إنسان المستقبل

لو أن إنسانًا من عالم آخر زار الأرض قبل نحو مئتي مليون سنة، حين لم يكن في البحار سوى الأسماك وما هو أدنى منها من الحيوان، ولم يكن على اليابسة شيء من الحيوان مطلقًا، أو كان بها بعض الحشرات، ثم قيل له إنه بعد مئتي مليون سنة ستتحول زعانف الأسماك إلى أيد وأرجل، وتصير مثانتها رئة تتنفس بها الهواء مباشرة، ثم يخرج السمك إلى اليابسة فيمشي ويتسلق الأشجار، ثم تصير هذه الأيدي أجنحة فيطير في الهواء — لظن أن هذا الكلام هو غاية السخف بل العته.

نقول هذا تحذيرًا للقارئ حتى لا يستبعد شيئًا يقال عن مستقبل الإنسان بعد ملايين السنين الآتية؛ فإن التطور لم يقف، وإن كانت وجهته قد اختلفت عما كانت قبلُ في الإنسان.

فالإنسان كان وقت بداوته خاضعًا كل الخضوع لتنازع البقاء؛ يُستأصل منه ضعيف الجسم أو العقل أو العاطفة ويعمل الاستئصال لرقيِّه، ثم طرأت عليه الحضارة فسَهُل العيش على عدد كبير منه كان مقضيًّا عليهم لو أنهم كانوا يعيشون بغير وسائل الزراعة التي يسَّرتها لهم الحضارة.

وقد كانت وجهة التطور قبل أن يتحضَّر الإنسان تنحو نحو ترقية جسمه وعقله بإحداث تعديلات فسيولوجية في تركيب أعضائه حتى يوافق الوسط الذي يعيش فيه، على نحو ما يحدث للحيوان أو النبات الآن، ولكن عندما بدأ الإنسان يتحضر صار يسيطر هو على الوسط بدلًا من أن يخضع له.

كان الإنسان في حال البداوة أو في الحال الحيوانية السابقة إذا اشتد البرد وقسا على الأجسام بادت منه أفراد بحكم الانتخاب الطبيعي؛ فمن كان كاسيًا بالشعر أكثر من غيره، أو من كان يقوى لأي سبب آخر على تحمل البرد، عاش وأنسل وأورث نسله صفاته في حين كان يموت غيره، أما في الحضارة الآن فإنه عند اشتداد البرد يحمي نفسه بمنزل يأوي إليه بفراء الحيوان أو الملابس المنسوجة من النبات، وقل مثل ذلك في سائر الأشياء.

فالإنسان إذا لم يوافقه الوسط الآن عمد إلى عقله ليفكر في تغييره حتى يوافقه، في حين أن الوسط كان قديمًا يؤثر فيه ويعمل على تعديل جسمه بما يوافقه، ولو كان كل منا يستعمل عقله في جعل الوسط موافقًا له لما كانت الحضارة عائقًا عن التطور، وكل ما يكون في الأمر — عندئذ — أن التطور كان ينتقل من الجسم إلى العقل، ولكن الحقيقة أن واحدًا في المليون تقريبًا يهديه ذكاؤه إلى طريقة للتغلب على الوسط فيستفيد منها سائر المليون بدون أن تكون لهم أية ميزة تستدعي بقاءهم.

فالحضارة أعاقت التطور بعض الشيء، ولكنها لم تَعُقْه كل الإعاقة؛ إذ لا يزال تنازع البقاء يقتل منا أفرادًا بالسجن والتشريد والمرض والبله، ويبقي على أفراد آخرين.

ثم يجب ألَّا ننسى أن حالة الوجدان (الوعي) هي حال جديدة في الإنسان، ليس هناك ما يدل على أنها موجودة عند الحيوانات العليا إلا بمقدار يسير؛ فنحن نشعر بما نفعل، ونشعر بوجود شخصي؛ لنا أمس ولنا غد، بل منا من يسرف في الإحساس بحالة الوجدان هذه ويحسب لما بعد الموت ويخرف.

فهذا الإحساس؛ أي إحساس الوجدان بأنفسنا، لا يشعر به أي حيوان، وهو آخذ في الازدياد فينا، وسيخرجنا في المستقبل من حياة الغريزة الإنسانية إلى حياة التعقُّل والقصد.

فنحن الآن نتناسل بحكم الغريزة، وإن كان بعضنا — وهو الأقل — بحكم عقله، ولكن حكومات المستقبل ستعرف قيمة التناسل فتجعل قاعدته القصد لا الغريزة، وتقصره على فئة خاصة من الناس تجد فيها ما ترغب في أن تحصل عليه الذريات القادمة، فإذا بلغ بنا الوجدان أن نضع التناسل موضع القصد والنظام بدلًا من أن نجري فيه اعتباطًا بوحي الغريزة، كان لنا منه في الحضارة من الانتخاب الصناعي ما يقوم مقام الانتخاب الطبيعي في الحال الحيوانية القديمة، بل في حال البداوة الإنسانية، وعندئذ يرتَّب الزواج بطرق تضمن رقي الإنسان السريع، وليست قوانين الوراثة معروفة كلها الآن، ولكن عُرف منها قانون «مندل»، وهو بلا شك أقوى أداة في المستقبل لإيجاد السلالات الجديدة من الإنسان، وإن كانت لا تزال أشياء كثيرة منه مجهولة.

وليس يمكن الجزم بنوع الزواج في المستقبل البعيد، وهل يجري على مقترح أفلاطون أو مقترح جماعة أونيدا، وإنما الغرض في كل حال هو تأصيل الإنسان كما تؤصَّل الحيوانات أو النباتات الآن.
figure
(قانون مندل، وهو أهم ما عُرف في الوراثة؛ خلاصته أنه إذا تلاقح حيوانان كانت بعض صفات أحدهما غالبة في النسل على صفات الآخر، ولكن إذا تلاقح أفراد هذه النسل ظهر نسلهما بنسبة لا تتغير. ففي هذا الشكل — مثلًا — نجد أننا إذا ألقحنا خنزيرًا أسود من سلالة سوداء خالصة «من خنازير الهند» بخنزيرة بيضاء من سلالة خالصة، كان الجيل الأول أسود هجينا؛ لأن صفة السواد هي الغالبة، فإذا لاقحنا بين أفراد هذا الجيل الأول ظهر النتاج هكذا في الجبل الثاني: واحد أسود خالص، إذا تلاقح مع السود لم ينسل أبيض، وواحد أبيض خالص إذا تلاقح مع البيض لم ينسل أسود، ثم اثنان هجان «في الوسط» ينسلان كما أنسل الجيل الأول)

ولا شك في أن تقوية العقل وتنقية العواطف وصحة الجسم من الصفات التي سيتجه إليها نظر المربِّين للإنسان، ويمكننا أن ننظر إلى إنسان المستقبل بعين الخيال، فنجد أضخم ما فيه رأسه؛ فهو يقوم على جسمه كالبلُّون الكبير فوق عنق قصير ضخم وأكتاف قوية، أما الجسم فيكون قصيرًا ضامر البطن نحيف الأطراف، وستزول من القدمين أصابعهما كما زالت من بعض القردة (الأورانج أوتان) أظافرها.

أما من حيث العواطف، فإنسان المستقبل سيختلف عنا اختلافًا كبيرًا؛ لأن الغرائز ستضعف فيه إلى حد الانعدام تقريبًا، فهو لن يعرف الحب أو الغضب أو الخوف؛ إذ هو سيتناسل عن عقل لا عن غريزة.

أما الغضب والحقد والخوف والغيظ فهي صفات صائرة إلى الزوال القريب؛ لأنه لن يعود لها فائدة في المستقبل؛ فقد كانت هذه الصفات تنفعنا في الماضي في حياة الغابة، فكان الخوف إنذارًا للفرار، وكان الغيظ يحرك فينا الرغبة في التغلب على خصمنا، وكان الغضب يخيفه ويرده عن أذانا.
figure
(تمثال آدم كما تخيله المثَّال أبستين الأمريكي)

وستقتصر هموم إنسان المستقبل على درس هذا الكون والتملي بجماله واكتشاف مجاهله، ومن يدري لعله يفتح فتحًا جديدًا في أحد العوالم الأخرى، أو لعله يعرف لغة يتخاطب بها أفراده وهم سكوت بلا حاجة إلى ألفاظ، بل بلا حاجة إلى اقتراب الأشخاص. وكل هذا خيال، ولكنه خيال يُستضاء فيه بالتطور الماضي والأحوال الحاضرة؛ فمن التطور نعرف أن بعض الحواس الخمس ارتقى في الإنسان أكثر من ارتقائه في أي حيوان.

مثال ذلك: الذوق والنظر، فبعض الطيور أبعد نظرًا منا، ولكن نظرها غير دقيق؛ لأنها تنظر بعين واحدة ولا تجمع نظر العينين إلى جهة واحدة، ثم هي سيئة الذوق. ونحن أضعف من بعض الحيوان في حاستي السمع والشم، بل في حاسة اللمس أيضًا، وهذه الحواس الثلاث الأخيرة تخدم الغريزة أكثر مما تخدم العقل؛ ولذلك فالأغلب أنها صائرة إلى الزوال في الإنسان الذي سيكون جُلُّ اعتماده في المستقبل على النظر، إلا إذا ارتقت فيه الحاسة الموسيقية فارتقى لذلك سمعه، على نحو ما حدث بين الطيور.

ثم ليس يبعد أن تنشأ حواس أخرى؛ كالإحساس عن بعد مثلًا، وهو ما يدَّعيه بعض الناس الآن؛ فقد تكون هذه الدعوى صحيحة، وهي إذا كانت صحيحة فإنها تنشأ في أفراد قلائل، ثم تعمُّ بين البشر على نحو ما نرى أناسًا يولدون الآن وليس في أقدامهم أظافر.

وقد قلنا إن الحضارة تعيق تطور جسم الإنسان وعقله بعض الإعاقة؛ فالرجل السيئ الذاكرة يتذكر الأشياء بكتابتها في دفتر، والرجل الضعيف النظر يمكنه أن يقوِّيه بالنظارة، وكلاهما ينسل وينشر نقيصته في النوع البشري، في حين أن الحدأة السيئة البصر تموت جوعًا، والغزال البطيء في عدوه لا يستطيع البقاء أمام الوحوش التي حوله.

ولكن الناس في المستقبل سيعمدون — كما قلنا أيضًا — إلى القصد في التناسل، فلن يكون التناسل حقًّا مشروعًا لكل إنسان، بل يقصر على ذوي الكفايات الجسمية والخلقية والذهنية، وهناك في عصرنا أمم كثيرة تعمد إلى تعقيم الناقصين في الكفايات حتى لا يتناسلوا، وإن كان هذا التعقيم لا يحول دون الزواج؛ ولذلك لا خوف على الإنسان من الحضارة، فإن فيها الداء والدواء معًا.

ونستطيع أن نبصر في إنسان المستقبل، بعد نحو مئة ألف سنة أو أقل، هذه الصفات التالية:
  • (١)

    دماغ كبير يترجح تجويفه بين ١٨٠٠ و٢٠٠٠ سنتيمتر مكعب، وهو الآن في المتوسط نحو ١٤٥٠ س. م في المتوسط، وسيصل الإنسان إلى هذه الحال بانتخاب صناعي تُعنى به المجتمعات البشرية القادمة؛ لأن زيادة الدماغ تعني زيادة الذكاء، وأكبر ما يعمل لزيادة الذكاء وتكبير الدماغ هو زيادة المعارف البشرية التي ستتطلب زيادة في خلايا الدماغ.

  • (٢)

    سيتسع حوض المرأة ويزداد كفلاها بذلك حجمًا؛ كي يمر الجنين (بعد زيادة رأسه) دون عائق من ضيق الحوض.

  • (٣)

    زوال أصابع القدمين باشتباكها واكتسائها باللحم؛ لأنه لم تعد لنا أية منفعة منها، وهذا بالطبع بعد زوال الأظافر الذي ابتدأ منذ الآن.

    figure
    (إنسان المستقبل = رأس ضخم، وزيادة في قوة النظر وحدته، مع ضعف أو زوال الحواس الأخرى، وقامة قصيرة، وجسم أملط متكتل قوي الفقار لحمل الرأس الضخم)
  • (٤)

    صغر الفكين، وزوال ضرس العقل، واندغام بعض الأسنان الأمامية مع صغر حجمها؛ لأننا لن نحتاج إلا إلى أقل المضغ.

  • (٥)

    يزيد النقص في حواس الشم والسمع واللمس إلى ما يقارب الزوال، بل إن الشم قد أوشك أن يزول منا، ولكن النظر يزداد قوة ودقة، وقد يبقى السمع حاسة أنيقة لنفهم النغم واللحن.

  • (٦)

    يضمر البطن، وربما تزول المعدة والقولون؛ (أي المِعى الكبير) ويبقى المعي الصغير فقط للهضم؛ لأننا لن نحتاج إلى خزن الطعام أو نفايته؛ وكذلك سنقنع من الطعام بالحجم الصغير والغذاء المركَّز.

  • (٧)

    سيزول الشعر عن أجسامنا بما في ذلك الرأس والوجه، فيصبح وجه الرجل أملط كوجه المرأة، وكذلك جسمه، بل كذلك رأس المرأة سيخلو من الشعر، والصلع عندنا هو بداية الخطة التطورية التي ستنتهي بالملط التام.

  • (٨)

    ستقصر القامة وتزداد فقرات العنق والظهر متانة، وكذلك عظام الصدر والكتفين؛ لكي تحمل الرأس الكبير.

  • (٩)

    ربما يكون التفاهم بين الأشخاص بلغة تلقائية غير منطوقة في الأكثر إلى جنب اللغة المنطوقة في الأقل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤