الفصل الثاني

في العصر — الذي نحن بصدد التحدث عنه — ظهر رجلان طبقت شهرتهما الآفاق، وكلاهما كان يحمل لصاحبه حقدًا قاتلًا، وكانا هما اللذان بيديهما تسيير دفة الأمور في غرناطة والمرية. هذان الرجلان هما: المغربي ابن عباس، واليهودي صمويل.

فالربان صمويل هاليفي، وكان يدعى عبادة بن نغذلة، ولد في قرطبة ودرس التلمود على الربان هانوخ، الرئيس الروحي للجالية اليهودية، ثم انصرف بجد ونجاح إلى دراسة الأدب العربي وتثقف بأكثر العلوم التي كانت معروفة إلى ذلك العهد، ثم كان — بعد انقطاعه عن الدرس — بدالًا صغيرًا، وقضى في هذه التجارة مدة طويلة، أولًا في قرطبة، وثانيًا في مالقة التي أقام بها بعد الفترة التي استولى فيها بربر سليمان على العاصمة، ثم ساعفه الحظ وانتشلته بعض الفرص السعيدة من هذا المركز الوضيع.

ذلك أن حانوته كان قريبًا من قصر أبي القاسم بن العريف وزير جيوش ملك غرناطة، وكان على رجال القصر في الغالب أن يراسلوا مولاهم فيما يعرض لهم من الشئون، ولكونهم جهلاء بفن الكتابة لجئوا إلى صمويل هذا ليحرر لهم ما تمس إليه الحاجة من تلك الرسائل التي أثارت إعجاب الوزير إذ ألفاها مكتوبة بأبلغ وأجزل أسلوب عربي، مما حمل الوزير عند عودته إلى مالقة أن يسأل عن المنشئ لتلك الرسائل، ولما علم أنه اليهودي استقدمه إليه، وخاطبه بقوله: «ليس خليقًا بك أن تبقى صاحب حانوت، وما أجدرك أن تكون كوكبًا يسطع لألاؤه في بلاط الملك، فإذا توفرت على ذلك رغبتك، فإني متخذك لي ناموسًا خاصًّا.»

فتقبل منه هذه المنة شاكرًا، وصحبه الوزير معه عند عودته إلى غرناطة، وازداد إعجابه به عندما أخذ يبادله الحديث في شئون الدولة، إذ وقف منه على رجل نادر الذكاء بين الرجال، بعيد النظر، سديد الرأي، حتى قال بعض المؤرخين اليهود: «إن النصائح التي كان يسديها صمويل كانت بمثابه أقوال صادرة عن إنسان ملهم يستوحي كلام الله ويستفسره.»

ولهذا كان الوزير يأخذ بها، ويخصه بجميل الثناء، ولما أحس الوزير بدنو الأجل في مرضه الذي مات فيه، جاء الملك يعوده، وقد داخله حزن عميق على وزيره، وخادمه الأمين الذي سيفقده ولا يجد من يخلفه، فانتهز هذه الفرصة وقال للملك: «لم تكن النصائح والآراء الرشيدة التي كنت أبديها لك أيها الملك في العهد الأخير صادرة مني بل كانت وحيًا أتلقاه من صمويل ذلك اليهودي الذي آثرت أن يكون ناموسي الخاص، فأقصر نظرك عليه واتخذه أبًا لك ووزيرًا، أخذ الله بيدك، وشد به أزرك.»

وقد عمل حيوس الملك بهذه النصيحة، وأحلَّ صمويل بالقصر١ محل وزيره الراحل، وصار هذا اليهودي ناموس الملك ومستشاره.

وربما لا يحدثك التاريخ عن رجل يهودي حكم في دولة إسلامية حكمًا مباشرًا وصريحًا باسم وزير مستشار إلا في هذه المملكة الإسلامية.

على أن بعض اليهود قد تمتع — على الأرجح — بشيء من الاعتبار والحظوة لدى بعض ملوك المسلمين الذين كانوا يستعملونهم غالبًا على وزارة المالية، ولكن التسامح لم يبلغ بالإسلام إلى حد أن يتولى يهودي منصب رئيس الوزراء، وإذا جاز هذا الأمر في جهات أخرى فلم يكن ليجوز في غرناطة تلك المدينة التي كثر عدد اليهود المقيمين بها حتى أطلقوا عليها اسم مدينة اليهود،٢ ولما كانت في أيديهم معظم الثروة فقد كانوا يتدخلون غالبًا في شئون الدولة.

وصفوة القول أن اليهود وجدوا هنا أرضًا أخرى غير الأرض الموعودة من الصحراء وصخرة حريب.

ويصح أن يفسر سمو صمويل إلى هذا المنصب بأسلوب آخر، فإنه لم يكن من السهل على ملك غرناطة، أن يعثر على من يقلده منصب الوزير الأول، إذ من المحقق أنه لم يكن في استطاعته أن يسند هذا المنصب الخطير لا إلى رجل من البربر، ولا إلى آخر من العرب. وقد كانوا يؤثرون — في ذلك الحين — أن يكون الوزير أديبًا قد بلغ في الأدب الغاية وملك ناصية البيان، كي يستطيع أن يحرر الرسائل التي ترسل إلى الملوك بالنثر المبدع، والأسلوب الرائع الممتع، وقد كان ملك غرناطة يرغب في أن تتوافر هذه المواهب عنده، ومثله في ذلك مثل صعلوك يعمل على أن يكون من العظماء، ولما كان نصف بربري بذل كل ما في وسعه حتى لا يظهر بهذا المظهر، وكان يتمنى — من أعماق نفسه — أن يكون ذا علم وأدب، وكان يزعم — حتى لا ينسب إلى ضعة النسب — أن السلالة التي انحدر منها — وهي صنهاجة — لم تكن من عنصر البربر بل كانت من عنصر العرب.٣

فلكل هذه الاعتبارات كان لا بد له من وزير مضطلع بفنون الأدب لا نظير له عند جيرانه، ولكن أنى له أن يظفر بذلك؟

إن البربر الذين عنده كانوا لا يحسنون إلا عملًا واحدًا هو القتال والاستيلاء على المدن ونهب ما فيها من الأموال والذخائر وصرفها وتخريبها، ويعجزون بعد ذلك عن النطق الفصيح، أو كتابة سطر صحيح بلغة القرآن، والعرب الذين كانوا يخضعون لسلطانه كانوا لا يحملون هذا النير على عاتقهم إلا وهم يرجفون غضبًا ويضطربون حمية وخجلًا، ويرون خيانته عملًا شريفًا، فهو لا يستطيع أن يأمن جانبهم، وقد ساعفته الظروف فرأى يهوديًّا مثل صمويل شهد له علماء العرب أنفسهم بالاستبحار في العلوم وفقه أسرار لغة العرب، ومما يشهد له بالمهارة والحذق أنه مع حرصه على التمسك بدينه، كان لا ينحرف وهو يكتب لأساطين المسلمين عن أن يستعمل في رسائله ومكاتباته الصيغ والنصوص والعبارات الدينية المألوفة عند كتاب المسلمين، فلا بد أن يكون هذا الرجل قد أحرز من البلاغة العربية كنزًا ثمينًا كان ينفق منه كلما أراد الكتابة، ولهذا لم يشعر الملك — وقد رفعه إلى منصة رياسة الوزارة — بخجل، والعرب أنفسهم قد ارتاحوا إلى هذا الاختيار ووافقوا عليه، وعلى الرغم من عدم تسامحهم وارتيابهم في اليهود فقد أذعنوا اضطرارًا واعترفوا بعبقرية صمويل ونبوغه ومزاياه، وفي الحق أنه كان متحليًا بمختلف العلوم، زاخر العباب فيها، فهو الرياضي المنطقي الفلكي الذي يجيد — فوق ذلك — سبع لغات، أضف إلى هذا أنه — بوجه عام — كان كثيرًا ما يكرم الشعراء ورجال الأدب، والكثير ممن خصهم بنواله، لم يقصروا في إطرائه ومدحه والثناء عليه، وقد دخل في غمار من مدحه الشاعر منفائيل.

ووجه إليه بالكلمة التالية التي لا يذكرها المسلمون، إلا مقرونة بفزع واستنكار عظيمين:

«أيها العلم الفرد الذي جمعت في شخصك من المزايا والسجايا الحميدة ما لم يظفر سائر الناس إلا بجزء يسير منه، أنت يا من أطلقت الجود من محبسه بعد أن كان سجينًا، إنك لأسمى الناس قدرًا وأرفعهم منزلة في الشرق والغرب، فإنك كالذهب قيمة وسائر الناس كالنحاس … إلخ.»

وأما الذي كرهه العرب من آثار ذكائه الحقيقي فهي الخدمات العديدة التي أداها للأدب العبري، فقد نشر باللغة العبرية مقدمة للتلمود، وقعت في اثنين وعشرين جزءًا جعلها خاصة بالغراماطيق، ومن أهم كتب الغراماطيق وأوفرها مادة «كتاب الثروة» صنفه قاضٍ من أقضى القضاة، وأكثرهم ثقافة ودراية، كان على دين صمويل الذي ازدهر بالمعارف والبحوث في القرن الثاني عشر، وقد وضع هذا الكتاب في المرتبة الأولى من الكتب التي بحثت في الغراماطيق، كان هذا المؤلف شاعرًا أيضًا، وقد نسج على منوال المزامير، وابن سيراخ، ولما كانت أشعاره مفعمة بالكنايات وأمثال العرب والحكم المختلسة من أقوال الحكماء والفلاسفة، والمعاني الشعرية التي اخترعها الشعراء المجيدون، فقد أصبح من العسير — إلا على الخاصة — تفهم معانيه. على أن أكبر علماء اليهود كان يتعذر عليه فهم غوامضه ما لم يستعن بالمتون والشروح والتعليقات.

ولما كان التعمق والبحث في آداب اللغة العبرية أكثر شيوعًا منهما في اللغة العربية التي هي صورة منها، ونموذجًا لها، كان الغموض لا يعد نقصًا وعيبًا، بل يعد من الدراية والكفاية العلمية.

وكان صمويل يسهر على مصالح اليهود، ويُعنى عناية أبوية بالشبيبة اليهودية، يتفقد رقيقي الحال منهم، ويمدهم بما يسد حاجاتهم — عن كرم وسخاء — وكان في خدمته كتاب ينسخون المشنا والتلمود، فكان يوزع نسخها جوائز على التلاميذ الذين لا يملكون شراءها، ولم تكن مكارمه وخيراته وإحساناته لتقتصر على أتباع دينه في إسبانيا فحسب، بل كانت تتعداهم إلى أمثالهم في إفريقية وصقلية وبيت المقدس وبغداد، وقد أصبح اليهود في كل صقع وبلد يعتمدون على معونته وكرمه.

لهذا عمد اليهود في غرناطة إلى أن يبرهنوا على إخلاصهم وحبهم وولائهم واعترافهم له بالجميل عليهم وعلى أبناء دينهم، فمنحوه لقب «ناغد» أي زعيم أو أمير يهود غرناطة.

ولما كان زعيم أمة ورئيس دولة فقد ضم إلى رجاحة العقل وتوقد الذكاء يقظة وتبصرًا وحزمًا، وصفات خلقية ثابتة جعلته في مصافِّ كبار الزعماء والرؤساء، فكان يتكلم قليلًا ويفكر طويلًا، وهذه في العادة من أعظم صفات الرجل السياسي المحنك.

وكان يهتبل الفرص فلا يدعها تمر دون أن يستفيد منها عن حنكة وخبرة ودربة، وكان عليمًا بأخلاق الناس وميولهم، خبيرًا بالوسائل التي يتغلب بها على رذائلهم وشرورهم، وكان — فوق هذا — جميل الهندام حسن الهيئة مشرق الطلعة، ففي مجالس الحمراء البديعة كان يبدو أنيقًا رشيقًا حتى ليخيل للناظر إليه أنه نشأ منذ نعومة أظفاره في أحضان الأناقة الفاخرة، ولم يكن أحد ليجيد الكلام بلباقة وحذق مثله، ولا ليفنن في التظرف في الحديث ويتملق محدثه ويتملك بقوة بيانه مشاعر محدثه مثله، ويندر فيمن أسرعت بهم عجلة الحظ فرفعتهم فجأة من الحضيض إلى ذروة المجد ألا يكونوا على نمط أولئك الذين كانوا فقراء، فأصبحوا أغنياء، فإن كثيرًا منهم يغلب عليه طبعه الأول فينحط إلى درجة صعلوك وقح مفتون، وصمويل لم يكن على نمط أولئك، بل كان كمن نشأ في السيادة والمجد منذ ولادته.

ولما كان ذا عطف محبًّا للجميع، فقد أضاف إلى سجاياه الكريمة خلقًا نبيلًا، متأصلًا في نفسه، هو التخلي عن صفة الادِّعاء الكاذب، فهو — بدلًا من أن يخجل من عمله الذي كان يزاوله من قبل فيعمل على إخفائه — كان يعلنه لمحدثه ومن يعيبه عليه، وكان يعلن ذلك في صراحة وبساطة تقنع محدثه أنه يعتزي إلى عمل شريف.

•••

وأما ابن عباس وزير زهير أمير المرية فقد كان رجلًا فائق الشهرة عظيم الخطر، وقد قالوا عنه إنه اختص بأربعة أشياء لا يدانيه فيها غيره:
  • (١)

    الأسلوب الإنشائي

  • (٢)

    الثروة

  • (٣)

    البخل

  • (٤)

    الكبر

فكانت ثروته — على الحقيقة — لا تقع تحت حصر، وقد قدروها بما يربو على خمس مئة ألف دوكا.٤

وكان قصره — لفخامته — كقصر ملك مؤثثًا بأفخر الأثاث والرياش غاصًّا بالخول والعبيد، فيه نحو خمس مئة قَيْنَة جميعهن ذوات جمال رائع نادر، ومما هو خليق بالإعجاب في قصره هذا مكتبته الفاخرة التي كانت تحوي عدا الكراسات المنفصلة زهاء أربع مئة ألف مجلد، وقد تمت السعادة لهذا الرجل فلم يعد ينقصها شيء، فقد كان بهي الطلعة جميلًا شابًّا، قد أوفت سنه على الثلاثين، ينحدر نسبه من أسرة عريقة، يرجع أصلها إلى بعض قبائل العرب التي نصرت النبي .

وقد كان لكثرة الثراء يسبح في بحر من الذهب، ولما كان عليمًا بفنون الأدب قديرًا على التعبير عن آرائه في عذوبة ولطف ورقة، ذاعت شهرته الأدبية وتردد ذكره في المحافل والأندية، وتوافر الناس على محبته وتقديره. ولكن مما يؤسف له أن شيئًا من الخوف والارتباك قد ملأ فؤاده، وتملك عليه مشاعره، وأصبح ينتابه من الوساوس والشكوك والاضطرابات المفزعة ما لا حد له، ومن جراء ذلك كثر أعداؤه، وقل أولياؤه، وكان أهل قرطبة من أشد الناس نقمة عليه — لكبريائه وغطرسته — فقد حدث مرة أن زار مدينتهم مع زهير، فواجه بكل احتقار وزراية أكبر رجل من عظماء قرطبة الممتازين بأصل أرومتهم وبمواهبهم الخلقية والعلمية، وكان مما جبه به ذلك العظيم قوله: «إني لا أرى في مدينتكم هذه سوى صعلوك سائل، أو مأفون جاهل.»

وفي الواقع كانت أوهام هذا الرجل ودعواه الجوفاء قد وصلت إلى حد السفه والجنون، وقد جاء في شعره من الغلو والإغراق في القول ما معناه: «لئن كانوا قد أصبحوا كلهم عبيدي، فإن نفسي لن يقنعها ذلك ولن تسكن إليه.»

ومن أبياته التي كان يرددها في كل مجلس وعند كل مناسبة، وبخاصة إذا كان يلعب الشطرنج ما مضمونه: «قد أمن الشقاء جانبي، وهو ممنوع البتة أن يحوم حولي، أو ينزل بساحتي.»

وهذه القحة التي كان يواجه بها القضاء، ويجبه بها القدر، كانت مبعث إثارة النفوس والخواطر ضده، مما حمل شاعرًا جريئًا على أن يجهر بما يعبر به عن الرأي العام، فأحال الشطر الثاني إلى ضد معناه، وذلك حيث يقول: «ولكن القدر الذي لا ينام سيوقظ راقد الشقاء.»

ولما كان ابن عباس عربيًّا قحًّا، أصبح يكره البربر ويحتقر اليهود. وربما كانت تقضي عليه ميوله بأن لا ينضم ملكه إلى الحزب العربي الصقلبي، ذلك الانضمام الذي تكون نتيجته اللازمة، إيداع زهير غيابة السجن بيد قاضي إشبيلية زعيم هذا الحزب. وقد كان امتعاضه من زهير شديدًا لمحالفته ملكًا من ملوك البربر، اتخذ له وزيرًا يهوديًّا كان شديد الكراهة له، وهو يعلم ذلك، وقد تمالأ مع ابن بقية٥ وزير الحموديين بمالقة وعمل على خلع إسماعيل بأن اختلق لإدراك هذا الغرض عدة وشايات ودسائس لم تفلح، ثم عمد بعد ذلك إلى أن يوقع ملكه مع ملك غرناطة بأن يجعله يقدم مساعدته لمحمد أمير قرمونة وعدو حبوس، وقد نجح في محاولته هذه.
وبعد فترة من الزمن وافى الأجل المحتوم حبوس في يوليو سنة ١٠٣٨٦ وقد أعقب ولدين باديس٧ وهو بكره، وبلقين، وهو أصغر منه. وأراد البربر وجماعة اليهود أن يتبوأ صغيرهما العرش، وآخرون من اليهود بينهم إسماعيل، ومعهم العرب، كانوا يميلون إلى جانب باديس. وكان لا بد — لهذا الخلاف — من أن تنشب حرب أهلية، لو لم يبادر بلقين إلى التنازل عن العرش لباديس والدخول في طاعته، فحذا حذوه أنصارُه مكرهين.٨ وأول عمل عمله الأمير الجديد أنه بذل كل ما في وسعه لتوطيد أركان المحالفة بينه وبين أمير المرية، وقد صرح هذا الأخير بأن كل شيء تتم تسويته عند المقابلة. وخرج في حرس تام العدد والعدة، ومنظر يستوقف الأبصار، واجتاز حدود مملكة باديس — على غير علم منه — إلى أن صار فجأة على أبواب غرناطة، فأثَّر هذا العمل — الخالي من اللياقة — في نفس باديس. ومع هذا فقد قابله بكل حفاوة، وأولم له ولمن معه وليمة فاخرة، وغمر أتباعه بالعطايا والهدايا، وعلى الرغم من هذه الحفاوة البالغة، فإن المفاوضات التي دارت بينهما، على عقد تحالف وطيد، لم تسفر عن نتيجة، إذ لم يستطع الأميران ولا وزيراهما (كان إسماعيل لا يزال وزيرًا في مكانه) أن يتفقا على شيء، وكان في مقابلة ما فعله باديس من الحفاوة بضيوفه، أن أميرهم زهيرًا،٩ بتأثير وزيره ابن عباس حين اجتمع بباديس، تظاهر أمامه بعظمة تركت في نفسه أثرًا سيئًا، وجعلته يبيِّت النية على الإيقاع بأمير المرية، وتأديبه أدبًا يكون كفاء لقحته وجفائه، وصمم على الإيقاع بوزيره أيضًا لما بدا منه من عناد وفظاظة حين عول أخوه بلقين، وأحد قواده، أن يبذل آخر محاولة للتوفيق بينهما.

وتفصيل الخبر أن بلقين ذهب حين أقبل الليل إلى حيث مجلس ابن عباس وخاطبه بقوله: «اتق الله — أيها الوزير — واخش عقابه، فأنت الذي يحول دون اتفاق أميره، وقد رأيناه أطوع لك من بنانك، لا يصدر إلا عن رأيك، ولا يعمل إلا بمشورتك، ولعلك تدرك أكثر مما ندرك مبلغ ما وصلنا إليه من السعادة، ومواتاة الحظ، في الوقت الذي كنا نعمل فيه متفقين، حتى لقد حسدنا جميع أعدائنا. وإذن فواجبنا جميعًا أن نعود إلى ما كنا عليه من الاتفاق والمحالفة. والشرط الذي لم يتم عليه الاتفاق بيننا، هو مبلغ المعونة التي تمدون بها محمدًا أمير قرمونة. فلندع هذا الأمير وما يخبؤه له القدر من حظ — وذلك ما يريده أميرك — ثم لنتفق بعد هذا على تسوية جميع الشروط، فإن كل شيء — بعد نقطة الخلاف هذه — ميسور وسهل.»

•••

فرد عليه ابن عباس بلهجة قاسية، تشف عن نفوذ وسلطان قاهر من جهة، وعن امتهان لمحدثه وزراية عليه من جهة أخرى. ولما حاول أخو أمير البربر وسفيره أن يعالجه من ناحية العاطفة، قام إليه معانقًا باكيًا، فلم يؤثر فيه بمعانقته ودموعه، بل قال له: «وفِّر عليك هذه المظاهر الكاذبة، والعبارات الفارغة، فإنها لا تترك أي أثر في نفسي، وإن ما قلته لك آنفًا، هو ما أعيده على مسامعك اليوم، فإذا لم تعمل أنت وأصحابك على تنفيذ ما نريد، فسأعمل بعد على ما يدعوكم إلى الحسرة والندم.»

فأحرج بلقين هذا الرد وأجابه بقوله: «هل هذا هو جوابك الذي أحمله إلى المجلس؟»

فقال ابن عباس: «هو هذا بدون شك. ولك أن تبالغ في قولي ما شئت، وتزيد في لهجته شدة ما استطعت.»

•••

فبكى بلقين حمية وغضبًا لما لحقه من الإهانة والازدراء، وعاد إلى باديس، ومجلسه منعقد، فأفضى إليه بكل ما دار بينه وبين ابن عباس من حديث، وأصابه من عنت. فامتعض باديس صنهاجة امتعاضًا شديدًا وقال: «إن وقاحة هذا الرجل لا تحتمل. فقوموا جميعًا، قومة رجل واحد للدفاع عن كرامة المملكة، وإلا فإنكم — وما تملكون — تصيرون ملكًا لغيركم.»

وقد شاطره الغرناطيون هذا الغضب، وظهر بلقين، أشد من أخيه باديس حماسة وغضبًا، وطلب إليه — في عنف — أن يتخذ أهل المرية في الحال، ما يلزم من التدابير نحو هذا الطاغية وملكه، فقطع على نفسه عهدًا بذلك.

وكان لا بد لزهير في العودة، من اجتياز قنطرة لا محيد له عنها.

فأمر باديس بقطع هذه القنطرة، وأرسل جنوده فاحتلوا تلك المضايق والأوعار، ولم يكن حنقه على زهير شديدًا كأخيه، ولم ييئس من عود صديق والده القديم إلى ما كان عليه من عواطف سامية، وميول شريفة، ولهذا عول على أن ينبهه في الخفاء إلى الخطر المحدق به، فعمد إلى حَرَسِيٍّ من البربر من جند المرية، وبعثه إلى زهير رسولًا، فوافاه ليلًا وأَسَرَّ إليه بما يلي: «أخبرك يا مولاي — وأنا صادق فيما أقول — أنك ملاقٍ غدًا من المخاوف والمصاعب، إذا أنت اجتزت القنطرة في طريق عودتك، ما تتعرض معه لأشد أنواع الخطر والهلاك. فأنصحك أن تخف للرحيل — منذ الليلة — قبل أن يتسع الوقت لجند غرناطة فيحتلوها ويضيقوا عليك الخناق. وإذا نجوت سريعًا، وحدث أنهم تتبعوك، كان في استطاعتك أن تدبر معهم معركة في براح من الأرض بعيدًا عن تلك المضايق، أو تلحق بإحدى قلاعك فتكون في مأمن من غائلتهم.»

•••

ويظهر أن هذه النصيحة صادفت من نفس زهير قبولًا، ووقعت منه موقع الإعجاب، إلا «ابن عباس» الذي كان حاضرًا وقت أن أفضى الرجل إلى زهير بهذا الحديث، فقال له: «لا عليك أيها الأمير، فإن الخوف هو الذي جسم في خيال هذا الرجل أن يحدثك هكذا.»

فصاح الحَرَسِيُّ: «أي خوف هذا؟ ألمثلي تقول هذا الكلام، وأنا الذي اشترك في عشرين معركة في حين أنك لم تشهد في حياتك معركة واحدة؟ وسترى — عند معاينة الحادث غدًا — أني لم أغش الأمير حين نصحته.» وغادرهما مغضبًا.

وقد زعم أعداء ابن عباس (وقد قلنا سابقًا إنهم كثير) أنه رفض نصيحة جندي البربر لا لأنه استهان بها، بل لأنه كان يرمي إلى هلاك زهير طمعًا في الاستئثار بحكم المرية على أمل أن يقتل زهير في المعركة ويركن هو إلى الفرار، فيُنادى به ملكًا عليها، وربما كان لهذا الزعم ظل من الحقيقة، وسنرى على الأقل أن ابن عباس سيفخر أمام باديس بأنه استدرج زهيرًا حتى وقع في الشرك.

وفي اليوم التالي (١٥ أغسطس سنة ١٠٣٨) ألفى زهير نفسه وراء تلك المجازات والمضائق محصورًا، وقد أحاط به جنود غرناطة، فذعر جنوده ذعرًا شديدًا، وعمهم الحزن والكمد. أما هو فكان حاضر الذهن حيث رتب المشاة من الزنوج، وكانوا خمس مئة راجل، والمشاة من الأندلسيين وأمر القائد هذيلًا، بأن يتقدم على رأس الفرسان الصقالبة وينقض على العدو فصدع هذا بالأمر، ولم تكد تبدأ المعركة ويلتحم الفريقان، حتى سقط هذيل عن جواده ولم يعرف سبب سقوطه، أمن طعنة رمح أم من كبوة فرسه؟

•••

وسرعان ما لاذ الفرسان بالفرار بغير انتظام، وفي نفس هذا الوقت المشئوم، خان الزنوج زهيرًا — وكانت له فيهم ثقة عظيمة — وانضموا إلى أعدائه، بعد أن استولوا على ما لديه من عدة وسلاح ولم يبق معه — وهو على هذه الحال — سوى الأندلسيين وهم أخلاط من أردأ الجند غير مدربين على القتال. فأسرع هؤلاء أيضًا بالهرب، وتبعهم زهير طوعًا أو كرهًا.

ولما كان الجسر مقطوعًا، وأطراف الشعاب والمضايق محتلة بجند غرناطة، لم يسع الفارين إلا أن يعتصموا برءوس الجبال. فأعمل الغرناطيون — في أغلبهم — السيوف، ومن لم ينله السيف منهم، تردَّى في مهاوٍ عميقة، وطاح هذا العدد، وبقي زهير وحده.

وأخذ أرباب الوظائف — من غير الجند — أسرى، عملًا بأوامر باديس، الذي أوصى رجاله بالإبقاء عليهم، وفي عدادهم ابن عباس، وقد صرح أن أخوف ما يخافه — وقد وقع في قبضتهم أسيرًا — مكتبته الحاوية لأنفس الكتب وأكثرها عددًا، وصاح قائلًا: «رُحماك ربي وعونك، إلى أي مصير تصير كتبي؟»

وجعل يتوسل بالجند الذين يسوقونه إلى باديس ويقول لهم: «اذهبوا إلى ملككم، وسلوه أن يُعْنى العناية كلها بكتبي وأن لا يحرق منها شيئًا، فإن من بينها كتبًا لا تقوم بوزنها ذهبًا.»

ولما مَثَل بين يدي باديس، أراد أن يخدعه بقوله: «ألم تر أني قد خدمت مصلحتك حين أوقعت — في حبائلك — هؤلاء الكلاب؟ وأشار بيده إلى الأسرى من الصقالبة. وأريد في مقابلة ذلك أن تسعى بدورك في صالحي، وذلك بأن تأمر باستبقاء كتبي، والمحافظة عليها، فإنه لا شيء أعز عليَّ منها.»

وفيما هو يخاطبه كان أسرى المرية يرمقونه بأنظار يتطاير منها الشرر حنقًا وغيظًا، وحمل الغيظ أحد رؤساء الجنود، وهو ابن شبيب على أن يقول لباديس: «أستحلفك — يا مولاي — بمن جعل النصر حليفك، ألا تدع هذا الخائن الذي أضاع مملكتنا، يُفْلت من يدك، فإنه هو وحده الذي جنى علينا كل ما وقع. وإذا أتيح لي أن أشهد مصرعه، وما يحل به من العذاب الأليم، فسأكون أول من يقدم نفسه عن اختيار لتضرب رأسي بعده.»

•••

فافتر ثغر باديس عن ابتسامة لطيفة عند سماعه لهذه الكلمات، وأمر بإطلاق سراحه. وكان ابن شبيب هذا هو الوحيد الذي نجا بحياته من أسرى الجيش، لأن عامة الأسرى الباقين تسلمهم الجلاد على التعاقب لضرب أعناقهم، كما أنه أطلق سراح الأسرى الملكيين من أرباب الوظائف، وأبقى ابن عباس وحده على تلك الحال من الأسر والاعتقال.

•••

والآن عرف هذا الوزير المتكبر مبلغ ما حل به من الشقاء الذي تَقَحَّمَهُ بإقدامه الجنوني، وتحققت نبوءة شاعر المرية، وأيقظ القدر الذي لا ينام راقد الشقاء. وأودع ابن عباس سجنه في قصر الحمراء، وكبل بسلاسل وأغلال لا يقل وزنها عن أربعين رطلًا، وعرف أن باديس مغيظ محنق قد اشتد غضبه عليه، وأن إسماعيل لا يرضى بغير موته، ومع هذا، فقد كان بعض الأمل يجيش بصدره، إذ عرض على باديس إطلاق سراحه مقابل ثلاثين ألف دوكا، فأجاب بأنه سينظر في طلبه بعين الاعتبار. ومضَى شهران دون أن يبتَّ في أمره. وفي غضون هذه المدة وفد على قصر باديس كثيرون، مطالبهم متعارضة في شأن الأسرى. فرسول قرطبة كان يطلب إطلاق الأسرى، وبخاصة ابن عباس وتلاه رسول آخر هو الأحوص بن صمادح صهر عبد العزيز حاكم بلنسية ورسوله، وطلب بإلحاح قتل جميع الأسرى، وفي مقدمتهم ابن عباس.

ومنشأ ذلك أنه — على أثر وقوع هذه الحوادث — كان عبد العزيز قد بادر بالاستيلاء على المرية بدعوى أن من حقه أن تئول إليه، لأن زهيرًا كان من الأمراء التابعين لأسرته، وهو يخشى أن يطلق سراح ابن عباس والذين معه فينازعوه في هذا الحق. ولم يدر باديس إلى أي الجانبين يميل، فإن الطمع في ثروة ابن عباس، وحب الانتقام منه، كانا يتنازعان فؤاده.

وفي مساء ذات ليلة، بينما باديس وأخوه يتنزهان على صهوتي جواديهما خارج المدينة، إذ طلب باديس من أخيه أن يصرح له برأيه فيما عرضه ابن عباس عليه من الفدية، فقال له: «إنك عندما تقبل دنانيره، وتفك أسره، يثير عليك حربًا تكلفك ضعف ما تأخذه من الفداء، وعندي أنه يجب أن تودي بحياته وشيكًا.»

ولما عاد من المتنزه بادر باديس إلى استدعاء أسيره وأخذ يعدد عليه أخطاءه، وما بدر منه من ألفاظ جافة مقذعة، وابن عباس مستسلم مصيخ بسمعه لما يوجهه إليه من جارح القول.

ولما فرغ الملك من كلامه، قال ابن عباس: «أتوسل إليك يا مولاي، بكل عزيز عليك أن ترحمني وتنقذني من آلامي.»

فقال له باديس: «سأريحك من آلامك اليوم.»

ولمح باديس على أسارير أسيره الحزين الممتقع اللون، بصيصًا وشعاعًا من الرجاء، فصمت لحظة يسيرة، ثم استأنف كلامه، وكشَّر عن أنيابه بابتسامة فيها كل معاني الانتقام والوحشية، وقال له: «إنك لا محالة ذاهب الآن إلى حيث تزيد آلامك.»

•••

وتراطن مع أخيه بلغة البربر التي لا يفهمها ابن عباس. ومن كلام باديس الأخير وابتسامته الرهيبة، وشكله المروع الغاضب، لم يبق عند ابن عباس شك في أن ساعته الأخيرة قد دنت، فجثا على ركبتيه وقال: «أستحلفك بالله أن تبقي على حياتي وتشفق على زوجاتي، وترحم أولادي الصغار، ولك أن أقدم ثلاثين ألف دوكا بل ستين ألفًا.»

وكان باديس مصغيًا لكلامه، لا ينبس ببنت شفة، ثم عمد إلى رمح قصير وطعنه به في صدره، وحذا حذوه أخوه بلقين وتبعه علي بن القروي، وانهالوا عليه بالطعنات، ولم تنقطع استصراخاته وتوسلاته، إلا بعد أن برد في مصرعه عند الطعنة السابعة عشرة.١٠

•••

وسرعان ما ذاع الخبر في غرناطة بمقتل ابن عباس، ذلك الغني المتكبر المتعجرف، وقد كان سرور الإفريقيين عظيمًا. وكان أعظم الناس سرورًا إسماعيل الذي لم يبق أمامه إلا عدو واحد خطير، وخصم لدود، هو ابن بقية. وكان «لإسماعيل» هاتف خفي يعتاده في الحلم، قد ألقى في روعه أن هذا العدو سيلقى حتفه ويلحق بابن عباس عاجلًا. واليهود في هذا كالعرب، يتوهمون أن سرًّا من الأسرار يلهمهم وهم في نومهم بنبوءات عن المستقبل. وعاده الحلم ذات ليلة، فسمع في نومه هاتفًا يردد ثلاثة أبيات بالعبرية هذا معناها: «لقد هلك ابن عباس وشيعته والملتفون حوله، وهذا الوزير الآخر الذي كان يظاهره ويتآمر معه يوشك أن يقتل مثله، ويوطأ كالجلبان ويداس، فماذا كانت عاقبة ثرثرتهما وحمقهما واعتدادهما بقوتهما؟ لقد دارت الدائرة على أحدهما، وعما قليل يلحقه الآخر، فلله الحمد والشكر.»

•••

وبعد بضع سنين تحققت نبوءة إسماعيل — وسنضطر إلى ذكر مقتل هذا الوزير فيما بعد — وصح الآن أن الشعور بالخوف، أو الحب، يجعل في الشخص سرًّا غريبًا يدرك به بعض الأمور الغيبية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤