الفصل الخامس

لكيلا نقطع تسلسل الحوادث في هذه العجالة اليسيرة عن تاريخ مالقة اضطررنا لأن نلم بالحوادث إلمامة يسيرة، ولما كنا سنلقي نظرة على التقدم الذي أحدثه الحزب العربي في غضون هذه المدة، فمن واجبنا أن نعود إلى بعض حوادث السنين الماضية.

لما توفي أبو القاسم محمد قاضي إشبيلية في أواخر يناير سنة ١٠٤٢ خلفه ابنه عباد، وكان في السادسة والعشرين من عمره، ولقب حينئذ بالحاجب أي الوزير الأول لهشام الثاني، واشتهر بعد ذلك في التاريخ باسم المعتضد، ولو أن هذا الاسم لم يطلق عليه إلا بعد فترة من الزمن، فإنا سنطلقه عليه الآن تفاديًا مما عساه أن يقع في اللبس عند تغييره.

إن هذا الزعيم الجديد للحزب العربي في الجنوب الغربي من الجزيرة، قد حقق بشخصيته القوية الفتية لهيئة من الهيئات الحزبية القوية ما لم تحققه الشيخوخة اللدنة الضعيفة، فقد كان في كل الشئون المنافس الجدير لخصمه باديس زعيم الشعبة البربرية المعارضة.

كان هذا الزعيم الجديد كمنافسه كثير الشكوك حقودًا غادرًا لئيمًا ظلومًا جبارًا قاسيًا سفاكًا للدماء، وكان مدمنًا للخمر مثله، إلا أنه قد بزه في الخبث والدعارة، وكان ثائر الطبيعة جامح الشهوة، يواصل اللذات ولا ينقطع عن الشهوات، حتى إنه لم يجتمع في قصر ملك من الملوك ما اجتمع في قصره من الحظيات والسراري. يقال إنه دخل قصره — على التتابع — ثمان مئة من الشواب والصبايا الحسان.

وبالرغم من التوافق بين هذين الملكين في كثير من النزعات الشريرة والشهوية، فإن أخلاقهما وميولهما وعاداتهما لم تكن متوافقة في نواح كثيرة.

فأمير البربر كان من البربر أو أقرب إلى خشونة البربر منه إلى شيء آخر، ساخرًا من آداب اللياقة، بعيدًا عن الحصافة والثقافة، لا يعنى بأساليب الحضارة، ولا يترك لها عادات البداوة، ولم يكن الشعراء لتطأ أقدامهم أبهاء الحمراء ليمتدحوا بالشعر العربي ملكًا لا يعرف غير رطانة البربر.

أما المعتضد فقد كان على النقيض من ذلك، قد أخذ بطرف مناسب من الثقافة والتعليم الحسن، ولم يكن — في الحقيقة — قد توسع في العلوم حتى يكون جديرًا في زعمه أن يوضع في مصاف العلماء ويستحق لقب عالم، ولكنه أوتي من المواهب، ودقة الشعور، ولطف الإحساس، وسلامة الذوق، وحدة الذكاء، وقوة الذاكرة، ما جعله يعلم ما لا يعلمه رجل عادي.

وشعره الذي نظمه قصائد ومقطعات له قيمته إذا أريد الوقوف على كنه أخلاقه، بغض النظر عن قيمته اللغوية والأدبية، على أن هذا الشعر قد أكسبه بين مواطنيه مكانة شاعر مجيد١ وكان محبًّا للأدب شغوفًا بالفنون أريحيًّا جوادًا يغمر الشعراء بالعطاء الكثير، على المديح القليل، له ولع شديد بتشييد القصور الفخمة، وكانت أساليبه في الظلم مقرونة بشيء من المهارة، ينهج في ذلك منهج خليفة بغداد الذي انتحل لنفسه لقبه، واختط في أحكامه خطته، بينما كان باديس لا يعرف من أمر هذا الخليفة شيئًا بل ربما كان يجهل العصر الذي كان فيه.

وكلا الملكين كان مولعًا بشرب الخمر كما عرفت إلا أن باديس — لخشونته وجفاء طبعه — كانت تتمثل في مجلس شرابه الوحشية والجفاء، وكان لبربريته الجافية لا يمنعه الخجل أن يسف في شرابه إسفافًا معيبًا.

أما المعتضد وهو ذلك الرجل المثقف المهذب، والإنسان الرقيق الحاشية، والملك العظيم الشأن، فما كان يقدم على هذا الأمر إلا بشيء من الرقة والدعة واللطف، وكان لما يمتاز به من الذوق ولطف الإحساس وقوة التمييز، لا يخلو مجلس شرابه من شروط اللياقة، وجمال الذوق، وحسن التنسيق، وكان يتعاطى الخمر بطريقة غير معتدلة، وكان هو وندماؤه ينشئون في امتداح هذه النقيصة الخمريات البديعة التي تكون آية في لطف الشعور، وجمال الذوق ودقة التعبير، وقد ساعدته قوته الجسمانية على مواصلة أعمال الدولة والقيام بأعباء الملك مع إدمانه الشراب، وانكبابه على الشهوات واللذات، وقد كان من آيات نشاطه للعمل، وانصرافه لمهام الدولة، أن يكف عن شهواته في الأوقات التي يتطلبها العمل، فيعنى بمهام دولته كملك، ويبذل في ذلك جهد الطاقة ليوفر من أوقات العمل وقتًا للهو والراحة واستجمام القوى يعود فيه إلى شرابه، ويلهو فيه بلذاته.

•••

ومن الغريب أن هذا القاسي الجبار — مع ما كان يلقيه في قلوب حرمه وجواريه الحسان من الفزع والرعب بنظراته المفزعة المروعة — كان ينظم فيمن يقع في حبالتهن من أولئك الغيد الحسان أشعارًا تجمع إلى الرقة والسلاسة اللذة والمتعة.

فبين باديس إذن وبين المعتضد من البون الشاسع في الفساد ما يفصل بين الفاسد المتبربر الخشن، والفاسد المتحضر الظريف، ولكن مما يجب الاعتراف به هنا أن البربري كان أقل من زميله فسادًا وخبث نفس، فقد كان باديس في جرائمه وشناعاته على جانب من النزاهة والصراحة، بينا عينه المتفرسة الباحثة تتحسس الأفكار الخفية في نفس غيره وتتبحثها لتكشف عن مكنوناتها، دون أن يظهر ذلك في معارف وجهه، أو نبرات صوته.

•••

ولم يمت ملك غرناطة في فراشه بل طاح في ساحة القتال، أما ملك إشبيلية فقد كان — على خوضه غمار كثير من المعارك والحروب — دونه شجاعة وبسالة، لأنه لم يتول بنفسه قيادة الجيش في هذه الحروب سوى مرة أو مرتين في حياته، وكان من دأبه أن يضع الخطط الحربية للمعارك، ويدع تنفيذها لقواده، وهو منزو في خبائه بعيدًا عن خطوط القتال، كما روى ذلك بعض مؤرخي العرب.

وكانت حيل باديس في النكاية بأعدائه جافة سقيمة،٢ مما يجعل إحباطها بسرعة ميسورًا وسهلًا، أما حيل المعتضد فكانت دقيقة لينة يمس المخدوع منها في لينها ما يمس من ظهر الحية الرقطاء تحت أنيابها السم ناقع، ولهذا كان يندر فشلها، ويصعب إحباطها، وجانب الدهاء وسعة الحيلة من الجوانب القوية في المعتضد، ويروون في هذا الصدد حكاية يجدر بنا إيرادها، وذلك أنه حدث في الموقعة التي أوقعها المعتضد ضد بربر قرمونة أنه كان يتبادل مع رجل من عرب هذه المدينة رسائل سرية يقفه فيها على حركات وخطط البربر، ولكيلا تضبط هذه الرسائل، ولا يرتاب فيها أحد، كان مضطرًّا لأن يتخذ كثيرًا من الحيطة والحذر.

ولكي يصل إلى غرضه من تبادل الرسائل مع جاسوسه، كان قد اتفق معه على خطة معينة، وبناء على تلك الخطة أشخص إلى قصره رجلًا ساذجًا طيب القلب من بدو إشبيلية ولما مثل بين يديه قال له: «اخلع رداءك هذا الخلق، والبس هذه الجبة الثمينة الجميلة التي أتركها لك هدية إذا قمت بتنفيذ ما آمرك به.» فارتدى الرجل الجبة وهو يفيض بشرًا وسرورًا، ولم يدر أن في بطانة جيبها قد خيطت رسالة من المعتضد إلى عينه بقرمونة، وأظهر الرجل استعداده لأن يؤدي بدقة وأمانة كل الأوامر التي يكلفه بعملها، فاستحسن المعتضد منه ذلك وقال: «أصخ بسمعك إذن لما آمرك به: عليك أن ترحل من الآن إلى قرمونة، فإذا حللت بسيطها وكنت بظاهرها، فلا تدخلها إلا بعد أن تجمع من الحطب حزمة تدخل بها المدينة وتعرضها في السوق مع باعة الحطب، ولكن عليك ألا تبيعها إلا لمن ينقدك في ثمنها خمسة دراهم.» ومع جهل الرجل سر هذه الأوامر الغريبة بادر إلى الطاعة، وغادر إشبيلية، ولما كان على مقربة من قرمونة أخذ يحتطب، ولم يكن ذلك من عادته، وقد يجمع المحتطب المتعود مقدارًا كبيرًا يستطيع جمعه، إلا أن هناك فرقًا بين حزمة صغيرة وأخرى كبيرة.

دخل الرجل المدينة يحمل مما جمعه من فروع الأشجار تلك الحزمة الصغيرة ليبيعها في السوق، فوقف على حزمته تلك أحد المارة وسأله: «كم ثمن هذه الحزمة؟»

فأجابه البدوي: «ثمنها خمسة دراهم كاملة غير منقوصة، فإن شئت دفعت الثمن وأخذتها، وإن شئت تركتها» فأغرب الرجل في الضحك وقال له: «عجبًا، لعلك لا تشك في أن حزمتك هذه من خشب الآبنوس.»

وجاء آخر، فقال: «لا، بل هي من العود الهندي الذكي الرائحة.»

وهكذا أخذ كل من وقف على سلعته الحقيرة وعرف ما يطلبه ثمنًا لها يمزح معه هازئًا به ساخرًا منه.

وبقي على حاله تلك في السوق إلى أن مال ميزان النهار، وآذنت الشمس بالمغيب، فدنا منه حينئذ عين المعتضد يتظاهر بشراء حزمة الحطب، واتفق معه على أن ينقده ثمنها إذا قبل أن يتبعه بها إلى منزله، يحملها على كاهله، فتبعه الرجل إلى منزله حتى وضعها هناك، ولما أخذ الدراهم الخمسة، قام يتأهب للعودة، فقال له صاحب الدار: «لقد أمسيت فإلى أين تذهب الساعة؟»

فأجابه: «إني رجل غريب، ولست من أهل المدينة، ولا بد لي من العودة إلى إشبيلية.» فقال له: «وهل ترى ذلك ممكنًا الليلة، وهل تأمن عادية اللصوص في الطريق؟ انزل هنا على الرحب والسعة، وسأقدم لك طعام العشاء. ويمكنك أن تبكر بالسفر غدوة إلى حيث تريد.» فقبل منه الرجل ما اقترحه عليه، وقابل تلك الحفاوة البالغة بالشكر والثناء، وأنساه كرم الضيافة، وطيب الأكل ما لقيه بالنهار من سفه وسخرية، وبعد أن تناول طعام العشاء، وفرغ من تلك الأكلة الشهية، أخذ يسمر مع مضيفه إلى هزيع من الليل، حيث دار بينهما هذا الحوار.

– الآن أيها الضيف الكريم، خبرني من أي البلاد قدمت وما موطنك؟

– قدمت من بسيط إشبيلية حيث المزارع، وحيث موطني الذي أقيم فيه هناك.

– إني أرى أنك — أيها الأخ — شجاع مقدام جريء لأنك استطعت أن تخاطر بنفسك وتصل إلى هنا، وأنا أعلم مبلغ ما وصل إليه البربر من القسوة والوحشية، هم بلا شك يسرعون إلى قتلك، ويرون ذلك أمرًا سهلًا ولا بد أن يكون هناك من الأسباب القوية ما حملك على المجيء هنا، والتعرض لأخطار الطريق.

– ليس هناك من الأسباب القوية ما حفزني على المجيء، ولست أظن أن أحدًا من الناس بالغًا من القسوة ما بلغ يتعرض لرجل أعزل مثلي في الطريق أو يصيبه بأذى.

وما زالا يتحدثان إلى أن أثقل الكرى جفن الضيف، فأخذه المضيف إلى حيث المكان الذي أعده لنومه، وهم الفلاح أن ينام دون أن يخلع جبته، فقال له القرموني: «يحسن أن تخلع جبتك كي تنام مطمئنًّا، وتستيقظ مستريحًا، لأن هذه الليلة دافئة حسنة الطقس كما ترى.»

فعمل الفلاح بإشارته، وسرعان ما استغرق في نوم عميق، ولما أيقن أنه لا يشعر بحركته تناول جبته وحل بطانتها، وفيها رسالة المعتضد فأخذها وقرأها، وكتب جواب الرسالة سريعًا، ووضعه في نفس المكان وخاطه كما كان.

واستيقظ الفلاح في صبيحة تلك الليلة مبكرًا، وبعد أن ودع مضيفه وشكر له كرمه وحسن ضيافته عاد أدراجه راحلًا إلى إشبيلية، ولما ألقى بها عصا التسيار استأذن على المعتضد ومثل بين يديه، وقص عليه نبأ رحلته فغمره بلطفه، وجميل رعايته، وقال: «إني من عملك هذا لمسرور، وأرى أنك تستحق عليه جائزة سنية.» وأمر أن يلقي ما عليه من وعثاء السفر، وأن يخلع جبته هذه، ويكسى عوضها حلة كاملة، فأحس من أعماق نفسه بسرور وارتياح، وأخذ الثياب الجديدة وترك جبته التي هي محور الرواية، وخرج من القصر مزهوًّا يروي ما وقع له مع الملك لأهله وجيرانه ومعارفه، ويذكر لهم ما اختصه به الملك من عطف وصلة ما أجازه به من كسوة ملكية من كسى التشريف التي لا تمنح إلا لرجال الدولة وذوي الشأن وأرباب المناصب، ولم يقف على سبب هذا العطف الملكي، ولم يدر أنه استخدم من حيث لا يشعر جاسوسًا وبريدًا من برد الحرب يحمل إلى بلاد الأعداء رسالة فيها أنباء خطيرة كانت تودي بحياته لو أن البربر عثروا عليها، ولكنه لم تحم حوله أية ريبة.

كان المعتضد عظيم الدهاء واسع الحيلة، في كل ما يدخل في باب الحيل والخدع السياسية، وفي متناول يده الأشراك والفخاخ التي ينصبها لاقتناص من يريد الإيقاع به، والويل لمن يثير كامن غضبه، ولو أن إنسانًا أحفظه ومضى سريعًا ليختفي في الجانب الشرقي من المعمور لأدركه انتقام هذا الملك، ويقال إنه استصفى أموال رجل مكفوف البصر، وأخذ معظمها، ونفد ما بقي منها في يد الرجل فخرج إلى مكة حاجًّا يتكفف الناس، وهناك في الحرم أخذ يدعو على ذلك الملك الظالم ويسبه ويلعنه حيث أفضى به ظلمه إلى ذل المسألة وذل الاغتراب. فاتصل بالمعتضد خبره وأنه يدعو عليه ويشهِّر به، فاستدعى رجلًا إشبيليًّا من رعيته كان قد أزمع الرحلة إلى مكة لأداء فريضة الحج، وأحضر علبة فيها دنانير مسمومة، وقال له: «إذا وصلت إلى مكة ورأيت الإشبيلي الضرير، فصله بهذه العطية وأقرئه مني السلام واحذر أن تفتحها.» فصدع الرجل بالأمر، ولما وصل إلى مكة تفقد الضرير حتى عرفه، وأعطاه العلبة، وقال: «هذه هدية المعتضد إليك.» فسمع وسوسة ما بداخلها من الدنانير فطار لبه، وقال: «يا عجبًا! كيف يفقرني المعتضد بإشبيلية أمس، ويغنيني بالحجاز اليوم؟»

فأجابه الرجل: «لعله تذكر ما تحيفك به من الظلم، فضميره الآن يخزه ويؤنبه، وعلى كل حال فإنما أنا رسول ومبلغ وقد قمت بما عهد به إليَّ خير قيام، ومن حقك وحسن حظك أن تقبل هذه الهدية الثمينة التي لم تكن تحلم بها، والتي فيها غناك وسعادتك.»

•••

فاقتنع الضرير وبالغ في شكره، وحمَّله شكره وولاءه للملك إذا هو عاد إلى إشبيلية، ثم أخذ العلبة ووضعها بين ذراعه وخاصرته، وخف مسرعًا إلى كوخه يهرول بقدر ما تسمح به حالة مكفوف ضرير، ودخل كوخه ذلك الحقير وهو بين مصدق ومكذب، وأحكم إرتاج الباب، وفتح العلبة وأفرغ منها كومة ذهب من دنانير، ولا تسل عن ذلك الأعمى وقد طفح قلبه بشرًا وسرورًا، حين وجد الفرصة السعيدة تواتيه بالثروة والغنى فجأة، بعد أن عاكسه الدهر، وعانى من الفقر الأمرين، أخذ يقلب بين يديه تلك الدنانير البرَّاقة، ولو أن عينيه لم تكونا مقفلتين بحكم العمى لشعر بتمام اللذة، على أن حاستي اللمس والسمع قد عوضتا عليه ما فاته من تلك المتعة واللذة، فقد كان يقبض تلك الدنانير بأصابعه ويملأ بها راحتيه، ويتحسسها بأنامله، ويتسمع رنينها بأذنه، ويلهو بعدها المرة بعد المرة، وقد غمرته اللذة، وعمه السرور، وذهبت به الأماني والأحلام كل مذهب، إلى أن فعل السم به فعله، وسرى في جسمه سريان الحمى في المحموم، ولم يرخ الليل سدوله على هذا المسكين الذي أوقعه القضاء في حبالة المعتضد حتى أمسى بفعل السم جثة هامدة.

•••

إذن فباديس والمعتضد كلاهما قاسٍ شديد البأس، وإن كانت قسوتهما ترى بألوان مختلفة، فباديس في ثورة غضبه يقتل بيده ضحاياه، والمعتضد في أحوال نادرة يتعدى على وظيفة جلاده، وتحت تأثير غضبه وحنقه الشديدين اللذين بز فيهما صاحبه يسمح ليديه الأرستقراطيتين على كره منه أن تتلطخا بالدم، أما باديس فلم يكن يتطلب لشفاء نفسه أزيد من انغماس يده في دم عدوه، ومن دأبه بعد ذلك أن يعلق رأس القتيل على رمح ليطاف به في المدينة، وبهذا تبرد غلته، وأمير إشبيلية على عكسه فإن غضبه من عدوه لا يشفيه مجرد القتل، فهو يتتبعه إلى ما بعد الموت، وما كان يتوقف لحظة عن إثارة أشلاء قتلاه وإخراجها من عيابها وصناديقها المقفلة إرضاءً لنزعاته الوحشية.

وكان يضع — أسوة بالخليفة المهدي٣ — جماجم أعدائه على نصب من الخشب إلى جانب الأزهار بحديقة في قصره، ويعلق في أذن كل جمجمة بطاقة يكتب عليها اسم صاحبها، وكانت تلك الحديقة المثمرة برءوس القتلى، تبعث في نفسه السرور والانشراح كلما رآها أمامه، وكثيرًا ما كان يصرح بذلك في أقواله، على أنه لم يكن بين تلك الرءوس التي هي قرة عينيه رءوس من فتك بهم من أعدائه الأمراء، لأنه كان يحفظ رءوس أولئك في صناديق مقفلة قد أودعها في مكان بعيد من القصر.
ونقول: «إن مما يبعث على الدهشة أن ذلك المارد الوحشي القاسي كان يعتبر نفسه الأمير الخير بين الأمراء، ويرى أنه مثل «طيطوس» الذي كوِّن تكوينًا خاصًّا ليكون على يديه سعادة الجنس البشري، وكان مما يقوله في شعره هذه العبارات:

إن إرادة مولاي القدير لو اقتضت أن يمتد سلطاني على جميع الأحزاب المختلفة من العرب والبربر والصقالبة لخيمت السعادة على ربوع الأندلس، وإن مما يقوي عندي الأمل في سعادة الناس وعزهم وطمأنينتهم، أني لا أزال أسلك معهم سبيل الجادة، وأني لم أنحرف قط عن الصراط السوي، وما عاملت أحدًا من رعاياي إلا بما يوجبه علي كرم عنصري وشرف نفسي وعلو همتي، من رعاية العدل وحب الإنصاف، ولست أنفك أدفع عنهم شر المعتدين، وغائلة المفسدين، وأزيل أسباب المصائب التي تنزل بساحتهم، وتنصب فوق رءوسهم.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤