الفصل الحادي عشر

لم يقنع ابن عمار بما وفق إليه من إنقاذ مملكة إشبيلية من مخالب الأذفونش ورد عادية هذا الطاغية عنها، بل رغب في أن تمتد حدود المملكة وتتسع رقعتها، واتجهت أطماعه إلى ولاية مرسية التي كانت من قبل قسمًا من مملكة زهير ثم من مملكة بلنسية ولكنها كانت مستقلة في العصر الذي نتحدث عنه الآن، وكان أبو عبد الرحمن بن طاهر ملكها، والمدبر لشئونها، وهو من أصل عربي ينتسب إلى قبيلة قيس، وكان ملكًا طائل الغنى، ضخم الثروة، قد دخل في حوزته نصف المملكة، وكان — مع غناه الطائل — مثقفًا خصب الذهن، حصيف الرأي، ولكنه مع كل هذه المزايا لم يكن كثير الخيل والجند، ممَّا جعل الاستيلاء على بلاده ميسورًا وسهلًا، وقد لاحظ ذلك ابن عمار.

وفي سنة (١٠٧٨) مر بمرسية لمقابلة «الكونت دي برشلونة ريمون بيرنجيه» الثاني المعروف باسم «كاب دي توب» وإنما سمي كذلك نظرًا لغزاره شعره، وإنما عرج على هذا الكونت ليخفي السبب الحقيقي الذي من أجله مر بهذه الجهة، ولكي يهتبل هذه الفرصة ارتبط بروابط الصداقة مع بعض أعيان مملكة مرسية الذين علم أنهم كانوا في حالة استياء من ابن طاهر أو أنهم على استعداد للخيانة والانقلاب متى اشترى ضمائرهم بالمال.

ولما كان في حضرة «ريمون» عرض عليه عشرة آلاف مثقال ذهبًا لقاء مساعدته بجنود من عنده لفتح مرسية فقبل الكونت الاقتراح، وتعاقد معه على أن يكون ابن المعتمد الذي يتولى قيادة جيش إشبيلية رهينة عنده، حتى يصله المبلغ المتفق عليه، وسلم الكونت ابن أخيه لابن عمار كرهينة وضمان لتنفيذ شروط المعاهدة، وكان المعتمد يجهل نص الاتفاق الذي يجعل ابنه رهينة عند الكونت، وضمانًا لوصول المبلغ، وابن عمار كان على يقين من وصول المبلغ في الوقت المعين، فلا محل للخوف من تطبيق هذا النص، وليس ثمة ما يوجب بقاءه رهينة عند «ريمون» ما دام المبلغ يصل في الوقت المحدد.

وتم الاتفاق، واجتمعت جنود إشبيلية بجنود «ريمون» وزحف الجيش المتحد لمهاجمة ولاية مرسية المستقلة، ولما كان من عادة المعتمد التهاون، ترك الأجل المضروب موعدًا للدفع يمر دون أن يصل المبلغ في موعده، فترجح عند الكونت أن ابن عمار خدعه، فاستشاط غضبًا، وأمر بإلقاء القبض على ابن عمار وابن المعتمد قائد جيش إشبيلية وحاول جيش إشبيلية إنقاذهما، فهُزم واضطر إلى الاندحار.

وكان المعتمد لا يزال في طريقه إلى مرسية مع ابن أخي الكونت وحاشيته، وقد أبطأ به السفر، فلم يكن قد جاوز بعد ضفاف «الوادي اليانع» وكان النهر في إبان فيضانه فلم يكن قد عبره، وثمة صادفه بعض فلول جيشه على الضفة الأخرى للنهر، ومعهم فارسان يحملان إليه رسالة من ابن عمار فاقتحما بجواديهما النهر، وأبلغا المعتمد اعتقال «ريمون» لابنه ولوزيره، وأن هذا الأخير بعثهما إليه يريد منه أن يتعجل خلاص السجينين، وإطلاق سراحهما، بتنفيذ شروط الاتفاق، وأشار إليه أن يبقى حيث هو، فلم يقو فؤاده على احتمال هذه الكارثة ولم يطق صبرًا، وقلق على مصير ولده، ووضع ابن شقيق «ريمون» في السلاسل والأغلال.

ومضى على هذه الحال عشرة أيام، دخل فيها ابن عمار في جوار «جاين» فأطلق سراحه، وجاء إلى المعتمد ولكنه لم يستطع المثول بين يديه تفاديًا من غضبه، وتلطف فأرسل إليه يقول:

أأسلك قصدًا أم أعوج عن الركب
فقد صرت من أمري على مركب صعب
وأصبحت لا أدري أفي البعد راحتي
فأجعله حظي أم الحظ في القرب
إذا انقدت في أمري مشيت مع الهوى
وإن أتعقَّبْه نكصت على عقبي
على أنني أدري بأنك مؤثر
على كل حال ما يزحزح من كربي
أهابك للحق الذي لك في دمي
وأرجوك للحب الذي لك في قلبي
أيظلم في وجهي لذا قمر الدجى
وتنبو بكفي صفحة الصارم العضب
حنانيك فيمن أنت شاهد نصحه
وليس له — غير انتصاحك — من حَسْبِ
وما جئت شيئًا فيه بَغْيٌ لطالب
يضاف به رأي إلى العجز والعجب
سوى أنني أسلمتني لملمة
فللت بها حدِّي وكسرت من غربي
وما أغرب الأيام فيما قضت به
تريني بعدي عنك آنس من قربي
أما إنه لولا عوارفك التي
جرت جريان الماء في الغصُن الرطب
لما سمت نفسي ما أسوم من الأذى
ولا قلت إن الذنب فيما جرى ذنبي
سأستمنح الرحمى لديك ضراعة
وأسأل سقيَا من تجاوزك العذب
فإن نفحتني من سمائك حَرْجَفٌ
سأهتف: «يا برد النسيم على قلبي!»
ولما كان المعتمد يشعر أنه هو الذي جرَّ على ابن عمار وابنه الراشد ما وقعا فيه، لم يسترسل في غضبه، واحتفظ بصداقة ابن عمار ورق له ورد عليه بهذه الأبيات:١
لدي لك العتبى تراح من العتب
وسعيك عندي لا يُضاف إلى ذنبي
وأعزز علينا أن تصيبك وحشة
وأنسك ما ندريه فيك من الحب
فدع عنك سوء الظن بي، وتعدَّه
إِلى غيره فهو الممكن في القلب
قريضك قد أبدى توحُّش جانب
فراجعت تأنيسًا وعلمك بي حسبي
تكلفته أبغي به لك سلوة
وكيف يعاني الشعر مشترك اللب

واطمأنَّ ابن عمار لهذه الأبيات، وأهوى إلى قدمَي الملك يريد تقبيلهما، ورجاه أن يقدم للكونت ابن أخيه والعشرة الآلاف ذهبًا، حسب الاتفاق في نظير أن يطلق سراح ابنه الراشد، ولكن «ريمون» طمع في أكثر من المبلغ المتفق عليه، فاشتط في الطلب، ولم يقبل عشرة الآلاف المشروطة، بل طلب ثلاثين ألفًا ذهبًا.

ولم يكن المعتمد يحمل كل المبلغ المطلوب، فأمر بضرب مسكوكات أدخل في تركيبها عناصر زائفة، ولحسن حظه لم يدرك «ريمون» مبلغ ما فيها من الغش فقبلها، وأطلق سراح الراشد ابن المعتمد.

•••

وما زال ابن عمار — على الرغم من نجاحه الشبيه بالخذلان، ومحاولته الأولى المنطوية على الإخفاق — متطلعًا إلى مرسية طامعًا في أخذها، وقد زعم أن كتبًا تواردت عليه من كبار زعماء مرسية تبعث عنده عظيم الأمل في النجاح المحقق، وأخذ يحسن للمعتمد غزوها حتى سمح له أن يذهب على رأس جيش إشبيلي لحصارها، وعند وصوله إلى قرطبة بقي فيها أربعًا وعشرين ساعة حتى ينضم إليه الخيالة من جند المدينة، وأمسى ليلة وجوده بها في قصر ابن المعتمد الحاكم على المدينة، وبات يحادثه ليلته كلها، والأمير مسرور بحديثه، معجب بوفرة ذكائه، شاعر بجاذبية قوية نحوه إلى أن انبثق الفجر، فجاء أحد الخصيان يعلن بطلوع الفجر، فنظر إليه وارتجل ما معناه: «هذه ليلة قد أمضيناها مع الأمير في سرور، وقطعناها في حبور، وقد دامت وضاءة الجبين مشرقة المحيا، بطلعته البهية، وغرته المضية، فهي ليلة كلها بالأمير صبح، فماذا تعني بالفجر أيها الأحمق؟»

واستأنف السير في الصباح إلى أن وصل إلى حصن بلج أطلقوا على هذا الحصن اسم زعيم من عرب الشام الذين نزلوا في هذا المكان في القرن الثامن للميلاد، وكان على الحصن رجل عربي من قبيلة بلج يدعى ابن رشيق فبادر إلى استقباله، ودعاه للنزول بقصره، فقبل الدعوة، ورأى من الحفاوة والفخامة وأسباب المرح والسرور، ما جعله يواليه ثقة بالغة لم يسئ الرجل وضعها، بل سار مع صديقه الجديد إلى أن وصل الجيش إلى مرسية وضرب الحصار على «مولا»، ولم يدم الحصار طويلًا حتى سلمت وكانت طريق وصول المؤن إلى أهل مرسية، فكان سقوطها خسارة فادحة لهم مما جعل ابن عمار لا يشك في أنها على وشك التسليم، وقد ترك «مولا» في حراسة كتيبة من الفرسان بقيادة ابن رشيق وعاد بسائر الجيش إلى إشبيلية.

ولم يكد يلقي بها عصا التسيار حتى وردت عليه كتب عضده ومساعده ابن رشيق يخبره فيها أن المجاعة قد أضرت بأهل مرسية ضررًا بليغًا، وأن طائفة من أهلها من ذوي النفوذ والجاه قبلوا أن يساعدوا المحاصرين لقاء الحصول على مراكز مهمة في الدولة، وعلى هدايا نادرة نافعة، فقال ابن عمار حينئذٍ: «سترد إلينا الأخبار غدًا أو بعد غد مبشرة بأن حامية مرسية قد سلمت.» وقد صدقت نبوءته، وتحققت أمنيته، فإن فريقًا من الخونة من أهل المدينة قد فتحوا أبوابها، فدخل ابن رشيق وتسلمها واعتقل ابن طاهر وأخذ بيعة جميع الأهالي للمعتمد.

•••

وبلغ ابن عمار ما تم على يد ابن رشيق فامتلأ قلبه سرورًا، وطلب إلى المعتمد أن يأذن له في اللحاق بمرسية، فلم يتردد في الإذن له بذلك، واعتزم أن يغمر جماعة من المرسيين بالهدايا، فصحب معه عددًا من الخيل بسروجها ولجمها أخذها من الإصطبلات الملكية، وأضاف إليها عددًا من البغال حملها صناديق ملئت بالحلل النفسية والثياب، وقد بلغ عدد الأفراس والبغال زهاء مئتين، وسار في طريقه إلى مرسية في موكب حافل بين دق الطبول، وخفق الإعلام، وكان يعرج على كل مدينة يمر بها، ويدع فيها من الصناديق الملكية ما هو برسم أهلها.

ودخل مرسية في يوم وصوله إليها بمظهر عادي، وفي الغد أجري له استقبال فخم برز فيه لأهل المدينة بروز الملوك الفاتحين، وقد وضع على رأسه تاجًا مشرفًا مثل الذي يلبسه عادة مولاه في الحفلات الكبرى، وقد بدأ يستبد بأمر المملكة، فكان يوقع على رقاع الشكوى بتوقيع خاص به، ويغفل اسم المعتمد.

إن هذا المسلك الشاذ الدال على الزهو والإعجاب والاعتداد بالنفس والاستبداد بشئون المملكة الجديدة جعل ابن عمار كثائر على مولاه، وهذا رأي المعتمد واعتقاده فيه، ولكنه لم يظهر بمظهر الغاضب الحانق عليه، بل استسلم ليأس وحزن كامن في النفس، وبدأ يشعر أن حلم الصداقة اللذيذ الذي يرجع ابتداء عهده إلى خمس وعشرين سنة قد تلاشى الآن، وأنه كان مخدوعًا في ذلك الميل القلبي الكاذب؛ فصداقة ابن عمار القديمة، وظهوره دائمًا بمظهر الخل الوفي، والصديق الحميم الذي لا يفصم عُرا صداقته تطاول الأيام، والصاحب المخلص النزيه المجرد من العلل والغايات، كل أولئك إذن لم يكن سوى كذب ورياء وخبث ونفاق.

•••

ولعل المعتمد كان واهمًا في تأثيم ابن عمار وتجريحه وإساءة الظن به إلى هذا الحد، ومما لا ريب فيه أن الفكرة الخاطئة الأثيمة فكرة الثورة على مولاه وولي نعمته لم تكن لتمر بخاطره البتة، والذي جعل الريب والشكوك تحوم حوله من جانب المعتمد هو زهوه المفرط الذي بلغ به إلى حد الجنون، ولم يكن من ضعف الخلق، وفتور المودة، وعدم الشعور بأثر النعمة، بحيث يدفع صداقة المعتمد وينسى ما له عنده من يدٍ، وما طوَّقه به من جميل، بل الواقع الذي لا يرتاب فيه أحد أنه كان يحب مليكه حبًّا صادقًا يدل عليه ما نظمه فيه بعد تغيره عليه من أشعار تفيض بالحب والإخلاص والولاء.

وقد نطقت أشعاره الكثيرة، وقصائده التي كان يدفع بها هذه التهم والظنون عن نفسه، بأن ولاءه لم يتغير، وأن طبعه لم يتحول، وأن حبه لأعز الأشياء عليه، ومنها نفسه التي بين جنبيه، أقل بكثير في قوة التأثير، وصدق الشعور، من حبه الصادق القوي للمعتمد.

وما يدرينا لعل ظروفًا غير هذه الظروف لو كانت هيأت لهما الاجتماع ساعة يتحدث كل منهما فيها إلى صاحبه، ويفضي إليه بدخيلة نفسه، ويتناجى فيها قلبان طالما ائتلفا، ما يدرينا لعل هذه الساعة لو أتيحت لكانت كافية، للتوفيق بين هذين الروحين المتمازجين، والقضاء على تلك الوساوس والمخاوف التي أوغرت صدر الملك على وزيره؟ إن من بواعث الأسف أن تتسع مسافة الخُلف بينهما وأن يحمل الحقد والحسد جماعة من الإشبيليين للإيقاع بابن عمار والسعاية والدس له، وتأويل كل عمل وكل كلام وكل حركة تصدر عنه تأويلًا ينطوي على الخبث والوقيعة، وإظهاره دائمًا بالمظهر البشع الشنيع.

•••

هؤلاء الحسدة الجبناء استولوا على لب المعتمد وعقله، وهم الذين يذكرهم في شعره كثيرًا، وينسب إليهم تغيير قلب مليكه عليه، ومن بينهم وزيره ابن الشاعر الكبير أبي الوليد بن زيدون الذي كان له أكبر نفوذ في القصر، والذي يرجع إليه السبب الأكبر في إيغار صدر المعتمد عليه، وإحاطته بكل أنواع الشكوك والريب من حين دخل مرسية بإذنه، وتمكن هذا من خلق أسباب القطيعة بينهما، وهناك خصم آخر ليس أقل من هذا خطرًا، وهو ابن عبد العزيز ملك بلنسية وصديق ابن طاهر وقد كان ابن عمار على أثر دخوله مرسية يحاول أن يصطنع ابن طاهر صاحب مرسية المخلوع ويستميله إليه بكل أنواع الحفاوة والتكريم، وقد أرسل رسولًا عرض عليه كثيرًا من الحلل الفاخرة ليختار منها ما يروقه ويعجبه، وكان ابن طاهر — لحدة طبعه، ومزاجه الناري — قد هزل جسمه من جراء فقد ولايته، فلما جاءه الرسول قال: «ارجع إلى سيدك ومولاك ابن عمار وقل له: إنني لا أقبل من هداياه سوى جبة الصوف الطويلة، والقلنسوة الصغيرة الحقيرة.» وقد بلغته هذه الرسالة وهو بين خواصه وحاشيته، فسقط في يده، وأخذ يعض بنان الندم أسفًا وغمًّا، وأدرك ابن عمار مغزى ما يقوله ابن طاهر وأنه يرمي بكلامه هذا إلى زيه المضحك المزري الذي كان يلبسه أيام بؤسه وخموله، وأيام أن كان ينشده أشعاره يبغي بها التكسب، وقد أسرَّها ابن عمار في نفسه ولم يغتفرها له، وأصر على أن ينتقم لنفسه من هذه الضربة الأليمة التي ثلمت شرفه، وخفضت من غلوائه، وغضت من زهوه، وقد أحفظته هذه الجرأة من ابن طاهر وتحولت نواياه من جهته، وأمر به فسجن في قلعة «منتاجو».

•••

وأخذ ابن عبد العزيز يراسل المعتمد في شأن ابن طاهر وإخراجه من السجن، فقبل رجاءه، وبعث إلى وزيره الأكبر في إطلاق سراحه، فأهمل ابن عمار أمر المعتمد وأبى أن يفك اعتقاله، وساعد ابن عبد العزيز على إخراجه من السجن، وتمكن من الفرار، ومضى إلى بلنسية ليقيم بها في حماية ابن عبد العزيز، فغاظ ذلك ابن عمار وغمَّه ونظم في هذه المناسبة شعرًا يحرض فيه أهل بلنسية على الثورة والخلاف على ملكهم ابن عبد العزيز ويحثهم فيه على خلع نيره، والاستعاضة عنه بملك آخر، أي ملك كان يرفع عنهم ما نزل بهم من حيف، وحل بهم من ظلم، وظل يهجوه فيه هجوًا مقذعًا، ويرمي حرمه بأشنع السباب، وأفظع القذف، ويغريهم في آخر القصيدة بهدم قصور بني عبد العزيز وسلب أموالهم وكنوزهم، وترك خرائبها آثارًا ناطقة بخزي الدهر، وعار الأبد.

واتصلت هذه الأشعار بالمعتمد فضاعفت حنقه عليه، وحفزته لأن ينظم في ابن عمار شعرًا هازئًا صاخبًا يذكر فيه أوليته، ويقارن بين حاله في أيام بؤسه وخموله، وحاله الآن وقد وصل إلى درجة ينازع فيها ولي نعمته السلطان، وسر بنو عبد العزيز بهذه القصيدة سرورًا لا يقدر، أما ابن عمار فاغتم لذلك غمًّا شديدًا، وبدأ من فوره ينظم شعرًا يناقض فيه شعر المعتمد حشاه بالهجاء والمثالب وعرض فيه لشأن المعتمد مع اعتماد وقذف زوجاته، وكشف عن عيوبه وفضائحه، ولم يطلع أحدًا على هذه القصيدة التي نظمها وهو في ثورة غضبه سوى نفر من أصدقائه الذين يثق بهم ومن بينهم يهودي يتجسس لابن عبد العزيز كان يثق به أيضًا، ولم يكن متهمًا عنده.

وقد حصل اليهودي بأيسر كلفة وأقل عناء على نسخة من القصيدة مكتوبة بنفس خط ابن عمار وقدمها للأمير صاحب بلنسية وهذا كتب في الحال كتابًا إلى المعتمد من طيه القصيدة، وأرسله إليه بواسطة الحمام الزاجل.

•••

ومن هذه اللحظة التي اطلع فيها المعتمد على الرسالة والقصيدة أصبح التوفيق بينهما أمرًا مستحيلًا، فلا المعتمد ولا اعتماد ولا بنوهما في مكنتهم جميعًا أن يغتفروا لابن عمار هذه السقطة التي كبا فيها كبوة لا قيام له بعدها، وعثر عثرة لا يقيله منها أحد، ومن ذا الذي يستطيع أن يمحو عار ذلك السباب الجارح، والعهر الفاحش، وقد حان حين ابن عمار وجاء وقت الاقتصاص منه، وليس المعتمد هو الذي يباشر الاقتصاص منه بنفسه، بل هناك آخرون قد تعهدوا له بذلك وهم له بالمرصاد.

وانصرف ابن عمار إلى مباهجه ولذاته، ولم يكن ليكترث للأمر أو يفطن لما يدور حوله، أو يقدر في حسابه أن ابن رشيق سيقلب له ظهر المجن، ويخونه بمساعدة خصمه العنيف ملك بلنسية وقد ثاب إلى رشده وفطن للأمر، ولكن بعد أن فاتت الفرصة، ومضى الوقت، فلم يشعر إلا والجند — بتحريض ابن رشيق — جاءوا في حال هياج وثورة وصخب مطالبين بأعطياتهم المتأخرة، ولم يكن في استطاعة ابن عمار في هذا الظرف أن يشبع نهمتهم، أو يجيبهم إلى ما طلبوه، فتوعدوه بتسليمه إلى المعتمد إذا هو عجز عن الوفاء لهم بما يطلبون، وهنا عرته رجفة، وأيقن بالهلاك، ولم ير بدًّا أمام هذا التهديد والوعيد إلا أن يفلت من أيديهم، ويسارع إلى اللياذ بالفرار.

والتجأ — بعد فراره — إلى الأذفونش ليحتمي به، وليجد منه عونًا على فتح بلنسية وقد ظهر له أنه كان واهمًا فيما قدره، بعد أن خيب الأذفونش أمله، وجعل كلامه دبر أذنه، وبان له أن ميله إلى جانب ابن رشيق كان لقاء الأموال والهدايا التي قدَّمها له، وقد كاشفه الأذفونش بقوله: «أنا لا أرى فيكم إلا أنكم جماعة لصوص، فاللص الأول قد سرق، وجاء الثاني فسرق من الأول ما سرقه، وجاء الثالث فسلب من الثاني ما سرقه من الأول.»

•••

لم يَرَ ابن عمار أن أمله يتحقق في ليون فتحول إلى سرقسطة وهناك اتصل بخدمة صاحبها المقتدر ولكنه لم ير في قصره — من الروعة وأبهة الملك — ما كان يراه في قصر إشبيلية فأنف من البقاء هناك، وزهد في عمل يغض من مركزه السياسي، ويحط من قيمته الاجتماعية، فمضى إلى «لاردة» حيث يقوم على الحكم المظفر شقيق المقتدر فقوبل بحفاوة بالغة، ثم بدا له أنه سيكون في «لاردة» أكثر عزلة وانقطاعًا عن العالم الخارجي، فعاد إلى سرقسطة حيث خلف المؤتمن أباه المقتدر على عرش المملكة.

•••

هذا الاضطراب والتقلقل أورث ابن عمار كثيرًا من الملل والسآمة، وجعله يشعر بالفشل، وخيبة الأمل، وتركه ينظر إلى حاضره ومستقبله، وقد جلله سوء الطالع بسحابة سوداء مظلمة، فكان يتلمس — في تضاعيف هذه الأوقات المنكودة، والساعات المنحوسة — لحظة مريحة يطرد بها عن نفسه الفتور والألم، ويزايل فيها الكسل والملل، وعرف أن أحد أصحاب الحصون امتنع في حصنه، وتمرد على المؤتمن فطلب منه أن يعهد إليه في إخضاعه وقهره فخرج في سرية قليلة من الفرسان، ووصل إلى الحصن، وكان منيعًا لقيامه على قمة جبل، فراسل صاحب الحصن، ورجاه أن يسمح له بدخول الحصن هو ورجلان من خدمه، ولم يشك صاحب الحصن في حسن نيته، ولم يسئ به الظن، وكان ابن عمار قد أوعز إلى تابعيه أنهما إذا عاينا صاحب القصر يصافحه ويماشيه جنبًا لجنب، سارعا إليه فأغمدا في صدره سيفيهما، وتمت الحيلة وقتل صاحب القصر، وسلم الجناة من إلقاء التبعة عليهم، وسر المؤتمن من ذلك سرورًا لا يقدر، وأراد ابن عمار أن يضيف إلى هذه الفتكة فتكة أخرى، يجدد فيها حمى نشاطه السياسي، فظن أنه بنفس هذا الأسلوب الوحشي المنطوي على الختل والغدر يكفل للمؤتمن أن يستولي على «شقورة».

وكانت هذه القلعة أشد مناعة من سابقتها، لقيامها على قمة جبل يتعذر تسلقه، ولمناعتها، وتوعر طريق الوصول إليها، احتفظت باستقلالها، بينما نرى المقتدر قد استولى على دانية التي امتلكها سراج الدولة ردحًا من الزمن، ولما قضى نحبه أراد بنو سهيل وهم الأوصياء على بنيه، أن يساوموا في «شقورة» ويعطوها لبعض الملوك المجاورين، فعهد ابن عمار إلى المؤتمن أن يستخلصها له بنفس الطريقة التي استخلص بها الحصن المتقدم، ولتنفيذ هذه الخطة الخطرة سار هو وثلة من الجند إلى بني سهيل، وطلب منهم أن يسمحوا بمقابلته، ولكن عوضًا عن أن يوقعهم في الشرك الذي نصبه لهم، فقد قدر له أن يقع هو نفسه في ذلك الشرك، وذلك لأن أولئك النفر ممن أساء إليهم ابن عمار في مرسية وناصبهم وقومهم العداء.

وطريق الوصول إلى هذا الحصن المنيع كان كثير الوعورة والتعرج، وإذا بلغه أحد فلا بد أن يستعين على الوصول إليه، والاستقرار في داخله بقوة ساعديه، وقد وصل ابن عامر وشريكاه في المغامرة الأولى إلى ذلك المكان الرهيب الخطر، وفي أقل من ارتداد الطرف جذبوه إلى أعلى الحصن، وما كادت تستقر قدماه على الأرض حتى أحاط به الجند، وصاحوا بزميليه أن يجدا في الهرب، وإلا قتلهما الرماة بالسهم، فانحدرا مسرعين، وطفقا يعدوان حتى أتيا سرقسطة وأبلغا الجند أن ابن عمار وقع أسيرًا، فركبوا يبغون نجدته، ولكنهم وجدوا المكان صعب المرتقى، ورأوا الحصن أمنع من عقاب الجو، فعادوا من حيث أتوا، بعد أن أيقنوا أنه لا سبيل إلى نجدته وإنقاذه من مخالب أعدائه بني سهيل الذين اعتقلوه في الحصن، وأودعوه في غيابات سجن لا خلاص له منه، وبقي على سوم الشراء لديهم حتى يبذل في فك اعتقاله من ملوك وقته من يدفع أغلى ثمن، وكان المعتمد هو الذي غالى في دفع ثمنه، وتمت له الصفقة فيه، فأرسل ابنه الراضي في جماعة من الحرس لأخذه من صاحب «شقورة» وأمرهم أن يبالغوا في الاحتياط حتى لا يفلت من أيديهم، وجاءوا به إلى قرطبة أسيرًا، ودخلها الوزير التاعس مكبلًا بالسلاسل والأغلال حاسر الرأس منزوع العمامة، وقد أركبوه بغلًا بين عدلي تبن، وبعد أن طافوا به في أنحاء المدينة على هذه الحال من التعاسة والسخرية، أدخلوه القصر حيث مثل بين يدي المعتمد فانهال عليه لومًا وتقريعًا، وإقذاعًا وسبًّا، وأخذ يعدد أياديه عليه، ويحصي عليه جرائمه وهو مطرق الرأس، لا ينبس ببنت شفة، إلى أن فرغ المعتمد من كلامه، فكان من جواب ابن عمار أن قال: «لا أنكر شيئًا مما يقوله مولاي، ولو أنكرته لشهدت عليَّ به الجمادات، فضلًا عمن ينطق، ولكن عثرت فأقل، وزللت فاصفح.»

فقال المعتمد: «هيهات! إنها عثرة لا تقال، وزلة لا تُمحى.»

•••

وجعل نساء القصر يعبثن به، ويرمينه بكل لفظ شائن، وسباب جارح، وإنما نلن منه بسبب تلك القصيدة التي هجا بها اعتماد وغيرها من أميرات القصر، ثم أمر به فأحضر إلى إشبيلية بين هزء الجمهور وسبابهم وسخريتهم ولعناتهم، وجعل في غرفة على باب قصر المعتمد المعروف «بالمبارك» طال فيه حبسه واعتقاله، ومع كل هذا فقد مرت عليه ظروف كان يؤمل فيها أن ينال عفو المعتمد والراشد ابنه هو الذي كان يفتح أمامه طريق الأمل، وقد رق له هذا الأمير وعطف عليه لكثرة ما كان يبعثه إليه من قصائد يحشوها بالتنصل والاعتذار، وكثيرًا ما كانت ترد الرسائل إلى المعتمد من الراشد وغيره من رجال الدولة في طلب العفو عنه، وهو الذي كان يحفزهم بما كان يكتبه إليهم وهو في سجنه، إلى أن ثقل على المعتمد كثرة ما يرد عليه من الرسائل، فأمر أن يمنع عنه ما يتمكن به من الكتابة، وقد أعطي — بأمر المعتمد — ورقتين كان طلبهما، كتب في إحداهما قصيدته المشهورة التي يتوسل بها إليه، وقد رفعت إليه في المساء عقب الانتهاء من وليمة، ولما أنشدت بين يديه أدركته عليه رقة، فأمر به فأتي به إليه ليلًا وهو في بعض مجالس أنسه، فجاء يرسف في قيوده، فجعل يعدد عليه مننه ويعيب عليه من جديد إنكار الجميل، وجحود النعمة، فما كان جوابه إلا البكاء، وهملان الدمع، واجتلاب كل ألفاظ الرقة، وكل ما يمكن أن يزرع في قلب المعتمد الرأفة والحنان، فما زال به يستعطفه حتى عطفته عليه سابقته، وما كان بينهما من قديم الصداقة والصحبة، وخاطبه بكلام يدل على الصفح تلويحًا، ولا يدل عليه تصريحًا، فاطمأن بعض الشيء، ولم يدرِ أنه كان مخدوعًا في شعور المعتمد نحوه، فهو وإن كان محتفظًا ببعض الذكريات القديمة التي تعطفه عليه، وتجعله يرثي لحاله إلا أن هناك مسافة بعيدة بين ما هو ميل وعطف، وبين ما هو عفو وصفح، وقوي عنده الظن خطأ في أن الحظ سيواتيه، وأن السعادة ستعاوده، ولم يستطع أن يكتم سروره، فبعث بكتاب إلى الراضي يخبره فيه أن المعتمد قد وعده بالخلاص.

•••

وكان بحضرة الراضي — حين وصل إليه الكتاب — قوم يكرهون ابن عمار ويضمرون له الشر، وسرعان ما ذاع الخبر في المدينة، وعرفه ابن عيسى وابن زيدون من وزراء المعتمد وكثر المرجفون وابن زيدون واجم مشرد الفكر، قد بات ليلته تلك ضيق الصدر، يخشى أن يتحقق الخبر، فتسقط منزلته ويكون لابن عمار المحل الأول من الاعتبار، لا بل هو الموت عنده، وفي صباح ليلته هذه لم يستطع أن يذهب إلى القصر كعادته في الوقت المحدد، إلى أن أرسل إليه المعتمد فدخل القصر، واستقبل أحسن استقبال، فسري عنه حين علم أن المعتمد لا يزال ناقمًا على ابن عمار وأن موقفه بإزائه لم يتغير، وقد كثر الإرجاف، وتوالت الإشاعات حول ما دار بين المعتمد وابن عمار ونشروه في المدينة أقبح نشر، وعلقوا عليه بزيادات قبيحة أحفظت المعتمد، فأرسل لابن عمار، وقال له: «هل أخبرت أحدًا بما كان بيني وبينك البارحة؟»

فأنكر ابن عمار كل الإنكار، فقال المعتمد لأحد خصيانه: اذهب إليه، وقل له: «الحديث الذي دار بيني وبينك أمس كان بيننًا سرًّا مكتتمًا، فما الذي أذاعه في الخارج؟»

فذهب إليه الخصي وعاد يقول: «يصر ابن عمار على إنكاره، ويقول إنه لم يقل لأحد شيئًا.» فقال المعتمد: عُد إليه، وقل له: «الورقتان اللتان طلبتهما أمس كتبت في إحداهما القصيدة، فماذا صنعت بالأخرى؟»

فعاد الخصي وقال: «يقول: إنه سوَّد فيها القصيدة.»

فقال المعتمد: «عليَّ بالمسودة إذن!»

•••

وهنا لم يستطع ابن عمار أن يتمادى في إنكاره، بل قال بصوت متهدج تخنقه العبرة: «الورقة الأخرى كتبت فيها إلى مولاي الراضي أذكر له فيها ما وعدني به مولانا الملك من الإفراج عني.»

وعلى أثر هذا الاعتراف الرهيب غلا الدم في عروق المعتمد، وقام مغضبًا، وصعد إليه وبيده أداة قاتلة من آلات الحرب كان أهداها له الأذفونش فلما عاينه ابن عمار على هذه الحال من الغضب والثورة العصبية أيقن أنه لا شك قاتله، فزحف وقيوده تثقله إلى أن ارتمى على قدمي المعتمد يقبلهما، ويبللهما بدموعه.

•••

ولم تكن الشفقة لتعرف إلى قلبه سبيلًا، فعلاه بالسلاح في يده، ولم يزل يضربه حتى برد.

هذه هي الفاجعة الأليمة التي ختمت بها حياة ابن عمار وقد أثرت هذه الكائنة المحزنة أثرها في إسبانيا العربية.

ولم تطل مدة المعتمد بعده، فإن الحوادث الخطيرة التي وقعت في طليطلة والانتصارات المتوالية التي أحرزتها جيوش القشتاليين حولت دفة السياسة إلى مجرى آخر.٢

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤