الفصل الخامس

الخيال العلمي والزمن

يرتبط الخيال العلمي ارتباطًا وثيقًا بالمستقبل — أو بالزمن عبر جوانبه المختلفة — أكثر من أي نمط أدبي آخر، فهو في النهاية أدب عن التغيُّر، والتغيُّر حسب تعريفه يفترض ضمنًا إدراكَ أن الحاضر لا ينفصل عن تصوُّرات الماضي وتوقعات المستقبل التي تشكِّل ذلك الحاضر. وعلى الرغم من بزوغ التكهنات حول المستقبل في مجال الخيال العلمي مبكرًا من خلال أعمال مثل «مُذكِّرات القرن العشرين» (١٧٣٣) لصامويل مادين، و«عام ٢٤٤٠» (١٧٧١) للويس-سيباستيان ميرسيه، فإن أحد الدوافع المحورية لإعادة النظر في مفهوم الزمن كانت صياغة نظرية التطوُّر في منتصف القرن التاسع عشر على يد تشارلز داروين وآخرين. نجح كتاب «أصل الأنواع» (١٨٥٩) والدراسات الجيولوجية في توسيع نطاق الزمن بحيث أصبح التاريخ البشري مجرد حقبة وجيزة ليس إلا. وعلى الجانب الآخر، كانت نظرية داروين التطوُّرية العظيمة ملائمة لنظرية الأعراق في ذلك الوقت؛ إذ كان العنوان الفرعي لكتاب «أصل الأنواع» هو «بقاء الأعراق المُفضَّلة أثناء الصراع من أجل الحياة»، وبدت أن نهايته تطرح رسالة الأمل التالية: «بما أن الانتقاء الطبيعي لا يعمل إلا من خلال مصلحة كل كائن حي ومن أجلها، فإن المواهب الجسدية والعقلية سوف تَمِيل إلى التقدم في اتجاه الكمال.» وسواء كانت المثالية هي هدف رواية إدوارد بولوير ليتن «العِرق القادم» الصادرة عام ١٨٧١ أم لا، فإن عنوانها في حد ذاته يلمح إلى أن البطل سيلتقي بمستقبله الوشيك عندما يسقط إلى عالم تحتي عبر بئر منجم. وفي سياق مماثل، أعلنت رواية جورج تومكينز تشيزني «معركة دوركينج» (الصادرة أيضًا عام ١٨٧١) عن مولد جنس أدبي جديد، وهو قصص الحروب المستقبلية، الذي يعبر عن انعدام الأمان الإقليمي. ومن الممكن أيضًا اعتبار رواية مارك توين «أمريكي من كونيتيكت في بلاط الملك آرثر»، الصادرة عام ١٨٨٩، قصة عن السفر عبر الزمن، تدور أحداثها حول سقوط الأمريكي هانك مورجان ابن القرن التاسع عشر على الأرض في حالة إغماء يستيقظ منها في عالَم يُشبه القرون الوسطى. استخدم توين استراتيجية السفر عبر الزمن كي يقدِّم رؤية تسخر بقسوة من الطابع العام في عهد الملك آرثر، الذي يكتسب في الرواية طابعًا غامضًا على نحو عبثي عديم الجدوى. ويجسِّد مورجان الذكاء العملي الواقعي الذي يهدم تدريجيًّا أساطير هذا العالم الآخر وشعائره.

أشاد إتش جي ويلز بدراسة داروين في محاضرة ألقاها عام ١٩٠٢ تحت عنوان «اكتشاف المستقبل»، موضحًا الشكوك التي أثارتها الدراسة حول مفهوم البداية المتناهية، وكذلك حول نهاية البشرية الحتمية. وبناءً على ذلك، استنتج أننا «على مشارف أعظم تغيُّر خاضتْه البشرية في تاريخها.» لكن هذا التصريح المتفائل لا ينعكس في رواية ويلز التي صدرت عام ١٨٩٥ تحت عنوان «آلة الزمن»، وهي إحدى الروايات التي شكَّلت أدب السفر عبر الزمن. في الروايات السابقة (واللاحقة كذلك، بما أن هذا النمط ظلَّ باقيًّا)، يتحرك المسافر عبر الزمن بين الحقب الزمنية عن طريق الاستغراق في حالة نوم غير طبيعية، لكن رواية ويلز تعكس تحولًا مهمًّا عن هذه الممارسة عن طريق تصوير النقلة الزمنية كشكل من أشكال السفر، وهو ما نجح الكاتِب في تحقيقه من خلال تناول الزمن كمكان. بالطبع، تُستخدَم الاستعارات المكانية استخدامًا روتينيًّا بهدف تصوير الزمن؛ ومن ثمَّ يُصبح السفر عبر الزمن هو تقديم مجازات حقيقية كامنة في اللغة ليس إلَّا. يوضح عنوان محاولة ويلز الأولى مع فكرة السفر عبر الزمن — «بحَّارو الأرجو الزمنيون» (١٨٨٨) — هذه الاستراتيجية من خلال التلميح بإمكانية اجتياز الزمن عبر رحلة، بينما لا تكتفي رواية «آلة الزمن» بتصوير وسيلة الانتقال بل تصف الرحلة ذاتها بمصطلحات تتنبأ بتكنولوجيا تسريع حركة فيلم، كما يحدث في رواية ويليام هوب هودجسن «بيت بين عالمين» (١٩٠٨). كان ويلز يعتبر نفسه رسولًا علمانيًّا، يهتم بتوعية قُرَّائه بالاتجاهات الصاعدة ضمن ثقافته؛ لذا يشبه الجزء الأول من الرواية درسًا علميًّا يصل إلى ذروته مع التوضيح العملي. لكن الخبرات التي يمر بها المسافر هي أبعد ما يكون عن تأكيد أي تفاؤل حيال التطور البشري؛ ومن ثمَّ تؤدي إلى تحرره من وهْم التقدم، إذ يواجه عالمًا ينقسم بين شعب الإيلوي الأرستقراطي الضعيف وشعب المورلوك الشبيه بالحيوانات الذي يعيش تحت الأرض. وعندما يهرب من المورلوك وينتقل إلى حقبة زمنية أبعد، فإن التجربة التي يمر بها تبدو أكثر كآبة؛ إذ يجد نفسه على شاطئ، وهي صورةٌ مُعالَجَة بطريقة مستوى العتبة، كما لو أن البدايات التطورية للكون تتلاقى مع ظلمة موته الوشيك جرَّاء شدة الحرارة.

عادت فكرة آلة الزمن التي ابتكرها ويلز إلى الظهور عام ١٩٦٣ في المسلسل التليفزيوني «دكتور هو» من إنتاج قناة بي بي سي، والذي استخدم كابينة هاتف زرقاء خاصة بأفراد الشرطة (لم تعد موجودة الآن) تُدعَى تارديس للسفر عبر الزمن. فيما عدا ذلك، تجنَّبت قصص السفر عبر الزمن عادةً استخدام الآلات؛ فعلى سبيل المثال، تدور أحداث رواية جاك فيني «مرارًا وتكرارًا» (١٩٧٠) وجزؤُها الثاني «من حين لآخر» (١٩٩٥) حول استخدام هيئة حكومية سرية أساليب في التنويم المغناطيسي لإعادة الشخصيات إلى حقب سابقة من تاريخ مدينة نيويورك، وهي نفس العملية التي يستخدمها ريتشارد ماثيسون في روايته «ليت الزمان يعود» (١٩٧٥).

وبما أن مفهوم الزمن كان يتسع للعديد من الرؤى، فقد قدَّم كلٌّ من الماضي والمستقبل موضوعاتٍ للخيال العلمي. تلعب هذه العملية دورًا رئيسيًّا في رواية موري لينستر القصيرة «انحراف الزمن»، الصادرة عام ١٩٣٤، والتي تصوِّر «اختلالًا» في الزمان والمكان. تدور أحداث الرواية حول ظهور تناقضات عجيبة في حياة بلدة أمريكية صغيرة؛ حيث يشاهد السكان قادة رومانيين ويحدث نمو مفاجئ لنباتات بدائية. تُروى الحكاية في أغلب الوقت على لسان جيمس مينوت، معلِّم الرياضيات الذي يشرح لتلاميذه الحائرين وجود أزمنة مستقبلية وماضية متعددة يربطها «فضاء فوقي»، في أحد أوائل استخدامات هذا المصطلح في الأدب. لكن رغم محاولة لينستر لعرض صور من حقب زمنية مختلفة بعضها بجوار بعض، فإنه لا يعرض سوى نقلات عجيبة نتيجةً لطبيعة السرد المتسلسلة. وبما أن «الاختلالات الزمنية» تُشبَّه في الرواية بالزلازل، فإن دور الشخصيات ينحصر في كونهم شهودَ عيانٍ تعيسي الحظ على عملية تتوقف تدريجيًّا من تلقاء نفسها.

أدَّى المفهوم ما بعد الدارويني للزمن إلى صدور روايات تعرض سردًا تاريخيًّا للمستقبل؛ فعلى سبيل المثال، جمعت رواية أولاف ستابلدون «الإنسان الأول والإنسان الأخير» (١٩٣٠) بين غزو المريخ واستكشاف الكواكب، لكن في إطار سردي تاريخي يغطي مدًى زمنيًّا هائلًا. يتحدث الراوي إلى القارئ من المستقبل البعيد حسب زعمه عارضًا «قضية العقل البشري العظيمة»، التي تتضمن التطور المتسلسل لأشكال مختلفة من البشر تستخدم أسلوبًا سرديًّا مهيبًا أُعِدَّ ليعكس مدى قصر حياة الفرد ومدى ضخامة الإمكانيات البشرية رغم ذلك. أما رواية «صانع النجوم» — التي صدرت عام ١٩٣٧ وسط أجواء الحرب الوشيكة — فتبني حبكتها على موضوع الرواية السابقة كي تصوِّر بحث الراوي عن أشكال الحياة الذكية في الكون. تتكون الحبكة من سلسلة رحلات عبر الفضاء لا تعتمد على أي وسائل تكنولوجية؛ حيث يصبح التحليقُ في الفضاء المقابلَ الجسديَّ للامتداد العقلي لدى الراوي.

يقابل البطل أثناء رحلاته أشكالًا مختلفة من الحياة ومن التنظيمات السياسية، التي تمهِّد الطريق للموضوعات التي سيتناولها إسحاق أزيموف في «ثلاثية المؤسسة» (التي اتسع نطاقها فيما بعد لتشمل سبعة أجزاء) الصادرة في خمسينيات القرن العشرين. تأثرت هذه السلسلة في الشكل بكتاب جيبون «اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها» وكتاب أرنولد جيه توينبي «دراسة التاريخ». تقع أحداث الروايات في المستقبل؛ حيث أصبح الارتحال بين الكواكب أمرًا روتينيًّا، وتُقدَّم في إطار تدوينات من «موسوعة المَجرَّة»، وهي عمل مؤلَّف يُضرب مثلًا على آليات عمل «التاريخ النفسي»، ابتكره المؤسِّس الحكيم هاري سيلدون ويُعرَف في الرواية بأنه «ذلك الفرع من الرياضيات الذي يتناول ردود أفعال التكتلات البشرية لمحفِّزات اقتصادية واجتماعية ثابتة»؛ أي إنه يقدِّم نظامًا واسع النطاق للتنبؤ بالسلوك الجماعي، وينبغي عدم الخلط بينه وبين مصطلح «التاريخ النفسي» الذي ابتُكر كذلك في خمسينيات القرن العشرين ويصف تأثير الأفراد البارزين على التاريخ. تستعرض روايات أزيموف قضايا مثل علاقة مراكز القوة بالأطراف، أو علاقة المستشارين العلميين بالحُكَّام السياسيين، وإن كان يستعرض تلك الموضوعات إجمالًا. وعلى الرغم من أن أزيموف أضاف شخصية تُدعَى «مِيُول»، تلعب دورًا مهمًّا في تفكك إمبراطورية المجرَّة، فإنه لا يقدم تنظيرًا لدوره. ولقد تركت حكايات تاريخ المستقبل لدى كلٍّ من ستابلدون وأزيموف أثرًا قويًّا على الكُتَّاب اللاحقين.

أدب ما قبل التاريخ

ما إنْ بدأ تخيُّل الزمن كمدًى مفتوح للاستكشاف، أصبح التحرك عبرَه — سواءٌ إلى الأمام أم إلى الخلف — ممكنًا. تشتهر القصص التي تصف مخلوقات من عصورِ ما قبل التاريخ باسم «أدب ما قبل التاريخ»، وهو تعبير ابتُكر في ستينيات القرن التاسع عشر في فرنسا حيث وُلِد هذا الجنس الأدبي؛ على سبيل المثال، يبدأ الكاتِب إلِي بيرتيه روايته «عالمُ ما قبل التاريخ» الصادرة في ثلاثة أجزاء (نُشِرت عام ١٨٧٦، وتُرجِمت عام ١٨٧٩) بوصف لمدينة باريس أثناء العصر الحجري، أو بالأحرى للموقع الذي سيشهد إنشاءها في المستقبل. لا يعكس المشهد أي علامة على نشاط أو بناء بشري؛ ومن ثَمَّ يبيِّن بعض الخصائص العامة التي لعبت دورًا لاحقًا. وبما أن تلك الروايات تصف عالمًا لا يعرف القراءة والكتابة، فإن القارئ يَعِي بالضرورة في كل صفحة كونَها قصصًا تعتمد على حبكات تكهنية. وهي عادةً ما تتخذ نمطًا محددًا، فتعرض ممارسات عامة مثل التسلسل الهرمي للأنواع أو جمع الطعام. أتاح أدبُ ما قبل التاريخ ساحة لمناقشة نظرية التطور أو لإعطائها شكلًا ماديًّا، وهي النظرية التي اعتنقتْها مجموعة من الكُتَّاب مِن بينِهم أندرو لانج، وروديارد كيبلينج، وبالطبع إتش جي ويلز (صاحب «قصة من العصر الحجري»، الصادرة عام ١٨٩٧). يحدث تداخل بين قصص العالم المفقود وبين هذا الجنس الأدبي، بما أنها عادةً ما تصوِّر حكايات البحث والاكتشاف باعتبارها رحلات إلى زمن مبكر. لكن رواية كونان دويل «العالم المفقود» أو قصص روبرت دبليو تشامبرز تعتمد على فرضية وجود العالم البدائي فعليًّا في الحاضر، وكأن التطور مكوَّن من مجموعة من المسارات، كلٌّ منها يَسِير بسرعته الخاصة.

من أوائل كُتَّاب أدبِ ما قبل التاريخ وأكثرهم شهرةً جاك لندن، الذي تُخاطِب روايته «قبل آدم» (١٩٠٧) نزعة الشك لدى القارئ منذ البداية. إن تجارب لندن مع الخيال العلمي في هذه الرواية وفي رواية «رحَّال النجوم» (١٩١٤) يدفعها سأمه من حدود العقل؛ ففي الرواية الثانية، يتمكَّن البطل من الارتحال إلى فترات مبكرة، أمَّا في «قبل آدم» فيقدم الراوي نفسَه باعتباره حالِمًا يملك القدرة على تجسيد أي معلومات يقرؤها، على نحو يشبه إلى حدٍّ ما بداية رواية مايكل بيشوب «الزمن عدونا الوحيد» (١٩٨٢)؛ حيث تلعب شرائح الصور التي يعرضها أبو الراوي دَوْر منصة انطلاق يعبر من خلالها إلى أرض أفريقية عتيقة. في رواية «قبل آدم» تُوصَف هذه القدرة بأنها «ذاكرة العِرق»، التي تمكِّن الراوي من العودة إلى الزمن البدائي من أجل التعرُّف على حياة أجداد عِرقه؛ حيث يكتشف أن أمَّه «تُشبِه قرد أورانجتان ضخمًا»، أما أبوه فهو «نصف رجل ونصف قرد». وهكذا تعرض الرواية تصورًا خياليًّا عن الوراثة.

يتجنب لندن التنافر الناتج أحيانًا عن الجمع بين طريقة سرد معاصرة وموضوع عتيق عن طريق إعطاء الراوي شخصية الحالِم الذي يصطحب القارئ في رحلاته، وهي وسيلة مناسبة بما أنه كان يرغب في التأكيد على فكرة التواصل بين الماضي العتيق والحاضر. كذلك يتجنب ويليام جولدنج هذا التنافر على نحو مُثير للإعجاب في روايته «الوارثون» (١٩٥٥)؛ حيث يبتكر أنماطًا بارعة من الحديث والإدراك تتلاءم مع قدرات أبطاله من البشر البدائيين (النياندرتال)؛ إذ تُعرَض الأجزاء الأولى من الرواية من وجهة نظرهم. ومنذ عام ١٩٨٠، أصبحت جين إم أُول إحدى أهم كُتَّاب أدب ما قبل التاريخ؛ إذ تقع أحداث سلسلة رواياتها «أطفال الأرض» في أوروبا في عصرِ ما قبل التاريخ. في حين تلخص رواية ستيفن باكستر «التطور»، الصادرة عام ٢٠٠٢، هذا الاتجاهَ الأدبي الدارويني عبر سلسلة من القصص تبدأ من عصر الرئيسيات حتى العصر الحاضر، وتتوافق كلٌّ منها مع التصورات المفترضة عن كل مرحلة من مراحل التطور.

الحروب المستقبلية

بفضل أبحاث آي إف كلارك الرائدة، أصبحنا نُدرِك الآن الكَمَّ الضخم من قصص الحروب المستقبلية التي صدرت تحديدًا في الفترة بين عام ١٨٧١ وحتى الحرب العالمية الأولى؛ أي في أوج عصر الإمبراطورية. ورغم وجود نماذج مبكرة من هذا الجنس الأدبي الفرعي، فإنه بدأ فعليًّا مع رواية تشيزني «معركة دوركينج»، التي نُشِرت عقب الحرب الفرنسية البروسية مباشرةً. حققت الرواية التي تصوِّر غزوًا ألمانيًّا للأراضي البريطانية الرئيسية انتشارًا عالميًّا، وقد أسَّست نمطًا — اتبعتْه الأعمال الأدبية اللاحقة — يركِّز على وصف أحداث من المستقبل الوشيك ويقدِّم مزيجًا من التغييرات في خريطة العالم السياسية، ووسائل الاتصال الجماهيري، والتكنولوجيا العسكرية في قصص تشبه أجراس إنذار وطنية تُنبِّه إلى ضرورة الاستعداد. ترتبط قصص الحروب المستقبلية ارتباطًا وثيقًا بممارسة ألعاب الحرب، التي بدأها البروسيون في عشرينيات القرن التاسع عشر، وترسَّخت منذ ذلك الحين من خلال تقنيات المحاكاة الحاسوبية التي تبلغ في بعض الأحيان مستوًى من الواقعية يجعل من الصعب تمييزها عن الحقيقة. تلك الصعوبة، بالإضافة إلى الخوف من فقدان الجيش السيطرةَ على نظام الكمبيوتر الخاص به، هي أحد الموضوعات الرئيسية في فيلم «ألعاب الحرب» (وور جيمز) الذي عُرِض عام ١٩٨٣.

طوى النسيان الآن الكثير من قصص الحروب المستقبلية من مطلع القرن التاسع عشر، لكنها قدَّمت تجسيدًا دراميًّا لآمال ومخاوف الإمبراطورية في عصرها؛ على سبيل المثال، تدور أحداث رواية لويس تريسي «إمبراطور أمريكي» (١٨٩٧) حول ثَرِي أمريكي جريء يستخدم دهاءه ليصل إلى منصب إمبراطور فرنسا، في حين تقدِّم رواية جوستافوس دبليو بوب «رحلة إلى المريخ» (١٨٩٤) قصة أعجب عن رحلة يخوضها روَّاد فضاء أمريكيون إلى الكوكب الأحمر؛ حيث يقابلون عِرقًا متطورًا يملك تكنولوجيا متقدمة، لكنه ودود للغاية لدرجة أن سفينة القيادة لدى البحرية المريخية ترفع العلم الأمريكي على شَرَف الزوار!

تتغيَّر هوية القوة الغازية من حقبة إلى أخرى؛ ففي رواية كليفلاند موفت «فتح أمريكا» (١٩١٦) يخطِّط الألمان لغزو الولايات المتحدة الأمريكية، بينما تصوِّر رواية فرانك آر ستوكتون «اتحاد ممولي الحرب العظمى» (١٨٨٩) اشتعال الحرب بين الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا. تشير تلك الاختلافات إلى تقلب السياسات الاستعمارية بالقرب من مطلع القرن، لكننا نلاحظ تكرار مواضيع بعينها؛ فعادةً ما تُوضَع الخبرة التكنولوجية وحس الابتكار الأمريكي في مواجهة المؤسسات العسكرية الأكثر محافظةً لدى القوى الأوروبية، وكثيرًا ما يئول النصر في النهاية إلى الأنجلوساكسونيين؛ أي إلى اتحاد بين بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية. وتتضح العنصرية الكامنة في الكثير من تلك الروايات في تلك التي تتناول ما يُطلَق عليه «الخطر الأصفر»، وهو عنوان رواية الكاتِب إم بي شيل، الصادرة عام ١٨٩٨، التي تدور أحداثها حول مخطَّط صيني شيطاني للسيطرة على العالم، يبدأ بتحريض القوى الأوروبية بعضها ضد بعض إلى أن يدبَّ الضعف في أوصالها ثم غزو أوروبا. تصف الرواية اجتياح الصينيين لفرنسا بالعبارات التالية: «إنَّ سَحْنَة الرجل الأصفر العَظْمية في لحظات الشهوة الجامحة والحماس المجنون لَمَشهد وحشي.» ولا يستطيع الغرب تجنُّب الهزيمة إلَّا عن طريق نشر وباء بين القوات الصينية يؤدي إلى إبادة الملايين، لكنه يستردُّ الوضع العِرقي القائم. إن المشهد الذي يصوِّره شيل لا يزيد في بشاعته عن تنبؤ جي جي روبرت — وهو قس من ولاية أوكلاهوما — في روايته «الخطر الأصفر أو الشرق ضد الغرب» (١٩١١) بمعركة قادمة بين جيوش الشرق والغرب، ينتصر فيها الغرب محقِّقًا النبوءات الإنجيلية.

تلك الروايات عن الحروب المستقبلية توضح لنا السياق الذي شهد صدور أشهر رواية غزو على الإطلاق؛ وهي «حرب العوالم» لإتش جي ويلز (١٨٩٨)، التي تقدِّم تصورين يناقضان إحساس الرضا السائد في تلك الفترة. يدرك القارئ مع أول سطور الرواية أن الأنواع البشرية على الأرض كانت تحت ملاحظة المريخ، كما لو أنها نوع حي أقل شأنًا. وعندما يبدأ الغزو المريخي، فإن سفن الغُزَاة تهبط في عاصمة الإمبراطورية البريطانية ذاتها؛ أي مدينة لندن. وكما أشار عدد من المُعلِّقين على الرواية، يقلب ويلز نمط الإمبراطورية صراحةً ويدفع القارئ إلى النظر لمصير سكان تسمانيا — الذين انقرضوا تقريبًا مع سبعينيات القرن التاسع عشر — كأمر محتمَل حدوثُه لسكان بريطانيا. تقدِّم الرواية صورة مزدوجة للغزاة المريخيين، تجمع سمات ميكانيكية وأخرى بيولوجية، فهي كائنات يستعصي على البحرية البريطانية — القوة العظمى لدى الإمبراطورية — تدميرها؛ لأنها تملك سلاحًا جديدًا مُمِيتًا وهو الشعاع الحراري. تَعْرض الرسومات الأصلية للرواية مرارًا وتكرارًا مشاهد منحرفة بزاوية مائلة في إشارة محتمَلة إلى فقدان التوازن العام في إنجلترا.

داخل الدروع الحديدية التي يرتديها المريخيون، نكتشف أنهم يُشبِهون أخطبوطًا ذا رأس ضخم وأطراف ضامرة، وهو شكل التطور النهائي للبشرية حسب اعتقاد ويلز. في ذلك الإطار، تصوِّر رواية «حرب العوالم» هجومًا على البشرية يشنُّه مستقبلها. وفي فيلم جورج بال المقتبس عن الرواية عام ١٩٥٣، تدور معظم الأحداث في كاليفورنيا حيث يفجِّر الجيش الأمريكي قنبلة ذرية في محاولة عقيمة لدرء المريخيين، وسنعرض لاحقًا ظاهرة عودة جنس الحروب المستقبلية الفرعي إلى الحياة أثناء الحرب الباردة في الروايات التي تصوِّر الصراع النووي.

fig14
شكل ٥-١: رسم توضيحي من النسخة الأصلية لرواية إتش جي ويلز «حرب العوالم» (١٨٩٨).

العوالم المستقبلية ما بعد النووية

رغم أن إتش جي ويلز يلعب من جديد دورًا تأسيسيًّا في وصف الحرب الذرية الأولى في الأدب، فقد تطوَّر هذا الموضوع إلى قضية جلية ومُلِحَّة أثناء الحرب الباردة، تناولتْها مجموعة كاملة من الروايات في الفترة من خمسينيات القرن العشرين إلى ثمانينياته؛ ففي رواية ويلز «العالم يتحرَّر» (١٩١٤، صدرت في الولايات المتحدة الأمريكية تحت عنوان «الحرب الأخيرة»)، يلمح العنوان في حد ذاته إلى ارتباط عنصر الراديوم بالأمل في تحقيق اليوتوبيا، تحديدًا الأمل في انتقال البشرية إلى مرحلةِ ما بعد القوميات؛ حيث أصبحت الحرب ظاهرة من الماضي. ولدواعي المفارقة، نُشِرت الرواية في العام نفسه الذي شهد اندلاع الحرب العالمية الأولى. وأدَّى قصف هيروشيما وناجازاكي عام ١٩٤٥ إلى تحوُّل سيناريو ويلز على حين غِرَّة إلى واقع وشيك، ترمز إليه ساعة يوم القيامة المضبوطة على بضع دقائق قبل منتصف الليل، والتي ظهرت بدءًا من عام ١٩٤٧ على غلاف كل عدد تُصدِره مجلة «بوليتين أوف ذي أتوميك ساينتيستس». وفجأة أصبح للزمن قيمة ثمينة مع بدء كثير من الروائيين عدًّا تنازليًّا للدقائق التي تفصلهم عن المحرقة المستقبلية القادمة. ومع استبدال الصواريخ الباليستية بقاذفات القنابل، تقلَّص زمن الإنذار جذريًّا، حتى إن رواية جانيت وكريس موريس «حرب الأربعين دقيقة» الصادرة عام ١٩٨٤ (والتي تتمحور على خلاف العادة حول خطر الجهاديين الإسلاميين) تحشد الحدث الرئيسي في مدًى زمني يقِلُّ عن ساعة. في بعض روايات اليوتوبيا — مثل رواية سوزي ماكي شارنز «رحلة إلى نهاية العالم» (١٩٧٤) — تَظهَر الحرب النووية في خلفية القصة كوسيلة لتفسير فَنَاء المجتمع التقليدي.

يلعب الاتحاد السوفييتي دَوْر العدوِّ في الغالبية العظمى من روايات الحرب النووية، وتَظهَر الحرب كردِّ فعْل من منظور الأمريكيين في موقع الحدث؛ حيث أصبحت المشكلة الرئيسية هي بقاء الأمة والأفراد على قيد الحياة. في الواقع، تصوِّر بعض الروايات — مثل رواية سيرل إم كورنبلوث «أغسطس آخر» (١٩٥٥، صدرت تحت عنوان «ليلة الكريسماس» في المملكة المتحدة) أو رواية أوليفر لانج «فاندينبِرج» (١٩٧١) — الولاياتِ المتحدةَ الأمريكيةَ تحت الاحتلال السوفييتي، بينما تصف رواية فيليب وايلي «غدًا!» (١٩٥٤) على عكس المعتاد القصف الفعلي لمدينتين في وسط غرب الولايات المتحدة، كان سكانهما يتجادلون حول أهمية إجراءات الدفاع المدني. يستخدم وايلي أسلوب الصدمة في مشاهده التفصيلية التي تصوِّر الضحايا — مثل مشهد طفل رضيع مزَّقتْه قطعة زجاج طائشة، ورجل يَسِير على عظام قصبتَي ساقه بعدما جُذَّت قدماه — في محاولة لإخافة القُراء ودفعهم إلى إدراك الحاجة إلى اتخاذ إجراءات دفاعية، على الرغم من أن ثقته في الدفاع المدني قد انهارت على ما يبدو مع حلول عام ١٩٦٣ عندما نشر روايته الثانية عن الحرب النووية «انتصار»؛ ففي هذه الرواية، لا سبيلَ إلى تجنب محرقة للدمار الشامل.

كذلك تصوِّر رواية «ظِلٌّ على المدفأة» (١٩٥٠) — التي تنتمي لمرحلة المخاوف النووية المبكرة — الجهود الفعَّالة التي تبذلها ربَّة منزل من مدينة نيويورك للتأقلم مع ضربة نووية من خلال إجراءات عملية مناسبة. أما رواية الحرب النووية التي ظلَّ يُعاد طبعها باستمرار منذ صدورها الأول، فهي «وا أسفاه على بابل!» (١٩٥٩) للكاتِب بات فرانك، وتتبع حبكتُها نمطَ الاعتماد على الذات نفسَه كما في رواية ميريل. تعرض الرواية الحرب النووية من منظور بعيد لمدينة صغيرة في مركز فلوريدا، وتدور الأحداث حول محاولات الحفاظ على النظام المدني رغم تصاعد أعمال النهب وغيرها من الجرائم. تنطوي رؤية فرانك المخفَّفة للهجوم النووي على كثير من نقاط الضعف التي ازداد وضوحها مع نهاية الرواية، لا سيما فيما يتعلق باعتماد البلدة على إمدادات الطعام والدواء والطاقة القادمة من مراكز حضرية قد دُمِّرت؛ ومن ثمَّ، تتلافَى الرواية انهيارًا محتومًا سوف يحدث بعد آخر صفحة منها.

fig15
شكل ٥-٢: صورة من فيلم «هُمْ!» (١٩٥٤) للمخرج جوردون دوجلاس.

يشبه أسلوبُ فرانك شبه الواقعي أسلوبَ السرد البعيد عن المبالغة في رواية نيفل شوت «على الشاطئ» (١٩٥٧)، والتي تعتبر — بجانب الفيلم المُقتبَس عنها عام ١٩٥٩ — أكثر معالجات الحرب النووية إثارةً للجدل في تلك الفترة. كان شوت يخطِّط في البداية لكتابة قصة عن النجاة، لكنه غيَّر الحبكة بعدما عرف مزيدًا من المعلومات عن حركة الغبار الإشعاعي ليَلقَى جميع الأبطال مصرعهم. تدور أحداث الرواية حول تدفق متوحش للغبار الإشعاعي نحو نصف الكرة الجنوبي عقب حرب عالمية ثالثة، وتُركِّز على وصوله إلى أستراليا على وجه التحديد. تنقسم الأحداث بين منطقة ملبورن، حيث يجاهد الأبطال لتقبل مصيرهم إلى أن يقرروا الانتحار بابتلاع حبوب قاتلة، وبين رحلة غوَّاصة نووية إلى الولايات المتحدة وغيرها من الأماكن بحثًا عن ناجين. وقد فُوجِئ شوت بوصول الرواية إلى قائمة الروايات الأكثر مَبيعًا. من ناحية أخرى، استطاع ستانلي كريمر في عمله المُقتبَس عن الرواية كسر النمط المتصاعد في حقبة الخمسينيات من القرن العشرين، والذي يركِّز على عرض الخطر النووي عرضًا مثيرًا من خلال مشاهد بشعة، كما نجد — على سبيل المثال — في فيلم «الوحش القادم من عمق ٢٠ ألف قامة» (ذا بيست فروم توينتي ثاوزاند فاتومز) ١٩٥٣، الذي يصوِّر انفجارًا نوويًّا أدَّى إلى إذابة الجليد عن كائن متجمِّد في القطب الشمالي، بينما يعرض فيلم «هُمْ!» (ذِم) ١٩٥٤، حشرات نمل هائلة الحجم نتجت عن إشعاع صادر من موقع تجارب قريب.

على العكس من ذلك، يصوِّر كريمر ببساطة توقف النشاط اليومي المعتاد في حياة شخصياته، ويراعي جاهدًا تجنب أي بارقة أمل قد تخفِّف من تأثير الفيلم. ونظرًا لتعارض هذا التناول مباشرةً مع سياسة الدفاع المدني لدى حكومة أيزنهاور، فإن الفيلم هُوجِم بسبب روحه الانهزامية. وعلى الرغم من الشكوك المُثارة حول الافتراضات العلمية التي يعتمد عليها الفيلم، فإنه يظل إحدى أعمق المعالجات التي تناولت آثار الكوارث النووية وأشدِها قسوة.

كان على أدب الحرب النووية التعامل مع مشكلة متكررة مع أسلوب التعبير؛ وهي كيف تصف ما لا يمكن وصفه؛ فالقليل جدًّا من الروايات تصوِّر ضربةً نووية فعلية، بل كان النموذج المُتبَع عادةً يقدِّم وصفًا للآثار المترتبة عليه في وقتٍ ما في المستقبل البعيد. يتفق جميع الكُتَّاب على أن تلك الحروب ستُحدِث شرخًا هائلًا في المجتمع، والبعض يصوِّر نتائجها في إطار انتكاس نحو عالم خَرِب يَسبِق التحول الصناعي. في رواية ألدوس هكسلي «القرد والحقيقة» (١٩٤٨)، ورواية كيم ستانلي روبنسون «الشاطئ البري» (١٩٨٤)، والأعمال الشبيهة، تبحث الشخصيات جاهدةً عن آثار ذات قيمة من عالم مدمَّر. وفي روايات أخرى — مثل رواية ألفريد كوبيل «ديسمبر القاتم» (١٩٦٠) أو رواية ويتلي ستريبر وجيمس كونيكتا «يوم الحرب» (١٩٨٤) التي تتخذ شكل تحقيق صحفي — أصبحت الأرض في حدِّ ذاتها ممزَّقة؛ إذ تنقسم ما بين أجزاءٍ ملوَّثة، وأخرى صالحة للسكن، على الأبطال إعادة اكتشافها. تعكس رواية جيمس مورو «هكذا ينتهي العالم» (١٩٨٥) تناقضًا قويًّا مع التركيز العام — لأسباب جلية — على فكرة النجاة في هذا النوع من الأدب؛ إذ تدور أحداث روايته حول محاكمة البطل على يد مَنْ قُتِلوا في الحرب النووية بتهمة توقيع عقد يضع مصائرهم في يد «صانع القبعات المجنون»؛ حيث يقدم مورو دمجًا عبثيًّا بين شخصية لويس كارول وبين مبدأ «الدمار المُحقَّق المتبادل» الاستراتيجي. وهكذا، صمَّم مورو عمله الأدبي بحيث يحيي ذكرى ضحايا الحرب قبل وقوعها.

نخصُّ بالذكر ها هنا عملين كلاسيكيين من أدب الحرب النووية؛ أولهما: رواية والتر إم ميلر الابن «أنشودة لأجل ليبوفيتز» (١٩٥٩)، التي تستخدم بناءً سرديًّا ثلاثيًّا يعرض الحرب النووية باعتبارها ذروة الهوس الغربي بالبحث العلمي العقلاني. تسقط الرواية تاريخ التراث المسيحي-اليهودي على المشهد الأمريكي، ثم تبدأ التاريخ من جديد حتى تصل إلى حقبة الخمسينيات من القرن العشرين. يقع تسلسل الأحداث بالكامل بعد حرب نووية سابقة — يُطلَق عليها اسم «طوفان اللهب» — أدت إلى محْو الثقافة، وأنتجت عددًا لا يُحصَى من البشر المشوَّهين. ويعرض ميلر بإيجاز تاريخ الغرب الثقافي عبر أحداث مثل إعادة اكتشاف الطباعة، ونهضة العلم، وتأسيس الدولة القومية الحديثة، بينما تبلغ الرواية ذروتها مع الحدث المكرر الأخير؛ ألَا وهو اندلاع الحرب النووية من جديد بين القوى العظمى. يصوِّر ميلر تاريخ الغرب باعتباره دورة مكتوبة سلفًا وحتمية التكرار. أما العمل الثاني، فهو رواية راسل هوبان «ريدلي ووكر» (١٩٨٠) التي يعرض من خلالها نصًّا متعدِّد الدلالات والمعاني، يقدِّم حكاية على نمط حكايات كانتربيري، لكن في حقبة تالية لحرب نووية؛ حيث يدور الراوي — الذي تحمل الرواية اسمه — حول كانتربيري بدلًا من الذهاب إليها عبر طريق مستقيم. يستحضر هوبان من جديد حضارة العصر الحديدي الحديث؛ حيث يواجه البطل مجموعة من الألغاز أثناء تجوله في المنطقة، مما يتلاءم مع اسمه (فكلمة ريدلي مشتقة من كلمة riddle بالإنجليزية التي تعنِي لغزًا). أما اللغة التي يتحدث بها — لغة النص ذاته — فهي شكل مشوَّه من الإنجليزية يعكس معانيَ مزدوجة، كما يتضح في التداخل بين قصة آدم وقصة انشطار الذرة في الفقرة التالية:

كان يوستاس يشتاطُ غضبًا، وبدا كأنه سينفجر من الغيظ، وأخذ يجذب الرجل الصغير المدعو آدم من ذراعيه المبسوطتين. وإذا بجسد الرجل الصغير يتصدَّع، والرجل يتعالى صراخه … انشطر الرجل الصغير نصفين وصدرت عنه حلقات ضوئية كثيرة.

تتناول التورية ها هنا فكرة انشطار الذرة كفِعل من أفعال العنف الجسدي تنتشر عواقبه في تموجات تُذكِّرنا بالرسوم البيانية التي توضح أنصاف أقطار الانفجارات من منظور علوي.

التاريخ البديل

إذا كان في وسع الإطار الزمني للخيال العلمي الرجوع إلى الخلف مثلما ينطلق إلى الأمام، فليس من المستغرب بدء ظهور جنس أدبي مع نهاية القرن التاسع عشر يتمحور حول تكهنات الكُتَّاب بمسارات بديلة من المحتمَل أن التاريخ المعروف قد اتخذها. تقدِّم مجموعة مقالات جيه سي سكواير الصادرة تحت عنوان «لو حدث الأمر على نحو مختلف» (١٩٣١) مجموعة مبكرة من قصص التاريخ البديل؛ حيث يتكهَّن كُتَّاب مثل إيلير بيلوك وجي كيه تشسترتون بنتائج وآثار مختلفة لأحداث تاريخية رئيسية. أصبح هذا الجنس الأدبي فرعًا منفصلًا بعد الحرب العالمية الثانية، وهي الحرب التي ظلت أحد أكثر الموضوعات شيوعًا في هذا الأدب، جنبًا إلى جنب مع موضوعات بقاء الإمبراطورية البيزنطية أو الرومانية واستمرار الحرب الأهلية الأمريكية. تستغل تلك القصص كافةً نقطةَ تباعُد تتجسَّد عبر مفترق طرق في مسار التاريخ يتشعب إلى اتجاهات مختلفة، وعادةً ما تقع هذه النقطة أثناء حرب أو حدث محدد مثل معركة أو مولِد وريث، أي في نقاط لا يتسم فيها النموذج السردي البديل بالتعقيد الشديد.

غالبًا ما تهدف قصص التاريخ البديل إلى طرح تكهنات حول العالم المعاصر، بما أنها تعتمد على ثغرة زمنية ارتجاعية تتركز تدريجيًّا في حاضر القارئ؛ على سبيل المثال، يتناول يوجين بيرن وكيم روبنسون فكرة شيطنة اليسار السياسي في مجموعتهما القصصية «قديمًا في الولايات المتحدة الأمريكية الاشتراكية» (١٩٩٧)، التي تتناول آثار ثورة شيوعية في أمريكا. أما رواية فيليب روث «مؤامرة إسقاط أمريكا» (٢٠٠٤)، فتدور أحداثها حول انتزاع ليندبيرج منصب الرئيس الأمريكي من روزفلت كي تصوِّر شيوع معاداة السامية في أمريكا، بينما يتشكَّك هاري ترتلدوف (الذي يُوصَف غالبًا ﺑ «أستاذ التاريخ البديل») وبرايس زابيل في الهالة المثالية التي أُسبِغَت على كنيدي بعد اغتياله في روايتهما الإلكترونية التي تحمل عنوان «شتاء السُّخْط» (٢٠٠٧)، وتدور أحداثها حول نجاة الرئيس من محاولة اغتيال ثم خضوعه عقب ذلك للمحاكمة بتهمة الفساد.

من الكلاسيكيات المعروفة في مجال التاريخ البديل روايتان أمريكيتان؛ الأولى هي رواية وارد مور «فلتبدأ الاحتفالات» (١٩٥٣) التي تصوِّر الولايات المتحدة الأمريكية في حالة فوز الجنوب في الحرب الأهلية؛ حيث يسود الكساد الاقتصادي وتستمر العنصرية رغم إلغاء العبودية، ويقتصر التقدم التكنولوجي على نطاق محدود للغاية. يحيِّر الراوي — هودج — القارئَ منذ الصفحة الأولى عندما يصرِّح بأنه يكتب قصته في عام ١٨٧٧ على الرغم من ذكر الرواية لأحداث لاحقة. يركِّز السرد على مستوًى واحد ويتخذ شكلًا استثنائيًّا من أشكال قصص التكوين والنضج، إذ يَصِف التجارب التي يخوضها هودج في مجال تجارة الكتب وسيرته المهنية كمؤرِّخ؛ ومن ثمَّ، فإن موضوع الرواية الرئيسي هو التاريخ في حد ذاته ورغبة هودج في تكوين «الصورة الكاملة»، لكن مور يصوِّر مجتمعًا مضطربًا للغاية كي يجعل الوصف العقلاني مستحيلًا ويستخدم إشارات إلى العديد من الكُتَّاب التاريخيين (مثل بروكس آدامز، راندولف بورن، وغيرهم) كي يدفع القارئ إلى التشكُّك أكثر فأكثر في توقُّعاته حول قراءة سرد تاريخي واحد. ينضم هودج إلى مجموعة تضم عالِمًا اخترع آلة زمن، وهكذا تُتاح لهودج فرصة تحقيق حلم حياة أي مؤرِّخ وهو زيارة الماضي للتحقق من معلوماته. لكن في معركة جيتسبِرج يتسبَّب هودج دون قصدٍ في موت ضابط من جيش الكونفدرالية؛ مما يؤدي إلى تغيير مسار المعركة ومسار التاريخ ذاته ويعوقه عن العودة إلى حاضره. ينتج عن ذلك نص سردي أشبه بتجربة علمية يتدخل المراقِب في بياناتها؛ مما يؤدي إلى إلغاء النتائج.

أما الرواية الأمريكية الثانية، فهي «الرجل في القلعة العالية» (١٩٦٢) لفيليب كيه ديك، وكتبها متأثرًا برواية «فلتبدأ الاحتفالات»، وتدور أحداثها حول تقسيم الولايات المتحدة بين دول المحور المنتصِرة. تستعرض الرواية طُرق الاتِّجار في التاريخ الأمريكي عن طريق الإنتاج الضخم «للتذكارات»، وتُضفي تعقيدًا على الحبكة من خلال دمج سردٍ «مناقِض للواقع» يتجسَّد في رواية «الجُندب يستثقل» التي تجمع بين الحقيقة (هزيمة دول المحور في الحرب) والخيال (عدم حدوث هجوم بيرل هاربر). ينجح ديك من خلال هذا الأسلوب القائم على دمج رواية داخل الرواية في زعزعة فكرتنا عن الحقيقة التاريخية، ويقترح تاريخًا أوروبيًّا جديدًا يخطِّط فيه النازيون إلى افتعال حادثة في جبال روكي تبرِّر غزوهم للولايات الغربية وانتزاع السيطرة من اليابانيين. يرجع الجزء الأكبر من تأثير رواية مور ورواية ديك على حدٍّ سواء إلى النظرة التشكُّكية إلى التاريخ باعتباره بناءً سرديًّا.

تطوَّر في ثمانينيات القرن العشرين فرعٌ من التاريخ البديل أُطلِق عليه «ستيمبانك»، يُسقِط روح السايبربانك على الماضي في العصر الفيكتوري؛ على سبيل المثال، تصوِّر رواية ويليام جيبسون وبروس ستيرلينج «مُحرِّك الفَرْق» (١٩٩٠) تأثير جهاز الكمبيوتر البدائي الذي اخترعه تشارلز بابيدج على المجتمع. يمثل هذا الاختراع الحقيقي والتغيُّرات الناتجة عنه في تكنولوجيا المعلومات نقطةَ التباعُد التي يستخدمها الكاتِبان في رواية تتضمن محاكاة لإنجلترا في القرن التاسع عشر وشخصيات تاريخية تحتكُّ بأخرى خيالية. أما رواية بول دي فيلبو «ثلاثية الستيمبانك» (١٩٩٥)، فتواجه الوقار الفيكتوري بأسلوب أكثر هزلًا؛ حيث تستبدل بالملكة فيكتوريا نسخة مُستنسَخة تكتم رغبات جنسية عنيفة، بينما لا تلتقي إيميلي ديكنسون مع والت ويتمان فحسب، بل يضرب كلاهما بآداب اللياقة (وبملابسهما كذلك) عرض الحائط في لقاءات جنسية مشبوبة بالعاطفة.

الكوارث

طالما كانت الكوارث ودمار العالم ونهايته موضوعات رئيسية في الخيال العلمي، ترجع جذورها جميعًا إلى العصور القديمة. وعلى نحو مماثل، أصبحت نهاية الجنس البشري موضوعًا أدبيًّا راسخًا في القرن التاسع عشر، من أشهر معالجاته روايةُ «الرجل الأخير» (١٨٠٥) بقلم جان-باتيست كوزون دي جرانفيل، وروايةُ ماري شيلي التي تحمل العنوان نفسه (١٨٢٦)، وتصوِّر وباءً يتسبَّب في انقراض البشرية. لكن حتى تلك الأعمال تمكَّنت من موازنة التكهن بالنهاية بتلميحات متزامنة إلى استمرار الحياة بطريقةٍ ما، فالنهايات ليست قاطعة على الإطلاق. وهو ما يتضح في حشد روايات الهولوكوست والخطر النووي وغيرها مما نُشِر بعد عام ١٩٤٥؛ إذ توجد عادةً إشارة إلى قِلَّة ناجية أو إعادة تأكيد قاطعة برجوع نظام الطبيعة حالما تنقضي الكارثة.

عبَّر كلٌّ من سوزان سونتاج وَجيه جي بالارد عن وجهتَيْ نظر متعارضتين فيما يتعلق بسيناريوهات الكارثة؛ إذ تعتقد سونتاج — التي استعرضت أفلام الخيال العلمي من عام ١٩٥٠ حتى ١٩٦٥ — أن الكوارث تُقدَّم عادةً عبر أنماط متوقَّعة وتعكس صورًا قوية — وإنْ كانت منقوصة — للتوترات والصراعات الحالية. وعلى العكس من ذلك، صرَّح بالارد أن قصص الكارثة «تمثل عملًا بنَّاءً وإيجابيًّا من أعمال الخيال … ومحاولة لمواجهة الخواء المروِّع لكونٍ تتجلَّى عبثيته عبر تحدِّيه في لعبته الخاصة.»

قد ترجع الكوارث إلى سبب بيئي أو إلى قوة خارجية مثل اصطدام بين كوكبين، لكن في كلتا الحالتين لا يَسَع الضحايا من البشر فعلُ الكثير لحماية أنفسهم من تلك الأخطار القدرية؛ ففي رواية إم بي شيل «السحابة القرمزية» (١٩٠١)، يعود أحد المُستكشِفين من القطب الشمالي ليكتشف فَناء الحياة البشرية جرَّاء سحابة سامَّة. إن أحد عناصر الجذب القاسية في أدب الكوارث هو مشهد المدن الخالية من مظاهر الحياة الطبيعية، وبالفعل يصوِّر أحد أقوى المشاهد في الرواية اجتياز الراوي لمئات الجثث على مدخل محطة بادنجتون في لندن. في الواقع يتمحور الحدث الرئيسي في الرواية حول جولة مطوَّلة يخوضها الراوي حول العالم؛ حيث يتأكَّد انطباعه الأوَّلي عن الموت السائد مرةً تلو الأخرى. أما الحدث الوحيد الذي يعوِّض وحدته، فهو اكتشافه لفتاة في إسطنبول تمكَّنت من النجاة بطريقةٍ ما، وهكذا يلمح شيل إلى بداية جديدة عبر تجسيد معاصِر لآدم وحواء.

أما رواية وارد مور «أكثر اخضرارًا ممَّا تتخيَّل» (١٩٤٧)، فتصوِّر ببراعة تحوُّل العُشب إلى مصدر تهديد بسبب حجمه المتنامي وانتشاره الواسع. تدور الأحداث حول نوع من العشب الشيطاني ينتشر تدريجيًّا عبر الولايات المتحدة الأمريكية بدءًا من لوس أنجلوس إلى أن يُغطِّي سائر أنحاء العالم، وتنتهي بمجموعة تدوينات موجزة في مذكِّرات تُشير إلى بدء العدِّ التنازلي لنهاية وشيكة، عندما يغمر العُشب كل شيء. ومن ناحية أخرى، تصوِّر رواية جورج آر ستيوارت «وتبقَى الأرض» (١٩٤٩) الآثارَ الناجمة عن وباء مفاجئ يكتسح العالَم. في الجزء الأول من الرواية يرتحل الراوي إيشروود — عالِم البيئة — أو إيش (على غرار إيشي الناجي الوحيد من قبيلة ياهي الهندية) شرقًا من كاليفورنيا إلى نيويورك مسجِّلًا الانهيار التدريجي للحضارة، بينما يركِّز الجزء الثاني على تكوين مجتمع من الناجِين. وعلى الرغم من أن الكوارث تُوصَف دومًا كأحداث فعلية، فإن أصلها أو معناها قد يرجع مباشرةً إلى عامل سياسي؛ على سبيل المثال، تتعقَّب رواية تشارلز إريك مِن «انحسار المدِّ» (١٩٥٨) جهود صحفي لكشف حقيقة صادمة؛ ألَا وهي تضرُّر محور الأرض تضررًا بالغًا جرَّاء التجارب النووية؛ ممَّا أدَّى إلى ارتفاع سريع في درجة حرارة العالم، بينما تدور أحداث رواية جون كريستوفر «الشتاء يجتاحُ العالم» (١٩٦٢) حول انخفاض طبيعي في الإشعاع الشمسي يفتح الباب أمام عصر جليدي جديد، ولدواعي المفارقة يؤدي إلى اتِّكال الحُكَّام الاستعماريين على مستعمراتهم على عكس المعتاد.

المصدر الرئيسي الآخر للكوارث هو المُذنَّبات التي تتجه نحو الأرض من الفضاء الخارجي. وتقدِّم رواية الفلكي الفرنسي كامي فلاماريون «أوميجا: آخِر أيام العالم» (١٨٩٤) أحدَ الأمثلة المبكِّرة على هذا النوع. تبدأ الرواية بدرس موجز في علم الفلك يمهِّد الطريق لموضوعها؛ ألَا وهو التصادم بين الكواكب، ثم تؤكِّد الخطر الناتج عن اقتراب مذنَّب جديد عبر رسالة تحذيرية من الفلكيين على سطح المريخ، يلي ذلك استحضارٌ لمشهد الأرض أثناء احتضارها: «الآن يشتعل خط الأفق كله بحلقة من اللهب المائل إلى الزرقة تُحيط بالأرض مثل نيران حرق الموتى.» تحدث الكارثة بالفعل لكن الرواية لا تنتهي عند هذا الحد، بل يمدُّ فلاماريون المشهد الروائي وصولًا إلى نقطة تتجاوز الواقع؛ حيث يستطيع استعراض مسار التاريخ بأكمله والوصول إلى مغزى القصة؛ وهو أن الزمن لا بداية ولا نهاية له. تركِّز المعالجات اللاحقة لهذا الموضوع على فكرة النجاة؛ فعلى سبيل المثال، تعوِّض رواية كينث بولمر وفيليب وايلي «عندما تتصادم العوالم» (١٩٣٣) تأثيرَ الكارثة من خلال سفينة فضاء (تعكس تجسيدًا عصريًّا لسفينة نوح) تنقل القِلَّة الباقية الناجية من أبناء الجنس البشري إلى كوكب صالح للسكن. أما في رواية لاري نيفن وجيري بورنيل «مطرقة لوسيفر» (١٩٧٧)، فيتسبَّب اقتراب المُذنَّب في إلحاق دمار واسع النطاق بالولايات المتحدة الأمريكية، ليصبح البقاء على قيد الحياة في النهاية معضلة معقدة.

في «مطرقة لوسيفر» تدور معظم الأحداث في لوس أنجلوس، وهي حتمًا المدينة الأكثر تعرُّضًا للتدمير في التاريخ الأدبي؛ فقد تعرَّضت مرات ومرات للقصف بقنابل هيدروجينية، واحترقت عن آخِرها، وغُمِرت بالماء، وانهارت أنظمتها الإلكترونية، أو انزلقت ببساطة نحو المحيط عقب زلزال هائل. ليس من قَبِيل المصادفة أن تلقى عاصمة الأفلام في الولايات المتحدة تلك المصائر؛ فطالما حقَّقت أفلام الكوارث رواجًا منذ بزوغها الفعلي في سبعينيات القرن العشرين. فنجد أن فيلم «زلزال» (إيرثكوايك) ١٩٧٤، حافظَ على الاستخدام المحلي لمدينة لوس أنجلوس بوصفها موقع الكارثة. بينما يتبنَّى فيلمَا «الارتطام العميق» (ديب إيمباكت) و«أرمجدون» (كلاهما إنتاج عام ١٩٩٨) نموذج المُذنَّب القادم من الفضاء الخارجي، وتتمخَّض الأحداث في كلا الفيلمين عن إنقاذ الأرض في اللحظة الأخيرة من مصيرها المحتوم. تحاول أفلام الكوارث بالطبع التفوُّق بعضها على بعض في عرض صور الدمار المُذهلة، ودائمًا ما تبرز نجاح التكنولوجيا في إنقاذ المدينة أو العالم في النهاية.

رغم أن روايات بالارد الأولى تبدو من النوع الذي يصف الكوارث، فإنها كُتِبت كثلاثية تتمحور حول الزمن. تصوِّر روايةُ «العالم الغارِق» (١٩٦٢) التغيُّرَ الجذري الذي أصاب منطقة لندن إثْر إشعاع شمسي تسبَّب في ذوبان الغطاء الجليدي القطبي عام ٢١٤٥؛ مما ترتب عليه سيطرة النباتات والحيوانات الاستوائية على لندن، التي لم تختفِ لكنْ غمرتْها المياه. يعيش كيرانس — بطل الرواية — في حاضر هلامي؛ حيث تتراجع ذكرياته القليلة عن العالم القديم. أما الجزء الثاني من الثلاثية — «العالم المحترِق» (١٩٦٤)، «الجفاف» (١٩٦٥) — فيصوِّر أرضًا مستقبلية قاحلة؛ حيث تصبح الصورة الرئيسية التي يستخدمها بالارد هي الرمال بكلِّ ما تحمله من ارتباطات تقليدية بفكرة الزمن. في حين يستخدم الجزء الأخير «العالم البلوري» (١٩٦٦) ظاهرةَ التبلور لإضفاء تحولات سريالية على الحاضر. ومن جديد، يسخِّر بالارد الطبيعة، ويمنح البِنَى العضوية المميِّزة لأدغال الكاميرون شكلًا هشًّا يُشبه المجوهرات. تتألف هذه الثلاثية على وجه التحديد من قصص تتناول عالَمَ ما بعد الكارثة وتقدم تصورات سريالية للعالم الذي نعرفه. وقد اعترف بالارد في كثير من المناسبات بأنه مَدِين للسرياليين، لا سيما لتلاعبِهم بالمادة الذي يُسفر عن ذوبان الأجسام الصلبة وانسيابها.

في روايات بالارد الأولى، لا تَكُفُّ أبعاد الزمن المختلفة — مثل الاستمرارية والتاريخ وغيرهما — عن التحول المستمر، بالضبط كما يتكرر تصوير الزمن في مجال الخيال العلمي عمومًا كحيز مكاني واسع يمكن استكشافه بالرجوع إلى الخلف نحو الماضي، أو بالانطلاق إلى الأمام نحو المستقبل، أو أحيانًا من خلال التاريخ البديل. يتفق كثير من كُتَّاب الخيال العلمي مع صامويل ديلاني في رفضه للزعم القائل بأن المستقبل هو مجال كُتَّاب الخيال العلمي، بل إن التاريخ في هذا النوع من الأدب هو في الحقيقة ما يضفي «تشوُّهات على الحاضر». في الواقع، يظل الزمن عنصرًا أكثر تركيبًا بمراحل في الخيال العلمي وفي ثقافتنا العامة؛ إذ يزعم الكاتِب الهولندي فريد بولاك في دراسته المهمة «صورة المستقبل» (تُرجِمت عام ١٩٦١) أنَّ تراجُع آمال تحقق اليوتوبيا والإيمان بالآخرة أدَّى إلى احتجاز العصر الحديث في حاضر دائم، لكن الحيوية التي تتمتع بها الروايات التي نُوقِشت في هذا الفصل تشير إلى أن الوعي الزمني الذي يميز الخيال العلمي ما زال يقدم مجالًا ديناميكيًّا للتأمل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤