تطور العالم

لم يأت الوقت بعد لإيضاح كيفية تطور المادة، أما إنها تتطور فهذا ما لا يشك فيه أحد من العلماء الآن، وكفى دليلًا على ذلك ما ثبت من أن العناصر تتحول.

وقد قرر «جوستاف لوبون» بالتجربة أن المادة تفني، أي تعود أثيرًا غير محسوس.

ولكن ليس أحد يمكنه الآن أن يجزم في شيء عن أصل المادة ونهايتها.

والشك أيضًا لا يزال قائمًا عن هذا الكون، هل هو متناه أو غير متناه، وهل مصيره إلى البرودة والجمود والسكون، أو هل قانون التطور لا يزال يشمل عوالمه فيحدث فيها التجديد الدائم بحيث تبقى على الدوام في تفاعل لا يحدث الانحلال في مكان حتى يحدث التكون في مكان آخر. كذلك لسنا نعرف هل المجموعة الشمسية التي تحتوي أرضنا تكونت في الأصل من السديم أو من النيازك. وما هي دلالة البقع التي تظهر على وجه الشمس.
figure
(بُقع في الشمس)

فهذا كله موضوع خلاف أو بالأحرى دراسة بين العلماء للآن. ولذلك خير لنا أن نقفز قفزة كبيرة فنترك موضوع تطور المادة كله إلى أصل الأرض وكيفية تكونها حتى صارت إلى شكلها الحاضر.

فالأرض كانت في رأي العلماء قطعة متصلة بأحد النجوم أو جزءًا منها. يدلك على ذلك أن جميع العناصر الموجودة بالنجوم موجودة كلها بالأرض. وهذا يمكن إثباته بتحليل الطيف الشمسي لضوء النجوم، فإن مواد النجوم ما هو في حال غازية. فإذا قطعنا هذا الضوء (أي شعاعة منه) بمنشور من البلور تحلل الضوء إلى جملة ألوان ولكل غاز طيف خاص. وقد أمكن بذلك أن نعرف المواد المؤلفة منها النجوم ونتحقق من أنها هي نفس المواد المؤلفة منها الأرض، بل حدث مرة أننا عرفنا عنصرًا يدعى الهيلوم، وهو الغاز الخفيف الذي تملأ به البلونات الطائرة في الشمس، قبل أن نهتدي إلى وجوده في الأرض.

والمتفق عليه بين معظم العلماء أن الأرض كانت كتلة ملتهبة، ثم بردت رويدًا فصارت غازاتها سوائل، ثم جمد بعضها.
figure
(سديم يُظن أنه أصل النجوم والكواكب)

ومن المعقول في هذه الحال أن تتجه أثقل المواد إلى المركز ويبقى أخفها على السطح. وإذا كان بخار الماء قد برد حتى صار سائلًا وملأ محيطات العالم كما نراها الآن فإنما يكون قد حدث هذا رويدًا. وكانت البحار في البدء عذبة لأنها تكونت من الأمطار.

ولكن لما تقادم العهد وصارت الأمطار تقع على اليابسة ثم تنحدر منها أنهارًا إلى البحر، أخذت هذه الأنهار تكتسح أملاح اليابسة وتنزل بها إلى البحار، ثم تعود مياه البحار إلى التبخر فيبقى الملح بها وتزداد كميته بذلك عامًا بعد عام.

ومما يدل على ذلك أن البحيرات المنقطعة أو التي يقل نزول المطر فيها مثل البحر الميت في فلسطين، والبحر الأحمر شرق مصر، أكثر ملوحة من المحيطات الكبيرة، فالماء يتبخر من هذين البحرين كثيرًا لوقوعهما في منطقة دافئة، ويقل نزول المطر فيهما فتقل عذوبتهما.

وليست أرضنا مستوية السطح إذ فيها نتوءات نسميها جبالًا في بعض الأمكنة، وفيها غئورات في أمكنة أخرى نسميها محيطات. ولكن الجبال والبحار إذا قسناها إلى حجم الأرض لم تكن إلا بمثابة خدوش بسيطة لا يحسب لها حساب.

وأهم عامل في انحدار المياه إلى المحيطات وسبب ملوحتها هو الجبال. فما هو أصل الجبال؟

في الأرض الآن عدة براكين خامدة تدل على أن حرارة باطن الأرض كانت في الزمن القديم أشد مما هي الآن. وبدهي أن مثل هذه الحرارة كانت كثيرًا ما تحدث نتوءًا أو غئورًا في قشرة الأرض التي كانت تتقلص وتتمدد.

ولكن السبب الأهم الذي يعزي إليه الآن ارتفاع الجبال وتكونها هو الأنهار. وهي أيضًا سبب العصور الجليدية التي تناوبت العالم جملة مرارًا.

وكيفية ذلك أن الأمطار إذا وقعت على اليابسة حملت معها ما تذيبه من جوامد اليابسة، وشقت لها طريقًا فيها حتى تصل إلى البحر فتنصب فيه. فإذا توالى هذا جملة ملايين من السنين ثقل قعر البحر الذي انصبت فيه هذه المياه.

فإذا لم يستطع قعر البحر أن يحتمل ما عليه من تراكم هذه المواد التي حملتها إليه الأنهار غار إلى تحت، وهو في غئوره يدفع باطن اليابسة إلى النتوء، فتبرز الجبال، على نحو ما يحدث إذا صنعنا كرة من العجين، إذا ضغطنا جزءًا منها فغار نتأ جزء آخر يجاوره.

والجبال الحاضرة يدل بعضها على أنها كانت يومًا ما مغمورة بماء البحر، بدليل ما يوجد فيها من متحجرات الأحياء مثل المحار التي لا تعيش إلا في المياه الملحة، ومع أن المقطم، شرق القاهرة، لا يكاد يعد جبلًا، فإنه على كل حال يرتفع على سطح البحر بنحو ٤٠٠ متر. ولكنه مع ارتفاعه هذا يحوي أحافير متحجرة من المحار الذي يدل على أنه كان في عصر قديم جزءًا من البحر.

فالأنهار هي أصل الجبال، والجبال هي أصل العصور الجليدية، وهي علة اختلاف مناخ البلدان في الأزمنة القديمة.

وكيفية ذلك أن الجبل إذا ارتفع بلغ طبقة رفيقة من الهواء؛ فتتشعع منه حرارة الشمس؛ ولهذا نجد الحر في السهول ونجد البرد، بل الثلج أحيانًا، في الجبال؛ لأن الهواء إذا تكاثف في السهول صار بمثابة الغطاء واللحاف، فيحفظ بذلك الحرارة أما إذا رق على الجبال فليس هناك ما يمسك الحرارة.

فإذا امتلأت البحار بما تحمله إليها الأنهار غارت قعورها فنتأت عندئذ الجبال، فإذا سقطت على هذه الجبال الأمطار جمدت وصارت ثلجًا، ثم يأخذ الثلج في الانحدار على الجبال ويذهب أيضًا إلى البحر حاملًا معه شيئًا كثيرًا من اليابسة. والجبال تتآكل وتتحات بانحدار الثلج، حتى تذهب قممها، فلا تجمد الأمطار عليها؛ لأنها غير مرتفعة، وهنا تأخذ السيول في جرف الجبال فيزيد تحاتها ويسرع هذا في إثقال قعور البحار.

وارتفاع الجبال وتحاتها كلاهما يؤدي إلى تغير المناخ وإلى زيادة مياه البحار أو نقصها. فإذا كانت الجبال مرتفعة حدث ما يسمى «عصرًا جليديًّا» فتشتد البرودة وتنقص مياه البحار؛ لأن المطر الذي تتكون سحبه من بخار مياه المحيطات يقع على هذه الجبال فيجمد ولا ينزل إلى البحر إلا ببطء. ففي العصر الجليدي الأخير مثلًا كانت مياه البحر المتوسط قليلة حتى إن أوروبا كانت متصلة بإفريقيا في عدة أمكنة. وكانت إنجلترا متصلة بأوربا وكانت آسيا متصلة بشمال أمريكا.

وكان مناخ مصر أبرد مما هو الآن؛ لأن عصر الجليد في أوروبا كان عصر الأمطار في مصر. وكان جبل المقطم، وهو قاحل الآن، حافلًا بالحيوان والنبات مما لا نزال نجد متحجراتهما للآن.

وقد انتاب العالم حسب تحقيق العلماء الآن خمسة عصور جليدية كانت سببًا في إبادة أنواع عديدة من الحيوان والنبات ومنشأ أنواع أخرى.

ومن ذلك يتبين للقارئ أن جبالنا الراهنة لن تعيش إلى الأبد فإنها ستتآكل وتتحات من سيلان الماء عليها، ثم يثقل قعر البحر فيسيخ ويغور وتظهر جبال جديدة في أمكنة أخرى.

وكذلك شكل قارات العالم لم يكن كما هو الآن. وظاهر من غربي أوروبا وأفريقيا ومطابقته لشرقي أمريكا الشمالية والجنوبية أن قارة أمريكا كلها كانت جزءًا متصلًا بأوربا وإفريقيا. وأدنى تأمل لخارطة العالم يبين هذا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤