مقدمة: ما الإنسانوية؟

حملت كلمة «إنسانوية» — ولا تزال تحمل — مجموعةً شتَّى من المعاني؛ فهي تشير في معناها الرحب إلى منظومة فكرية تُعتبر فيها القيم والاهتمامات والكرامة الإنسانية ذات أهمية خاصة. وبهذا المعنى، ربما يصبح تقريبًا كلُّ شخص منا إنسانويًّا (حتى الدينيون).

إلا أن المنضمين إلى لواء «الإنسانوية» اليوم، ولا سيما في المملكة المتحدة، عادة ما يَقصدون شيئًا أكثر تحديدًا؛ فهم لديهم رؤيةٌ للعالم من نوع خاص لا يقبلها الجميع بالتأكيد، وتلك الرؤية هي محور هذا الكتاب.

فما الذي يميز الرؤية الإنسانوية إذن؟ من الصعب أن نكون محدَّدين جدًّا في هذا الشأن؛ فحدود المفهوم مطاطة، لكني أعتقد أن أغلب الإنسانويين سيتفقون على الأرجح على شيء من قبيل التوصيف السباعي المختصر التالي (مع عدم وجود ترتيب معين للنقاط الواردة فيه):

أولًا: يؤمن الإنسانويون أن العلم، والعقل بشكل أعمَّ، أداتان مهمتان للغاية يمكننا — ويجب علينا — أن نستخدمهما في كافة مناحي الحياة، ولا ينبغي النظر لأي معتقدات على أنها ممنوعٌ الخوض فيها وغير خاضعة للاستقصاء العقلاني.

ثانيًا: الإنسانويون إما ملحدون وإما على الأقل لا أدريون. إنهم يتشكَّكون في الزعم بوجود إله أو آلهة، وكذلك يتشكَّكون في وجود الملائكة والشياطين وغيرها من مثل هذه الكيانات فوق الطبيعية.

ثالثًا: يؤمن الإنسانويون أن هذه الحياة هي الحياة الوحيدة لنا؛ فلا توجد حياة أخرى تعود فيها أرواحنا إلى أجسادنا بعد موتنا، كما لا توجد جنة أو نار. ولاحظ أن الموقف الإنسانوي المتشكك في وجود آلهة والحياة الآخرة ليس «موقفًا إيمانيًّا» عقائديًّا، بل نتيجة لإخضاعهم هذه المعتقدات للاستقصاء النقدي واكتشاف أنها قاصرة بصورة خطيرة.

رابعًا: تنطوي الإنسانوية على إيمان شديد بوجود وأهمية القيمة الأخلاقية. كما يؤمن الإنسانويون بأنه ينبغي أن نستمدَّ أخلاقَنا عن طريق دراسة الطبيعة الفعلية للبشر وما يساعدهم على الازدهار في هذه الحياة، لا الحياة الآخرة. وينكر الإنسانويون المزاعم السلبية على غرار أنه لا يمكن وجود قيمة أخلاقية دون الإله، وأننا لن نكون — أو يستبعد أن نكون — أخيارًا دون الإله أو دون دين يرشدنا. ويقدِّم الإنسانويون حججًا وتبريرات أخلاقية لا تعود للمعتقد أو السلطة الدينية.

خامسًا: يؤكِّد الإنسانويون على استقلالنا الأخلاقي الفردي؛ فمن مسئوليتنا كأفراد أن نُصدر أحكامَنا الأخلاقية الخاصة لا أن نحاول تسليمَ تلك المسئولية إلى سلطة خارجية ما — مثل زعيم سياسي أو عقيدة دينية — لتُصدر تلك الأحكام بالنيابة عنا. يؤيِّد الإنسانويون تبنِّي أشكالٍ من التعليم الأخلاقي تؤكِّد على تلك المسئولية، التي ستزودنا بالمهارات التي سنحتاجها من أجل الاضطلاع بتلك المسئولية كما ينبغي.

سادسًا: يؤمن الإنسانويون أنه يمكن أن يكون لحياتنا معنًى دون أن يَهَبَنَا الإله إياه؛ فهم يفترضون أن حيوات بابلو بيكاسو، وماري كوري، وإرنست شاكلتون، وألبرت أينشتاين — على سبيل المثال — كانت حيوات ثرية ومهمة وذات معنًى؛ سواء وُجد الإله أم لا.

fig1
شكل ١: اختار كلٌّ من الرابطة البريطانية الإنسانية والاتحاد الإنسانوي والأخلاقي الدولي، اللذين يتبعهما الكثير من المنظمات الإنسانوية حول العالم؛ شكلَ الإنسان السعيد ليكون رمزًا لهما.

سابعًا: الإنسانويون علمانيون؛ بمعنى أنهم يفضلون مجتمعًا ديمقراطيًّا مفتوحًا تتخذ فيه الدولة موقفًا حياديًّا فيما يتعلَّق بالدين، وتحمي حريةَ الأفراد في اتِّباع واعتناق، أو رفض ونقد، الأفكار الدينية والإلحادية على حدٍّ سواء. وبينما يعارض الإنسانويون أيَّ محاولةٍ لإجبار الناس على اعتناق أي معتقد ديني، فهم معارضون بالقدر نفسه لإجبار الناس على الإلحاد، كما حدث في ظلِّ حكم أنظمة شمولية معينة.

ثمة عدد من الرؤى الأخرى التي أحيانًا ما ترتبط أيضًا بالإنسانوية ولم أعرضها هنا. فعلى سبيل المثال، لاحِظ أنه لا يجب على الإنسانوي، بوصفه الوارد هنا:
  • أن يكون يوتوبيًّا، مقتنعًا أن استخدام العلم والعقل سيقود حتمًا إلى «عالم جديد بديع» من السلام والرضا.

  • أن يؤمن بأن البشر «وحدهم» هم المهمون، من الناحية الأخلاقية؛ فكثير من الإنسانويين يعتبرون سعادةَ ورفاهيةِ الأنواع الأخرى مهمة أيضًا.

  • أن يكون نفعيًّا، معتقدًا أن تعظيم السعادة وتقليل المعاناة هو كل ما يهم، من الناحية الأخلاقية. وبينما يعتنق بعض الإنسانويين مذهبَ النفعية، وجميعهم تقريبًا يعتقدون أن السعادة والمعاناة مهمتان من الناحية الأخلاقية؛ فليس كل الإنسانويين نفعيين.

  • أن يعتنق أشكال المذهب الطبيعي التي تقول بأن العالم الطبيعي المادي هو الواقع الوحيد الموجود، و/أو أن الحقائق الطبيعية المادية هي الحقائق الوحيدة الموجودة. يعتنق الكثير من الإنسانويين، وربما أغلبيتُهم، شكلًا من أشكال المذهب الطبيعي؛ بل إن بعضهم يعرِّف ضرب «الإنسانوية» الذي يعتنقه على أنه يتضمَّن أفكار المذهب الطبيعي. إلا أن التعريف الأرحب المستخدَم هنا يتيح للإنسانويين نقدَ المذهب الطبيعي إن أرادوا ذلك. صحيح أن الإنسانويين يرفضون الإيمان بالآلهة والملائكة والشياطين وما إلى ذلك، أو على الأقل يتَّخذون موقفًا لا أدريًّا بشأنها، لكن لا يقتضي ذلك اعتناقَهم للمذهب الطبيعي. خذ كمثالٍ عالمَ رياضياتٍ يؤمن أن الرياضيات تصف واقعًا رياضيًّا غير طبيعي (جنة رقمية من نوعٍ ما). إن عالِم الرياضيات هذا يرفض المذهب الطبيعي، لكنَّ ذلك لا يستلزم أنه لا يمكن أن يكون إنسانويًّا. أو خذ كمثالٍ فيلسوفًا يرى أنه أثبت، على سبيل المثال، أن الحقائق الأخلاقية أو الحقائق بشأن ما يدور في عقولنا الواعية، هي حقائق موجودة إلى جانب جميع الحقائق الطبيعية والمادية. مجددًا، لا أرى سببًا يمنع مثلَ هذا الفيلسوف من أن يكون إنسانويًّا. وكَشَفَ مسحٌ حديث عن أنه من المشتغلين بالفلسفة لا يؤمن بالإله سوى ١٤٫٦٪، وأنه دون ٥٠٪ مباشرة منهم يعتنقون المذهبَ الطبيعي. وأرى أنه لا ضرورةَ من التقيد بتعريف ﻟ «الإنسانوية» يستبعد على نحو تلقائي الذين لا يؤمنون بالمذهب الطبيعي أو لا يؤمنون بوجود آلهة.

  • أن يعتنقَ المذهبَ العلميَّ، معتقدًا أن كل سؤال جوهري يمكن من حيث المبدأ أن يجيب العلم عنه. ولنأخذ الأسئلة الأخلاقية مثالًا على ذلك. بإمكان الإنسانويين القبول — وغالبًا ما يقبلون — بأن العلم والعقل وحدهما غير قادرَين على تحديد الصواب أو الخطأ أخلاقيًّا، رغم أن قراراتنا الأخلاقية يمكن أن تُستقى من الاكتشافات العلمية. وقد يفترض الإنسانوي أن هناك أسئلة أخرى — مثل: «لِمَ توجد الأشياء في الأساس؟» — هي أيضًا أسئلة جوهرية لا يستطيع العلم الإجابة عنها. ولا يتشكَّك الإنسانويون إلا في إجابة واحدة بعينها؛ وهي أن الكون مِن صُنع إله واحد أو أكثر.

من أجل تفنيد الإنسانوية كما وصفتها، لا يكفي أن أفند اليوتوبية أو النفعية أو المذهب العلمي أو المذهب الطبيعي. فبإمكان الإنسانوي أن يرفض هذه المذاهب الفلسفية كلها أو أن يظل محايدًا إزاءها.

يُنتقد الإنسانويون أحيانًا لأنهم لا «يؤيدون» أي شيء، وكثيرًا ما يتم تصويرهم على نحوٍ مبالغ فيه في صورة معترضين، تتشكَّل صورتهم بالكامل من خلال ما يرفضونه؛ وهو الإيمان بوجود إله أو آلهة.

لكن لاحِظْ أنه حتى المؤلِّه (المؤمن بوجود إله) يرفض الإيمان بالآلهة العديدة «الأخرى» التي آمن بها الناسُ عبر القرون (مثل آلهة الرومان والإغريق والنورديين وشعوب المايا والمصريين القدماء وما إلى ذلك). ويظل الإنسانوي غيرَ مقتنعٍ بوجود إلهٍ من الأساس.

علاوة على ذلك، لاحِظ أنه، كما أشرنا هنا، تتجاوز الإنسانوية مجرد الإلحاد أو اللاأدرية؛ ومن الواضح أنها «تؤيد» الكثيرَ من الأمور الأخرى.

فعلى سبيل المثال، تؤيد الإنسانويةُ حريةَ الفكر والتعبير ووجودَ مجتمعٍ منفتحٍ، وتؤيِّد أشكالَ التعليم الأخلاقي التي تؤكِّد على استقلالنا الأخلاقي وأهمية التفكير على نحو نقديٍّ ومستقلٍّ. لا يرفض الإنسانويون المناهجَ العقائدية في الإجابة عن الأسئلة الأخلاقية والسياسية والاجتماعية فحسب، بل إنهم يؤيدون بشدةٍ استحداثَ بدائل وضعية، وعقلانية، وفي الأساس أكثر دعمًا للعيش في هذه الحياة وسعيًا لتحسين جودتها.

وأحيانًا ما يوصف الفكر الإنسانوي على نحوٍ مبالَغ فيه؛ على أنه يقوم على مزيج غير متجانس من الأفكار المتباينة غير المترابطة. ولكن مجددًا، هذا غير صحيح؛ فتركيز الإنسانوية مُنْصَبٌّ على «الأسئلة الكبرى»، على سبيل المثال: ماهية الأشياء الحقيقية، وماهية ما يجعل الحياةَ تستحق العيش في الأساس، وماهية الصواب والخطأ أخلاقيًّا والسبب وراء ذلك، وأفضل سبيلٍ لتنظيم مجتمعنا. وفي حين يتناول الدينُ عادةً مثلَ هذه الأسئلة، فإنها بوضوحٍ ليست حِكْرًا على الدين؛ فتلك الأسئلة تنتمي أيضًا للفلسفة، وكان يجري تناولها على نحوٍ عقلانيٍّ لا دينيٍّ قبل ظهور المسيحية. وما يجمع رؤانا السبع المميِّزة للإنسانوية في كيان أشبه بمنظومة فكرية هو؛ أولًا: تركيزها المشترك على «الأسئلة الكبرى»، وثانيًا: وجود درجة من الارتباط المتبادل فيما بينها (على سبيل المثال، إن كنت متشككًا في وجود الآلهة، فسيقودك ذلك إلى التشكك في الزعم بأن الحسَّ الأخلاقي مغروس بداخلنا من قِبَلِ إله)، وثالثًا: الدور المهيمن الذي تلعبه النقطة الأولى؛ يؤمن الإنسانويون بهذه الرؤى حيال «الأسئلة الكبرى»، ليس في صورة «موقف إيماني» مُعتنَق على نحو عقائدي، ولكن لأنهم يعتبرونها بشكل أكبر مواقفَ منطقية يمكن تبنِّيها، وذلك بعد أن أخضعوا البدائل المختلفة للاستقصاء العقلاني.

وفي النهاية، أودُّ أن أتحدَّث عن تعارض الإنسانوية الشديد مع الدين. من الواضح أن كثيرًا من الإنسانويين لا يعتبرون الدينَ زائفًا وحسب، وإنما أيضًا خطرًا، بل يراه بعضهم شرًّا عظيمًا، ولكن ليس جميعهم كذلك؛ فعدد كبير من الدينيين يؤيدون كثيرًا من الرُّؤَى التي وَصفتِ الإنسانويةَ في إطارها، كما أنهم علمانيون، ويقبلون بإمكانية وجود منظومة أخلاق وحياة ذات معنًى حتى في غياب الإله، وكذلك قد يتشاركون مع الإنسانويين في كثيرٍ من أهدافهم. يَسْعد الكثير من الإنسانويين بالعمل مع الأشخاص الدينيين والمؤسسات الدينية لتحقيق تلك الأهداف، وثمة بالطبع دينيون مستعدون للعمل مع الإنسانويين. وفي وقت كتابة هذا الكتاب، تبرَّع المركز البحثي «ثيوس»، التابع لجمعية الكتاب المقدس، لتنفيذ حملة دعائية للرابطة البريطانية الإنسانية تُروِّج لفكرة أن الأطفال ينبغي ألَّا يحملوا دينًا بعينه، بل ينبغي السماح لهم بالنضج بحُرية بحيث يتخذون قرارهم بشأن أيِّ الأديان سيعتنقون، هذا إن اعتنقوا دِينًا من الأديان. بالتأكيد يختلف الإنسانويون والدينيون بشأن قضايا جوهرية معينة، لكن ثمة الكثير الذي يُمْكنهم الاتفاق بشأنه، ولا يوجد سبب بعينه يمنع المنظمات الإنسانوية من إنشاء شراكات تعاوُن بنَّاءة مع نُظرائها الدينية.

يهدف هذا الكتاب إلى تقديم مزيد من الشرح عن الإنسانوية، كما وصفتُها أعلاه، وإلى عرض الحجج المؤيدة لها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤