الفصل الثالث

في الوقت الذي باغت فيه باديس زهيرًا وجنى عليه، كان قد أدى — مرغمًا، وبدون قصد منه — خدمة جليلة للحليفين اللذين اعترفا بهشام المزعوم كخليفة. وقد ذكرنا أن عبد العزيز١ أمير بلنسية، استولى على إمارة المرية، ولم يكن في استطاعته في الواقع أن يمد حليفه — قاضي إشبيلية — لاضطراره للدفاع عن مملكته ضد إغارة مجاهد٢ الذي كان يرى — بعين الحسد — اتساع مملكة جاره وما كان القاضي ليخشى وقوع حرب بينه وبين المرية فاطمأن من هذه الناحية.
وبدأ يفكر في مهاجمة البربر مبتدئًا بمحمد٣ أمير قرمونة لنزاع قام بينهما، وكان في الوقت نفسه يتآمر سرًّا مع فريق من الغرناطيين، ويبادلهم الرسائل، ويعمل على إشعال نار الثورة بها.

•••

وبدأ كثير من أهل غرناطة يظهرون نفورًا واستياء من باديس. ويرجع هذا إلى ما قطعه على نفسه من عهود ووعد به من أماني معسولة، في بدء توليه الحكم، وعلى أثر ذلك صار يبدو قاسيًا غليظ القلب شيئًا فشيئًا، ويظهر بمظهر الخائن اللئيم السفاك، وعكف على الشراب، فعم الاستياء منه، وأخذ الناس يلومون ويتألمون، ويشكو بعضهم إلى بعض، ثم أخذوا يتمتمون خفية ويتناجون، ثم صرَّح الشر فعادوا يتآمرون.

•••

وكان زعيم هذه المؤامرة وروحها رجل أفاقي يقال له أبو الفتوح.

ومن حديث هذا الرجل أنه ولد بعيدًا عن إسبانيا من أسرة عربية كانت في جرجان.

وقد تلقى الأدب والفلسفة والفلك على أشهر أعلامها ببغداد، فكان عالمًا مستبحرًا، وأديبًا شاعرًا، وفوق ذلك كان فارسًا كميًا، وشجاعًا باسلًا، يمتطي الجواد الأصيل، وينتضي السيف الصقيل.

هبط أبو الفتوح أرض إسبانيا سنة ١٠١٥ ليجني ثروة على الراجح. وبعد مدة اتصل بجناب مجاهد دانية، وكان هذا الأمير عالمًا لغويًّا وجرت بينهما مباحثات في الأدب، واشتغلا معًا بشرح «المجمل» في النحو، ثم قاتل في صف أمير سردينيا.

وكثيرًا ما كان يعالج المسائل الفلسفية العويصة ويحاول استكناه المستقبل بواسطة علم النجوم وسير الكواكب. ثم رحل إلى سرقسطة مقر المنذر، فرحب به هذا الأمير أولًا، ثم اتخذه صديقًا، وعهد إليه بتأديب ابنه. ولكن يؤخذ مما رواه المؤرخ العربي الذي ننقل عنه ها هنا، أن العهد قد تغير، وتغير معه الأشخاص، إذ أبلغه المنذر يومًا، أنه في غنى عنه، وأن عليه أن يبرح سرقسطة.

فرحل أبو الفتوح إلى حيث تطيب له الإقامة في غرناطة، وجلس للتدريس، فكان يلقي محاضرات عن الشعر القديم، وبخاصة ديوان الحماسة، وكان إلى جانب هذا العمل العلمي، يقوم بعمل آخر، هو التنبؤ بالمستقبل، وقد خلق أعداء كثيرين لباديس حين تنبأ على أحكام النجوم، بأن ياسر ابن عمه يطمع في الملك، وأن باديس سيفقد عرشه، ويتبوءه ابن عمه مكانه ثلاثين عامًا.

•••

وكانت نتيجة هذه النبوءة أن وفق إلى تدبير مؤامرة اكتشفها باديس قبل حلول الموعد المحدد لتنفيذها، وتمكن أبو الفتوح وياسر، وأركان المؤامرة، من الفرار إلى خارج المملكة، حذرًا من انتقام باديس، ولجئوا إلى قاضي إشبيلية، الذي كان — لا ريب — شريكهم في هذه المؤامرة. ومحال أن نعرف إلى أي حد كان نصيبه فيها.

وفي هذه الفترة هاجم القاضي بجيشه الذي جرت العادة بأن يقوده ابنه إسماعيل، خصمه محمدًا أمير قرمونة، فانتصر انتصارًا باهرًا واضطرت مدينتا «إشبونة» و«أستيجة» إلى التسليم، وحوصرت قرمونة نفسها.

ولما اشتد الضيق بمحمد أمير قرمونة، طلب المدد والعون من إدريس أمير مالقة، ومن باديس كذلك، فلبيا طلبه. ولما كان إدريس مريضًا، أرسل جنوده — بقيادة وزيره ابن بقية — وقاد باديس جيشه بنفسه وتلاحق الجيشان، وانضما إلى بعضهما.

وكان إسماعيل واثقًا كل الثقة من بسالة جنده، ووفرة عددهم، فوطن نفسه على منازلة خصومه. ولكن باديس، وابن بقية٤ حين حسبا أن خصمهما يفوقهما، أو يدانيهما عددًا، أبيا أن يشتبكا معه في القتال، وآثرا أن ينسحبا، ويتركا أمير قرمونة برهة، فعاد أولهما أدراجه إلى مالقة.

ووصل الآخر بجنوده إلى غرناطة، واقتفى إسماعيل في الحال أثر الغرناطيين. وكان من حسن حظ باديس، أنه بعد أن فارقه ابن بقية بنحو ساعة، أرسل إليه رسولًا على جناح السرعة يستنجده وإلا سحق جيشه في لمحة بجنود إشبيلية، فطار إليه باديس ووقف الجيشان على مقربة من «أستيجة»، على تمام الأهبة والاستعداد للقاء عدوهما، بثبات ورباطة جأش.

وقد وهم الإشبيليون، إذ حسبوا أنهم إنما يتعقبون جيشًا منهزمًا، فإذا بهم أمام جيش كامل العدة والعدد، فأفقدتهم تلك المفاجأة قوتهم المعنوية.

ووقع في صفوفهم الاضطراب عند الصدمة الاولى، وعبثًا حاول إسماعيل تعبئة الجيش للقتال، وبرز أمام الصفوف فكان أول الذاهبين ضحية المعركة، فلم يسع الإشبيليين إلا الفرار طلبًا للنجاة.

وملك باديس ناصية الحال بعد هذا الانتصار البسيط المفاجئ، وبينما هو في معسكره قرب «أستيجة» عرته دهشة إذ وجد أبا الفتوح قد انحنى أمامه متراميًا على أقدامه. وكان الذي حدا هذا الرجل إلى تلك المحاولة الخطرة، أنه حين عجل بمغادرة غرناطة — خوفًا على نفسه من باديس — ترك للقضاء أمر زوجه وولده الصغير وبنتيه، وكان قد وصل إلى علمه أن باديس أرسل إلى «قوادم» الزنجي، فألقى القبض على زوجه وأولاده بوساطة خواصه المقربين إليه، وأودعهم السجن. وكان معروفًا بأنه شديد الشغف بزوجه الغادة الأندلسية الفتية، كثير الحنو على ابنه الصغير وبنتيه، بحيث لا تطيب له الحياة دونهم.

•••

وقد خشي أن ينتقم باديس منهم في شخصه، فجاء يلتمس الصفح عن زلته، وهو يعلم ما ركب في طبع عدوه من حب الانتقام، وما جبل عليه من الظلم والجبروت. جاء على أمل أن يرق له، ويعطفه عليه ما عطفه على عمه والد الزعيم الفار الذي كان رأس شركائه في المؤامرة.

وحين جثا أبو الفتوح أمام باديس قال له أبو الفتوح: «مولاي، حنانيك ورحمة بعبدك الجاني أمامك، وأنا أحقق لك ما تقطع معه أني بريء مما عزي إلي.»

فكاد باديس يتميز غيظًا وحنقًا، وصرخ في وجهه وعيناه يتطاير منهما الشرر: «كيف استطعت يا هذا — مع شناعة جرمك — أن تمثل أمامي؟ لقد بذرت بذور الشقاق بين أفراد أسرتي، ثم جئتني الآن تزعم أنك بريء مما جنته يداك! أتحسب أنه من السهل عليك أن تخدعني؟»

فقال له: «مولاي، أُقسم عليك إلا ما رحمتني. ولا تنس أنك غمرتني بإحسانك وشملتني بحسن رعايتك، وهذه البلاد التي أنا ربيب نعمتها من العسر الشاق علي أن أفارقها. وفي الوقت الذي أبعد فيه عنها أكون تعسًا شقيًّا. ولا أكذب مولاي الحديث فإني ما فررت حين فررت مع ابن عمك، إلا لما تأكد بيننا من صلات يعرفها مولاي، وأخشى أن يحل بي العقاب كشريك له في الجرم، وها أنا ذا بين يدي مولاي أعترف بالفرار وأكرر أن الذي ألجأني إليه محض الصداقة، وأؤكد أني بريء، وأطمع في عفو مولاي وصفحه، وأنتظر أن يعاملني كملك عظيم ومولى كريم لا تحمل نفسه الكبيرة حقدًا على صغير مثلي، فارحم لهفتي، ورد إلي أسرتي، وعاملني بما أنت أهله.»

فقال له: «سأعاملك — إن شاء الله — كما تحب، وبما أنت خليق به، فارجع إلى أهلك بغرناطة، وسأنظر في شأنك عند عودتي إليها.»

•••

واطمأن أبو الفتوح إلى هذا الكلام الذي لم يدرك مراميه لأول وهلة، وسار إلى غرناطة يحرسه فارسان. ولما كان بظاهر المدينة أرسل «قوادم» الزنجي — تنفيذًا لأمر مولاه — بعض غلمانه، فألقوا القبض عليه، وحلقوا رأسه ولحيته وأركبوه جملًا، وأردفوه زنجيًّا جلدًا استمر يصفعه على التتابع، والجمل يطوف به أحياء المدينة ويجوس به خلال ديارها حتى أفضوا به إلى السجن حيث أودعوه في غرفة من غرفه ضيقة لبث فيها هو وجندي من البربر أسر في معركة «أستيجة» وكان أحد شركائه في المؤامرة.

•••

وعاد باديس بعد أيام إلى غرناطة ولم يكن قد بت في أمر أبي الفتوح بشيء، ولم يستطع أن يصنع به كما صنع بابن عباس لأن أخاه بلقين حال دون ذلك، ولم يعرف السبب الذي جعله يهتم بشأن هذا الفيلسوف إلى هذا الحد، إذ عمد إلى إظهار براءته، ودافع عنه بكل قوة حتى خيف أن يفضي ذلك إلى الاستياء. ولهذا تردد باديس في الفصل في أمر أبي الفتوح إلى أن حدث أن سكر مرة بلقين كما يقع ذلك كثيرًا مع أخيه باديس فأمر أخوه بلقين — وهو في غفوة الشراب — بإحضار أبي الفتوح وزميله المرافق له في السجن، وحين وقع عليه نظره أشبعه سبًّا شنيعًا وإيلامًا وتقريعًا، وقال له: «وهل صدقتك كواذب الطوالع أيها المنجم الخائن الكاذب، وما هي الفائدة التي عادت عليك الآن؟

ألم تَعد أميرك ذلك السافل المغرور الذي خدعته، ومنيته الأماني الكواذب المعسولة أني سأكون تحت سلطانه؟ وأنه سيظل في الحكم ثلاثين عامًا، فلماذا لم تر نحس طالعك حين بدا لك سعد طالع أميرك، حتى كان يتسنى لك أن تتفادى ما حل بك من هذه المصائب الأليمة؟ إن حياتك الآن أيها الأفاك الأثيم رهن يميني.»

•••

فلم ينبس أبو الفتوح بكلمة لأنه ما غامر بحياته إلا طمعًا في لقاء زوجته المعبودة، وطفله وبنتيه المحبوبتين، ولأن عاطفته الملتهبة نحو أهله هي التي أكرهته على المغامرة بحياته والاستشفاع والتوسل إلى باديس واختراع الحيل والأكاذيب. أما الآن وقد صار على يقين من أن ذلك الطاغية الجبار لا محالة قاتله، فقد استعاد إليه حواسه، وتلقى زئير باديس وزمجرته بهدوء ورباطة جأش.

واستعاد إلى نفسه عزتها وكرامتها، وظهر طبعه المتين، وخلقه الرصين بالمظهر الحقيقي، فأطرق مليًّا، وشاعت على شفتيه ابتسامة مطمئنة ساخرة، وصمت صمت من يشعر بكرامة نفسه وعزتها. وقد زاد هذا الموقف الشريف الهادئ من استعار نار الغضب عند باديس فأرغى وأزبد، وكاد يتميز من الغيظ، فأسرع إلى سيفه فاستله من غمده، وأغمده في صدر ضحيته، فتلقى الضربة دون أن يبدي حراكًا أو يظهر أنينًا مما جعل باديس يصيح صيحة المتعجب من هذا الرجل، وهو يلفظ النفس الأخير، ويستقبل الموت بصمت عميق، ورباطة جأش، ونادى الجلاد أن اقطع رأسه، وارفعه على رمح عبرة لغيره، وادفن جثته إلى جانب ابن عباس كي يرقد عدوّاي كلاهما في مرقدهما الأخير جنبًا لجنب إلى أن تقوم الساعة.

•••

والتفت إلى الجندي الأسير بعد أن فرغ من ضحيته الأولى، وقال له: «والآن جاء دورك فاقترب أيها الجندي.» فجزع البربري، واضطرب اضطرابًا شديدًا، وجعل يصيح ويستشفع، ويستغيث، وجثا على ركبتيه يستغفر باديس بكل ما في استطاعته ليبقي على حياته، ولكن باديس قال له: «هل ذهب منك الحياء أيها الشقي؟ ألم تر إلى ذلك المنجم الحكيم، كيف تلقَّى الموت — بكل ثبات — فمات كريمًا عزيزًا، لم تبدر منه كلمة تشف عن جبن، فكيف وأنت جندي قديم معدود في عداد الجند البواسل تصل إلى هذا الحد من الجبن؟ إنك إذن لا تستحق رحمة ولا هوادة.»

وضرب عنقه في (٢٠ أكتوبر سنة ١٠٣٩).

•••

ثم وريت جثة أبي الفتوح التراب كما أمر باديس إلى جانب ابن عباس وحزن لمقتله جماعة العلماء والأدباء النابهين في غرناطة وصاروا كلما مروا بقبر هذين الرجلين العظيمين يتهامسون: «لله قبر يضم رجلين حكيمين أبيا أن يقيما على الضيم والذل، فماتا كريمين رحمهما الله رحمة واسعة. والبقاء لله وحده.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤