الفصل الثامن

لم تكن الحال في بقية أنحاء إسبانيا الإسلامية خيرًا منها في البلاد الجنوبية، فقد حمي وطيس النزاع من جرَّاء بقايا الشئون الخلافية، وأخذ سيل الفتن يطغى على وسط الجزيرة وشرقيها وغربيها حتى كاد يجرف أمامه جميع الممالك الإسلامية المنبثة في شبه الجزيرة.

وكان قد مضى على الممالك المسيحية نصف قرن وهم بشئون بلادهم مشغولون عن غزو الممالك الإسلامية، وبدأت الحال في سنة ١٠٥٥م تتحول، فاستطاع «فردينند» ملك قشتالة وليون أن يوجه جميع جيوشه لقتال المسلمين، الذين كانوا — على ما يظهر — لا يستطيعون أن يقاوموا خصومهم مقاومة جدية، وهكذا أصبح الفوز حليف المسيحيين، فقد كان لهم من الروح الحربي، والحَمِيَّة القومية، والغيرة الدينية ما لم يكن عند المسلمين، فكانت حروب «فردينند» سريعة، وانتصاراته متلاحقة، فانتزع من المظفر ملك بَطَلْيَوْس سنة ١٠٥٧م مدينتين وأخذ من ملك «سَرْقُسْطة» جميع الحصون والمعاقل التي تقع في الجنوب، وشن الغارة على المأمون صاحب طليطلة وزحف بجيوشه، ولما كان المأمون أضعف من أن يثبت للعدو، فقد رأى من الحكمة أن يتقدم إلى «فردينند» عند قدومه بالهدايا الثمينة من الذهب والفضة والأحجار الكريمة، ويعرض عليه ولاءه، ويؤدي له الجزية كما فعل ذلك من قبل ملِكَا بَطَلْيَوْس وسرقسطة.

•••

وجاء — بعد هؤلاء — دور المعتضد، ففي سنة (١٠٦٥) أحرق «فردينند» قرى إشبيلية، وباتت الممالك الإسلامية جميعها في أشد حالات السوء والضعف مما جعل المعتضد — وهو أقوى ملوك الأندلس — يرى من الحكمة أن يحذو حذو المأمون في إعطاء الإتاوة لفردينند، فمضى إلى معسكره وقدم إليه هدايا ثمينة وتوسل إليه أن يبقيه على ملكه، ولما رأى من المعتضد جلال الشيخوخة، وتغضُّن الجبين، واشتعال رأسه شيبًا وأنه متهدم القوى، لاح له أنه بمنجاة عن المكر والخبث، وكان المعتضد لما يعد السابعة والأربعين من عمره، ولكن الهموم وشدة الطمع والجشع، وكثرة العمل، وفرط الظلم، وتأنيب الضمير — على ما يُظَنُّ — كل أولئك، قد أحال لونه، وأبدى على معارف وجهه مظاهر الشيخوخة في إبان الكهولة، فلا غرابة إذا رحمه ملك قشتالة وأثرت شيخوخته في نفسه، ولكن هذا لم يرتح إلى دفع الإتاوة، ورأى أن يستشير أهل مملكته ويستفتي فيها الفقهاء، فجمعهم ليرى رأيهم فيما يكون من الشروط، وأن يقرروا من الرأي ما يعرضونه عليه، فاجتمعت كلمتهم على أن يدفع ملك إشبيلية جزية سنوية، وأن يسلم إلى رسل يرسلهم إليه «فردينند» جثمان القديسة «جوست» العذراء التي استشهدت في عصر الاضطهاد الروماني.

فقبل المعتضد الشرطين، وانسحب «فردينند» بعسكره، ولما وصل إلى ليون أوفد إلى إشبيلية «الڤينوس» أسقف العاصمة و«أردو» أسقف «استورقه» وأوجب عليهما أمرين:
  • الأول: نقل جثمان القديسة.
  • والثاني: تسوية مسألة الجزية.

وأسف «الڤينوس» — مع زميلين له — حيث لم تسفر أعمال التنقيب التي أجريت للعثور على رفات القديسة عن نتيجة، مما حمل «الڤينوس» أن يقول لرفيقيه: «إنكما أيها الأخوان، تريان أنه إذا لم تسعفنا الرحمة الإلهية فسنعود من هذه الرحلة الشاقة، وقد ضاع كل ما علقناه عليها من أمل، والظاهر أنه لا بد لنا من أن نستلهم المولى سبحانه وتعالى، ونتجه إليه بالصلاة والصيام ثلاثة أيام نسأله فيها الهداية إلى هذا الرفات الدفين، والكنز الثمين، الذي نبحث عنه في خبايا الأرض.» وبناء على هذا العهد الذي عاهدوا الله عليه أمضوا ثلاثة أيام صائمين مصلين داعين حتى أثر ذلك في صحة «الڤينوس» وكانت معتلة، وبخاصة منذ قدم إلى إشبيلية، وفي صبيحة اليوم الرابع جمع الأسقف رفاقه ثانية، وقال لهم: «إن رحمة الله لم تشأ أن نرتد من رحلتنا هذه بالخيبة والفشل، فواجب علينا أيها الرفاق المحبوبون أن نشكر الله من صميم قلوبنا، فقد تم أمره، ونفذ قضاؤه بأنكم ستحملون إلى وطنكم ما لا يقل قدرًا عن رفات القديسة «جوست» التي حرم الله علينا إخراجها من هذه الأرض، ذلك هو جثمان السعيد «إيزيدور» الذي حمل التاج الأسقفي إلى هذه البلاد، والذي زان — ببلاغته ومنشآته — إسبانيا كلها، وقد كنت اعتزمت أيها الإخوان، أن أقضي الليلة ساهرًا أبتهل وأدعو وأصلي لله، ولكن خانتني قواي، فما كدت أجلس لحظة حتى بلغ مني الإعياء مبلغه، فأخذتني سِنة من النوم، فرأيت كأن شيخًا عليه سمة الرهبان يقول لي: «لقد عرفت ما جئت أنت ورفقاؤك من أجله، وقد أبت الإرادة الإلهية أن تحرم المدينة من رفات القديسة «جوست» فيخيم على ربوعها الحزن، وينتابها الألم، كما أبى اللطف الإلهي إلا أن يهبكم جثماني رحمة بكم حتى لا تعود أنت ورفقاؤك بأيدٍ أصفار من هذه الأمنية التي طالما تكبدتم من أجلها المشاق.»

فقلت: «ومن تكون أنت؟» قال: «أنا بدأت كبير قساوسة هذه المدينة، وانتهيت طبيب إسبانيا كلها، أنا «إيزيدور».» واختفى شبحه عني — على إثر هذه الكلمات — واستيقظت فصليت شاكرًا لله، ودعوته أن يعيد هذه الرؤيا عليَّ مثنى وثلاث إن كانت وحيًا من لدنه، فعاودتني الرؤيا مرتين؛ كان الشيخ في كل منهما يوجه إليَّ نفس عباراته الأولى بعينها، وزاد في المرة الثالثة أن أراني موضع قبره، وقد ضرب عليه بعصا في يده ثلاثًا وهو يقول: «هنا، هنا، هنا، تجد جثماني، ولا يقعن في خلدك أنني شبح يخدعك، وستوقن أن ما أنبأتك به هو الحق، وآية ذلك أن رفاتي لا يكاد ينقل من موضعه حتى ينزل بك داء يستعصي على نطس الأطباء شفاؤه، ثم تموت، وتأتي إلى عالمنا متوَّجًا بتاج البررة الصالحين.»

واختفى بعد أن أتم هذه الكلمات.»

وذهب «الڤينوس» وزملاؤه إلى قصر المعتضد وقص عليه رؤياه، واستأذنه في نقل رفات «إيزدور» عوضًا عن نقل رفات القديسة «جوست».

وقد ترك كلام الأسقف في نفس المعتضد أثرًا غريبًا، ذلك الرجل المتشكك الساخر الذي لا يدين بغير شيئين اثنين: هما الخمر، والمُلك، ولكنه من باب الدهاء قد أصغى باهتمام إلى كلام الأسقف، وقد قال له بعد أن فرغ من كلامه بلهجة تشف عن حزن عميق: «إني آسف جد الأسف فإني إن أعطيتك رفات «إيزيدور» فماذا يبقى لي بعد ذلك؟ على أني أيها الشيخ الوقور لا أمتنع عن تنفيذ رغباتك، وليكن ما أردت، قم فنقِّب وابحث عن القبر، وانقل رفات الراقد فيه على الرغم ممَّا يساورني بعد ذلك من أجله.»

وكان ذلك العربي الداهية، والثعلب الماكر، يعرف كيف يستفيد من شفقة المسيحيين، ولو أنه كان يسخر من فرط هذه الشفقة إذا خلا مع نفسه.

وقد أحس من نفسه أن عليه جزية واجبة الأداء، فرأى أن يتظاهر بأنه شديد الاهتمام ببقايا «إيزيدور» التي لا يفرط فيها إلا مرغمًا كارهًا، والتي يعدل إخراجها من قصره انتزاع روحه من جسده.

•••

وعول على استغلال هذا الموقف لفائدته، فكان يفعل فعل المدين الذي إذا ما ألح عليه دائنوه وأحرجوه، عرف كيف يدخل في الحساب ذلك الأثر الخالد النادر ويغالي في ثمنه، ويحمل دائنيه على قبوله، وهكذا لعب المعتضد دوره إلى النهاية، فإنه عندما أراد «استورجه» وقد توفي أخيرًا زميله «الڤينوس» أن يأخذ الأهبة لمبارحة إشبيلية وحمل رفات «إيزيدور» في مركب جاء المعتضد ووضع على التابوت غطاء من الديباج المحلى بالنقوش والكتابات العربية البديعة وجعل يصعد الزفرات، ويتصنع الحسرات، وهو يقول: «ها أنت ذا تبرح المدينة يا «إيزيدور» المبجل، وأنت تدري ما بين بلدينا من أوثق روابط المودة والعلائق.»

وكان العام التالي (١٠٦٤) من أسوأ الأعوام وأشدها على المسلمين، فاضطر أحد أمرائهم إلى الاستسلام والنزول على حكم «فردينند» بعد أن شدد عليه الحصار ستة أشهر، وقضت شروط الصلح أن يعطى للظافر خمسة آلاف من المدافعين، وأن يغادر الباقون مساكنهم غير مزودين إلا بما يلزمهم من النقود لسفرهم، وفضلًا عن ذلك فقد أمر جميع المسلمين النازلين بين «دويرو» و«منتاجو» بأن يجلوا عن بلادهم.

ووجَّه «فردينند» بعد ذلك قوته إلى مملكة بلنسية، وعليها ذلك الضعيف المتراخي «عبد الملك المظفر» الذي خلف أباه عبد العزيز سنة (١٠٦١).

وحاصر «القشتاليون» العاصمة، ولكنهم — بعد أن وجدوها منيعة — رأوا أن يلجئوا إلى الحيلة ليخلو العاصمة من الحامية، فتظاهروا بالانسحاب، فخرج البلنسيون في ثياب العيد يتعقبونهم، وهم يظنون أن الانتصار أمر سهل، على أن هذه الجرأة قد كلفتهم ثمنًا باهظًا، فقد باغتهم القشتاليون بالقرب من الطريق المؤدية من بلنسية إلى «مورس» وقتلوا أكثر رجالهم، ونجا ملكهم على ظهر سابح، وكان الاستيلاء على قلعة «باريسترو» وهي من أهم القلاع في الشمال الشرقي بعد نكبة أخرى مروعة.

وقد سقطت هذه القلعة في يد جيش من النورمنديين كان يقوده «غليوم دي منتري» كبير قواد البابا، ويطلق عليه في روايات الفروسية اسم «أوركوني» أي القصير الأنف، وكانت خاتمة المقهورين خاتمة أليمة، فقد سلم جنود الحامية على شريطة الإبقاء على حياتهم، ولكنهم — حين خرجوا — من الحصن قُتلوا على بكرة أبيهم، ولم يكن حظ العامة أحسن من حظ الجند، فقد أمنوهم أيضًا على حياتهم، وبينما هم يتأهبون للرحيل من المدينة، إذ نظر «غليوم دي منتري» فراعه كثرة عددهم، واستولى عليه القلق والاضطراب، فمنعهم من الخروج وأمر رجاله أن يصفوهم صفوفًا متقاربة، وأعمل فيهم القتل، ولم يكف عن المذبحة إلا بعد أن قتل منهم ستة آلاف رجل، ثم أمر البقية الباقية أن يعود كلٌّ إلى منزله ومعه زوجه وولده، وذهب النورمنديون واقتسموا — فيما بينهم — كل شيء وصلت إليه أيديهم، وأصاب كل فارس لنفسه منزلًا — كما روى ذلك بعض مؤرخي العرب في ذلك العهد — فكان له كل ما في المنزل من أزواج وبنات وأولاد ونقود ومتاع، وكان له بحكم الاستيلاء والأسر أن يفعل برب الدار ما أراد من ضروب القهر، وصنوف التعذيب حتى يضطره للإذعان والاعتراف بما عَساه أن يكون قد أخفاه من مقتنيات وأموال، وكان من الخير الكثير للمسلم أن يقضي نحبه خلال هذا التعذيب؛ لأن حياته كانت مقرونة بما لا يطيق من الألم والتبريح والعذاب المطرد، ومن أشد ما كان يفعله هؤلاء من النكاية والعار والفضيحة للمسلمين أنهم كانوا يهتكون أعراض الزوجات والبنات أمام أزواجهن وآبائهم وإخوتهم وعلى مرأى منهم، وهم موثقون بالسلاسل والأغلال ليكرهوهم على شهود هذه المناظر الفاضحة المخزية، وكان أولئك الأسرى المساكين لا يملكون بإزاء هذه الحالة المخزية المحزنة غير صياحهم وإسبال دموعهم الغزيرة هلعًا وتأثرًا من تلك المناظر التي كانت تتحطم بإزائها قلوبهم، وتنشق لها مرائرهم.

•••

ولم تدم هذه الحوادث طويلًا، فقد كان من حسن حظ المسلمين أن غادر «غليوم» وجنوده إسبانيا عائدين إلى بلادهم، حيث ينعمون بما أصابوه من مغانم وأموال، ولم يبقَ في المدينة غير حامية ضعيفة، وقد أمكنت الفرصة المنذر ملك سرقسطة من الاستيلاء عليها حيث أمده المعتضد بخمس مئة فارس فاستولى عليها في ربيع السنة التالية.

وكان «فردينند» يواصل جهوده للاستيلاء على بلنسية؛ ولذلك كان مركز صاحب هذه المدينة في نهاية الحرج والخطورة بالرغم من أن صهره المأمون أمدَّه بما في استطاعته من المدد الكافي، ولكن الذي نفَّس عنه هذا الضيق مرض «فردينند» واضطراره للعودة إلى ليون، على أنه — بعد سفر عدوه المفاجئ — لم يدُم سروره، ولم يسكن فزعه، ولم يهدأ روعه، فقد خلعه صهره من المملكة، وأدمجها في مملكته بعد أن اعتقله بعض حصونه، ولم يمض على هذا العاهل المريض والعدو المفزع الرهيب غير برهة من الزمن يسيرة ثم قضى نحبه، فتنفس المسلمون بموته الصعداء، وقد كان «فردينند» مثالًا حسنًا، وقدوة صالحة لغيره من الملوك في البسالة والإقدام والتقوى وسلامة الضمير ونقاء الجيب، وختمت حياته الحافلة الرائعة، بخاتمة حسنة رائعة، وذلك أنه حين أسرع بالعودة إلى بلاده وصل إلى ليون يوم السبت ٢٤ ديسمبر فذهب — من فوره — إلى الكنيسة، وصلى فيها صلوات وهبها إلى روح القديس «إيزيدور»، ودخل قصره فلبث فيه بضع ساعات، وبدأ يشعر إلى درجة اليقين أن حينه قد حان، وأن ساعته الأخيرة قد دنت، فعاد — حين أرخى الليل سدوله — إلى الكنيسة حيث كان القساوسة يحيون ليلة عيد الميلاد بترتيلاتهم وأنغامهم الشجية، وبينما كانوا يرتلون الصلاة الأخيرة في سحر تلك الليلة، على نظام الطقوس في طليطلة حسبما كان متبعًا في ذلك الحين، شارك «فردينند» القساوسة في صلواتهم، ومزج صوته الضعيف بأصواتهم، وطلب إليهم — عند طلوع الفجر — أن يُسمعوه «القداس»، وبعد أن نال سر القربان المقدس خارت قواه، فأقيم إلى سريره، وهو يمشي غير مستمسك معتمدًا على بعض رجال الحاشية، وفي صبيحة اليوم التالي ارتدى ملابسه الملكية، وأخذ إلى الكنيسة فخلع المعطف الملكي والتاج، وجثا على ركبتيه أمام المذبح، وقال بصوت واضح: «لك القوة والملك يا رب، أنت ملك الملوك، لك ملك السموات والأرض، إنني رادٌّ إليك ما أعطيتني من الملك الذي وليته ما شاءت إرادتك، ضارع إليك أن تدخل في وسيع رحمتك روحي الذي طهرته وخلصته من أدران هذا العالم.»

ثم سجد على الأحجار يجأر بالبكاء، ويستغفر من ذنوبه، وأَمَرَّ عليه يده أحد القساوسة فنال المسحة الأخيرة، وسجي بالمسوح، وغطي رأسه برماد، وأخذ يرتقب الموت وهو مملوء إيمانًا ويقينًا وطمأنينة.

وفي الغد «الثلاثاء» أسلم الروح، أو رقد الرقدة الأخيرة الهادئة فكانت تعلو محياه ابتسامة وادعة مشرقة.

وأعقبت هذه الوفاة وفاة أخرى هي بطبيعة الحال أقل شأنًا من الأولى،١ فقد مات المعتضد يوم السبت ٢٨ فبراير سنة (١٠٦٩) وكان قبل عامين من وفاته قد أدمج قرمونة في مملكته، واقترف جريمة قتل جديدة، إذ طعن بخنجر في يده رجلًا من إشبيلية يُدعى أبا حفص.

وما كان يدور بخلد المعتضد أن أيدي القشتاليين ستمتد يومًا إلى ذلك التاج الذي وضعه على رأسه بقوة الحيلة والخيانة والغدر.

وفي آخر سني حياته امتلأت رأسه بالمخاوف، والأفكار السوداء، وقد تحققت نبوءة بعض الناظرين في ميلاده من المنجمين، كما أشرنا إلى ذلك آنفًا، وهي النبوءة القائلة إن ناسًا يولدون خارج البلاد يثلون عرش مملكته، وكانت فكرته متجهة دائمًا إلى أن أولئك الذين سيقضون عليها هم البرازلة من البربر المقيمين بجواره، وما زال بهم حتى أفناهم جميعًا، وخيل إليه أنه قهر حكم الكواكب، وتغلب على مخاوف التنجيم، ولكنه بدأ يرى أنه كان مخدوعًا في وهمه هذا، ففي العدوة المقابلة لبر الأندلس على المضيق نزحت طائفة من البربر من الصحراء، وزحفوا على إفريقية فاتحين في سرعة مدهشة، وفي شدة بأس تشبه ما كان عليه سلف الأمة في فتوحاتهم، هؤلاء هم البربر الذين أطلق عليهم اسم المرابطين، وهم الذين كان يتنبأ بظهورهم المعتضد ويتوقع أنهم الفاتحون لإسبانيا في المستقبل، وكانت تساوره المخاوف من جانب أولئك الأقوام، ولا يستطيع بحال من الأحوال أن يمحص الفكرة أو يبدد الأوهام التي كانت تنتابه من جهتهم.

وورد عليه ذات يوم كتاب من «سقوت» صاحب سبتة يقول له فيه: «إن طلائع المرابطين عسكرت في رحبة مراكش فاهتم لهذا النبأ حتى قال له أحد وزرائه: «كيف يزعجك يا مولاي هذا النبأ ويقلقك وبيننا وبينهم المهامه الغبر وأمواج البحر الخضر.»

فقال المعتضد بصوت مختنق حزين: «إني على يقين من أنهم سيصلون إلينا يومًا ما، وربما تشهد بنفسك هول ذلك اليوم، فاكتب من فورك إلى حاكم الجزيرة، ومُرْهُ أن يزيد في تحصين جبل طارق، وأن يكون شديد اليقظة، وعلى تمام الأهبة والاستعداد، وأن يراقب عن كثب كل حركة لأولئك المرابطين من وراء المجاز.»

ثم أخذ يصعد بنظره في بنيه ويصوب ويقول: «ليت شعري من منا ستحل به النكبة أنتم أم أنا؟» فقال ولده المعتمد: «لا بل أنا — جعلني الله فداك — الذي أحمل عنك كل كائنة مهما عظمت.»

وقبل موته بخمسة أيام ساءت حاله، وأخذ المرض يدب في جسمه، والضعف يتسرب إلى عقله، فاستدعى أحد مغنيه وكان من الصقلب، وأمره أن يغنيه بما شاء من الأبيات، وكان يرمي إلى التفاؤل بما يختاره المغني، ويتفق مع توقيع النغم، فأخذ هذا يوقع ألحانًا تجمع إلى الطرب الحزن والألم في آنٍ واحد، واللغة العربية من أغنى اللغات بهذا النوع.

وكان الشعر الذي اتفق للمغني أن يوقع عليه الغناء يدور حول معنى أن الحياة وأوقات السرور سريعة الزوال، وأنها إلى نهاية وشيكة عاجلة، وأنه ينبغي أن نحتسي المدام، ونمزج ابنة الكرم بابنة المزن.

وكانت القطعة التي لحنها المغني تتألف من خمسة أبيات، ومن غريب الاتفاق أن عدد هذه الأبيات، هو بعينه عدد الأيام التي عاشها المعتضد بعد سماعها، يضاف إلى ذلك أنه بعد مرور يومين على سماعها أي في يوم الخميس ٢٦ فبراير جرح المعتضد في عاطفته البنوية جرحًا داميًا، وقد كان — على قساوة قلبه — شديد الحب لبنيه، فرُزئ بموت ابنته التي كان يحبها إلى درجة العبادة، وشيعها إلى قبرها يوم الجمعة، وقلبه يتسعَّر حزنًا.٢

وبعد أن ووريت التراب وعاد من الجنازة شكا وجعًا في رأسه أليمًا، ودخل القصر وفيه اعتراه نزيف دموي كاد يودي بحياته، وأشار عليه طبيبه بالفصد ولكن المعتضد تمرَّد على طبيبه فأرجأ الفصد إلى الغد، فكان هذا من الأسباب التي عجلت بوفاته حيث اشتد النزيف في اليوم الثاني فانحبس لسانه، ثم لفظ النفس الأخير.

وخلفه ابنه المعتمد الذي سنقدمه للقارئ في الفصل التالي!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤