الفصل الخامس

الإنسانوية والعلمانية

(١) ما العلمانية؟

تنطوي الإنسانوية على اعتناقٍ للعلمانية، لكن أولًا ما العلمانية؟

يُستخدم مصطلح «علماني» بطريقتين مختلفتين على الأقل؛ فأحيانًا، لا يعدو معناه سوى «لا ديني». وغالبًا عندما يصف الناس مجتمعًا من المجتمعات بأنه يصبح «أكثر علمانية»، فهم لا يقصدون سوى أنه يصبح أقل تدينًا.

إلا أن الكلمة لها معنًى آخر على الأقل. عندما يقول الإنسانويون إنهم يريدون «مجتمعًا علمانيًّا»، فعادة ما ينادُون برؤية معينة عن الكيفية التي ينبغي بها تنظيم المجتمع سياسيًّا؛ رؤية حول نوع العلاقة التي ينبغي أن تكون بين الدين والدولة.

المجتمع العلماني، بناءً على ما تقدم، ليس بالضرورة مجتمعًا يوجد به تجسيد قليل أو غير علني للمعتقد الديني؛ فالمجتمع العلماني قد يكون مجتمعًا كلُّ من فيه بالغو التدين، وفيه يجري التعبير عادةً عن الآراء الدينية علانيةً. المجتمع العلماني هو ببساطة مجتمع فيه «الدولة نفسها» تتخذ موقفًا محايدًا فيما يتعلق بالدين؛ فلا تنحاز الدولة إلى أي وجهة نظر معينة دينية أو مناهضة للدين.

الدولة العلمانية، من المنطلق الذي نناقشه الآن، تحمي «حريات» معينة؛ فهي تحمي حرية الأفراد في الاعتقاد، أو عدم الاعتقاد، وفي العبادة، أو عدم العبادة. تدافع الدولة العلمانية عن حق الأفراد في اعتناق دين معين والتعبير عن معتقداتهم الدينية. لكنها أيضًا تحمي حقهم في رفض اعتناق أي دين وكذلك في التعبير عن آراء منتقدة للدين.

وبتوصيف العلمانية على هذا النحو، يتضح الاختلاف الكبير بينها وبين الإلحاد؛ فدولة دينية إسلامية أو مسيحية من الواضح أنها ليست علمانية؛ لأن دينًا واحدًا بعينه يهيمن على الدولة. لكن دولة إلحادية مثل روسيا تحت حكم ستالين أو الصين تحت حكم ماو لا يمكن وصفها بأنها دولة علمانية كذلك.

إذن، المجتمع العلماني هو المجتمع الذي تكون الدولة فيه محايدة دينيًّا، وليس المقصود بذلك أن تكون محايدة حيال كل شيء؛ فهي ليست محايدة بشأن أهمية حماية حريات معينة، لكنها قائمة على مبادئ اتخذت شكلها ووجدت تبريرها بمعزل عن أي اعتقاد مؤيد للدين أو مناهض له؛ مبادئ يجب علينا أن نكون قادرين على اعتناقها سواء كنا دينيين أم لا.

المجتمع العلماني هو المجتمع الذي قد يشعر فيه الدينيون بالقدر نفسه من الاطمئنان الذي يشعر به الإنسانويون. وفي الواقع، إن كثيرًا من الدينيين هم علمانيون سياسيًّا (وفي ذلك أعضاء، على سبيل المثال، في منظمات مثل «إكليزيا» و«مسلمون بريطانيون من أجل ديمقراطية علمانية»). وهم يقدرون الحريات الدينية التي يكفلها المجتمع العلماني.

أحيانًا ما يصف معارضو العلمانية إياها بأنها تمثل الرأي القائل بأن الدولة ينبغي أن تكمم أفواه الدينيين، ولا تسمح لهم بالتعبير عن وجهات نظرهم الدينية علانية. لكن هذا من شأنه أن يكون تصويرًا كاريكاتيريًّا لِما أقصده بالعلمانية، وما يقصده أغلب مؤيديها بالمصطلح. الرابطة البريطانية الإنسانية، على سبيل المثال، تنادي بالعلمانية، لكنها لا تطالب بمنع الأفراد والمنظمات من التعبير العلني عن الآراء الدينية. وفي واقع الأمر، إن العلمانية التي تطالب بها الرابطة البريطانية الإنسانية تحمي حرية التعبير عن مثل تلك الآراء، وهي لا ترفض سوى منح وضع مميز للآراء الدينية.

رغم أن كثيرًا من الغربيين يَعتبرون حريتهم في دعم وجهات نظر دينية معينة أو انتقادها علانية أمرًا مسلَّمًا به، فهذه الحرية في حالات كثيرة لم تكن سهلة المنال، وعبر كثير من دول أوروبا، لم توجد إلا منذ بضع مئات الأعوام فقط؛ فالمجتمع العلماني في الغرب ظاهرة حديثة نسبيًّا.

ومن الجدير بالذكر أيضًا أن دُوَلًا غربية كثيرة «ليست على هذا القدر من العلمانية»؛ فالدولة البريطانية تكفل بالتأكيد الحرية الدينية، إلا أنها تعطي دينًا واحدًا — كنيسة إنجلترا — وضعًا مميزًا. فعلى سبيل المثال، تخصص بريطانيا ٢٦ مقعدًا في مجلس اللوردات للأساقفة — جميعهم من الرجال بالطبع — الذين يستطيعون استغلال سلطتهم في محاولة حجب التشريعات التي تتمتع بتأييد شعبي ديمقراطي، مثل مشروع قانون القتل الرحيم. ورأس الدولة، الملك/الملكة، هو أيضًا رأس الكنيسة الوطنية. كما تستخدم الدولة البريطانية الأموال العامة لتمويل المدارس الدينية، وتصرُّ — مع بعض الاستثناءات الطفيفة — على أنه في كل مدرسة تمولها الدولة في إنجلترا وويلز، يجب على كل تلميذ في كل يوم دراسي أن يشترك في شعيرة من شعائر العبادة الجماعية، «ذات محتوًى مسيحي الطابع على نحو كلي أو رئيسي».

(٢) إحدى ميزات المجتمع العلماني

لِمَ الحاجة إلى مجتمعٍ علماني؟ أحد التبريرات الواضحة يتسم بالبراجماتية. نشأت المجتمعات العلمانية بأعداد كبيرة لأن الناس أدركوا أنه ثمة مخاطر في تحالف الدول مع الأديان؛ فتاريخ العديد من الدول الحديثة لطَّخه العنف المتمخِّض عن جماعات دينية متنافسة تتصارع مع بعضها من أجل السيطرة على الدولة: الكاثوليك في مواجهة البروتستانت، والسنَّة في مواجهة الشيعة، والسيخ في مواجهة الهندوس، واليهود في مواجهة المسلمين. لقد أدركوا في النهاية أن الدولة العلمانية توفِّر سبيلًا للحدِّ من هذا النوع من الصراعات، من خلال موافقة جميع الأطراف على العيش في ظل دولة محايدة دينيًّا تحمي حرياتهم كافةً على نحو متساوٍ ولا تحابي أحدًا على حساب الآخر.

(٣) التهديدات التي تواجه الدولة العلمانية

أحد السبل التي يمكن بها أن يبدأ طابع المجتمع العلماني في التآكل هو أن يبدأ الدينيون في الإصرار على أن آراءهم الدينية جديرة بأشكال مؤسساتية خاصة من التمييز أو الاحترام، وثمة خمسة نماذج بريطانية حديثة على هذه المطالبات:
  • يجب أن تنتسب الدولة إلى دين بعينه.

  • يجب على الدولة ألا تسمح بالمسرحيات والمنشورات وما إلى ذلك من المواد التي تتهكَّم على معتقدات دينية معينة، أو تسيء إساءة بالغة على نحوٍ ما لِمَن يعتنقون تلك المعتقدات.

  • يجب على شركات الطيران والمدارس عدم السماح باستمرار قواعد الملبس التي تمنع مضيفي الطيران أو تلاميذ المدارس من ارتداء رموز دينية، إن كان دين الفرد، أو ضميره الديني، يقتضي هذا (وهكذا، في حين أن قواعد الملبس لدى المدارس وشركات الطيران قد تمنع ارتداء الحُلي، يجب أن يكون هناك استثناء للصلبان، على سبيل المثال).

  • يجب على الدولة أن تموِّل المدارس الدينية التي هي على نفس دين الدولة، والتي يُسمح لها بالتمييز ضد كلٍّ من الطلبة والمدرسين على أساس المعتقد الديني.

  • القوانين المانعة للتمييز التي تسري على الجميع ينبغي ألا تطبَّق على العاملين بمؤسسات التبنِّي، على سبيل المثال، الذين هم من الكاثوليك، والذين يُطلب منهم مساعدة الأزواج من المثليين على تبنِّي أطفال.

fig10
شكل ٥-١: مسيحيون يحتجُّون على بث شبكة بي بي سي للمسرحية الموسيقية «جيري سبرنجر».

في بعض الحالات، هذه الامتيازات توجد بالفعل.

يعتقد كثير من الأشخاص أن هذه المطالب مشروعة، حتى إن بعض اللادينيين يؤيدون بعضًا منها على الأقل، لكن هل مثل هذه المطالبات مبررة؟

(٤) تحدٍّ للمناهضين للعلمانية

هب أننا حذفنا كلمة «ديني» من كلٍّ من المطالبات السابقة، وأحللنا كلمة «سياسي» محلها؛ ما مدى معقولية الناتج؟
  • ينبغي أن تنتسب الدولة علانية إلى حزب سياسي بعينه.

  • يجب على الدولة ألا تسمح بالمسرحيات والمنشورات وما إلى ذلك من المواد التي تتهكَّم على معتقدات سياسية معينة، أو تسيء إساءة بالغة على نحوٍ ما لمن يعتنقون تلك المعتقدات.

  • يجب على شركات الطيران والمدارس عدم السماح باستمرار قواعد الملبس التي تمنع مضيفي الطيران أو تلاميذ المدارس من ارتداء رموز سياسية، إن كان حزبُ الفرد السياسيُّ، أو ضميره السياسيُّ، يقتضي هذا (وفي حين أن قواعد الملبس لدى المدارس وشركات الطيران قد تمنع الحُلي، يجب أن يكون هناك استثناء للشارات الحزبية، مثلًا).

  • يجب على الدولة أن تموِّل المدارس المنتسبة إلى أحزاب سياسية والمسموح لها بالتمييز ضد كلٍّ من الطلبة والمدرسين على أساس المعتقد السياسي.

  • القوانين المانعة للتمييز التي تسري على الجميع ينبغي ألا تطبَّق على العاملين بمؤسسات التبني، على سبيل المثال، الذين ينتمون إلى حزب سياسي عنصري والذين يُطلب منهم مساعدة الأزواج المختلطي الأعراق على تبنِّي أطفال.

أغلبنا، وفينا أكثرنا تدينًا، سيرفض المطالبات الخمس كلها، ولسبب وجيه. ثمة أسباب وجيهة وراء أنه يجب على الدولة ألَّا تتحيَّز لحزب سياسي معين، بغض النظر عن مدى سماحة أو نبل مقاصد هذا الحزب. وبالطبع ينبغي السماح لنا بالسخرية من معتقدات الآخرين السياسية والتهكم عليها، بصرف النظر عن الإساءة الناتجة؛ فهذا الحق سمة موجودة في أي ديمقراطية قوية.

لكن التحدي الماثل أمام المؤيدين لنسخ دينية من تلك المطالبات، رغم رفضهم للنسخ السياسية منها، هو تفسير سبب تبرير هذين الموقفين المختلفين من مجموعتَي المطالبات المختلفتَين.

يمكن إذكاء هذا التحدي بملاحظة أن المعتقدات الدينية هي، في أغلب الأحيان، معتقدات سياسية. تأمل مثلًا المعتقدات الدينية المتعلقة بالموقف الأخلاقي من المثليين، ودور المرأة في المجتمع، وأبحاث الخلايا الجذعية، والإجهاض، والجهاد، ودولة إسرائيل، ومسئولياتنا الأخلاقية والمالية تجاه الفقراء؛ هذه المعتقدات كلها سياسية حتى النخاع. وفي واقع الأمر، المنظمات الدينية غالبًا ما تكون نشطة سياسيًّا، وتشكِّل جماعاتِ ضغطٍ سياسية قوية. إذن، لِم ينبغي أن يستتبع إضافة بُعْدٍ ديني إلى مجموعة من المعتقدات السياسية استحقاق تلك المعتقدات حينها ميزات ممنوحة رسميًّا لم تكن لتحصل عليها بوضع آخر؟

(٥) ردود على التحدي

كيف يمكن أن يرد مَن يعتقدون بأن الدولة ينبغي أن تنتسب إلى دين وأن تموِّل المدارس المنتسبة إلى هذا الدين وما إلى ذلك على هذا التحدي؟ إن كانوا يَنشدون ألا يُتهموا بالتحيز غير المبرر، فعليهم إيجاد اختلاف بين المعتقدات الدينية وغيرها من المعتقدات يبرر تمييز المعتقدات الدينية. دعونا نُلْقِ نظرةً على أربعة اختلافات قد يُفترض أنها تقدم هذا التبرير.

أول الاختلافات بين المعتقدات الدينية والمعتقدات السياسية الأخرى هو أن المعتقدات الدينية تنطوي عادةً على إشارة إلى «فاعل أو فاعلين فوق طبيعيين» (الجاينية والبوذية استثناءان لهذه القاعدة). إلا أن هذا بالتأكيد لا يفسِّر السبب وراء أنه لا ينبغي، على سبيل المثال، السخرية من المعتقدات الدينية. فبعض الناس يؤمنون بكيانات فوق طبيعية أخرى مثل الأشباح والجنيات، إلا أننا لا نفترض أن الدولة ينبغي أن تتدخل لمنع التهكم على تلك المعتقدات.

ثاني اختلاف يفترض البعض أنه يبرر ضرورة تعامل الدولة مع المعتقدات الدينية معاملة مختلفة هو أن المعتقدات الدينية غالبًا ما تكون «معتنقة بحماس وعاطفة شديدين». في الواقع، الناس مستعدون للموت في سبيل معتقداتهم الدينية. هل يفسر هذا السبب وراء أن هذه المعتقدات ينبغي أن تُمنح مكانة خاصة؟ بإلقاء نظرة عن كثب على الأمر، يسقط هذا التبرير أيضًا. فالمعتقدات السياسية اللادينية يمكن اعتناقها بالدرجة نفسها من الحماس والعاطفة. كما أن الناس مستعدون للموت للذَّود عنها، وهذا أمر واقع بالنسبة إلى كثير من الشيوعيين مثلًا. إذن، هل ينبغي أن تموِّل الدولة المدارس الشيوعية التي تمارس التمييز ضد غير الشيوعيين؟ وهل يجب على الدولة أن تمنع السخرية من المعتقدات الشيوعية؟ بالتأكيد لا.

ثالث اختلاف يفترض البعض أنه يبرر تعامل الدولة مع المعتقدات الدينية معاملة مختلفة هو أن المعتقدات الدينية كثيرًا ما تشكِّل جزءًا من «هُوية» الشخص على نحو لا تقوم به المعتقدات الأخرى، وفيها معتقداته السياسية. يُعرِّف الناس أنفُسَهم على أنهم مثلًا مسيحيون أو مسلمون أو يهود أو هندوس، وغالبًا ما يشعرون بتقارب قوي مع أبناء دينهم الآخرين كثيرًا ما يسمو فوق أي اختلافات في العِرق والجنسية وما إلى ذلك (بالطبع هذا غير صحيح بالنسبة إلى كل الأديان، لكنه صحيح بالنسبة إلى بعضها). وفي المقابل، إن العضوية في الحركات أو الأحزاب السياسية نادرًا ما تكون جزءًا مهمًّا من إحساس المرء بِهُويته الأساسية على النحو نفسه بأي درجة (إلا أنها في ظل أنظمة شمولية معينة قد تكون كذلك).

لا شك في أن شخصًا تربَّى على حضور الشعائر الدينية بانتظام، ويسافر كي يؤدي الحج في أماكن أخرى، ويتخطَّى مجتمعه الدينيُّ الحدودَ الوطنيةَ، وتعكس ملابسه و/أو حُليُّه التزامه العميق بدينه، ويقتطع من وقته كلَّ يوم للقراءة في الموضوعات المرتبطة به، ويحفل منزله بالمعلقات ذات الصلة من أيقونات وصور، وربما يحمل جسمه علامات دائمة تدل على عبادته؛ هو شخص أصبح هذا الالتزام بالنسبة إليه جزءًا لا يتجزأ من إحساسه بِهُويته الأساسية. لكن هل هذا البعد العميق المشكِّل للهوية يبرِّر منحَ الدولة معاملة خاصة؟ بالطبع لا، فإن كانوا مشجعين متعصبين لنادي مانشستر يونايتد، فإن كثيرًا منهم ستنطبق عليه المعايير أعلاه. ومرة أخرى، لِم ينبغي معاملة الالتزام الديني معاملة مختلفة؟

إن بعض المتدينين يكونون ملتزمين الْتزامًا شديدًا بدينهم، بحيث يصبح جزءًا من إحساسهم بِهُويتهم، لدرجة أنه من المحتمل أنهم يحملون تعرُّض هذا الدين للنقد أو التهكم على محمل شخصي جدًّا؛ ونتيجة لذلك، قد تثور ثورتهم، بل ربما يقومون بأعمال عنيفة.

ومن ثَم، يجب على منتقدي المعتقد الديني أن يتوخَّوا الحذرَ حيال القالب الذي يصوغون فيه نقدهم. ويجب عليهم ألا يشغلوا أنفسهم بتهكم أو هجوم لا طائل كليًّا من ورائه والهدف الوحيد منه هو مضايقة المتدينين المتحمسين. ومع وضع النتائج المتوقعة لهذا الفعل في الاعتبار، فهو يعد فعلًا غير مسئول على نحو واضح.

ولكن هذا لا يستتبع أن تكون الدولة نفسها مبررة في تجريم نقد المعتقد الديني أو التهكم عليه. فلا يزال النقد — وكذلك التهكم والمحاكاة الساخرة والاستهزاء والهجاء الشديد — مهمًّا. والحقيقة أن السخرية كثيرًا ما يكون الهدف من ورائها هو الإهانة التي لا طائل منها، لكنها قد تتخذ أيضًا شكلًا فنيًّا عظيمًا، يقدم لنا الحقيقة بطرق أخَّاذة ومتبصرة (خذْ على سبيل المثال، أعمال جوناثان سويفت الساخرة).

في كل الأحوال، منْع التهكم بالمعتقدات الدينية على أساس أن من يعتنقونها من المحتمل أن يلجئوا للعنف ردًّا على هذا التهكم في أغلب الظن يشجع الناس على اللجوء للعنف عند الهجوم على معتقداتهم. والمغزى هنا: «لتَثُرْ ثائرتك وتمارسِ العنفَ، وحينها ستمنع الدولةُ الناسَ من التهكم على معتقداتك أيضًا، أيًّا كانت هذه المعتقدات.» وهكذا، سيتم حظر كافة أعمال سويفت الساخرة، اللهم إلا تلك الموجهة إلى معتقدات أشخاص أقل حدة في طباعهم.

والاقتراح الرابع، وأكثرها حنكةً إلى حدٍّ ما بشأن السبب وراء أن الدولة ينبغي أن تمنح المعتقدات الدينية وضعية خاصة، هو أن الحقوق والحريات التي نتمتع بها في المجتمعات الليبرالية الحديثة نَبَعَت، ووجدت مسوغاتها في الأصل، من وجود إطار وقِيَم دينية، وأنه إن لم يوجد دعم مستمر وواضح لهذا الإطار وتلك القِيَم، فستزداد احتمالات تعرض هذه الحقوق والحريات للتهديد. وإليكم، على سبيل المثال، الفيلسوف البريطاني روجر تريج يعبر عن قلقه في هذا الشأن في كتابه «الدين في الحياة العامة»:

كحقيقة تاريخية، نشأت معايير المجتمع الغربي من خلفية مسيحية … والباعث على احترام مختلف المعتقدات، وإعلاء قيمة حرية الفرد، يجب تشجيعه علنًا، وإن كانت الآراء الدينية هي التي أفرزته في الأصل، فسيقفز السؤال: إلى متى سيظل هذا الاحترام دون دعمها الواضح؟

لاحِظ أن هذه صورة أخرى من الاحتكام إلى «رأس المال الأخلاقي» المتناقص، المولَّد دينيًّا، على غرار ما عرضناه في الفصل الرابع، فنحن نعتمد على إرث ديني؛ إرث إن لم يجرِ دعمه، فسينفد في النهاية، مع احتمال أن يكون لذلك عواقب كارثية.

لا يزعم تريج أن كل مجتمع ليبرالي يقتضي دعمًا دينيًّا كي يستمر؛ فهو يزعم زعمًا أبسط مفاده أن تلك المجتمعات الليبرالية التي كان لها أساس ديني في الأصل معرضة للخطر إن فقدت هذا الأساس. ويرى تريج أن هذا سبب وجيه للحفاظ على الأساس الديني. ويضيف:

لِم ينبغي احترام الحرية، والإبقاء على المساواة بين البشر؟ لهذين السؤالين إجابة حاضرة في السياق الديني؛ لأن الإله، كما سيقال، خلقَنا سواسية، ويعتني بنا على نحو متساوٍ، ووهبَنا إرادة حرة كي ننتقي خيارات عقلانية. وبمجرد استبعاد السياق الديني، يمكن أن يبدو وجود الحقوق متقلقلًا.

ويذهب تريج إلى أنه بمجرد أن يُفقد هذا الأساس الديني، فثمة خطر حقيقي في أنَّ المجتمع سينزلق إلى الشمولية. فقط في حالة إدراك الدولة وجود شيء أعلى — شيء يراقب تجاوزها — سيكون ميل الدولة الطبيعي للانزلاق إلى الشمولية تحت السيطرة. يقول تريج في هذا الشأن:

سيرغب كثيرون في رؤية المزيد من إقرار الدولة العلني بسلطة الإله؛ لأن هذا وحده، كما يبدو، قد يعد قيدًا على سلطات المؤسسات البشرية.

بمجرد أن تتنصل الدولة من أي أساس ديني لها، فهي تقر بعدم وجود أي مراقبة على سلطاتها عدا تلك المستعدة للإقرار بها.

وهكذا يبرر تريج تحالف الدول الغربية مع الكنائس المسيحية على أساس أن هذا يوفر وسيلةَ الكبح الضرورية لِمَيل هذه الدول إلى التحول إلى الشمولية؛ وهذا تبرير ذكي! لكن هل يصمد أمام النقد؟ لا أعتقد ذلك.

بادئ ذي بَدء، لا يتضح إطلاقًا وجود دعم من الشواهد التاريخية لزعم تريج أن الدين يعمل كوسيلة لكبح الميل الشمولي للدولة. وأثناء إحدى مراحل حياتي المبكرة، كانت دولة شمولية تجتاح معظم أوروبا. كيف استجابت الكنائس المسيحية للتهديد المتصاعد؟ في كثير من البقاع، رحب أقطاب الكنائس بقدوم النازيين.

صحيح أنه كانت هناك احتجاجات دينية من وقت لآخر على المعاملة المتزايدة الوحشية لليهود، لكن ينبغي النظر في هذه المسألة في مقابل السياق الأكبر الذي شهد تفشي معاداة السامية التي ساعدت الكنائس المسيحية على نشرها.

فعلى سبيل المثال، في عام ١٩٣٦، بعث كبير أساقفة بولندا بخطاب يعترض فيه على العنف ضد اليهود. قد ترى أن هذا أمر محمود دون تحفُّظٍ من جانبه، لكن إليك مقتطفًا من خطابه:

الحقيقة أن اليهودَ يحاربون الكنيسة الكاثوليكية، وهم مُصِرُّون على التفكير الحر، وهم في طليعة دعاة الكفر، والداعمون للبلشفية وإسقاط النظام القائم. والحقيقة أن لليهود تأثيرًا خبيثًا على منظومة الأخلاق، ودُور نَشْرِهم تنشر المواد الإباحية. والحقيقة أن اليهود مخادعون ومرابون وقوَّادون. والحقيقة أن التأثير الديني والأخلاقي لشباب اليهود على الشباب البولندي تأثير سلبي.

هذا الخطاب، الذي كتبه أعلى قامة كاثوليكية في بولندا، قرأه الواعظ بكل كنيسة كاثوليكية بولندية في عام ١٩٣٦. وبينما عارض الخطاب العنف الممارس ضد اليهود، فقد أوضح الازدراء الذي كان يُكنُّه كثير من المسيحيين الأوروبيين لليهود قبل محرقة اليهود.

وانتشرت كذلك معاداة السامية في الكنائس البروتستانتية الألمانية الرئيسية. ففي كتابه «جلَّادو هتلر الطوعيون»، يورد دانيال جولدنهاجن أن أحد إصدارات كنيسة بروتستانتية:

… حسب تعبير مراقب معاصر: «لن نتوقف عن وصف اليهود بمنتهى الحماس بأنهم جسم غريب يجب أن يتخلَّص منه الشعب الألماني، وأنهم خصم خطير يجب أن نشن عليه حربًا لا تبقي ولا تذر.» كان الاختلاف على هذا الرأي نادرًا … ويقول أحد رجال الكنيسة في مذكراته إن معاداة السامية انتشرت في الدوائر الكنسية لدرجة أنه «لم يتجرأ أحد على الاعتراض العلني عليها.»

قال الكاثوليكي كونراد أديناور، أولُ من شغل منصب المستشار بألمانيا بعد الحرب فيما يتعلق بمحرقة اليهود:

أعتقد أنه لو أن الأساقفة جميعهم اتخذوا موقفًا علنيًّا [بمعارضة معاداة السامية] من منبر الوعظ، لأمكن تجنُّب الكثير. لكن لم يحدث ذلك، ولا عذر لهم في ذلك.

لكن ربما كانت ألمانيا النازية استثناءً. ماذا عن الدول الشمولية الأخرى، مثل إيطاليا الفاشية؟ كيف استجابت الكنائس المسيحية لصعود الشمولية هناك؟ كانت الكاثوليكية هي دينَ الدولة الوحيد المعترف به. ماذا عن صعود الفاشية في إسبانيا؟ كيف قاومت الكنيسة الكاثوليكية إطاحة فرانسيسكو فرانكو بالحكومة المنتخبة ديمقراطيًّا؟ لم تقاومها!

لا تتمتع الكنائس المسيحية بسجل تاريخي جيد بخصوص مقاومة الشمولية الأوروبية. وكثيرًا ما ارتضتِ التعاونَ مع أنظمة شمولية، بل وبناء تحالفات معها، وذلك على الأقل حتى بدأت تلك الأنظمة تهدد مصالحها. وبالطبع ثمة استثناء وحيد لاتجاه التقارب الوثيق هذا لدى الكنائس المسيحية مع الدول الشمولية؛ وهو الأنظمة الشيوعية الإلحادية بشرق أوروبا، التي طالما اجتهدت الكنيسة الكاثوليكية من أجل الإطاحة بها.

كما ينبغي أن نتذكر، منذ وقت ليس ببعيد، أن الكنيسة الكاثوليكية نفسها كانت لا تزال تنظم عمليات الإعدام خنقًا التي تنفذها الدولة الإسبانية بحق المواطنين الذين لا يؤمنون بما قالته لهم الكنيسة.

إذن، فالاقتراح القائل بأن انتسابهم للكنائس المسيحية هو أفضل وقاية للدول الأوروبية من الانزلاق إلى الشمولية ليس اقتراحًا مدعومًا جيدًا بالشواهد التاريخية. وفي الواقع، إن التحذير الذي يسوقه التاريخ الأوروبي، إن وجد، هو ضرورة ألا نعتمد على الكنائس لحمايتنا من الشمولية.

(٦) التسليم بشيء أعلى من الدولة

من المهم بالتأكيد التسليم بوجود مبادئ أعلى من الدولة، وأغلبنا، الديني منا واللاديني، يُقرُّ بأن هذا صحيح بشأن المبادئ «الأخلاقية»، وما تفرض الدولة صحته أو خطأه أخلاقيًّا ليس بالضرورة كذلك.

حاليًّا «يمكن» أن تكون أي كنيسة من بين من يقدمون نقدًا أخلاقيًّا للدولة عندما تبدأ في الانزلاق نحو الشمولية. ولا شك في أن التعاون الوثيق مع الدولة قد يزيد من نفوذ وسلطة الكنيسة لتكون بمنزلة كابح لسلطة الدولة. المشكلة هي أنه بمجرد أن تدخل الكنيسة في مثل هذا الاتفاق، ستقل كثيرًا احتمالات تقديم أي نقد كهذا إلى الدولة. وبمجرد أن تدخل الكنيسة والدولة في اتفاق دعم متبادل، سيكون إذن لكلٍّ منهما مصلحة خاصة في حماية نفوذ وسلطة الآخر. وبالتأكيد أغلب الظن أن الكنيسة ستقدم مثل هذا النقد عندما تكون مستقلة حقًّا عن الدولة، وليس متعاونة عن قرب معها.

(٧) ماذا عن أُسسنا الدينية؟

ماذا عن اقتراح تريج بأن قِيَمنا الليبرالية الحديثة لها أساس ديني من دونه يُحتمَل أن تتآكل هذه القيم؟ صحيح أن حرياتنا وحقوقنا السياسية الحديثة غالبًا ما نجد تبريرها في الأصل على نحو ديني، لكن هذا بسبب أنه آنذاك كانت العادة تبرير كل موقف أخلاقي وسياسي على نحو ديني. وكما يوضح واضعو نشرة الرابطة البريطانية الإنسانية التي تحمل عنوان «الحجة المؤيدة للعلمانية»:

كانت المسيحية هي الثقافة المهيمنة؛ ومن ثَمَّ لا غرو أنها قدمت المفردات لطرفي أغلب الانقسامات الأخلاقية والاجتماعية المهمة. فمَن عملوا من أجل إلغاء تجارة العبيد أقاموا حجتهم بِقِيَم مسيحية؛ وكذلك فعل تجار العبيد. وكثير ممن سعوا إلى تحسين ظروف العمل القاسية في المصانع والمناجم استحضروا قِيَمًا مسيحية؛ وكذلك فعل أصحاب المصانع وأصحاب المناجم. والبعض على الأقل ممن نظموا حملاتٍ للوصول إلى مزيد من تكافؤ الفرص، أو من أجل توسيع نطاق حق الانتخاب، أو من أجل تحرير المرأة، أو من أجل وضع حدٍّ للتمييز العنصري استدعَوا قِيَمًا مسيحية، وكذلك فعل مَن دافعوا عمَّا رأوه التراتب الاجتماعي والتفاوت المفروضَين من السماء، وغير القابلَين للتغيير.

وكحقيقة تاريخية، رغم أن قِيَمنا الليبرالية الحديثة دار حولها جدل في الأصل على أسس دينية، فقد قدَّم الفلاسفة الأخلاقيون والسياسيون مجموعةً كاملةً من التبريرات التي يمكن أن نعتمد عليها أيضًا، بما في ذلك التبرير البراجماتي الذي ألقينا عليه الضوء في موضع سابق من الفصل. لا توجد ضرورة لتبرير حقوقنا وحرياتنا على أسس دينية.

بالطبع، قد يُصرُّ منتقدو العلمانية على أن هذه التبريرات اللادينية لا تفي بالغرض، إلا أن التبريرات القائمة على الافتراض بأن الإله كما هو في الديانتين اليهودية والمسيحية موجود تبدو تبريرات أقل منطقية في أعين أغلب المنظِّرين والفلاسفة السياسيين.

كما ينبغي أن نلاحظ أنه في بلد مثل المملكة المتحدة، يوجد عدد كبير ومُتنامٍ من المواطنين — الثلث — غير مستعدين حتى للقول بوجود علاقة ثقافية مع المسيحية؛ فنتيجة إعطائنا قِيَمَنا الأساسية تبريرًا مسيحيًّا بالخصوص هي أنه تزيد، ولا تقل، احتمالات تجاهل أو رفض تلك القِيَم من عدد كبير من المواطنين. وبالتأكيد، إن كنا نريد من «الجميع» اعتناق قِيَم أساسية معينة، مثل حقوق الإنسان، أفلا يكون من الأفضل تقديم تبريرٍ محايدٍ دينيًّا لها؟

خاتمة

يَفترض بعض الدينيين، لكن بالتأكيد ليس كلهم، أنه عندما تأمر شركةُ طيرانٍ أحدَ أفراد طاقمها بعدم ارتداء صليبٍ، أو عندما يُكرَه كاثوليكيٌّ يعمل بمؤسسة تبنِّي على تقديم الخدمة نفسها التي يقدمها للجميع إلى زَوْجَيْنِ من المِثليين، يعد هذا شكلًا من التمييز المجحف بحق أصحاب العقائد الدينية القوية، وأن الدينيين أصبحوا ضحية للظلم، وأننا لا نولي معتقداتهم «الاحترام» الجديرة به.

لكن هذا ليس هو الحال في واقع الأمر؛ ليس إذا كانت شركة الطيران تفرض قواعد ملبس تقتضي حظرًا شاملًا للحُلي، وليس إذا كان العاملون العنصريون بمؤسسة التبني مجبرين على تقديم الخدمة نفسها التي يقدمونها للجميع إلى الأزواج المختلطي الأعراق. لِم يجب على شركة طيران لها قواعدُ ملبسٍ معينة تحظر على العاملين ارتداء الحُلي أن تُجبَر على عمل استثناء للحُلي الدينية؟ وإن لم نسمح للمتعصبين لأسباب لا دينية بالتمييز الظالم ضد الآخرين، فلِم يجب علينا أن نمنح هذا التمييز للمتعصبين لأسباب دينية؟

لقد عرضت أربع إجابات مختلفة عن السؤال: لِم يجب على الدولة منح المعتقدات الدينية أوضاعًا تمييزية لا تبسط نطاقها إلى المعتقدات الأخرى، مثل المعتقدات السياسية (المحضة)؟ ولَم تثبت كفاية أيٍّ من الإجابات. بالطبع يمكن تقديم الكثير من الإجابات الأخرى؛ فهذه الإطلالة مخصصة من أجل توضيح نقطة معينة؛ وهي أنه بينما قد يجد الكثير منا فكرة أن المعتقدات الدينية مستحقة لمعاملة خاصة فكرة بديهية، تفشل العديد من التبريرات التي يمكن تقديمها لتوفير مسوغ لذلك، وما زلت أبحث عن أي تبرير أفضل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤