التطور في الدواجن

منذ زمن بعيد عمد الإنسان إلى بعض الحيوان فاستأنسه ثم دَجَنه، وربما كان الأصل في الاستئناس ثم التآلف والتدجين، أن الإنسان كان يصيد بعض الوحوش، فإذا قتل أنثى الوحش أخذ صغارها فتكون لهوًا للأطفال وللنساء، ثم تشبُّ فتألفه وتصير من الدواجن.

وقد دجن الإنسان طائفة من النبات، ودواجن النبات والحيوان جميعها شاهد من شواهد التطور التي لا تُنكر؛ فهذه الحيوانات المدجنة لو عادت الآن إلى الحال الوحشية لانقرضت في جملة أسابيع؛ لأنها قد اختلفت عما كانت عليه قديمًا، وفقدت آلات دفاعها، وتغيَّرت بعض وظائف أجسامها حتى صار تركيب جسمها يخالف مصلحتها ويناقض الغرض من نشوئها القديم.

فإذا نحن أطلقنا دجاجنا في غابة لما أطاق الحياة أسبوعًا كاملًا، ولو أطلقنا نعاجنا في برية لأكلتها السباع في أقل من شهر، بل نحن لو أهملنا زراعة النباتات المدجنة وحياطتها بصنوف العناية لماتت في جملة أعوام؛ لاعتداء الأعشاب البرية عليها وأخذها مكانها دونها.

وقد كانت هذه الدواجن، من النبات والحيوان، قادرة على الدفاع عن نفسها قبل أن تدجن، ولكنها بعد أن دجنت صار الإنسان عاملًا جديدًا في تطورها، فلم يعمل لمصلحتها هي باعتبارها من الأحياء، بل نظر إلى مصلحته هو، وقصر وظيفتها على خدمته، فإذا رفع عنها عنايته زالت من الوجود؛ وسبب ذلك أن الأحياء في حالتها الوحشية ينازع بعضها بعضًا في البقاء والتناسل، فتقوى على مدى الزمن، أما الدواجن فليس بينها تنازع للبقاء أو التناسل، إلا ما كان لمصلحة الإنسان الذي يدبر أمورها ويتصرف في أقدارها.

وغايتنا من النظر في الدواجن الآن هو البرهنة على أنها شاهد قوي من شواهد التطور؛ فإن الأصول البرية الوحشية لهذه الدواجن تكاد تكون كلها معروفة؛ ففي الهند لا يزال الدجاج بريًّا يعيش في الغابات، وفي أمريكا لا يزال الدندي يسكن الأحراش والبراري، وحمار الوحش معروف، واليمام البري لا يزال حيًّا، وهو أصل جميع سلالات الحمام التي نعرفها، وقل مثل ذلك في سائر دواجن النبات والحيوان.

ولكن العبرة في هذه الدواجن أنها كثيرة السلالات، كلٌّ منها يمتاز بميزة ما عن سائر السلالات الأخرى؛ فقد يمكننا أن نعد مئة سلالة من الحمام، ومثلها من الكلاب، ومثلها من الدجاج، وإنما كثرت هذه السلالات لأن الإنسان أراد ذلك؛ فقد كان يستحسن صفة ما في عرف الديك، أو دابرته، أو لون ريشه، أو صوته، أو غير ذلك، فيخصُّه باللقاح دون غيره، فتنتشر الصفة المرغوب فيها في فراخه أو في بعضها، فينتقي من هذا البعض تلك الأفراد التي حصلت على أكبر قسط من هذه الصفة فيقصرها على النتاج، ويكرر هذا العمل حتى يحصل من ذلك على الصفة التي يرغب في وجودها، وتنشأ من هذا سلالة جديدة.

ومن هنا صار لدينا من الحمام: المسرول، والمطوق، والقلاب، وحمام الزاجل، وغيرها عدد كبير، وكل هذه السلالات قد نشأت بالانتخاب والتربية من أصل واحد هو اليمام البري.
figure
(اليمام في الوسط وهو أصل جميع سلالات الحمام الموجودة الآن، ومنها الاربع التي حولها)

وعندنا من الخيول ذلك الفرس العربي الضامر، وخيول السباق، وخيول الجر، وخيول شيتلاند التي لا يزيد جرمها على جرم الكلب الكبير.

وعندنا من الخراف الصوفاني والأليان وسواهما، ومن الكلاب، كلاب هولندا الضخمة التي تجر العربات، وكلاب الألب، وكلاب داخشنج الألمانية، والكلاب الصينية السمينة التي تؤكل، وغيرها، وكلها تنتمي إلى أصل واحد، هو السلوقي المصري.

وكذلك الحال في النبات؛ فإن عندنا مئات من سلالات التفاح، وكلها يرجع إلى نوع واحد من التفاح البري، وثمره صغير الحجم حاذق الطعم.

وعندنا من سلالات القطن عشرات تختلف نسيجًا وبذرة ولونًا، وذوو الهمم من المزارعين لا يزالون يوالون البحث عن سلالات جديدة يقصدون منها إلى نعومة الألياف، وطولها، وقصر مدة الإثمار، وضمور البذرة، ونحو ذلك.

وكذلك الحال في الذرة الشامية، فقد كان النبات يومًا ما ينبت على طريقة القمح، له سنبلة تحتوي على ملاقحه من أعضاء الذكورة والأنوثة، ثم انفصلت هذه الملاقح فصارت أعضاء الأنوثة في القنديل، واختصت أعضاء الذكورة بقمة النبات، ودليل ذلك هو ما يحصل من الرِّدَّة أحيانًا، إذ ترد الذرة إلى أصلها فتنشأ لها سنبلة على قمتها، على نحو ما هو حاصل للقمح والذرة العويجة.

وفي الولايات المتحدة، حيث العقول متيقظة، وما هو في عداد المستحيل عند الأمم الأخرى يعد من الممكنات هناك — تمكَّن بوربانك من إيجاد ككتوس (تين شوكي) ليس في أوراقه شوك، يمكن البهائم أن ترعاه، وكل يوم يشتغل المختصون بتربية الحيوان أو النبات أو من يهوون ذلك بإيجاد صفة جديدة فيهما، ويأتي غيرهم فيقوِّي هذه، حتى إذا تقادم الزمن ظهرت سلالة جديدة، وقد فعلت روسيا العجائب هنا.

فكل هذه الأمثلة عن إمكان إيجاد صفات جديدة في الحيوان أو النبات المدجن تدلنا على أن الجسم الحي يقبل التحول والتطور، وما يفعله الإنسان في دواجنه تفعله الطبيعة في نباتها وحيوانها، ولكن الطبيعة تعمل في ملايين السنين؛ فهي لذلك استطاعت أن تُوجِد الأنواع المختلفة، أما الإنسان فلم يعمل إلا في جملة مئات من السنين؛ فهو لذلك لم يستطع سوى إيجاد سلالات فقط، ولعله لو طالت المدة وتقادم الزمن لصارت هذه السلالات المتقاربة أنواعًا مستقلة.

ويجب هنا أن نقول إن الفرق بين السلالة والنوع ليس من التميز الوضوح بحيث يجعل هذا الحيوان أو النبات نوعًا أو سلالة في بعض الأحيان على وجه البتِّ والتقرير؛ فالإنسان — مثلًا — نوع واحد ينقسم إلى سلالات؛ مثل المغول والآريين والزنج الإفريقيين والأمرنديين في أمريكا، ومع ذلك فقد قام حديثًا أحد العلماء يقول إن المغول نوع متميز من الآرى، وليسا سلالتين ترجعان إلى النوع البشري.

وعلامة النوع التي تميزه أنه لا يتلاقح مع نوع آخر، بينما علامة السلالة أنها تتلاقح مع سلالة أخرى، ولكن نوع الكلب يتلاقح مع نوع الذئب، ونوع الفرس يتلاقح مع نوع الحمير؛ فالنوع والسلالة يتداخلان أحيانًا بحيث لا يمكن البتُّ في كل حالة عن حيوانين أو نباتين هل هما نوعان أم سلالتان من نوع واحد.

ومما يجعل محاولة إيجاد نوع جديد على يد الإنسان من الأمور الشاقة أن الحيوانات الداجنة كلها تقريبًا حيوانات عليا لبونة تعيش عمرًا طويلًا، فإيجاد صفة جديدة فيها يحتاج إلى تعاقب مئات الأجيال أبًا عن جد، وهذا يستغرق آلاف السنين.

وليس ينكر أن لدينا أحياء دنيا من ذوات الخلية الواحدة، وأنها تتكاثر في اليوم الواحد أكثر مما نرى من الحيوانات العليا في مئة عام، وقد يظن القارئ لذلك أن محاولة إيجاد نوع جديد منها يكون أسهل من محاولة إيجاد نوع جديد من البقر أو الخيل أو غيرهما، ولكن يجب ألَّا يغيب عن الذهن أن الحيوانات الدنيا بطيئة التطور، أما العليا فسريعته، وهذا ظاهر من اختلاف هيئات الأفراد في الأحياء العليا، واتفاقها أو ما يشبه اتفاقها في الحيوانات الدنيا.

وطبقات قشرة الأرض تدل على أن تطور الأحياء الدنيا قد استغرق وقتًا طويلًا جدًّا، أضعاف ما استغرقه تطور الأحياء العليا، فنحن في رغبتنا في إيجاد أنواع جديدة أمام صعوبتين: الأولى: أن الأحياء الدنيا وإن كانت سريعة التكاثر فهي بطيئة التطور، والثانية: أن الأحياء العليا وإن كانت سريعة التطور فهي بطيئة التناسل.

وحَسْبُنا السلالات العديدة التي أوجدها وما زال يوجدها الإنسان من الحيوان والنبات، فهي شاهد على أن الحياة تقبل التحول والتطور؛ فما فعلناه نحن في آلاف السنين قد فعلت الطبيعة أضعافه في ملايين السنين، ولذلك استطاعت أن تُوجِد الأنواع، بينما نحن لم نستطع سوى إيجاد السلالات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤