مقدمة
يُشتَهَر الخيال العلمي بأنه مجال صعب التعريف؛ فقد فُسِّر على وجوه مختلفة؛ تارةً باعتباره مزيجًا من الرومانسية والعلم والتنبؤ (هوجو جيرنسباك)، وتارةً باعتباره «تخمينًا واقعيًّا لأحداث مستقبلية» (روبرت هاينلاين)، وتارةً باعتباره نوعًا أدبيًّا يعتمد على بديل متخيَّل لبيئة القارئ (داركو سوفين). وقد اعتبره البعض نوعًا من الأدب القصصي العجائبي، وسُمِّي أيضًا أدبًا تاريخيًّا. ولكن لن يحاول هذا الكتاب اختزال تلك التفسيرات في تعريف واحد شامل؛ فذلك يُعَدُّ ضربًا من الجنون، بل سأُورِدُ ها هنا بعضًا من الافتراضات الإرشادية التي ستُستخدَم طيلة هذه المقدمة. أولًا، أدَّى تصنيف الخيال العلمي كنوع أدبي إلى إثارة عدد من المشكلات؛ لأن ذلك التصنيف لا يعترف بالطبيعة المختلطة التي تميِّز كثيرًا من أعمال الخيال العلمي؛ ومن ثمَّ سيساعدنا أكثرَ اعتبارُه نمطًا أدبيًّا أو مجالًا تتقاطع فيه أنواع أدبية رئيسية وفرعية مختلفة. في العقود الأولى من القرن العشرين، حاول عدد من الكُتَّاب ربط هذا الأدب القصصي بالعلم، بل واستخدامه كوسيلة لترويج المعرفة العلمية، وهو اتجاه مستمر لوقتنا هذا فيما أصبح معروفًا ﺑ «الخيال العلمي الصارم». لقد نُوقِشَت العلوم التطبيقية — التكنولوجيا — على نطاق أوسع بكثير في الخيال العلمي؛ لأن كل ابتكار تكنولوجي يؤثِّر على بِنْية مجتمعنا وطبيعة سلوكنا. وقد ربط الخيال العلمي التكنولوجيا مرارًا وتكرارًا بالمستقبل، لكن ذلك لا يعني بالضرورة أن قصص الخيال العلمي تحكي عن المستقبل. إن أبسط قراءة لرواية خيال علمي هي التي تستدعي سؤالًا مثل «هل أخطأ آرثر سي كلارك في حُكمه؟»؛ إذ يتمحور الخيال العلمي حول حاضر الكاتِب؛ أيْ إن أيَّ لحظة تاريخية ستتضمن منظومتها الخاصة من التوقعات والميول الملموسة. أما العوالم المستقبلية التي يقدمها الخيال العلمي فهي تجسِّد بُعده التخميني، ومن هذا المنظور يتحوَّل الخيال العلمي إلى «أدب احتمالات؛ ماذا لو؟» حسب تعبير جوانا روس. وقد طبَّق الكاتب والناقد صامويل ديلاني مصطلح «الاحتمالية» على الخيال العلمي بالطريقة نفسها؛ كي يوضح تأرجُح تلك الروايات بين الممكن والمستحيل؛ لذا، فإنه من المفيد النظر إلى قصص الخيال العلمي على أنها تجربة فكرية مجسدة تقتضي تبديل مظاهر واقعنا المألوف أو تعطيلها.
تلك المجادلات الحامية الوطيس حول طبيعة الخيال العلمي عادةً ما يُثيرها كُتَّابه، وهي سِمة قد تُعتبر كذلك من بين السمات المميِّزة لهذا المجال. وتدور تلك المناقشات غالبًا حول وضع الخيال العلمي، وما إذا كان يتكون من أدب قصصي من النوع «الرائج» أو «السائد»، على الرغم من أن تلك المصطلحات قد فَقدت معانيَها بمعدَّل متزايد في ظل التنوع الشديد لأعمال الخيال العلمي المعاصرة المنشورة، أو قد تتركَّز المجادلات على تاريخ الخيال العلمي وإطاره. كذلك شهدت موجة الخيال العلمي النسوي منذ سبعينيات القرن العشرين فصاعدًا تأسيسًا استرجاعيًّا لاتجاهٍ أدَّى إلى ردِّ الاعتبار لكُتَّاب مثل شارلوت بيركينز جيلمان. وقد تكرَّر بين أوساط كُتَّاب الخيال العلمي الزعم بأنهم يحتلُّون على نحو متزايدٍ الموضعَ الذي كان يحتله الأدب الواقعي، وأن قصصهم ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالبيئة التكنولوجية الحديثة وتتصل بها اجتماعيًّا وتتجاوب معها؛ فعلى سبيل المثال، يزعم توماس إم ديش في كتابه «الأحلام التي صُنعت منها متعلقاتنا» (١٩٩٨) — وهو عنوان يتلاعب بكلمات خطبة إريال الشهيرة في مسرحية «العاصفة» — أن الخيال العلمي يتخلل جميع مستويات المجتمع، لا سيما تلك الخاصة بصناعة الترفيه.
لن يكون في مقدوري أن أستعرض في هذه المقدمة القصيرة تاريخ الخيال العلمي، ولستُ بحاجة إلى ذلك، بالنظر إلى عدد الكتب الممتازة التي تعرض هذا التاريخ حاليًّا. عوضًا عن ذلك، سأحاول ربط الأمثلة المنتقاة بلحظاتها التاريخية المختلفة من أجْل توضيح كيف يكون الخيال العلمي دومًا نمطًا متجددًا. ثمة جدل واسع يدور حول زمن بداية الخيال العلمي؛ إذ يزعم بعض المؤرخين أن البداية كانت مع كتاب لوقيان السميساطي «قصة حقيقية» من القرن الثاني بعد الميلاد، والذي يصف رحلة إلى الفضاء وشكلًا من أشكال الحرب بين الكواكب. بينما يزعم مؤرخون آخرون أن نقاط البداية كانت في عصر النهضة مع أعمال مثل «يوتوبيا» لتوماس مور (١٥١٦) و«الرجل الذي على القمر» (١٦٣٨) لفرانسيس جودوين، أو أثناء الثورة الصناعية عندما كتبت ماري شيلي «فرانكنشتاين» (١٨١٨). كما دار — ولا يزال يدور — النقاش حول نقطتَي بداية أُخريين؛ هما أواخر القرن التاسع عشر بدءًا من عام ١٨٧٠ تقريبًا، وأوائل القرن العشرين عندما استُخدِمت لأول مرة تصنيفات مثل «الخيال العلمي». ويخلط الاتجاهُ الأخيرُ بين التصنيفات الوصفية ومجموعة الممارسات السردية التي تستوجب وجود تلك التوصيفات. تثير أصول الخيال العلمي القديمة مشكلات مختلفة تتعلَّق بالممارسة الثقافية، ومن الأفضل اعتبار تلك الأمثلة «خيالًا علميًّا بدائيًّا». أما الأعمال التي تنتمي إلى عصر النهضة أو إلى أوائل القرن التاسع عشر، فيتضح قربها المتزايد من الأساليب التي نعتبرها الآن من خصائص الخيال العلمي ويمكن وصفها بأنها «خيال علمي أوَّلي». لا يعني ذلك إنكار ما تتمتع به تلك الأعمال من أهمية بديهية في تطور الخيال العلمي، لكن من العادات الشائعة لدى المؤرخين الأدبيين والروائيين أنفسهم السعي وراء البدايات ضمن جهودهم الرامية إلى التدليل على الممارسة العامة.
سيركِّز هذا الكتاب على الفرضية التي تذهب إلى أن ما نعتبره الآن خيالًا علميًّا بدأ يظهر في أواخر القرن التاسع عشر مع زيادة مفاجئة وضخمة في روايات اليوتوبيا (المدن الفاضلة) وحروب المستقبل، إلى جانب نماذج من أنواع أدبية أخرى يمكن حشدها تحت مظلَّة الخيال العلمي. وبعيدًا عن انتشار التعليم الذي أسَّس قاعدة تجارية لمجموعة من كُتَّاب الخيال العلمي في بريطانيا، فإن الفترة بين عام ١٨٧٠ تقريبًا حتى الحرب العالمية الأولى شهدت تغيرًا تكنولوجيًّا سريعًا واستثنائيًّا، مع شيوع استخدام الكهرباء للمرة الأولى، وشيوع الطائرات، واختراع الراديو والسينما، فضلًا عن انتشار الصحافة الشعبية. وقد شهدت هذه الفترة كذلك بزوغ دَوْر الولايات المتحدة الأمريكية في المشهد العالمي كقوة إمبريالية، وتنافُسها مع إمبراطوريات أوروبا وآسيا الأقدم. ونلاحظ خلال تلك السنوات انبثاق مجموعة كبيرة من الكتابات ذات اهتمامات وخصائص مميزة، وما زالت تشكِّل سمة من سمات صناعة الثقافة تتميز بوضوح معالمها، وقابلية استخدامها تجاريًّا، وأرباحها الكبيرة في بعض الأحيان. وأصبحت هذه المجموعة من الكتابات تُعرَف باسم الخيال العلمي.
سيلاحِظ القارئ القوي الملاحظة أن جميع الأمثلة التي استخدمتُها حتى الآن — باستثناء مثال لوقيان — بريطانية أو أمريكية؛ إذ يركز هذا الكتاب على الكتابات الإنجليزية، ويتناول أيضًا كُتَّابًا مثل جول فيرن وستانيسواف لِمْ؛ وذلك لأن كتاباتهما انتشرت في الثقافات المتحدثة بالإنجليزية عبر الترجمة. إن هيمنة الولايات المتحدة على مجال الخيال العلمي قد أصبحت حقيقة بديهية، لكننا سنلاحظ عبر هذا الكتاب تكرار ذِكر إتش جي ويلز كإحدى الشخصيات الإنجليزية المؤسِّسة في مسار تطور الخيال العلمي. أما غالبية الأمثلة المنتقاة فمأخوذة من بريطانيا وأمريكا الشمالية.
علينا كذلك الإشارة إلى جانب أخير من جوانب هذا الكتاب؛ وهو أن تصنيف «الخيال العلمي» يشمل في الحقيقة أعمالًا تُعرَض في وسائل إعلامية عدَّة: فيضم مجموعة ضخمة من الأعمال الدرامية والشعر. تأسَّست جمعية شعر الخيال العلمي عام ١٩٧٨. وفي أوْج انتشار المطبوعات الشعبية الرخيصة — وكانت زهيدة السعر وتُطبع على ورق رديء — في عَقْدَي العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين، ظهرت مجلات الخيال العلمي الهزلية في الولايات المتحدة، ثم بدأت متأخرة إلى حدٍّ ما في بريطانيا مع مطبوعات مثل مجلَّة إيجل. تلا ذلك ظهورُ ألعاب الخيال العلمي، وكانت ألعاب الحروب حالة خاصة؛ نظرًا لتاريخها الذي يرجع إلى التدريبات العسكرية في بروسيا أثناء القرن التاسع عشر. لكن منذ ثمانينيات القرن العشرين ازدهرت ألعاب تقمُّص الأدوار التي اعتمدت على أجهزة الكمبيوتر المتاحة حديثًا آنذاك، ومصادر الواقع الافتراضي. وسوف نرى في الفصل الأخير أن أعمال الخيال العلمي منذ سبعينيات القرن العشرين — لا سيما الأفلام — قد أَنتجتْ تشكيلةً كاملةً من الأعمال تحت رخصة مزاولة عامة. ولسوف تركِّز هذه المقدمة في المقام الأول على الأدب المطبوع، إلى جانب السينما، الوسيلةِ الإعلاميةِ اللصيقةِ الصلةِ بالخيال العلمي؛ ففور اختراع الفيلم، بدأت التجارب التي تتناول موضوعات الخيال العلمي مثل فيلم «رحلة إلى القمر» (آ تريب تو ذا مون) الذي أخرجه جورج ميلييس عام ١٩٠٢. وقد سار تطور هاتين الوسيلتين الإعلاميتين — الأدب المطبوع والسينما — في خطوط متوازية، ويتجلَّى ذلك عبْر الكمِّ الكبير من روايات الخيال العلمي التي قُدِّمت في أعمال سينمائية منذ الحرب العالمية الثانية.
ينقسم المبحث التالي إلى ستة أقسام: يتناول القسم الأول الرحلات إلى الفضاء وغيره من العوالم غير المُستكشَفة، تجسِّد هذه الرحلة النطاق التخيُّلي المنفصل عن الواقع لكُتَّاب الخيال العلمي، حيث قد يقابلون كائنات فضائية، وهي موضوع الفصل الثاني؛ وفي ذلك الفصل سنَدْرس مفهوم الكائن الفضائي من كل جوانبه، لا سيما فيما يتعلق بتكوين هويات اجتماعية بديلة؛ ثم نتطرق في الفصل الثالث إلى الدور المعقد الذي تلعبه التكنولوجيا في الخيال العلمي؛ لتَتْبعه في الفصل الرابع مناقشةٌ لروايات اليوتوبيا وروايات الديستوبيا (المدن الفاسدة)، والتي تشكِّل إجمالًا أحد الأنماط الرئيسية في الخيال العلمي؛ أما الفصل الخامس، فيتناول علاقة الخيال العلمي بالزمن الماضي إلى جانب علاقته بالمستقبل؛ بينما يتناول الفصل السادس مجال الخيال العلمي من حيث كونه مجتمعًا من الكُتَّاب والنُّقَّاد الذين يتناقشون باستمرار حول المجال ويعدِّلونه.