التوحيد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤