نشأة الحياة الأولى

رأى العلماء أن الأرض كانت قطعة من نار قد انفصلت عن الشمس ثم أخذت تبرد، وأول ما يبرد منها هو — بالطبع — قشرتها لإشعاع الحرارة منها.

وبدهي أن أول ما يبرد من الأرض بعد ذلك هما القطبان، والقطب الجنوبي منفصل من سائر اليابسة بالبحار، فمن المعقول أنه إذا كانت الحياة الراهنة قد نشأت على الأرض ولم تأت إليها من كوكب آخر فإن مكان نشوئها هو القطب الشمالي؛ وذلك لأنه متصل بسائر اليابسة في العالم؛ فالأحياء تجد فيه متسعًا ومنه طريقًا إلى سائر اليابسة.

وليس معنى هذا أنها لم تنشأ في القطب الجنوبي مطلقًا؛ إذا المرجَّح أنها نشأت في القطبين معًا، ولكنها وقفت عن التطور في القطب الجنوبي؛ لإحداق المياه به وطغيانها عليه، أما في القطب الشمالي، فإن المجال كان يسمح بنشوء الحياة وتطورها؛ لاتصاله باليابسة.

ثم أخذت الأحياء تنتشر رويدًا في الجنوب كلما خفت حرارة سطح الأرض وأخذت البرودة النسبية للأحياء بالتكاثر.

والمرجَّح أن الحياة الأولى ظهرت في السواحل؛ حيث يختلط الماء بالطين، وحيث أشعة الشمس تصل إلى قعر الماء.

ولسنا نعرف ماهية الحياة الأولى، فربما كانت أبسط من «الخلية»، ومما يجعل هذا البحث من أصعب الأبحاث أن طبقات الأرض لا تسعفنا بشواهده كما تسعفنا بشواهد أخرى عن الحيوانات والنباتات المنقرضة وتوضح لنا طرق تطورها؛ والسبب في ذلك أن الخلية الأولى كانت من الصغر، ولين المادة الهلامية، بحيث إذا ماتت لم يبقَ لها أثر يشهد على وجودها.

ومما يرجَّح، في النشأة الأولى للحياة، أن النبات سبق الحيوان؛ وذلك لأن النبات يستطيع أن يتغذى من العناصر الجامدة بخلاف الحيوان؛ فهو إما أن يغتذي بنبات وإما بحيوان مثله.

ويمكننا بذلك أن نقول:
  • (١)

    إن الحي الأول كان نباتًا.

  • (٢)

    إنه نشأ في ضحاضح السواحل.

والسبب في أنه نشأ في الضحاضح دون الغمر العميق من البحار أن البحار لم تكن ملحة في الزمن القديم كما هي الآن؛ لأن ملوحة البحار إنما تكونت من انصباب أنهار العالم واكتساحها أملاح اليابسة إليها، والنبات يحتاج إلى الأملاح كي يعيش، وهو يجد هذه الأملاح في طين السواحل، ثم إن النبات يحتاج إلى ضوء الشمس كي يعيش أيضًا، وهو إذا نشأ في قعر المحيط العميق منعت المياه عنه هذا الضوء.

ودليل آخر على أن الأحياء الأولى عاشت دهرًا طويلًا في مياه البحار، أن عناصر مياه البحار لا تزال موجودة في جميع أجسام الأحياء؛ نباتًا كانت أو حيوانًا، وأهم هذه العناصر هو «اليودين»، وثانيها هو ملح الطعام، وكلاهما ضروري لكل حي، وفي ملوحة دمائنا نحن البشر ما يشهد بملوحة البحر التي عاشت فيها الخلية الأولى ثم أسلافنا من الحيوان.

ولا يمكن الآن أن نعرف كيف دبَّت الحياة في الخلية الأولى، وقد مضى زمن كان يحسب فيه الناس أن هناك تشابهًا عظيمًا بين تكوُّن المبلورات؛ كالبرد والثلج والألماس، وبين تكوُّن الحياة، ولكن الفرق عظيم بين الاثنين؛ فالتبلور يحدث بالإضافة الخارجية، أما الحي فينمو بالتمثيل الداخلي؛ أي إنه يحتوي على مادة جامدة أو حية ثم يهضمها ويجعلها مثله.

فدبيب الحياة الأولى في الجماد لا يزال سرًّا، وإنما المقرر المعروف أنه ليس في الحي عنصر أو مركب لا نجده خارجه في الجماد؛ فالجسم الحي مؤلف من الكربون والنيتروجين والأكسجين والهيدروجين والكبريت وجملة أملاح أخرى، وبعض المركبات التي يصنعها الجسم الحي؛ مثل النشا والبول والكئول، يمكن صنعها الآن في المعامل الكيمائية.

إلا إننا إذا جمعنا المواد المؤلَّف منها الحي لما أمكننا مع ذلك أن نصنع خلية حية، ولكننا يمكننا مع ذلك أن نلمح شيئًا من طبيعة الحياة من تركيب عناصرها؛ فأهم خاصة في الحياة هي الحركة والنشاط، وأهم خاصة في عنصري النيتروجين والكربون هي أيضًا نوع من الاستعداد للحركة العنيفة؛ لأن هذين العنصرين يُستعملان في المواد الانفجارية؛ مثل البارود والديناميت.

ولا فرق بيننا، ونحن أرقى ما في الأحياء وآخر السلم الذي بلغته الحياة الآن، وبين الخلية البسيطة، ولحسن الحظ لا يزال في العالم أحياء مؤلفة من خلية واحدة مثل الأميبة.

فجسم الأميبة مؤلَّف من العناصر والمركبات المؤلَّف منها جسمنا، وجميع خواص الحياة التي فينا نجدها فيها؛ ففيها الحركة، وفيها الإحساس بالألم؛ إذا وضعنا إلى جانبها حمضًا تراجعت عنه، وفيها التمثيل؛ تقبض على الطعام فتمثله في جسمها، وفيها النمو والتكاثر.
figure
(تكاثر خلية الاميبة، أبسط الأحياء، بالانقسام)

فالحياة الأولى إذا لم تكن قد نشأت بهيئة أبسط من الخلية (وقد فقدنا آثارها)، فهي قد نشأت بهيئة خلية الأميبة الموجودة الآن.

وجميع خواص الحياة موجودة كما قلنا بالأميبة، ولكنها في حال ابتدائية؛ فهي تهضم الطعام بجلدها، وهي تسير عليه؛ أي على هذا الجلد، وليس لها عين، ولكنها تميز الضوء من الظلمة، وليس لها أنف، ولكنها تشم الحمض وتحاول أن تفر منه، وهلم جرًّا.

فالفرق بيننا وبينها أنه قد حدثت فينا أنواع من التخصص في الأعضاء؛ فبدلًا من أن ننظر بجميع جلدنا صرنا نخص جزءًا منه لهذا العمل، وبدلًا من أن نهضم به صرنا نخص المعدة والأمعاء لذلك.

ولكننا عند التأمل نجد أن معدتنا وأمعاءنا هما جزء من جلدنا أيضًا؛ فالأميبا مثل الكرة، ونحن مثل الكعكة، كما يظهر ذلك لدى أقل تأمل؛ وخاصة إذا صرفنا النظر عن الأيدي والأرجل؛ فنحن مجوفون من الوسط، وجلدنا السطحي متصل بجلدنا الداخلي من الفم إلى المخرج.

زد على ذلك أننا نبدأ حياتنا في أرحام أمهاتنا خلية واحدة، تنمو كما تنمو الخلية بفرق واحد، وهو أن الخلية إذا نمت وكبرت انقسمت قسمين، وعاد كل قسم فانقسم قسمين منفصلين، وهلم جرًّا. أما نحن، فالخلية الأولى تنقسم خليتين دون أن تنفصلا، وتعود كل خلية فتنقسم قسمين متصلين، وهلم جرًّا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤