الفصل الثاني عشر

اعتزم الأذفونش السادس ملك ليون وقشتالة و«غاليسيا» و«ناڤار» عزمًا قاطعًا لا تردد فيه أن يفتح شبه الجزيرة، وقد كان من القوة وخصومه من الضعف بحيث يستطيع إتمام ما اعتزمه من ذلك، ولم يتعجل الفتح بل آثر الانتظار، ريثما يجمع من الإتاوات والجزى التي كان يفرضها على ملوك الأندلس أموالًا كثيرة يدخرها عنده لتكون عدة للحرب، ووسيلة لإدراك أطماعه الكثيرة التي توجهت إليها أنظاره.

وعلى هذا أراد أولًا أن يضع الملوك المسلمين تحت الآلة العاصرة، ولم يكن همه أن يعتصر بهذه الآلة شراب التفاح والنبيذ، بل أراد أن يأخذ من عصارة أولئك الملوك بعد سحقهم سائل الفضة والذهب.

وربما كان أضعف الملوك الذين كانوا يؤدون له الجزية «القادر» ملك طليطلة فقد أضر بهذا الملك ترف الحياة، ونعيم القصر حتى أصبح ألعوبة الخصيان، وأضحوكة الجيران الذين كان ينافس الواحد منهم الآخر في سلبه وتجريده، والأذفونش وحده هو الذي كان يظهر بمظهر من يحميه ويدافع عنه.

ولفداحة ما كان يرهق به رعيته من الظلم والمغارم لم يسلس له قيادهم، فلجأ إلى الأذفونش يشكو إليه أنه لا يستطيع أن يملك زمامهم، فوعده أن يبعث إليه بجنود لتأييده وحمايته مقابل مبلغ طائل من المال، وأراد القادر أن يجمع هذا المال من كبار رجال المملكة فدعاهم لهذا الغرض وكاشفهم بالأمر، فأبوا أن يعطوه شيئًا، فأقسم لتدفعن المال، أو لتُكرهن غدًا على دفع أبنائكم رهائن عند الأذفونش فأجابوه: «إننا حينئذٍ نخلعك قبل أن تتمكن من ذلك.»

وسلم الطليطليون من ذلك الحين قيادهم للمتوكل ملك بطليوس واضطر القادر للهرب ليلًا، والتجأ من جديد إلى الأذفونش يخطب وده، ويطلب مساعدته، فاتفق معه على أن يذهب لحصار طليطلة ويعيد إليه ملكه، ووجد أن ما حمله إليه من المال قليل، فلم يقبله، واشترط أن يعطيه بعض الحصون، ثم يطالبه فيما بعد بأزيد من هذا القدر الذي معه، فالتزم القادر بكل هذه الأشياء، وبدأت الحرب سنة (١٠٨٠) ودامت سنتين، وبعث الإمبراطور كعادته رسله إلى المعتمد يطالبه بدفع الجزية السنوية، وكانت البعثة مؤلَّفَة من جماعة من الفرسان عهد إلى يهودي من بين الجماعة اسمه ابن شبيب بالسفارة بينه وبين المعتمد؛ وذلك لأن اليهود لذلك العهد كانوا وسطاء بين المسلمين والنصارى، وضربت البعثة خيامها بظاهر المدينة، وأرسل المعتمد رسله إليهم وعلى رأسهم ذو الوزارتين أبو بكر بن زيدون يحمل الإتاوة المطلوبة، وكانت أقل ممَّا يجب دفعه، لسوء الحالة في ذلك الوقت على الرغم من أن المعتمد قد فرض على رعيته لسداد المبلغ ضرائب فوق العادة، فلم يقبل اليهودي ما دفعه إليه الوزير، وقال له: «أتراني من البلاهة والغباء بحيث أقبل هذه النقود الزائفة؟ إني لا أتسلم دون المبلغ المطلوب، ولا أتسلمه إلا ذهبًا عينًا، وسيكون المدفوع في العام المقبل حصونًا ومدنًا لا مالًا زائفًا.»

•••

واتصل بالمعتمد ما فاه به اليهودي أمام سفرائه، وكبار رجاله، فاستشاط غضبًا وأمر أن يحمل وصحبه إلى القصر، وما حصلوا عنده حتى أمر بالرسل من النصارى فأودعهم السجن، وباليهودي أن يُصلب، فارتعدت فرائص اليهودي الذي كان قبل برهة يتيه على المعتمد ورجاله صلفًا وكبرًا، وقال: «عفوًا يا مولاي! إني أفتدي حياتي منك بوزن جسمي ذهبًا.»

فقال المعتمد: «والله لو جئتني بإسبانيا كلها على أن تفتدي نفسك ما قبلت منك فداء.»

وهكذا تم صلب اليهودي.

وبلغ الأذفونش ما حل بفرسانه، فأقسم بإلهه وبأرواح القديسين لينتقمن لهم من عدوه انتقامًا مروعًا، وليغزونه في إشبيلية وليحصرنه في عقر داره، وكان الإسبانيون لهذا العهد قد اهتبلوا الغرة بما كان من تفرق كلمة المسلمين فتكالبوا عليهم واستولوا على حصونهم، وسار الأذفونش بجيوشه يفتح المعاقل ويخرب القرى حتى بلغ فرضة المجاز من طريف على جبل طارق، وضرب على ملوك الطوائف أنواع الجزى، وفي مقدمتهم المعتمد كان يؤديها له — وهو صاغر — إلى أن طلب منه المعتاد في كل سنة على يد أولئك الفرسان ومعهم وزيره اليهودي، فصلب المعتمد اليهودي منكسًا، وأودع أولئك الفرسان في غيابات السجن، ولم يكن الأذفونش ليترك فرسانه القشتاليين وهم زهاء الخمسين، يعذبون في السجن على حساب خطئهم، دون أن يعمل على خلاصهم، ويتلطف في طلب الإفراج عنهم خوفًا على حياتهم، فأرسل إلى المعتمد في ذلك، فاشترط أن يرد إليه حصن المدور في نظير إطلاق سراحهم، فقبل الشرط ورد الحصن إليه، وأطلقهم، وما عاد جماعة الفرسان المسيحيين حتى قام الأذفونش بتنفيذ وعيده، وإمضاء تهديده، وسار في طريقه لحصار إشبيلية فغنم وأحرق القرى، وقتل وأسر من المسلمين من لم يتسع لهم الوقت للالتجاء إلى الحصون المنيعة، وحاصر إشبيلية ثلاثة أيام، وخرب إقليم شذونة وما زال يزحف بجيوشه حتى وطئ الرمال وبلغ طريف ومس بحوافر فرسه أمواج البحر وهو يقول: «نحن الآن في أرض المجاز وبها قد وصلنا إلى آخر حدود إسبانيا.»

وبر بقسمه، وأرضى طماعيته، ووجه بجيوشه إلى طليطلة مقر مملكة القادر وتسلمها منه، وكان اتفق معه على أن يظاهره على أهل بلنسية، فاضطر المتوكل أن يفر من وجه القادر ويتخلى له على بلنسية، ففتح أهلها أبوابها له على الرغم منهم عام (١٠٨٤) فجمع منهم أموالًا طائلة، وقدمها للأذفونش فلم يرتَضِها الإمبراطور، وقال له بفتور وامتعاض: «هذا لا يكفي.»

فأضاف إليها فوق ذلك ما ورثه من الكنوز والنفائس عن أبيه وجده، فقال أيضًا: «هذا لا يكفي.» فرجاه أن يعطيه مهلة ريثما يجمع له ما يكفيه من المال، فقال له الأذفونش: «كلا حتى تعطيني حصونًا أخرى أرتهنها كضمان لما هو مطلوب.» وهكذا سلم القادر في كل ما يملك، وأضاع طارفه وتليده، ومزَّق ثروته وميراثه، وبدد حصونه حصنًا حصنًا، وذهبه دينارًا دينارًا، وهو مستسلم مرغم، وإلا فماذا عساه أن يصنع؟ إن سيف الأذفونش المصلت يتهدده بالقتل، وأقل حركة تبدر منه تدل على عدم الطاعة والإذعان تجعله يهوي به على رأسه، فلم ير بدًّا من أن يستنزف أموال الرعية، ويرهقها بأنواع المظالم والمغارم ويأتي على الثمالة الباقية في أيديها، ورأى أهل بلنسية أنه لا قِبَل لهم بسدِّ هذه المغارم الفادحة، ففروا من وجه هذا الظلم الصارخ زرافات ووحدانًا، وهاجروا إلى أرض سرقسطة وكان موقف القادر أمامه شاذًّا وغريبًا، فإنه كلما حمل إليه قدرًا من المال ظنًّا منه أن ذلك يجدي في مرضاته، كان ذلك سببًا في تزايد طلباته الملحة، إلى أن نضب معين المال، ولم يجد ما يقدمه إليه، وأقسم له أن ليس قبله شيء، فقام من فوره، وخرب بسيط المدينة وما حولها، كل هذا والقادر متعلق بعرشه بعد أن نخر في قوائمه السوس، وتداعى للانحلال والسقوط، ولكنه عدل في النهاية عن هذا التعلق الكاذب.

•••

وحدث مرة أن حضر الأذفونش وكان هو في استقباله، فصرح له بأنه مضطر أن يتخلى له عن طليطلة وأنه متنازل عن العرش، فوضع الأذفونش الشروط التالية:
  • يتولى الإمبراطور حفظ حياة الطليطليين وحراسة المملكة، وللسكان حرية البقاء أو الهجرة إلى أي جهة شاءوا.

  • لا يطالبهم إلا بدفع الجزية المفروضة عليهم بشرط أن يعطوها مقدمًا.

  • يترك لهم القيام على شئون المسجد.

  • يتعهد للقادر بأن يكون ملكًا على بلنسية.

وتم الاتفاق على هذه الشروط، وقبلها الإمبراطور، وفي يوم ٢٥ مايو سنة (١٠٨٥) دخل عاصمة مملكة القوط القديمة،١ ومن ذلك الحين بلغ في الأبهة والعظمة والكبرياء مبلغًا كان يقابله من الناحية الأخرى اتضاع ملوك المسلمين واستكانتهم إذ لم يبقَ منهم أحد إلا بادر بإيفاد الوفود إليه يهنئونه ويحملون إليه الطرف والهدايا، وصرحوا له بأنهم يكونون داخل حدود سلطانه كجباة للأموال لتحصيل الضرائب ودفع الجزى، وكان الأذفونش — وهو ملك ملوك الديانتين الإسلامية والنصرانية — لا يعيرهم أدنى اهتمام لهوانهم عليه، حتى لقد كان يعلن الاستهانة بهم، ولا يخفي احتقاره لهم، ومن ذلك أن حسام الدولة ملك البرزاليين وفد عليه ليقدم إليه بنفسه هدية فاخرة، وصادف في اللحظة التي دخل عليه فيها أن كان أمامه قرد يرقصه رائضه لتسليته بتنزيته وألاعيبه، فقال له الأذفونش بلهجة هي غاية في الزراية عليه والسخرية منه: «دونك هذا القرد فخذه من هديتك عوضًا.» وكان الأمير المسلم بعيدًا عن الإحساس بهذه الإهانة، ورأى في القرد لهذه المناسبة ذريعة إلى اكتساب الصداقة، ودليلًا على أن الأذفونش لا يريد أخذ بلاده.
وبعد طليطلة جاء دور بلنسية وكان ابنا عبد العزيز٢ يتنازعان الملك، وكل منهما له شيعة وأنصار، وهناك فريق ثالث كان يعمل على إعطاء بلنسية لملك سرقسطة، وفريق رابع يريد أن تعطى للقادر، وكان الفوز حليف الفريق الأخير دون هؤلاء جميعًا، ولم يكن القادر حائزًا على الصفات المطلوبة، وكان خلفه جيش قشتالي بقيادة أحد رجال الأذفونش لا يعوزه إلا أن يقوم أهل بلنسية بتقديم الطعام لجنوده، ممَّا يكلفهم في اليوم الواحد ست مئة قطعة ذهبية نقدًا، وحاولوا عبثًا أن يقنعوا القادر بأنه ليس في حاجة إلى هذا الجيش ما داموا يشدون أزره ويقومون بنصرته بكل أمانة.

•••

ولكن القادر لم يكن من السذاجة بحيث يثِق بهذه الوعود، وهو يعلم أنهم يمقتونه ويبغضونه، وأن الأحزاب القديمة لم تنسَ بعد أمانيها، ولهذا عول على إبقاء الجيش القشتالي، ولكي يقوم بتوفير نفقات هذا الجيش أثقل كاهل المدينة، والقسم الذي تقع فيه بضريبة فوق العادة، وأخذ من النبلاء والعظماء مبالغ طائلة، وعلى الرغم من أعمال الاضطهاد والإرهاق الفظيعة جاءه قائد الجيش القشتالي، وطالبه — تحت تأثير ضغط شديد — أن يعطيه المتأخر من أعطيات الجند، ولم يكن في استطاعته أن يقوم بتحقيق هذا الطلب، فاقترح حينئذٍ أن يظل القشتاليون مقيمين داخل حدود المملكة في بسيط من الأرض يقطعه لهم، فقبلوا ذلك، وأخذوا يزرعون ما أقطعه لهم من هذه الأراضي الواسعة بواسطة العبيد، ثم دأبوا بعد ذلك على الغارة على البلاد المجاورة، واكتفوا بالغزو والسلب عن الزراعة واستنبات الأرض، وازداد عدد جنودهم بمن انضم إليهم من شذاذ العرب وحثالتهم، وبمن انضوى تحت لوائهم من جماعات الأرقاء والفسدة، ومعتادي الإجرام، وارتد الكثير منهم عن دينه، واعتنقوا الدين المسيحي، ولم يمض على هذه العصابات وقت طويل حتى اشتهرت بالفظاعة والقسوة شهرة تبعث على الأسف والحزن، فمن فظاعة هذه العصابات أنهم كانوا يقتلون الرجال، ويعتدون على أعراض النساء، وكثيرًا ما كانوا يبيعون الأسير المسلم برغيف من الخبز، أو بجرعة من النبيذ، أو بشواء من السمك، وكانوا يمثلون بالأسير الذي لا يستطيع أن يفتدي نفسه بالمال تمثيلًا فظيعًا؛ فربما سلوا لسانه أو سملوا عينيه، أو أطلقوا عليه الكلاب الضارية فمزقت جسمه.

وكانت بلنسية في الحقيقة تحت سلطان ونفوذ الأذفونش ولم يكن للقادر سوى أن يحمل لقب ملك، مع أن قسمًا كبيرًا من أرض المملكة كان ملكًا للقشتاليين، وكان ضم هذه المملكة إلى ممالكه رهن كلمة واحدة ينطق بها فمه.

ويظهر أن سرقسطة أيضًا أصبحت على شفا التسليم، فإن الإمبراطور حاصر هذه المدينة وأقسم ليستولين عليها.

وكان في الطرف الآخر من إسبانيا قائد من قواد الأذفونش اسمه «غرسية» مقيم في حصن لا يبعد كثيرًا عن «لورقة» وهو يواصل غاراته على مملكة المرية ولم يغفل غزو غرناطة أيضًا، بدليل زحف عسكر القشتاليين في ربيع عام (١٠٨٥) حتى أصبحوا على بعد ميل من شرقي غرناطة وقد أجروا معارك مع المسلمين هناك، وأيَّا كان ذلك فإن الخطر كان عظيمًا، والبلاء كان محيقًا، والقوة المعنوية عند المسلمين كانت تلاشت وذهبت، ولا يمكن أن يتكافئوا مع المسيحيين حتى ولا بنسبة خمسة من المسلمين إلى واحد منهم، ومن أمثلة ذلك أن كتيبة من عسكر المرية مؤلفة من أربع مئة جندي من صفوة الجند، ولوا الأدبار أمام ثمانين جنديًّا من جنود القشتاليين.

ومما لا ريب فيه أن عرب إسبانيا لو تركوا وشأنهم — مع ما وصلوا إليه من التفكك والضعف — لدار أمرهم بين أن يختاروا أحد أمرين: إما الخضوع للإمبراطور خضوعًا يفقدون به كل شيء، وإما الهجرة من البلاد طوائف وجماعات، وكان الرأي السائد في الواقع الهجرة من البلاد فرارًا بالشرف والعرض والدين، وقد حرض على ذلك كثير من شعرائهم ونظموا القصائد في حض الناس على مغادرة البلاد وتحذيرهم أخطار البقاء، وما يعرضهم له من الهلاك الذي لا يرضاه لنفسه عاقل حصيف.

وكانت الهجرة هي آخر حيلة يلجئون إليها بعد أن سُدَّت في وجوههم أبواب الحيل.

على أن يأسهم هذا لم يكن ثمة داع إليه، فقد كان هناك بصيص من نور الأمل في الخلاص من ظلمة الخيبة والفشل، وكشف هذه الغمة الحالكة، وكان في وسعهم أن يلتمسوا النجدة والغوث من إفريقية، وقد فكروا في ذلك، ورأوا فيه الأمل الوحيد الباقي لنجاتهم على يد أولئك البواسل الشجعان ذوي الطباع السليمة والعزائم القوية التي لم يفسدها الخور والهوان.

على أنهم لم يكادوا يسمعون هذا الاقتراح حتى عارضوه، وخشوا عواقبه الوخيمة؛ لأنهم كانوا يعرفون من وحشية أولئك العرب ما ينسيهم بسالتهم وشجاعتهم، وقد خشوا أن يلجئوا إلى سلب أموالهم ونهب دورهم قبل أن يفكروا في مناوأة المسيحيين وقتالهم.

وثمة عدلوا عن إنفاذ هذا الرأي الخاطئ، واتجه أملهم ورجاؤهم إلى المرابطين، وهم جماعة من بربر الصحراء الذين قاموا بتمثيل أول دور على مسرح هذه البلاد.

وقد كان أولئك المرابطون حديثي العهد بالإسلام، وقد بث فيهم الدعوة إلى هذا الدين الجديد أحد دعاة الإسلام وهو من سجلماسة فدانوا له وتحمسوا معه، ووهبوا نفوسهم لطاعته، وأقبلوا على الجهاد فتمت لهم الفتوحات في أسرع وقت، وأصبح ملكهم الفسيح، في هذا العصر الذي نتحدث عنه يترامى من السنغال إلى بلاد الجزائر.

وكانت فكرة استدعائهم إلى إسبانيا تفتر عن ثغور البشر لا سيما لرجال الدين، أما الملوك والأمراء فكانوا على عكس ذلك، فقد ترددوا في هذا الأمر طويلًا، على أن القليل منهم مثل المعتمد والمتوكل كانا قد دخلا في مكاتبات وعلاقات مع يوسف بن تاشفين ملك المرابطين، ورجواه غير مرة أن يساعدهما على مناوأة المسيحيين، على أن ملوك الأندلس بلا استثناء، وفي ضمنهم المعتمد والمتوكل كانوا قليلي الميل إلى دخول هؤلاء القساة القتلة المتعصبين من سكان الصحراء جزيرتهم، وكانوا يرون في (ابن تاشفين) منافسًا خطيرًا أكثر منه عونًا وظهيرًا.

وأصبح خطر النصرانية يتفاقم ويتزايد يومًا عن يوم، وصار استدعاء المرابطين والالتجاء إلى هذه الوسيلة الوحيدة لدرء هذا الخطر المحدق بالجزيرة أمرًا لا مناص منه، ولا معدى عنه، فمال المعتمد إلى هذا الرأي، وذهب إليه، بالرغم من أن ابنه الراشد أبان له ما هو مستهدف له من الخطر إذا هم شركوه في بلاده وظاهروه على عدوه، فأراه أنه لا يجهل هذه الحقيقة، وقال له: أنا بقطع النظر عن أي أمر آخر لا أريد أن تتهمني الأجيال المقبلة بأني تركت الأندلس غنيمة في أيدي الكفار، ولا أحب أن يُلعن اسمي على منابر المسلمين، ولو ترك لي الخيار لآثرت من كل قلبي أن أكون جمَّالًا في بلاد إفريقية على أن أكون راعي خنازير في قشتالة.٣
ولما أبرم خطته أفضى بها إلى جاريه المتوكل ملك بَطَلْيَوْس وعبد الله ملك غرناطة، ورجاهما أن يَشْرَكاه في إنفاذ هذا الاقتراح، وطلب منهما أن يرسلا قاضييهما إلى إشبيلية فأوفد المتوكل قاضي بطليوس أبا إسحاق بن مقانا، وأوفد عبد الله٤ قاضي غرناطة أبا جعفر، وانضم إليهما ابن أدهم وانضم إلى هؤلاء جميعًا الوزير أبو بكر بن زيدون.

وأبحر هؤلاء جميعًا إلى بر العدوة، وذهبوا لمفاوضة يوسف ودعوته على لسان ملوكهم للعبور إلى إسبانيا على رأس جيش، وكان عليهم أن يعرضوا عليه شروطًا، ويقطعوا عليه بذلك عهدًا، إلا أن ذلك بقي عندنا مجهولًا، كما كان واجبًا أن يعين المكان الذي سينزل فيه يوسف من البحر، فاقترح أبو بكر أن يكون المكان الذي ينزل فيه بعسكره جبل طارق، وآثر يوسف أن يكون نزوله في الجزيرة الخضراء بعد أن يتخلى له عنها، ولم يرُقْ في نظر وزير المعتمد هذا الطلب، الذي لم يكن مخولًا إليه حق الاتفاق عليه، وعلى أثر ذلك كان يوسف يعامل أولئك السفراء بفتور، فكان يراوغهم ويجيبهم أجوبة مبهمة، ولذلك عادوا إلى بلادهم وهم يجهلون تحديد المسائل التي وقع عليها الاتفاق واستقر عليها الرأي، فهو لم يقطع عهدًا بالاتفاق على دخول إسبانيا، كما أنه لم يصرح بعدم الدخول.

وكذلك صار ملوك الأندلس يشكُّون في نواياه، ويرتابون في مقاصده، وقد خرجوا من هذا المشكل بحالة تستنكرها دولهم، وتستنكفها رعاياهم، على أن ارتيابهم في الأمر كان قائمًا على أساس.٥

وكان من عادة يوسف ألا يقدم على عمل إلا بعد مشورة الفقهاء ورجال الدين، فاستشارهم فيما يجب عمله، فأشاروا عليه أن يبدأ أولًا بقتال القشتاليين، وإن كان يعوزه في هذا السبيل أن يُخلوا له الجزيرة الخضراء، وإن أبوا أن يخلوها له كان له الحق في أخذها، ولما تزود للأمر بهذه الفتوى أمر عدة من جيوشه بالإبحار من مدينة سبتة على بعض السفن، والعبور إلى الجزيرة وأن تكون مكتنفة بجيش كثيف من جنوده، ورسم أن تقدم المؤن وما يحتاج إليه الجيش من نفس المدينة، وكان الراضي حاكمًا على الجزيرة، فوقع في حيرة وارتباك لا قبل له باحتمالها، لأن الحالة التي تواجهه الآن لم يكن يتوقعها، ولم يمتنع من تقديم ما يحتاجه جيش المرابطين من المؤن، ولكنه كان على استعداد لدفاع القوة بالقوة متى دعت الحال لذلك.

وعدا ذلك فقد كتب إلى والده رسالة ربطها في جناح حمامة، وأطلقها صوب إشبيلية وتربص ريثما يتلقى منه الأوامر، فورد إليه جواب أبيه على جناح السرعة، وقد بَتَّ في الأمر بلا تردد ولا إمهال، ورأى أنه مهما يكن مسلك يوسف جافًّا ومثيرًا، فإنه يشعر بأنه قد أمعن في المضي، حتى لا يستطيع أن ينكص على عقبيه، ولم يبقَ إلا أن تقابل هذه اللعبة السيئة الجريئة بمظاهر الارتياح والاطمئنان، وما هو إلا أن أصدر في الحال أمره إلى ولده بإخلاء الجزيرة والانسحاب إلى رندة.

وتلاحقت الجنود بالجزيرة، ووصلها يوسف نفسه أخيرًا، فعني أولًا بتحصين المدينة حتى صارت في حالة حسنة، وزودها بالمؤن والذخائر، وترك فيها حامية كافية، ثم سار في معظم جيوشه إلى إشبيلية وجاء المعتمد لاستقباله تحفُّ به أعاظم رجال مملكته، ولما تلاقيا، هَمَّ المعتمد أن يقبل يده فأبى وتعانقا عناقًا تجلت فيه كل عواطف الإخلاص والحب والسرور، بلقاء العدو المشترك، ولم يغفل المعتمد العادات الملكية المتبعة في مثل هذه الظروف من تقديم هدايا فاخرة تليق بمقام ضيفه الكريم ورجال دولته، وقد تقبلها شاكرًا مغتبطًا، ووزعها على جنوده المرابطين، ولم يخامره شك على أثر ما قدم إليه من سني الهدايا أن إسبانيا في الذروة، من تزايد الغنى، ووفور الثروة.

فوقف الملكان على مقربة من إشبيلية وقد وافاهما هناك ابنا باديس عبد الملك ملك غرناطة وتميم ملك مالقة وانضما إلى المرابطين، وكان مع الأول ثلاث مئة فارس، ومع ثانيهما مئتان، وأرسل المعتصم ملك المرية كتيبة من الفرسان، واعتذر عن مجيئه بنفسه لمجاورة نصارى البدو له، وبعد مضي ثمانية أيام زحف الجيش عن طريق بطليوس حيث التقى بالمتوكل وجيوشه، ثم زحفوا إلى طليطلة ولم يتقدموا قليلًا إلا وقد فاجأهم العدو.

وكان الأذفونش لا يزال محاصرًا سرقسطة في ذلك الوقت الذي علم فيه بدخول المرابطين إسبانيا وقد خيل إليه أن ملك هذه المدينة المحاصرة يجهل حادث دخول المرابطين إلى هذه البلاد، فبعث إليه يطلب منه أموالًا كثيرة ليرفع عنه الحصار، ولكن المستعين كان قد وقف على هذا النبأ العظيم مثله، فلم يعطه درهمًا واحدًا.

ثم عاد الأذفونش إلى طليطلة بعد أن أرسل إلى إيڤارو وإلى مساعديه الآخرين أن يجيئوا بجيوشهم لينضموا إلى جيشه، ولما تجمعت وحدات الجيش الذي كان به كثير من الفرسان الفرنسيين زحف، إذ كان يريد أن تدور رحى القتال في بلاد العدو، والتقى بالمرابطين وحلفائهم في مكان لا يبعد عن بطليوس واقع بالقرب من مكان يعرف عند المسلمين «بالزلاقة» وعند المسيحيين باسم «سكر الياس».

ولم يكن قد انتهى من ضرب خيامه حتى وافاه كتاب من يوسف يدعوه فيه إلى إحدى خصال ثلاث: إما الإسلام، أو الجزية، أو الحرب، فاستاء جد الاستياء من هذا الكتاب، وكلف أحد كتابه من العرب أن يرد عليه بكتاب يقول فيه: إني ما كنت أتوقع أن يصل الحد بالمسلمين الذين كانوا يعطونني الجزية منذ سنين مضت، أن يعرضوا علي مثل هذه الاقتراحات الجارحة، ومع هذا فإن لديَّ جيشًا في استطاعته أن يُنزل العقوبة على هذه الوقاحة البالغة من الأعداء.

ولما وصل الكتاب اشتغل بالرد عليه أحد الكتاب الأندلسيين، ولما سمعه يوسف رآه مطولًا فاكتفى بأن يكتب في حاشية كتاب الإمبراطور هذه العبارة: «الذي يكون ستراه.» وبعث بهذا الرد إليه.٦

ولم يبق بعد هذا إلا تحديد وقت المعركة، وبذلك كانت تقضي العادة في ذلك العهد، وقد ضربوا لها موعدًا يوم الخميس ٢٢ أكتوبر سنة (١٠٨٦) ولكن الأذفونش أرسل في نفس اليوم إلى المسلمين يقول: «غدًا الجمعة وهو يوم عيدكم، والأحد عيدنا، فأقترح إذن أن تكون المعركة يوم الاثنين.» فقبل يوسف هذا الاقتراح، ولكن المعتمد رأى فيه حيلة سياسية.

وكان الأندلسيون في مقدمة الجيش معرضين للهجمات الأولى، أما المرابطون فكانوا في المؤخرة تسترهم الجبال، فلم يكن بدٌّ من أن تتخذ مقدمة الجيش الحيطة والحذر حتى لا يباغتها العدو، وأخذت طلائع المسلمين تترقب حركات العدو، وكانت الأفكار والخواطر في قلق وانزعاج، والمعتمد لا ينفك يستشير منجميه، وأصبح الوقت حرجًا ودنت الساعة الحاسمة التي ستدور فيها رحى المعركة الفاصلة التي يتوقف على نتيجتها مستقبل إسبانيا، وكانت جيوش القشتاليين أوفر عددًا إذ كانت تتراوح — على ما يظن — بين خمسين إلى ستين ألفًا، بينما جيوش خصومهم المسلمين لا تعدو عشرين ألفًا.

ومع طلوع الفجر بدأت مخاوف المعتمد تتحقق، فقد أبلغه بعض طلائعه أن الجيش المسيحي يقترب، وعلى هذا يصبح مركزه على شفا الخطر، ويستهدف جيشه لأن يسحق قبل أن يقترب المرابطون من ساحة القتال، فبعث إلى يوسف يستحثه أن يتقدم بجيوشه على عجل، أو أن يوافيه على الأقل بالمدد الكبير الكافي، وقد كان يوسف قد وضع خطة لا يستطيع التحول عنها، فلم يبادر إلى تلبية طلبه، وكان قليل الاهتمام بما يصيب الأندلسيين، وقد صاح لهذه المناسبة قائلًا: «وماذا يهمني إذا كان نصيب هؤلاء جميعًا الهلاك، إنهم جميعًا أعداء.»

ولم يسع الأندلسيين إلا الفرار حيث وجدوا أنفسهم وحدهم، أما الإشبيليون، فقد كانوا — على غرار ملكهم الذي جرح في وجهه ويده — مثلًا للشجاعة والبسالة والإقدام، فصمدوا للعدو، وقاوموا صدماته العنيفة، إلى أن وصلت لمساعدتهم نجدة من عسكر المرابطين، وحينئذٍ صارت المعركة أقل توازنًا، وقد دهش الإشبيليون أشد دهشة حين رأوا العدو يقاتل متقهقرًا؛ لأن المدد الذي وصل لم يكن من الكثرة بحيث يزهى على سائر الجيش بأن يكون صاحب الفضل في الانتصار على الأعداء، والحقيقة أن الفضل في تقهقر الجيش لم يكن لمجرد وصول المدد.

وإليك ما وقع: لما رأى يوسف أن الجيش القشتالي التحم بالأندلسيين بدأ ينفذ خطة وضعها، وهي مباغتته من الخلف، ولذلك لم يرسل إلى المعتمد إلا المدد القليل الكافي حتى لا يسحقه الأعداء، ثم وفق إلى تنفيذ هذه الخطة الحربية حين زحف بأكبر جزء من جيشه على معسكر الأذفونش وأجرى مذبحة هائلة في الجنود الموكلين بحراسة المعسكر، وأشعل النار فيه فاحترق، وانقض على ظهر القشتاليين، وهو يحتوش أمامه الجنود الفارين.

وإذ قد وجد الأذفونش نفسه بين نارين، ورأى أن الجيش الذي باغته من الخلف، أضخم عديدًا من الجيش الذي في مواجهته، اضطر أن يحول قوته الرئيسية إليه، وحمي وطيس المعركة، وكانت الحرب سجالًا بين الفريقين المتحاربين، وكان يوسف يجول على صهوة جواده بين صفوف المقاتلة من المسلمين، وهو يهيب بهم: «أن تشجعوا أيها المسلمون، أعداء الله أمامكم، والجنة تنتظركم، وطوبى لمن أحرز الشهادة.»

وسرعان ما عاد الأندلسيون الفارون فنظموا صفوفهم، وأخذوا أمكنتهم من ميدان القتال لشد أزر المعتمد، ثم جرد يوسف حرسه الاحتياطي من السودان فحملوا على القشتاليين من ناحية أخرى حملة منكرة أتوا فيها بالعجائب.

وتمكن زنجي من الدنو من الأذفونش وطعنه بخنجر في يده فجرحه في فخذه، وأقبل الليل، والفريقان المتحاربان يتنازعان المعركة التي حمي وطيسها، ثم كان النصر في النهاية حليف المسلمين، وكان الفريق الأعظم من المسيحيين ملقًى في ميدان القتال بين قتيل وجريح، ولاذ الباقون بالفرار، وتمكن الأذفونش نفسه من الفرار مع كبير عناء يحيط به خمس مئة فارس من جنده (٥) أكتوبر سنة (١٠٨٦).

وكان يوسف معتزمًا أن يتعقب الفارِّين، ويزحف بجيوشه إلى بلاد الأعداء ليجني ثمرات انتصاره، ولكنه عدل عن ذلك حين بلغه نبأ وفاة ابنه الأكبر، وعاد إلى إفريقية مع عامة الجند، وترك تحت إمرة المعتمد جيشًا من المرابطين مؤلفًا من ثلاثة آلاف جندي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤