الفصل الأول

رحلات إلى الفضاء

إحدى أُولَيَات الصور التي ترتبط لدينا بالخيال العلمي هي سفينة الفضاء، وإحدى أوليات الحبكات التي نتوقَّعها هي الرحلة إلى الفضاء، التي أتاح مداها غير المحدود نطاقًا لخيال الروائيين منفصلًا عن الواقع؛ فمن المنظور التاريخي، توجد صلة طبيعية بين الرحلات البحرية — كما في رواية توماس مور «يوتوبيا» أو «رحلات جَليفر» — ورحلات الفضاء؛ فكلتاهما تُقدَّم في إطار الرحلة، وكلتاهما متسلسلة بطبيعتها؛ لأن الأحداث تقع بين فترات انتقالات طويلة. وبالتأكيد كان استخدام الأجهزة المضادة للجاذبية في كتابات الخيال العلمي الأولى مبرِّرًا جليًّا لإمكانية قطع مسافات شاسعة في الفضاء على جناح السرعة؛ فقد استخدم سيرانو دي برجراك في روايتين مرتبطتين بعنوان «دول وإمبراطوريات القمر» (١٦٥٧) و«دول وإمبراطوريات الشمس» (وقد توفي قبل إكمالها) رحلةً صاروخيةً من الأرض لبناء حبكة القصة، لكنه لم يُبدِ اهتمامًا فعليًّا بشرح تكنولوجيا الصواريخ أو الرحلات، بل اهتمَّ فحسب بالعوالم التي قصدتْها هذه الرحلات.

في تلك الحالات، وفي كثير من الأعمال اللاحقة، كانت رحلة الفضاء وسيلة لإبعادنا عن العالَم المألوف؛ مما يُتيح رؤية الأرض من منظور خارجي (ساخر عادةً)؛ لذا، نجد أن المسافر في روايتَي برجراك يُضطر إلى إعادة النظر في افتراضاته حول القِيَم الأرضية، بينما يعتبره سكان القمر كائنًا أشبه بالقرد. أحد الأمثلة اللاحقة التي توضح الصلة بين هذين النوعين من الرحلات هي رواية جوزيف أتيرلي «رحلة إلى القمر» (١٨٢٧) التي تحكي قصة ابن تاجر أمريكي ينطلق في رحلة إلى كانتون في الصين، لكن سفينته تتحطم على ساحل بورما. فيُصادق من بين رفاقه المحليين كاهنًا هندوسيًّا يبوح له بسِرِّ السفر عبر الفضاء وكذلك بحقيقة وجود سكان على سطح القمر. يسافر الاثنان إلى القمر في مكعَّب نحاسي، وتستعرض بقية الرواية تجربة الراوي مع ثقافة سكان القمر تحت توجيه الكاهن، الذي يوضح له أوجُه الاختلاف الكثيرة بين تلك الثقافة وبين المجتمع الأمريكي.

يوضح مثال شهير أخير تأثير تبديل المواقع في تلك الروايات، ونجده في رواية ديفيد ليندزي «رحلة إلى نجم السماك الرامح» (١٩٢٠)، وهي تُبدِي من جديد اهتمامًا سطحيًّا فحسب بالرحلة ذاتها، التي تتضمن انتقالًا من اسكتلندا إلى نجم غير مأهول عبر بلورات على شكل طوربيد. تضم أحداث الرواية سلسلة من الحلقات يَختَبِر أثناءها المسافرُ — الذي يُدعى ماسكل — أنواعًا مختلفة من الإدراك الحسي على الكوكب الجديد، تشبه تلك الناتجة عن وجود حاسة سادسة. في هذه الحالة، وفي حالات أخرى كثيرة، تتيح الرحلة إلى الفضاء انتقالًا مُريحًا إلى عوالم أخرى، وتقدِّم مواقع صالحة للتأمل الثقافي والميتافيزيقي.

أبدى الخيال العلمي منذ مرحلة مبكرة من تطوره مَيْلًا متجدِّدًا إلى المحاكاة الذاتية الساخرة. ومن بين الشخصيات الهامة في مسار تطور الخيال العلمي الأولي إدجار ألان بُو، الذي تعتمد قصته الخادعة «مغامرة هانز فال الفريدة» (١٨٣٥) على نمط قائم بالفعل يتناول الرحلات الخرافية إلى ما وراء الأرض بهدف إحداث تأثير كوميدي. تقدِّم القصة حكاية «منقَّحة» يرويها عالِم هولندي عن طيرانه إلى القمر بمساعدة مكثِّف للهواء، وهو عبارة عن حقيبة مُحكَمة الغلق تحيط بالجهاز. إن الإطار التحريري الزائف الذي تُقدَّم عبرَه القصة هو استراتيجيةٌ استخدمها الكُتَّاب من أجل موازنة المحتوى المدهش لرواياتهم طوال القرن التاسع عشر حتى عصر إتش جي ويلز. وقد استخدمه بُو بهدف إضفاء مصداقية هزلية على قصته التي تحاكي ببراعةٍ الوصفَ العلميَّ لتضاؤل حجم الأرض وزيادة حجم القمر أثناء الرحلة الفضائية.

إلا أن أبرز روائيِّي الرحلات في القرن التاسع عشر هو جول فيرن، الذي ما زالت علاقته بالخيال العلمي محل جدل؛ فقصصه التي نشرها ضمن سلسلة «رحلات عجيبة» لا تقع أحداثها في المستقبل، بل تَعرِض محاولات تراكمية لتحديد موقع مناطق مختلفة من الأرض، والسفر هو الوسيلة الرئيسية لتحقيق هذه الغاية. تشيد ثنائية فيرن الروائية — التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالخيال العلمي — «من الأرض إلى القمر» وتَتِمَّتُها «حول القمر» (وقد تُرجمت كلتا الروايتين عام ١٨٧٣) بالإبداع الأمريكي؛ فتحكي إحداهما عن نادي سلاح تأسَّس أثناء الحرب الأهلية الأمريكية بدافع تطوير الأسلحة، وتربط الرواية هذا الدافع بالجاذبية الخيالية للوصول إلى القمر. وبعد الاستشهاد بمجموعة من الكُتَّاب الذين يخلطون بين ما هو خيالي وما هو واقعي — ومن بينهم بُو، وفلاماريون، بل وحتى مقالات ١٨٣٥ المنسوبة زيفًا إلى العالِم هيرشِل — أعلن رئيس نادي السلاح، باربيكان، إطلاق بعثة إلى القمر عبر مدفع ضخم. أطلق على القذيفة اسم كلومبياد، وهو اسم أحد مَدَافع الجيش الأمريكي، ويعكس كذلك ارتباطات ملحمية بمُكتشِف أمريكا، تتضح في قصيدة جويل بارلو التي نشرها عام ١٨٠٧ وتحمل الاسم نفسه. كانت البعثة مشروعًا أمريكيًّا يدعمه رأس مال أوروبي جُمِعَ عبر الاكتتاب. وحالما نُفِّذَ الإطلاق من فلوريدا — مثل بعثات أبولو اللاحقة — تلمح الرواية إلى إمكانية الحياة على القمر، لكن السرد يعطي أولوية إلى عرض المَشاهد الجديدة للكواكب والبراكين القمرية. وبعد عودة روَّاد الفضاء إلى الأرض سالِمين، تُوضَع خطط من أجل تأسيس الشركة القومية للاتصالات بين الكواكب لإضفاء بُعدًا تجاريًّا على الرحلات اللاحقة.

الأرض المجوَّفة

استَخدَمت الرحلات الاستكشافية التخيُّلية في الخيال العلمي المبكر ثلاثَ مواقع رئيسية للأحداث؛ ألَا وهي الأرض نفسها، والفضاء القريب، وجوف الأرض. وعلى الرغم من أن فكرة الأرض المجوَّفة قد استُخدمت من قبلُ لأغراض خيالية أو ساخرة، فإن قصص الأرض المجوَّفة تطورت في أواخر القرن التاسع عشر باعتبارها جنسًا أدبيًّا فرعيًّا مستقلًّا، ناتجًا جزئيًّا عن نظريات جون كليفز سيمس الابن، الذي اعتقد أن الأرض بها فتحات عند القطب الشمالي والقطب الجنوبي. قُدمت هذه النظرية — المعروفة باسم نظرية ثقوب سيمس — في شكل روائي من خلال رواية آدم سيبورن «سيمزونيا: رحلة استكشافية» (١٨٢٠)، والتي يرجِّح أن سيمس هو نفسه مَنْ كتبها. وبالقرب من نهاية القرن، ظهرت موجة من قصص الأرض المجوَّفة من بينها رواية إدوارد بولوير ليتن «العِرْق القادم» (١٨٧١)، والتي تحكي عن شاب أمريكي يسقط داخل بئر منجم ليجد نفسه في عالم يمثل مستقبله الوشيك. في هذه المرحلة المتقدمة، أصحبت النساء يتمتعن باستقلال أكبر بكثير، وظهر نوع من الطاقة يشبه الكهرباء ويُدعى فريل (أي ذكوري) يستخدمه عرق مسيطر.

من بين قصص الأرض المجوَّفة، تتميز رواية «إتيدوربا» (أي أفروديت) — التي نشرها جون يوري لويد، اختصاصي علم العقاقير بولاية سينسيناتي، عام ١٨٩٥ — من حيث إنها لا تصف حضارة منفصلة، بل تقدم سلسلة من المشاهد السريالية أشبه بالهلاوس. تُعرض القصة في إطار متقن كحكاية يرويها «رجل عجوز أبيض الشعر» تعرَّض للاختطاف ثم نُقِل إلى مركز الأرض. أحد أول المشاهد التي يراها هي «غابة فطر» تتكون من أعداد هائلة ومتعددة الألوان من فطر عيش الغراب تلوح أمامه على ارتفاع شاهق، ويحدد هذا المشهد الطابع الرئيسي للرواية؛ حيث يتنقل المسافر باستمرار بين حالات أشبه بالحلم. تتسم النقلات بطابع فجائي وسريالي، وتختلف عن أي جولة بمساعدة مرشد يمكن تصورها في هذا العالم تحت الأرضي. وقد دفعَت التحولاتُ في البُعد والاهتمام بالروائح والأصوات بعضَ النقاد إلى زعم أن «إتيدوربا» تشبه سلسلة من الرؤى الناتجة عن تعاطي عقَّار مخدر.

تميل قصص الأرض المجوَّفة إلى تجاهل الكثير من العوائق المادية المتضمَّنة في تصور عالَم داخل الأرض يحتفظ بكثير من سمات الحياة الموجودة على السطح؛ على سبيل المثال، يقدِّم الموقع الداخلي لسلسلة قصص إدجار رايس بوروز التي تحمل عنوان «بيلوسيدار» (بدأ نشرها عام ١٩١٤) إلى القارئ مزيج بوروز النموذجي من أعراق «بدائية»، ومناظر طبيعية استوائية، ومخلوقات بدائية. ويستخدم المكان ها هنا لتبرير فيض المغامرات العجيبة التي تواجه البطل وتجسيد الطابع الخيالي للارتحال نحو الماضي التطوري، في حين تربط روايات أخرى أحداثها بالاحتمالات الممكنة داخل حاضر الكاتِب؛ فعلى سبيل المثال، بنى ويليام آر برادشو روايته «إلهة أتفاتابار» عام ١٨٩٢ على الدعاية المحيطة برحلات استكشاف القطب الشمالي في زمنه كي يصف اكتشاف عالَم داخلي يُؤوي حضارات معقدة. وتدور أحداث الرواية وقت اندلاع الحرب الأهلية الأمريكية عندما «تنقذ» حملة تحت قيادة أمريكية مساحة من الأرض لصالح الإمبراطورية وتفتح الباب لآفاق جديدة ومذهلة من الاستغلال التجاري. تتسم الرواية بالطابع العجائبي المُثير الذي تشترك فيه معظم قصص الأرض المجوَّفة، لكنها تصرِّح على نحو لافت للنظر بفكرة أن هذا العالم الآخر الغامض آنَ أوانُ غَزْوه واجتياحه.

الخيال العلمي وفكرة الإمبراطورية

ربط جون ريدر وغيره من دارسي الخيال العلمي بزوغ هذا النوع الأدبي قرب نهاية القرن التاسع عشر بازدهار الإمبراطورية. ويزعم ريدر أنه منذ عام ١٨٧١ فصاعدًا، بدأ الخيال العلمي يطوِّر «مجموعة السمات المتشابهة» الخاصة به، والتي بدأت بدورها في بَلْورة هويته كجنس أدبي. تَعْرض رواية جون جاكوب أستور الرابع «رحلة في عوالم أخرى» (١٨٩٤) مثالًا جليًّا على الصلة بين الإمبراطورية والسفر عبر الفضاء. تدور أحداث الرواية عام ٢٠٨٨ — وبحلول هذا الزمن نجحت الولايات المتحدة في تحقيق السيطرة على العالم — وتحكي عن مسافر عبر الفضاء ينطلق في رحلة استكشافية معتبِرًا نفسه أداة لمواصلة تحقيق مصير الأمة من الانتصارات الإقليمية والتكنولوجية. ومع تقدم الرحلة، يكتشف أشياء أعجب وأعجب؛ إذ يَجِد فِيَلَة ماستودون على كوكب المُشتري، وتنانين وأرواحًا على كوكب عُطارد. وعند نهاية الرحلة، تطير سفينة الفضاء إلى الوطن لتحظَى باحتفاء مُذهِل. لم يقتصر استثمار أستور في فكرة الإمبراطورية على الأدب فحسب؛ ففي عام ١٨٩٨، قدَّم تمويلًا لكتيبة من المتطوعين للقتال في كوبا أثناء الحرب الأمريكية الإسبانية. يعكس الحس القومي لدى أستور سمة عامة تميِّز قصص نهاية القرن الاستكشافية؛ وهي تحديدًا تحمُّسها الدائم؛ فسواء أكان الدافع الظاهري هو العلم أو المغامرة، فإن هدف الاحتلال الإمبريالي النهائي نادرًا ما يبتعد عن المشهد.

مع أوائل القرن العشرين، برز جنس أدبي فرعي من أدب الاستكشاف يُعنى باكتشاف العوالم المفقودة. حددت رواية آرثر كونان دويل بعنوان «العالم المفقود» (١٩١٢) إطار هذا التصنيف ونمطه العام عبر وصف أحداث اكتشاف البروفيسور تشالينجر لسهل في قلب حوض نهر الأمازون تقطن به كائنات حية بدائية ورجال قِرَدة بدائيون. تَلَتْ روايةَ كونان دويل روايةُ إدجار رايس بوروز «الأرض التي غفل عنها الزمن» عام ١٩١٦ والتي تحكي مجددًا عن اكتشاف مماثل، لكنه ها هنا في القارة القطبية الجنوبية. ويقابل بطل الرواية مخلوقًا يشبه الإنسان، لكنْ هل هو إنسان حقًّا؟

لم أستطع التحديد؛ إذ كان يشبه القرد بقدرِ ما يشبه الإنسان. كانت أصابع قدميه الكبيرة بارزة بروزًا جانبيًّا كالشعوب التي تعيش فوق الأشجار في برونيو والفلبين وغيرهما من المناطق النائية؛ حيث ما زالت الأنواع الدنيا من البشر باقية على قيد الحياة. أما ملامحه فهي على الأرجح مزيج من إنسان البيتيكانتروب — واسمه أيضًا إنسان جاوة القرد — وابنه إنسان بلتداون الذي عاش في مقاطعة ساسكس في عصورِ ما قبل التاريخ.

يحتار المسافِر بين الماضي والحاضر، إلَّا أن تشكُّكه لا يؤدي قط إلى زعزعة قناعته الضمنية بتفوقه التطوري. ينزع أدب الأجناس المفقودة إلى عرض الاستطلاع والاستكشاف الإمبريالي في صورة مغامرة. كان إتش رايدر هاجارد هو المروِّج الرئيسي لهذا الجنس الأدبي الفرعي عبر روايته «كنوز الملك سليمان» (١٨٨٥) والأجزاء المتمِّمة لها، والتي تصف عوالم خرافية كامنة في جوف الأراضي الأفريقية. تُعرَف هذه الروايات باسم «فانتازيا الاحتلال»؛ حيث يتصرف المستكشفون من منطلق رغبة في الاستيلاء على الأرض وممارسة الجنس — فالأميرات الجميلات مكوِّن أساسي من مكوِّنات الرواية — وحيث تُحرَّف حقيقة الغزو والاحتلال على نحو منهجي لتصبح عودة إلى الماضي التاريخي للأبطال أو استعادة لهِبَات الطبيعة. من الممكن أيضًا النظر إلى حكايات الأجناس المفقودة على أنها قصص عن السفر عبر الزمن؛ حيث يُقابِل المستكشفون أنواعًا بدائية من البشر؛ ففي رواية كونراد «قلب الظلام» (١٩٠٢)، يرتحل مارلو نحو جوف الأراضي الأفريقية، وفي نفس الوقت نحو بدايات الزمن التطوري. وفي أحد أكثر المشاهد دراميةً في روايته، يعترف على مضض بوجود أوجه شبه بينه وبين أحد السكان المحليين. من الواضح إذن أن قصص العالم المفقود تمهِّد الطريق لفكرة رئيسية في الخيال العلمي سنتناولها في الفصل التالي؛ ألا وهي مقابلة الكائنات الفضائية.

أوبرا الفضاء: حروب النجوم

حسب منطق الإمبراطورية، الكواكب جاهزة على الدوام للاحتلال؛ ومن ثمَّ ليس من قبيل المصادفة أن أولى روايات حروب النجوم المكتوبة بالإنجليزية نُشِرت في أوج ازدهار الإمبراطورية البريطانية. وفي الواقع، وُصف نمط المغامرة الذي يلعب دورًا محوريًّا في قصص أوبرا الفضاء بأنه «شكل خُرافي من الاستكشاف والاحتلال الاستعماري»؛ فعلى سبيل المثال، تصف رواية مجهولة الكاتِب تحمل عنوان «رجل بالخارج» (١٨٨٧) كوكب الأرض بعد خضوعه بالفعل لسيطرة الولايات المتحدة الأمريكية، وتصوِّر ارتحال المستوطِنين إلى القمر، وكواكب الزهرة والمريخ والمشتري وعطارد والكويكبات. أسَّست الرواية نمطًا ستتبعه الكثير من قصص الخيال العلمي التالية؛ ألَا وهو عرض الكواكب في صورة أُمَم أو مستعمرات افتراضية وإسقاط النزاعات الإقليمية على المجموعة الشمسية. في هذه الرواية ينشب نزاع تجاري بين الكواكب، لكنه لا يؤدي أبدًا إلى اندلاع الحرب فعليًّا، على عكس ما يحدث في رواية روبرت ويليام كول «الصراع من أجل الإمبراطورية» (١٩٠٠). تبدأ الرواية في عام ٢٢٣٦ وتصوِّر حقبة سلام بريطاني كوني؛ أي تصوِّر عالمًا خاضعًا لهيمنة الأنجلوساكسونيين، الذين اخترعوا وسيلة للسفر عبر الفضاء في «سفن تتنقل عبر النجوم». تندلع الحرب بين الأرض ونجم الشِّعْرَى اليمانية، الذي يُشبِه سكانُه البشرَ من جميع النواحي، لكنهم يمتلكون تكنولوجيا عسكرية أكثر تقدُّمًا. ينجح أسطول نجم الشعرى اليمانية الضخم المكوَّن من المناطيد ذات المحركات في جعل الإمبراطورية تتقهقر إلى مركزها ويقصف مدينة لندن. وبينما يبدو أن مصير لندن والإمبراطورية بأكملها قد حُسِم، يخترع عالِم بريطاني جهازًا يُطلِق موجات قوة تعكس مسار الحرب على نحو مفاجئ وحاسم. وهكذا يستعيد الأنجلوساكسونيون السيطرة على الفضاء ويقصفون عاصمة نجم الشعرى اليمانية؛ مما يؤدي إلى استسلام سريع.

أسست تلك الإسقاطات المبكِّرة لفكرة الإمبراطورية على الفضاء نمطًا اتبعتْه قصص أوبرا الفضاء التي بدأت تَظهَر في المطبوعات الرخيصة في فترةِ ما بين الحربين العالميتين. ابتُكِر مصطلح «أوبرا الفضاء» عام ١٩٤١ لتمييز قصص الخيال العلمي المبتذلة، واحتفظ بمعناه السلبي حتى ثمانينيات القرن العشرين عندما أُعيدَ تعريفه ليشير إلى مغامرات الخيال العلمي. وشهدت تلك الفترة إحياءً لقصص أوبرا الفضاء على يدِ كُتَّاب مثل إيان إم بانكس، وديفيد برين، ودان سيمينز ممَّن أدخلوا تعديلات على هذا الجنس الأدبي الفرعي عبر أشكال سردية أكثر تطورًا. وفي الفترة بين الحربين العالميتين، تحظى قصتان من قصص أوبرا الفضاء بأهمية خاصة؛ الأولى هي مجموعة من القصص المتصلة، كتبها فيليب فرانسيس نولان في عامَيْ ١٩٢٨ و١٩٢٩، وقدَّم من خلالها شخصية أنتوني روجرز، الذي سرعان ما أُعيدت تسميته ليصبح باك روجرز في سلسلة القصص المصوَّرة الصادرة لاحقًا.

fig1
شكل ١-١: غلاف رواية «باك روجرز في القرن الخامس والعشرين بعد الميلاد» (١٩٣٣).

في المجلد المُجمَّع الذي يحمل عنوان «أرمجدون ٢٤١٩ بعد الميلاد» يستغرق البطل في حالة سُبات في وقت كانت فيه الولايات المتحدة الأمريكية هي أقوى أمَّة في العالم، وعندما يستيقظ في القرن الخامس والعشرين يَجِد بلادَه طالَها الدمار وتحكمها سلالة الهان الصينية القاسية. تنتمي حكاية نولان في الأساس إلى قصص «خطر الشعوب الصفراء» الذي يُهدِّد الشعوب البيضاء مع إضافة بعض الأسلحة المستقبلية. تتواتر أحداث القصة لتصف الكفاح الهادف إلى أن تستعيد الولايات المتحدة وباقي العالم حريتها، ومن أجْل إلْحاق هزيمة نهائية ﺑ «ذلك العِرْق البَشِع من بين الأعراق البشرية»؛ أي الصينيين. وسنتعرف بعد قليل على الدافع إلى إحياء وتطوير سلسلة أفلام باك روجرز في سبعينيات القرن العشرين. أما القصة الثانية التي أسست لهذا الاتجاه؛ فترجع إلى الفترة نفسها، وتحمل عنوان «سكايلارك» (١٩٢٨) بقلم إي دوك سميث. ساعد هذا العمل في إرساء قالب البطل النمطي لقصص أوبرا الفضاء عبر شخصية ريتشارد سيتون، العالِم والرياضي و«المقاتِل بالفطرة»؛ أي باختصار رجل المواقف الجذَّاب. تبدأ الرواية باكتشاف البطل قُدْرة معينة تُتيح السفر عبر الفضاء؛ مما يؤدي إلى بناء سفينة فضاء تُدعَى سكايلارك، كما يتضح من عنوان الرواية. تنعكس إحدى سمات الحداثة في المعالَجة الروائية عبر إبراز الحاجة إلى الاستعانة بشركة إنشاءات تجارية من أجْل بناء السفينة بدلًا من الاكتفاء بالحماس الفردي، كما في حال قصص رحلات الفضاء السابقة. وكالعادة يُقابِل كلَّ بطل عدوٌّ شرِّير، وهو دَوْر يلعبه مندوب شركة الصُّلب العالمية عديم الضمير الذي يُنشِئ نسخة طبق الأصل من السفينة الأصلية ويحلِّق بها نحو الفضاء حاملًا معه حبيبة سيتون التعيسة الحظ دوروثي. يصف الجزء الأول من الرواية مطاردة سيتون لهذه السفينة وإنقاذه لدوروثي. بعد ذلك، تحلِّق سفينة سكايلارك نحو كواكب مختلفة، بعضها تسكنه أعراق تملك هي أيضًا مَرْكبات فضائية متطورة. وبعد سلسلة من المغامرات التي تَلَتِ الوقوع في الأسْر والهرب على نمط بوروز، يعود بطلنا سالِمًا إلى الأرض بصحبة رفاقه.

إذا تناولنا هذين العملين معًا، فسنجد أنهما ساعدا في تأسيس الخصائص المميزة لقصص أوبرا الفضاء؛ أَلَا وهي: البطل المثالي (رجل)، الأسلحة المستقبلية مثل مسدسات الليزر، والأحداث المتسلسلة التي تعجُّ بكل ما هو عجيب وغير متوقَّع، والصراع بين قوًى شديدة التعارض تمثل الخير والشر. وقد استغل جورج لوكاس تلك الخصائص في فيلمه «حرب النجوم» (ستار وورز) عام ١٩٧٧، الذي جمع شخصية باك روجرز مع مَشَاهد معارك من أفلام المخرج الياباني كيروساوا واعتمد في حبكته على دراسة جوزيف كامبل «البطل ذو الألف وجه». أضحت سلسلة أفلام «حرب النجوم» من أنجح الأفلام التجارية على الإطلاق. وبالإضافة إلى الفيلم وأجزائه اللاحقة والأجزاء التي تحكي أحداثًا سابقة لأحداث الفيلم الأصلي، اشتملت السلسلة على أفلام أخرى من بينها أفلام رسوم متحركة، والكثير من الروايات ضمن سلاسل فرعية داخل إطار الحكاية الرئيسية، بجانب كتيبات إرشادية عن كل فيلم، وقصص مصوَّرة، ومجموعة متنوعة من ألعاب الفيديو والكمبيوتر. كذلك كان المسلسل التليفزيوني «رحلة إلى النجوم» (ستار تريك) الذي أُذيع في الستينيات مستوحًى جزئيًّا من قصص باك روجرز، لكنَّ حبكته اعتمدت على رحلة مستمرة بلا هدف محدد عبر الفضاء تخوضها سفينة يو إس ستارشيب إنتربرايز، التي تتمثل مهمتها — حسب إحدى العبارات المميَّزة للمسلسل — في «أن تنطلق بشجاعة إلى حيث لم يَصِل أي بشر من قبل.» عيَّنت شركة الإنتاج كُتَّاب خيال علمي، مثل هارلان إليسون وثيودور ستيرجِن، لكتابة الحلقات التي تمحورت عادةً حول مواجهةٍ؛ تمحورت المواجهة الأولى في المسلسل حول مقابلة مَركبة غريبة في الفضاء يقودها مخلوق أشبه بالطفل. وكما هو الحال في سلسلة «حرب النجوم»، أدَّى مسلسل «رحلة إلى النجوم» كذلك إلى ظهور عدة مسلسلات تليفزيونية لاحقة وعدد ضخم من الروايات والصياغات الروائية لأحداثه.

قدَّم هاري هاريسون محاكاة ساخرة للطابع العسكري والذكوري المميَّز لقصص أوبرا الفضاء في رواية «بيل: بطل المَجرَّة» (١٩٦٥)، وهي عبارة عن إعادة سرد مستقبلية لرواية يوروسلاف هاشيك «الجندي الطيب شفيك». في هذه الرواية يصبح بيل بالمصادفة البحتة عضوًا في شرطة النجوم، بالرغم من احتجاجه بأنه «ليس شخصية عسكرية»، ثم ينطلق في سلسلة من الحوادث المؤسِفة والهزلية المميِّزة للأبطال الصعاليك، لا يعكس أثناءها أيًّا من صفات البطولة التقليدية المرتبطة بذلك النوع من الأدب القصصي. وفي سياق مماثل، ابتدع الكاتب البولندي ستانيسواف لِمْ شخصية رائد الفضاء أيجون تيشي، الذي يصف خبراته مع الحلقات الزمنية، واجتماعات المَجرَّة الإدارية، ومغامراته في الكواكب الأخرى مستخدمًا لغة عادية لا تُوحي بأي مشاعر وتسخر ضمنًا من جميع صور الرغبة في إنجاز أفعال بطولية في قصص أوبرا الفضاء.

سفن الفضاء

منذ فيلم جورج ميلييس «رحلة إلى القمر» عام ١٩٠٢ فصاعدًا، أصبحت سفينة الفضاء إحدى أيقونات الخيال العلمي الرئيسية، بتصميمها الأنيق الصاروخي الشكل، ومفاهيم الحرية والهرب التي تَعِد بهما. ويصور فيلم «امرأة على القمر» (وُمان إن ذا مون) ١٩٢٨، للمخرج فريتس لانج رحلة أدَّتْ في النهاية إلى ترك حبيبين على القمر بلا سبيل للعودة إلى الأرض.

fig2
شكل ١-٢: ملصق فيلم «امرأة على القمر» (١٩٢٩) للمخرج فريتس لانج.

في المشهد الأخير، يتعانق الحبيبان في ذروة عاطفية تشير إلى موتهما الوشيك. كان الفيلم هو أول عمل يستخدم العدَّ التنازلي عند إطلاق الصاروخ — حسبما ذكر توماس بنشون في روايته «قوس قزح الجاذبية» (١٩٧٣) التي تناولت صواريخ في-٢ — واعتمد على النصائح التكنولوجية التي قدَّمها مهندس الصواريخ هيرمان أوبرست. وفي رواية «عندما تتصادم العوالم» لإدوين بالمر وفيليب وايلي التي نُشِرت عام ١٩٣٣، تلعب سفينة الفضاء دور السفينة المُنقِذة. تدور أحداث الرواية حول اكتشاف كوكبين منحرفين عن مسارهما يتجهان نحو الأرض، ومع اقتراب أحدهما تتزايد المؤشِّرات الكارثية مثل الموجات المدية العملاقة، والرياح الجبَّارة، والحرائق المفاجئة؛ لذا تُبنَى سفينة فضاء كي تحمل القِلَّة الباقية المُنقِذة للجنس البشري بعيدًا عن الخطر. وحالَما تنطلق السفينة، يشهد المسافرون دمار الأرض، لكنَّهم يكتشفون في الواقع أن الكوكب الثاني صالح للعيش، بل وبه آثار تدل على أنه كان مأهولًا من قبلُ، وتنتهي الرواية بعبارات مبتهجة تُشِير إلى البدايات الجديدة، التي يحجب تفاؤلها العدد اللانهائي من الأسئلة العملية المتعلقة بقدرتهم على البقاء.

طوال النصف الأول من القرن العشرين، أصبحت رحلات الفضاء أحد مكوِّنات الخيال العلمي الرئيسية. وإحدى أشهر الروايات التي استَخدمت هذا النمط هي «رحلة السفينة بيجل الفضائية» (وهي رواية صدرت عام ١٩٥٠، وهي إعادة صياغة لقصص قصيرة نُشِرت سابقًا) بقلم إيه إي فان فوجت، التي يذكِّرنا عنوانها بعنوان مذكرات تشارلز داروين — «رحلة السفينة بيجل» (١٨٣٩) — التي كتبها عن علم الطبيعة أثناء رحلاته حول العالم. إنَّ الغرض من رحلة فان فوجت هو الاستكشاف العلمي لصالح مؤسسة نيكسيال، ويطبق الكاتب افتراض داروين الزاعم بأن الاتصال مع الأنواع الأخرى سيولِّد صراعًا. تشهد السفينة بيجل الفضائية أربع مواجهات مُرتَّبة تنازليًّا وفقًا لأهميتها النسبية؛ الأولى مع مخلوق يُشبه القطة، ثم مع طيور تتمتَّع بقدرة على التخاطر، يليها مخلوق يعيش في الفضاء ويرغب في زرع بيض في عائل بشري، وأخيرًا مع كائن واعٍ طليق في الفضاء. ويصف عددٌ كبيرٌ من سلاسل قصص فان فوجت حكايات عن لقاءات مع كائنات فضائية، وقد كانت كذلك روايته من أولى الروايات التي تصوِّر طاقم السفينة الفضائية وهم يعملون معًا.

قدَّمت آن ماكافري إعادة صياغة مهمة للصورة التقليدية لسفينة الفضاء في قصصها عن سفينة الفضاء هيلفا، التي بدأت مع قصة «السفينة التي غنَّتْ» عام ١٩٦١. تقع أحداث هذه السلسلة القصصية في المستقبل؛ حيث يُمنَح الأطفال المصابون بإعاقات بالغة فرصة التحول إلى سفن فضائية عن طريق حبسهم داخل قوقعة معدنية تتصل مباشرةً بأدمغتهم، وهو إجراء يُعزِّز قدراتهم وينطوي على «تعليم» (لا برمجة) ويتضمن كذلك مدَّ وصلات حِسِّية عبر أرجاء القوقعة المصنوعة من التيتانيوم. في هذا الإطار، يمثل «أهل القواقع» شكلًا مبكرًا من أشكال الإنسان نصف الآلي (سايبورج)، لكن قصص ماكافري تَستبدل التحكم التكنولوجي المركزي وتُحِلُّ محلَّه التحقيقات الفردية والتعديلات الذاتية التي تنفِّذها هيلفا نفسُها أثناء ابتكار وسيلة للغناء. أما التحليق بالنسبة لها فيُقدَّم كمغامرة تؤشر لمرحلة النضج وليس كرحلة علمية موجَّهة صراحةً. إن قوقعة هيلفا هي امتداد لوعيها، كي تتمكن من إظهار براعتها التكنولوجية أثناء رحلاتها عبر الفضاء — كان دور الطيَّار حكرًا على الذكور حتى ستينيات القرن العشرين — وفي نفس الوقت تطور قدراتها العاطفية، كأنْ تتعلم كيف تَحزَن على الموتى. وعلى نحو مماثل، تَعْرض الكاتِبة نعومي ميتشايسن في روايتها «مذكرات رائدة فضاء» (١٩٦٢) سلسلة أحداث تأملية حول علاقة راوية القصة بالأنواع الحية الأخرى، بدلًا من استخدام الأحداث المتسارعة.

٢٠٠١: أوديسا الفضاء

طالما دعم آرثر سي كلارك مجال استكشاف الفضاء، مروِّجًا له كأحد الأنشطة المميِّزة للنصف الثاني من القرن التاسع عشر. منذ عام ١٩٤٦، بدأ يتنبَّأ بعصر جديد من الاستكشاف، وفي عام ١٩٦٢ تنبَّأ بصحوة محتمَلة لأدب الملاحم أو على الأقل لنمط قريب منه: «من المؤكَّد أن الاكتشافات والمغامرات، والانتصارات، والمآسي الحتمية التي لا بد أن تصاحب درب الإنسان في اتجاه النجوم ستبعث على أدب بطولي جديد يومًا ما.» يؤكِّد كلارك دومًا على قدرة الخيال العلمي الفريدة على إثارة التعجب وإلهام القُرَّاء برؤًى عظيمة؛ ومن ثمَّ، عندما تَظهَر سفن الفضاء فوق مدن العالم في رواية «نهاية الطفولة» (١٩٥٣)، تبدو القصة مثل سيناريو فيلم درجة ثانية من أفلام ذلك العَقد، إلى أنْ يبدأ الاتصال بالكائنات الفضائية. يقلِّل كلارك من مشاهد ظهور أولئك الوافدين الجُدد إلى الحد الأدنى، لكنه يؤكِّد على حجمهم وهو المُعادِل الجسدي لتفوقهم العقلي. يبدأ الأسياد (الكائنات الفضائية) إنجاب أطفال على الأرض، يتمتعون بقدرات تخاطرية جديدة يستخدمها كلارك بجلاءٍ كدافع يساعد البشرية في التطور إلى مرحلة أكثر عقلانية، وهو السياق الذي مهَّد الطريق لأشهَر روايات كلارك عن رحلات الفضاء: «٢٠٠١: أوديسا الفضاء» (١٩٦٨).

كتب كلارك روايته أثناء إعداد الفيلم الذي أخرجه ستانلي كوبريك، على عكس عمليات تحويل أفلام الخيال العلمي إلى صيغة روائية في الفترات اللاحقة. تأتي رحلة الفضاء التي تدور معظم أحداث الرواية والفيلم حولها ضمن حكاية تمهيدية عن التقدم التكنولوجي البشري تُحاكي نمط أعمال إتش جي ويلز. يُطلَق على البطل البدائي في هذه المرحلة اسم مون-ووتشر (أي مُراقِب القمر)، وهي تسمية تهدف إلى إرساء الارتحال عبر الفضاء كهدف غريزي منذ لحظات البداية المبكرة. وتنتقل الرواية بعد عرض ملخص سريع للتطور الدارويني (تطوير الأدوات وأسلحة الدفاع عن النفس أثناء الصراع من أجل البقاء) إلى عام ١٩٩٩، وهي نقلة تَظهَر في الفيلم على نحو تصويري عندما تتحوَّل عَظْمة مُلْقاة في الهواء إلى محطة فضاء. مع حلول هذا العام، تصبح خدمة نقل الرُّكَّاب إلى القمر عبر المراكب الفضائية أمرًا شائعًا، لكن الأحداث الدرامية تبدأ مع استخراج لوح أسود غامض من تحت الأرض، يرسل إشارة إلى كوكب عُطارد. ثم يقفز السرد مجدَّدًا للأمام حتى عام ٢٠٠١ وتبدأ الرحلة الرئيسية مع مهمة «مَركبة ديسكفري وان» المتجهة إلى زُحَل، ويقودها رائدا الفضاء باومان وبول.

وبغضِّ النظر عن الإشارة الملحمية في العنوان، تتخلَّل الرواية إشارات أخرى إلى رحلات شهيرة في الماضي، وكأن كلارك يُلمِح إلى أن الرحلة الحالية هي ذروة المغامرة البشرية. ويستدعي عنوان الجزء الأخير — «ما وراء النجوم» — من الرواية فكرةً رئيسيةً أعظمَ من فكرة العنوان الأصلي. رغم ذلك تواجه الرحلة عددًا من الصعوبات؛ فعلى ما يبدو تُصاب إحدى الوحدات بخَلَل، ويَفتح هال — كمبيوتر السفينة — غرفَ معادلةِ الضغطِ متسبِّبًا في مصرع بول. ثم يتضح بعد ذلك أن الهدف الحقيقي للبعثة هو استكشاف إيابيتوس، أحد أقمار زُحَل؛ بينما كان الهدف في الفيلم هو الوصول إلى المُشتري.

fig3
شكل ١-٣: لقطة من فيلم «٢٠٠١: أوديسا الفضاء» للمخرج ستانلي كوبريك (١٩٦٨).

تبدأ الذروة السريالية للرحلة عندما تصل السفينة «ديسكفري وان» إلى إيابيتوس، ويدخل باومان مبنًى ضخمًا مطابقًا لذلك الموجود على القمر. وبينما يقترب من هدفه، يرى ما يُشبه مرآبًا لسفينة فضاء مهجورة، ثم مَشهدًا متغيِّرًا لبُقَع متألِّقة من الضوء، حتى يجد نفسه فجأة في جناح بفندق واشنطن. وبحلول ذلك الوقت، تَزدَاد الهلاوس كأنها تقع داخل عقله؛ فتندفع الأشياء داخل بؤرة التركيز وخارجها، ويَعبُر وعيُ باومان عتبة «بوابة نجمية»، وتنتهي القصة بمشهد ولادة جديدة يحفل بالتداعيات الروحية. وقد صرَّح كوبريك أن «مفهوم الإله يقع في قلب «٢٠٠١: أوديسا الفضاء»»؛ وهو رأيٌ أكَّده كلارك؛ فمِن وجهة نظر كوبريك، تُرِكَت الرمزية الروحية في الفيلم غامضة عن عمدٍ من أجْل السماح للمشاهدين بإسقاط تفسيراتهم المختلفة عليها، وتتضمن النهاية على الأقل ثلاثة أجزاء مختلفة: الوصول إلى الوجهة، يَلِيها الرجوع إلى الماضي، ثم البزوغ الوشيك للميلاد الجديد. ويرجع كلارك إلى الرمزية الروحية الغامضة لسفينة الفضاء في رواية «موعد مع راما» (١٩٧٣)؛ حيث تقترب سفينة فضاء أسطوانية ضخمة تُدعَى «راما» من الأرض، فتُرسَل البعثات الاستكشافية لفحصها، لكنه نظرًا لحجمها الضخم، تُوضَع خريطة لها وكأنها كوكب مصغَّر. وعلى الرغم من تطورها التكنولوجي الواضح، واحتوائها على كائنات سايبرنيتيكية يُطلَق عليها اسم «بيوت»، فمع نهاية الرواية تغادر راما المجموعة الشمسية دون أن يتضح غرضها لأيٍّ من أهل الأرض. يؤكِّد كلارك هذا الغموض عن طريق الإشارة إلى المسيحية، والهندوسية، والأساطير الإغريقية؛ فربما تكون المَركبة عبارة عن تجلٍّ ديني روحي، وقد لا تكون كذلك أيضًا.

برنامج الفضاء الأمريكي

أدَّى هبوط مَركبة الفضاء أبولو ١١ على القمر عام ١٩٦٩ إلى تغيير نمط استكشاف الفضاء في الخيال العلمي تغييرًا جذريًّا عن طريق قلب مفهومنا عمَّا يمكن تحقيقه؛ فلم يَعُدْ ممكنًا لقصص الاستكشاف الفضائي تجاهل العلم بعد هذا الحدث، وبعد إرسال مِسبارَين آليَّين إلى كوكبَي المريخ والزُّهَرة كذلك. والآن تَستَخدِم وكالة ناسا كتابات الخيال العلمي على نحو روتيني في مراكزها التعليمية التي تدرِّس تكنولوجيا الفضاء، فضلًا عن أن عددًا من أفراد طاقمها هم أنفسهم كُتَّاب خيال علمي؛ ففي عام ٢٠٠٤، عقدت ناسا أول نقاش حول تعديل ظروف كوكب المريخ لتماثِل الظروف على كوكب الأرض مع كُتَّاب خيال علمي من بينهم آرثر سي كلارك وكيم ستانلي روبنسون. وقد أَتْبَع روبرت زوبن — مؤسِّس جمعية المريخ — حملته الترويجية لاستكشاف المريخ برواية «الهبوط الأول»، الصادرة عام ٢٠٠١، والتي تدور أحداثها حول اكتشاف حياة بيولوجية على الكوكب. ويبذل الروائيون الذين يتناولون موضوع المريخ — وهم في أغلب الأحيان علماء مدرَّبون — جهدًا شاقًّا للتوفيق بين قصصهم وبين الإنجازات العلمية المعروفة. أحد الخيارات التي استخدمها الكاتِب بِين بُوفا هي إضافة «بنك بيانات» منفصل يشمل المعلومات المرتبطة بالقصة في رواياته، بينما يُفضِّل عالِم الفيزياء الفلكية جريجوري بينفورد دمْج العلم في قلب السرد. يتلاعب بينفورد بالألفاظ في عنوان روايته «سباق المريخ» (١٩٩٩) (إذ إن الترجمة الإنجليزية لكلمة سباق هي race التي تعني كلًّا من العِرْق والسباق) كي يشير إلى احتمالية الحياة على المريخ — إحدى الفِكَر الرئيسية في هذا النوع من الأدب — والترتيبات الجديدة لتمويل رحلة إليه بعد حادث الانفجار الكارثي الذي وقع أثناء إطلاق إحدى المركبات الفضائية وأسفر عن سَحْب الكونجرس لدعْمه للمشروع. لكن الاتحاد المالي لبعض البنوك يعرض ٣٠ مليار دولار لمَنْ ينجح أولًا في إرسال بعثة ناجحة إلى المريخ. فيصف جزءٌ من الرواية التنافُس من أجْل الدعاية والتمويل على الأرض، بينما يصف جزءٌ آخَر بدءَ جهود الاستطلاع العلمي لسطح المريخ واكتشاف كائنات على يدِ جوليا بارث، عالِمة البيولوجيا وبطلة الرواية. لكن الكتاب يحوي عنصرًا ثالثًا يَحُول دون تحوُّل الرواية إلى نموذج آخَر لروايات الخيال العلمي الصارم؛ إذ تُشير شخصيات بينفورد ضمن سياق السرد إلى أحداث سابقة للرواية وردت في معالجات أخرى تناولت كوكب المريخ، لا سيما فيلم «الزاحف المجهول» (ذا كريبينج أن-نون) (العنوان الأمريكي لفيلم «تجربة كواترماس» (ذا كواترماس إكسبريمنت) البريطاني، الذي عُرِضَ عام ١٩٥٥)، الذي تدور أحداثه حول رائد فضاء تسلَّل إلى جسده كائنٌ فضائي حيٌّ، وكذلك فيلم «المريخ في حاجة إلى نساء» (مارس نيدز ويمين) ١٩٦٨، في إشارة ضمنية ساخرة لبطلة بينفورد نفسها. بمجرد أنْ تبدأ الكائنات الحية في النمو، تزداد الأحداث قتامة بل ويُلمح السرد إلى نمو كائن شبيه بالإنسان قد يهدِّد الطاقم. وهكذا، يتمكن بينفورد من الجمع بين السيناريوهات الأقدم المُتخيَّلة للحياة الفضائية والاكتشافات العلمية الجديدة على ذلك الكوكب في الوقت نفسه.

يقدِّم كلٌّ من روبنسون، وبُوفا، وبينفورد وجهة نظر إيجابية عن برنامج الفضاء الذي كان في الواقع موضوع جدل في مراحله الأولى؛ ففي فترة مبكرة ترجع إلى عام ١٩٥٦، وجَّه جيمس بليش انتقادات قاسية لنظام حكومي مركزي السلطة يقسِّم علماء الأبحاث في ذلك البرنامج ويعزلهم بعضهم عن بعض لأسباب تتعلَّق ﺑ «الأمن» القومي. وفي تصوير سلبي لاحق لاستكشاف الفضاء، تدور أحداث رواية باري مالزبيرج «ما وراء أبولو» (١٩٧٢) حول مشروع رواية يكتبها الناجي الوحيد من بعثة إلى كوكب الزُّهَرة، وتَحُوم دومًا ظلالٌ من الشكِّ حول حالته العقلية.

الفضاء الداخلي

في مجلة الخيال العلمي «نيو ورلدز»، الصادرة عام ١٩٦٢، أبدى جيه جي بالارد اعتراضه الشهير على سيطرة «قصص الصواريخ والكواكب» على الخيال العلمي. وعلى الرغم من سباق الفضاء الجاري وقتها بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي — أو ربما بسببه — زعم بالارد أن الخيال العلمي يحتاج إلى اتجاه جديد وصرَّح قائلًا: «إن أهم تطورات المستقبل القريب لن تحدث على القمر أو المريخ، بل على الأرض، وإن الفضاء الداخلي لا الخارجي هو ما يحتاج إلى استكشاف.» وأضاف أنه بدلًا من التركيز التقليدي على العلم، فإنه يفضل تحرُّك مجال الخيال العلمي نحو التجريد: «بدلًا من معالجة الزمن وكأنه طريق مَهِيب تحفُّه المَشَاهد الطبيعية، أتمنَّى أن أراه يُستخدَم كما هو على حقيقته، كمنظور للشخصية وتوضيح لمفاهيم مثل المنطقة الزمنية، وأغوار الزمن، وزمن النفس البشرية العتيقة.» اتفق عدد من معاصري بالارد مع رؤيته الرافضة لقصص الفضاء التقليدية، رغم أن ممارساتهم اتخذت اتجاهات مختلفة؛ إذ أكثرَ مايكل موركوك من استخدام فكرة السفر عبر الزمن، بينما بدأ دوجلاس آدامز في كتابة سلسلة «المسافر المتطفل» (وهي في الأصل مسلسل خيال علمي إذاعي كوميدي) مع قصة «دليل المسافر المتطفل إلى المَجرَّة» (١٩٧٩)، والتي تقلِّص الفضاء إلى مساحة يمكن اجتيازها بنفس بساطة الحصول على توصيلة مجانية من أي سيارة مسافرة.

وفي الواقع، ظهر بالفعل عدد من مؤشرات التغيير قبل تصريح بالارد بوقت طويل. إحدى أُولَيَات الروايات التي طبَّقت اكتشاف التركيب الذري على الأدب كانت رواية راي كمِنجز «الفتاة داخل الذرة الذهبية» (١٩٢٢)، التي نُشِرت بعد فترة قصيرة من توقفه عن العمل كمساعِد لأديسون. في هذه الرواية، يكتسب بُعْد الفضاء مدًى جديدًا عندما يكشف عالِم أمامَ أصدقائه المذهولين أنه اكتشف عالَمًا كاملًا داخل ذرة واحدة. تحتوي الرواية على عنصر من عناصر الفانتازيا الشهوانية؛ فعندما يُكبِّر العالِم خاتَم زواج أمِّه تحت الميكروسكوب إلى حدٍّ هائل، يلمح فتاة شابة جميلة تجلس في كهف؛ مما يدفعه إلى اختراع مادة كيميائية قادرة على تصغير حجم المرء أو تكبيره، على غرار تلك المادة التي كانت ألِيس تحتسيها من زجاجات في بلاد العجائب. في هذه القصة يحل تغيُّر الحجم محلَّ السفر، لكنه يؤدِّي إلى نتائج غير متوقَّعة؛ فعندما ينكمش البطل الكيميائي، تصبح الأشياء في العالَم الحقيقي ضخمة وخطيرة؛ ومن ثمَّ، يدخل عالمًا سرياليًّا من السهول المتحولة والمنحدرات التي تظهر فجأة، ويواجه خطرًا مستمرًّا ينبع من الهيئات المتضخمة للأشياء والكائنات التي لم يتْركها خلفه. وبعد إرساء تلك الاختلافات الصارخة في البُعد، يحوِّل كمِنجز السرد إلى قصة أخرى من قصص العالم المفقود؛ حيث يكتشف البطل وجود عِرقين داخل الذرة على خلافٍ بعضهما مع بعض.

عقب أربع سنوات فحسب من دعوة بالارد للتغيير، نَقَل المخرج ريتشارد فلايشر نمطَ الرحلة إلى داخل جسم الإنسان؛ ففي فيلمه «رحلة رائعة» (فانتاستيك فوياج) ١٩٦٦، يَستخدم الحربَ الباردة كدافع لأحداث الفيلم؛ فعندما يهرب عالِم سوفييتي — كان يُجري تجارب على تقنيات لتصغير الأشياء — إلى الغرب، تؤدِّي محاولة لاغتياله إلى إصابته بجلطة دموية في الدماغ. ومن أجْل إنقاذ حياته، يستقلُّ طاقم صغير غواصة تُدعَى بروتوس، ويُقلص حجمهم ليُعادل حجم ما يُطلَق عليه الآن يرقة نانوية، ويُبحِرون عبر الأوعية الدموية في جسم العالِم، حتى يَعثروا أخيرًا على الجلطة. تتعقد الأحداث على يد أحد أفراد الطاقم، الذي يتَّضح أنه عميل شيوعي، وفي سباق مع الزمن يتخلَّص أفراد الطاقم من الجلطة ويَهربون من الجسم عبر العينين. وبغضِّ النظر عن استحالة الفكرة — التي أضحَتْ أقلَّ استحالة الآن نوعًا ما عن وقت عرض الفيلم نتيجة لتقنيات التصغير الطبِّية التي اكتُشِفت لاحقًا — فإن الفيلم يستحضر نوعًا سرياليًّا جديدًا من فن تصوير «استخدام الأجسام» عن طريق عرض صور فائقة الضخامة للأعضاء البشرية الداخلية. ويُعَدُّ الفيلم الكوميدي «فضاء داخلي» (إنر-سبيس)، الذي عُرِضَ عام ١٩٨٧، تطويرًا إضافيًّا لموضوع هذا الفيلم؛ حيث تدور الأحداث حول خَلَل يحدث أثناء تجربة لتصغير عيِّنة بشرية من أجْل حقن تجريبي داخل أرنب؛ ممَّا يؤدِّي إلى صراع بين هيئات متنافِسة من أجْل حيازة هذه التكنولوجيا.

في سياق التجارب الدوائية التي أُجريت في ستينيات القرن العشرين، تتوافق تصريحات بالارد حول الفضاء الداخلي مع الاتجاه الذي يَصِف هذه التجارب التي تحدث في «الداخل». وتَظَلُّ مجموعة برايان ألديس «حافي القدمين داخل الدماغ» (١٩٦٩) تعكس تطبيقًا مؤثِّرًا لهذا المفهوم عن طريق وصفها لعالِم يعيش فترةَ ما بعد الحرب عقب سقوط قنابل تُطلِق موادَّ تُسبِّب الهلوسة. وقد نُشِرت قصص هذه المجموعة في الأصل كسلسلة قصص تحت عنوان «حرب الدماغ الحِمضية». أما بطل القصة كولين تشارتريز — الذي يذكِّرنا اسمه بمبتكر شخصية «القديس» الخيالية — فهو في الحقيقة صربيٌّ يسافر عبر أوروبا الغربية إلى بريطانيا، وحالما يصل إليها، يؤدي تأثير المواد المسبِّبة للهلوسة في الجو إلى تشويه الواقع على نحو غير متوقَّع؛ ممَّا يؤدي إلى زعزعة استقرار المكان والزمان. وعلاوة على ذلك يطبق ألديس هذا التأثيرَ على النص ذاته الذي يتنقل داخل السرد وخارجه، ويربط دومًا بين الخبرات التي يمر بها تشارتريز وبين الانهيار العام في المجتمع الأوروبي.

في مجموعة المقتطفات الأدبية التي قدَّمتْها جوديث ميريل عام ١٩٦٨ في كتاب بعنوان «إنجلترا وموجة الخيال العلمي»، جمعت الكاتبة استعارات الخيال العلمي وتناوُل العقاقير عن طريق تقديم المساهمين في العمل، وكأنهم في «رحلة» على متن «سفينة استطلاع» نحو جهات غير معلومة. قد تنتج هذه العملية عن تجريب واعٍ، كما حدث في قصص ويليام بوروز الأولى، الذي يفتخر بمعرفته المتخصصة بالعقاقير ذات التأثير العقلي. تَمحوَرَ أحد اهتمامات بوروز الرئيسية حول السيطرة، وقد استغل الخيال العلمي مرارًا وتكرارًا للتعبير عن اقتناعه بأن الإنسان عبارة عن «آلة ناعمة»؛ أي كائن حي يتصل بهيئةِ تحكُّم يُطلَق عليها «استوديو الواقع»؛ ففي روايته «الآلة الناعمة» (١٩٦١، ١٩٦٦)، يصوِّر هجومًا على هذا الاستوديو في محاولة لانتزاع السيطرة على الفضاء الداخلي واستعادتها. ويوحي مصطلحُه المَجازيُّ «فيلم الواقع» بأن الواقع ذو طبيعة مسبقة التصميم، وهو ما سنجده متكررًا في أدب فيليب كيه ديك وآخرين.

عندما دعا بالارد في الأصل لاستكشاف الفضاء الداخلي، كان يقترح في المقام الأول ابتعادًا عن حكايات رحلات الفضاء، ولكن ليس بالضرورة تحركًا نحو الاستكشاف النفسي. ومنذ تصريحه عام ١٩٦٢، مرَّ مفهوم الفضاء الداخلي في حد ذاته بمجموعة من التحولات من بينها التخطيط البصري، والتصوير الميكروسكوبي الداخلي، وبالطبع الفضاء السايبري، وهو مصطلح عرَّفه كاتِب الخيال العلمي الأمريكي ويليام جيبسون عام ١٩٨٢ وقدَّم شرحًا شهيرًا له في رواية «نورومانسر» (١٩٨٤) كما يلي:

هلوسة يمرُّ بها يوميًّا بالتراضي ملياراتٌ من العمال التقليديين — في كل أمة — على يد أطفال يتعلمون مفاهيم رياضية … عرضٌ حي للبيانات المستخلصة من بنوك المعلومات على كل كمبيوتر في المنظومة البشرية؛ تعقيدٌ لا يمكن تصوُّره؛ خطوطٌ من الضوء تصطفُّ في اللافضاء العقلي؛ تكتلاتٌ ومجموعات متألقة من البيانات، تتبدَّد مثل أضواء المدينة.

إنَّ تفسير الفضاء السايبري يتضمن تناقضًا حتميًّا باعتباره فضاءً ولافضاءً في الوقت نفسه، أمَّا الآن وهو مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالإنترنت والشبكة العنكبوتية، أصبح كِلَا التعبيرين يحملان استعارات مدمجة تتعلق بالأنظمة المتجسدة لنقل المعلومات. كذلك يضِيف فعل «تصفح» الإنترنت بُعدًا شبه جسدي أكبر لعملية البحث عن المعلومات.

ورغم ذلك، فإن مصطلح «الواقع الافتراضي» بالذات يرتبط ارتباطًا مباشرًا إلى أقصى حدٍّ بالتصورات الخيالية للفضاء. ويرجع ترويج مصطلح الواقع الافتراضي على أنه عقَّار إلكتروني ترفيهي في المقام الأول إلى ثمانينيات القرن العشرين؛ ففي عام ١٩٩٠ وصفتْه مجلة وول ستريت جورنال بأنه «عقَّار هلوسة إلكتروني»، في تشبيه تجلَّى عبر شخصية فيجوال مارك في رواية باتريشيا كاديجن التي صدرت عام ١٩٩١ تحت عنوان «ساينرز»؛ فَمارك مدمِن لتكنولوجيا الواقع الافتراضي ويحلم بالهروب من القيود أو الحدود حتى يستطيع «التحليق عبر الكون إذا أراد ذلك». تُقدِّم كاديجن وصفًا حيًّا وبارعًا لتجربة غامرة بمعنى الكلمة؛ وهي تجربة ارتداء «رأس فيديو»؛ أي خوذة واقع افتراضي إلكترونية، وعلاوة على ذلك تعكس التسمية (رأس فيديو) تورية واضحة تشير إلى الإدمان. وترتدي شخصية جينا واحدةً من تلك الخوذات وسرعان ما تبدأ في التعرُّض لتحولات غريبة في الشعور والزمن، فتفقد السيطرة على ما يحدث وعلى زمن حدوثه. إن الانتقال السريع بين المَشَاهد وتغيُّر مدتها يستدعي إلى الذهن المَشَاهد الشبيهة بالأحلام في رواية دي كوينسي «اعترافات آكل أفيون إنجليزي» (١٨٢١). وبالفعل عندما عادت جينا من «رحلتها» في الواقع الافتراضي، يوصف الحدث وكأنها استيقظت. وعلى العكس من ذلك، في رواية نيل ستيفنسون «انهيار ثلجي» (١٩٩٢) يتقاسم الناس المكان الذي يُعرَف باسم «الشارع»، وهو الطريق الخاص بإجراء صفقات المعلومات فيما يُطلِق نيل عليه «الكون المتعدد»، وهو مصطلح ابتُكر في الأصل على يد ويليام جميس للإشارة إلى تنوع الطبيعة، لكنه يُشير ها هنا إلى تعدُّدية الواقع نفسه ومرونته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤