صُورة ريفية وأعمَاقها

وضعت رأسي على الوسادة، لكنني لم أنم، فضربت بالمغرفة في دست الذاكرة لتخرج لي بصورتي، فتى في الثالثة عشرة من عمره وقد ذهب في إجازة الصيف إلى حقل أقربائه في الريف، زائرًا ومتفرِّجًا، فأشار له لداته إلى جذع شجرة كان راقدًا على الأرض بين الساقية وحافة الطريق، ليجلس منتظرًا حتى يفرغوا من عملهم في حوض الذرة القريب، وكان ذلك الحوض في مرأى البصر من موضع الفتى، وكان الفتى يرتدي جلبابًا نظيفًا أبيض ناصع البياض، وفوق الجلباب سترة وعلى الرأس طربوش، فتردد في الجلوس خوفًا من التراب يلوث له ثيابه، فالتراب هناك لم يكن من الجفاف بحيث ينفض عن الثوب فيزول، بل كان كأنه مزج بشيءٍ من الصمغ فيلتصق حيثما وقع، لكن الفتى — مع ذلك كله — لم يجد بُدًّا من الجلوس، فأخرج منديله وفرش به مكان جلوسه من جذع الشجرة العتيق، وشخص ببصره إلى حيث دخل لداته بين أعواد الذرة، فماذا هم صانعون هناك يا ترى؟ وهل أصاب الفهم عنهم حين سمعهم يقولون له من بعيد إنهم سيقومون بشيءٍ من تنقية الأرض من أعلاق العُشب؟ فأي عشب وأي أعلاق؟ هكذا أخذ الفتى يتخيل ويتساءل، وهو شاخص ببصره إلى حيث اختفى لداته بين أعواد الذرة، وعندئذٍ تمنَّى لو لم تكن ثيابه في نظافتها تلك وفي بياضها ذاك، وود من عمق نفسه لو أنه ارتدى ثوبًا كثيابهم، ليستطيع أن يشاركهم فيما هم فاعلوه …

وذهبت عني تلك الصورة الريفية ذات العهد البعيد، ولم أجد بي حاجة إلى أن أدس المغرفة في دست الذاكرة مرة أخرى لتخرج لي بما اتفق لها من ذكريات؛ لأن تلك الصورة جرت وراءها — من تلقاء نفسها — صورة ثانية، والثانية جرت ثالثة، وكأنها كانت بكرة خيط لم يكد يفك عنها طرف الخيط، حتى أخذت تكر مناسبة بشريط من الصور، في سرعة كدت لا ألاحقها، بعضها حديث عهد وبعضها قديم … ومن الحقائق العلمية المعروفة عن الصورة الذهنية التي تجري بها خواطر الإنسان إذا ما ترك لها عِنانها حرًّا من ضوابط العقل، أنها إنما تجري على أسس، إذا ما حللناها وجدنا العلاقة الخفية التي تربطها جميعًا في تسلسل واحد، فاشتدت بي الرغبة تلك الليلة، في ألا أسمح للنعاس بأن يتسلل إلى رأسي، حتى أفرغ من عملية تحليلية أفحص بها تلك الصور التي جاءتني متلاحقة، بادئة من جلستي تلك على جذع الشجرة، يدور بي الخيال في لداتي من الصبية وهم يؤدون ما لست أعرف ماذا بين أعواد الذرة.

لقد كانت الصور التي أخضعتها للمقارنة والتحليل، لعلِّي أجد ما يربط بينها، أقول إن تلك الصور كانت في ظاهرها شديدة التباين فيما بينها، فكيف يرجى أن يجدها أعضاء أسرة واحدة؟ لكنني مع ذلك لم أيأس — وذكرت نفسي بأن اختلاف الظواهر اختلافًا بعيدًا لا يمنع من انخراطها جميعًا تحت قانون علمي واحد، وإلا فمن ذا كان يحلم بأن سقوط تفاحة من فرعها فوق الشجرة إلى الأرض، يندرج تحت قانونٍ واحد — هو قانون الجاذبية — مع دوران الأرض حول الشمس، ودوران القمر حول الأرض، ومد البحر وجزره … لا، لم أيأس من أن أقع على نقطة واحدة تلتقي عندها تلك الصور، برغم ما بينها من اختلاف، فأين صورة الطلاب يتزاحمون في قاعة الدرس في انتظار أستاذ لن يجيء، من صورة عشرات الألوف من أصحاب الملايين في شعب يقال إنه فقير؟ أين صورة المخدرات يتسع مجالها حتى تصل إلى صغار الشباب من صورة مجموعات أخرى من شباب لبسوا الجلاليب وأرسلوا اللحى؟! أيكون المسلم للمسلم، والعربي للعربي أخًّا أم يكون عدوًّا لدودًا؟ هل نحن في نهضة فكرية، أو الصواب هو أننا نعيش في ثقافة الندوات التلفزيونية؟ أين قصور القادرين من أكواخ العاجزين؟ أين ما يُعلنه أصحاب الأقلام في الكتب والصحف مما يهمسون به بعضهم في آذان بعض؟ … كانت هذه الأضداد وأمثالها هي الصور التي أخذت تجري بها الخواطر المنسابة، فكيف نبع هذا الخليط من أصل واحد، هو الصورة الريفية البعيدة التي اغترفتها عرضًا من مخزون الذكريات؟

بدأت عملية التحليل من النبع الأول، الذي هو صورة الصبية الصغار في الريف، يدخلون بين أعواد الذرة، لتنقية الأرض مما عساه أن يعرقل نمو الأعواد ليجود محصولها، فما هي إلا أن أشرقت على حقيقة غريبة، وهي أن تلك الصورة الريفية البسيطة المسرفة في بساطتها هي تجسيد حي لجانب من أهم جوانب الفكر الفلسفي المعاصر، نعم، ولا عجب، فماذا تكون الفلسفة إذا لم تكن إخراجًا لما هو مستكن في حياة الناس من مبادئ وأهداف؟ وبين تلك المبادئ والأهداف ما يدوم ما دامت على الأرض حياة لإنسان، وكذلك منها، ما يتغير بتغير العصور وظروفها، ولنتذكر جيدًا أن من الخصائص الإنسانية التي تدوم معه ما دامت له فطرته، ما انكشف للفكر القديم، ومنها ما لبث غامضًا لم ينكشف إلا في عصر حديث، ولا بدَّ أن يكون منها كذلك ما لم ينكشف بعد لأحد انتظارًا لمن يفعل ذلك في مستقبل قريب أو مستقبل بعيد.

والخاصة الإنسانية التي نحن بصدد ذكرها الآن، والتي قلنا إنها تكون جانبًا هامًّا مما كشفه الفكر الفلسفي المعاصر، ثم قلنا كذلك إنها مجسدة في ذلك الموقف الحي البسيط: موقف أبناء الريف يعملون على أن يكمل النماء أعواد الذرة كي تحقق لهم حصادًا طيبًا، أقول: إن الخاصة الإنسانية المتمثلة في هذا، إنما هي أن يكون مقياس العمل الصحيح أو الفكر السديد، هو مقدار ما ينتجه ذلك العمل أو هذا الفكر، فالعمل الذي لا ينتج شيئًا لا يستحق أن يُوصف بأنه «عمل»، والفكر الذي لا يرسم للناس طريق الوصول إلى تحقيق الأهداف ليس جديرًا بأن نُطلق عليه اسم «الفكر»، فالعمل إذا كان عقيمًا كان عبثًا من العبث، والفكر إذا لم يكن قوة لصاحبه تمكنه من بلوغ الغايات، كان لغوًا من اللغو، فانظر على هذا الضوء إلى الصورة الريفية التي بدأنا بها الحديث، فلو سئل زارع الذرة: لماذا زرعت؟ لكان جوابه هو أنه زرع ليحصد الثمار، ثم لو سئل: وفيم عناء صغارك بتنقية الأرض حول الأعواد؟ لكان جوابه إنهم إنما يفعلون ذلك لتجود لنا بالثمار، فماذا تقول الفلسفة البراجماتية المعاصرة إلا أنها صاغت تلك الصورة الريفية في مبادئ نظرية تبين ضوابطها وتفصيلاتها.

لكنني لن أدع هذه النقطة من حديثي لتمضي دون أن أستخرج للقارئ بعض كوامنها؛ لأنني لو تركتها لكان الأرجح أن يصفق لها قائلًا: انظروا! إن ما جاء به فكر هذا العصر لم يزد على أن يكون حاشية تشرح ما يصنعه بالفعل صبية الريف عندنا، وإنه لكذلك حقًّا، لكن ما جدوانا إذا كنا لا نتعمق ما نصنعه بأيدينا؟ لا: بل إننا إذا عرفنا ما هو مضمر في أفعالنا صممنا عنه آذاننا؛ لأنه ينقض ما يدعونا إليه قادة الكفر منا، وأول ما أخرجه لك من مكنونات الصورة الريفية، هو «المبدأ» الذي يجعل «المستقبل» — لا الماضي — مقياسًا بصحة العمل وسداد الفكرة، فإذا قلنا عن صاحب الأرض وأبنائه، إنهم أحسنوا صنعًا فيما فعلوه، كان حكمنا هذا مؤسسًا على ما قد ينتج عنه من محصول في لحظة مقبلة، إننا لم نحكم على الفعل هنا بأنه صواب، بأن أرجعناه إلى قول قاله سلف في لحظة من زمن مضى، بل أقمنا الحكم على ما «سوف» ينتج عنه، وإذا كان ذلك كذلك، فلماذا نُقصر هذا المبدأ على زارع الذرة وأبنائه؟ لماذا لا يكون هو المبدأ المأخوذ به في كل فكرة وإزاء كل عمل نؤديه؟

ويتفرَّع لنا عن هذا المبدأ العام، قواعد فرعية كثيرة لها كل الأهمية في تنظيم أفكارنا وأعمالنا، منها ألا ننتزع موقفًا جزئيًّا من سياقه لنحكم عليه وهو منفرد لأن كل خطوة من خطوات السياق الواحد تستمد صحتها — إذا كانت صحيحة — لا من ذاتها، بل مما عساها أن توصلنا إليه من نتائج، فهي صحيحة بصحة ما سوف تستحدثه لنا من نتيجة …

فلما فرغت من وقفتي الفاحصة للصورة الريفية على هذا النحو، انتقلت إلى سيل الصور التي استدعتها إلى ذهني تلك البداية، لأرى ما وجه الرباط الذي يجمع هذه إلى تلك في أسرة واحدة، وسرعان ما وجدته، إنه «واحدية الهدف»: متى تكون ومتى تنعدم في الحياة التي تستهدف هدفًا محددًا واضحًا، كالذي رأيناه عند زارع الأرض وأبنائه، فلما استدعت هذه الصورة الريفية أضدادها إلى ذهني، لم يكن في ذلك شرود ذهن ولا اضطراب تفكير، فكأنني بمثابة من وقف عند ذكرى الصورة الريفية متسائلًا: أين وحدة الهدف ووضوحه هناك، من تشتت الأهداف وغموضها في حياتنا اليوم؟

وهل يمكن القول بأن أهدافًا مشتركة هي التي تربط بين من يخفي القوت ليكسب من مخزونه الملايين، وبين من لا يملكون إلا القروش ويريدون الطعام؟ هل تكون الأهداف مشتركة بين دعوة الدعاة إلى اللحاق بموكب الحضارة في عصرنا وجمهور ملئت صدوره بدعوة أخرى تدعوه إلى الرجوع القَهقَرى؟ هل يستهدف العربي والعربي، أو المسلم والمسلم، هدفًا واحدًا، والعربي يخاصم العربي، والمسلم يقاتل المسلم؟ … إن الباحث منا في حقائق أمورنا ليقع في حيرة عجيبة — بأي حكم يحكم على اتجاه سيرنا: أهو اتجاه إلى الأمام، أم هو استدارة برءوسنا ووجوهنا إلى الوراء؟ أم أنه جمود سُمرت به أقدامنا في مواقعها من الأرض فلا هو أمام ولا هو وراء؟ وسر الحيرة هو أن ما يصدق على الأفراد من حيث هم أفراد، لا يصدق على الشعب مأخوذًا في مجموعه كأنه كيان عضوي واحد، ولعل أوضح ما نشبه به موقفنا هو عقد اللؤلؤ انقطع خيطه فتناثرت حباته، فكل حبة ما تزال تحمل قيمتها في ذاتها إلا شيئًا واحدًا، وهو أن تكون مسلوكة مع غيرها في وجود مشترك، فإذا نحن سألنا المشرف على التعليم ما الخبر؟ أجابنا بأننا قد أعددنا كذا ألفًا من الأطباء وكذا ألفًا من المهندسين، وكذا ألفًا من رجال القانون ومثلهم من رجال الاقتصاد ومن رجال العلوم ومن رجال الآداب … إلخ إلخ، وإنه في هذا لعلى حق، فالحمد لله ما يزال المصري مدعاة للفخر في كل ميدان من ميادين العمل، نراه حيثما توجهنا في مختلف أنحاء الأرض، فلا نملك إلا أن تمتلئ قلوبنا زهوًا، لكن انظر إلى كتلة الشعب في جملتها وقارن رؤيتها الثقافية اليوم برؤيتها الثقافية منذ مائة عام، تجدها إما جمدت على حالها وإما انحدرت بضع خطوات إلى الوراء، وذلك إذا جعلت مقياسك مدى استعدادها لقبول «الخرافة» أو رفضها، فقد كانت الرؤية اللاعقلية اللاعلمية منذ مائة عام تكاد تقتصر على من لم يظفر بشيءٍ من نعمة التعليم، وأما الآن فهي تطوي بردائها من تعلم ومن لم يتعلم على حدٍّ سواء، وكثيرًا ما قلت في هذه الظاهرة العجيبة، إنها ربما ترجع إلى الهزيمة وأثرها في نفوسنا، إنها حقًّا لظاهرة تلفت النظر: أفراد يلمعون بذكائهم وقدراتهم، وشعب قوامه هؤلاء الأفراد أنفسهم انطفأت جذوته وأسلم قياده لمن يضع على عينيه الغطاء، حتى لقد ألف الكلام، أمعن النظر في شتى صنوف التعامل السائدة بيننا اليوم، تجد نوعًا من الفردية غير مألوف، فنحن إذا ما استعرضنا مذاهب الفكر المعروفة رأيناها تُقسِّم نفسها قسمين، عند تصورها للعلاقة بين الناس في مجتمعاتهم، فإما أن تكون الأولوية لفردية الأفراد، بحيث لا يتنازل الواحد منهم عن شيء من حريته، إلا بمقدار ما ليس له بُد من التنازل عنه لكي تقوم للمجتمع قوائمه، وإما أن تكون الأولوية للجماعة في نسيجها الشامل بحيث لا يُعطى للفرد الواحد من الحرية إلا الحد الأدنى منها، في الحالة الأولى تكون الحرية صفة تصف الفرد قبل أن تصف الجماعة في شمولها، وفي الحالة الثانية تكون الحرية صفة تصف المجتمع قبل أن تصف الفرد الواحد من أفراده، ثم ظهر في عصرنا من رأى رؤية وسطًا تجمع بين الطرفين، بمعنى أن يقال إن حرية الفرد لا تتحقق له إلا وهو في نشاط يشترك فيه مع سواه وذلك لأن عصرنا قد سادته أنواع من الاشتراكية لم يعد عنها غنى، حتى في البلاد التي يقال عنها إنها رأسمالية في المقام الأول.

لكن الفردية التي تسود بلادنا في عصرنا الراهن، لا تندرج تحت واحد من الأقسام الثلاثة المذكورة، إذ هي فردية تشطر نفسها شطرين، بشطر منهما ينطلق كل فرد إلى حيث تقوده أطماعه، وكأنه يعيش وحده، يحصل لنفسه من المنافع ما استطاع الحصول عليه، لا فرق عنده بين مشروع وغير مشروع؛ ولذلك كان كل فرد بشطره هذا حرًّا حرية تعمل في الخفاء، وفي هذا المجال المتستر تتجمع الملايين عند أصحابها ويوصل إلى السلطة في كثير من الأحيان، وتدار السوق التي تُسمَّى حقًّا بالسوق السوداء، وأما الشطر الثاني من شخصية الفرد، فهو يسلم زمامه لمن كان له الرواج عند الرأي العام من ناحية، وعند من بيده السلطان من ناحية أخرى، وفي هذا الشطر ليس ثمة ما يدعو إلى خفاء في سواد أو ظلام بل على العكس من ذلك، ترى الفرد يحرص على أن يزهو أمام الناس في أسطع ضوء ليعرف، وربما كان هذا الزهو الساطع في هذا الشطر من حقيقته عاملًا مساعدًا على تحقيق ما يريد تحقيقه في الشطر الأول.

إذا صحَّ هذا التحليل، استطعنا على ضوئه تفسير الازدواجية التي انفرجت زاويتها خلال الأعوام الأخيرة لما قد طرأ علينا من ظروف، وهي ازدواجية تُثير الحيرة الشديدة عند تعليلها، فهنالك موجة عاتية تغمرنا بالنزوع نحو موقف متطرف نميل به نحو السلف وتراثه، ومعها في وقت واحد قول لا يتردد في التمتع بطيبات هذا العصر، بل وبكثير من تفاهاته كذلك، ولقد أصبحت إحدى طرائفنا في حديثنا الذي نسمر به، أن نذكر ما أخذ فلاح القرية يغمر داره به من أجهزة أخذت تتسع معه حتى شملت «الفيديو»، لكن موضع العجب، هو أنك قد يُصادفك الرجل وهو في أقصى درجات التطرف الذي يتعصب به للسلف وتراثه، لا لكي يضافَ إليه عنصر آخر، بل ليظل قائمًا وحده خالصًا صافيًا لا تشوبه شائبة من شوائب هذا العصر المنكود، ثم يتركك لينعم بكل ما استطاعت يده أن تناله من منتجات العصر، وإذا قال له قائل — كما يفعل كاتب هذه السطور في معظم ما كتبه ويكتبه — إن الخير يا أخي هو في أن نبحث عن الصيغة الميسرة التي تجمع لنا تراث أسلافنا بكل قيمه المُثلى، مع ما تميز به عصرنا من روح علمية صناعية ديمقراطية مغامرة محددة، تشنج صاحبنا وتيبَّست أطرافه، مُصرًّا على أن يظل الجانبان كالخطين المتوازيين اللذين لا يتلاقيان مهما امتدا! لماذا؟ لأنه يضمر في نفسه أن يظهر أمام الناس بخط السلف والتراث، ثم يرتد إلى حياته الخاصة ليستضيء بنور الكهرباء، وليقضي ساعات فراغه مشاهدًا للتليفزيون، مستمعًا للراديو، متصلًا مع ذويه وأصدقائه بالتليفون، وذلك كله بعد أن يكون قد حجز مكانًا له ولأسرته على الطائرة ليعالج مما اعتلَّ به عند الأطباء في أوروبا وأمريكا، ازدواجية تتعذر على الفهم، إلا إذا عرفنا أن فردية الفرد عندنا، وخلال المرحلة الأخيرة، قد اتخذت لها معنى جديدًا فريدًا، لا ينضوي تحت نموذج من النماذج المعروفة.

إن خير ما يدلك على وجهات النظر في العصور المختلفة هو فلسفاتها، فكثيرًا ما أوضحت فيما كتبته طبيعة الفكر الفلسفي ما هي؟ فقلت: إنها على الأغلب تحفر تحت جذوع الأفكار والمشاعر وأنماط السلوك السائدة في العصر المعين، لتستخرج المبادئ النظرية المختفية عند الجذور؛ لأنها هي التي منها تنبثق حياة الناس بأفكارها وقيمها، حتى ولو لم يشعر بوجودها هؤلاء الناس أنفسهم حتى تتعرى أمام أبصارهم ليشهدوها، فماذا قال فلاسفة العصور المختلفة عن المحور الذي تدور حوله فردية الفرد، كل في عصره الخاص؟ قال سقراط مخاطبًا الفرد من الناس: «أيها الإنسان اعرف نفسك.» إذن فلا تتكامل للفرد فرديته على هذه الوجهة من النظر إلا إذا «عرف» كيف ركبت عناصره الداخلية التي جعلته إنسانًا، ولاحظ أن «المعرفة»، بمعناها الصحيح، أداتها «العقل»: فالفرد فرد بمقدار ما «يعقل»، وهكذا كانت نظرة اليونان، وقال الإمام الغزالي في ذلك ما معناه أن جوهر الإنسان «إرادته»، أي أن الإنسان إنسان بمقدار ما تقوى فيه «الإرادة»، وهذه هي النظرة الإسلامية في جوهرها وأساسها، ومصداق ذلك أن نجد ابن تيمية عندما أراد أن يُبيِّن العنصر الأساسي الذي يجعل أفراد الناس «أمة» واحدة، وجد ذلك الأساس في مشاركة هؤلاء الأفراد جميعًا في «فعل» واحد، والفعل — كما نعلم — هو الإرادة عند ظهورها، وكلنا يعلم قولة ديكارت المشهورة التي يُبين بها جوهر الإنسان ما هو؟ إذ يقول: «أنا أفكر، إذن أنا موجود.» … وفي عصرنا جاءت فلسفة في هذا الصدد تحمل تعبيرًا عن حقيقة الإنسان من وجهة النظر في الظروف الجديدة، فقالت تلك الفلسفة: إنه لا بدَّ أن يضاف إلى الوعي الداخلي — أيًّا كان محوره — شيء ما في العالم الخارجي يشير إليه ذلك الوعي، أي أنه لا يكفي الإنسان لتكتمل فرديته، أن يعرف نفسه كما أراد سقراط، ولا أن يعزم بإرادته عزيمة داخلية، دون أن يخرج تلك العزيمة في فعل خارجي، ولا أن يفكر مجرد تفكير في داخل نفسه كما أشار ديكارت، بل لا بدَّ أن يتعلق ذلك التفكير بموضوع معين مما تطرحه علينا الدنيا من حولنا — وحاول بعد هذا العرض السريع أن تدرج ازدواجيتنا الحاضرة كما شرحتها تحت نموذج من هذه النماذج تجدها مستعصية، إلا إذا نسبتها إلى نموذجين في آنٍ واحد، ينطوي تحت كل نموذج منهما أحد الشطرين اللذين أسلفت لك أن حقيقة المواطن في ظروفنا الراهنة تشطر بهما، وكأن لكل منا نفسين، يستخدم كلًّا منهما إذا توافرت لها ظروفها المناسبة.

وأعود بعد هذه الرحلة إلى الصورة الريفية التي صدرت بها هذا الحديث، إنها صورة أسرة اجتمع أفرادها على «فعل»، وكان مقياس نجاحها من وجهة نظرها، أن تجيء عن هذا الفعل أكمل النتائج وأجملها وأضناها، ولا أظنك واجدًا في أفرادها — إذا ما بادلته الحديث — التواء بين هدفين متضاربين، وربما لو كان له هدفان لأنبأك أنهما هدفان وهو يريدهما معًا، فالفرق بين العهدين، هو واحدية الرؤية في الحالة الأولى وازدواجيتها في الحالة الثانية، وعند كاتب هذه السطور أن لبَّ العقيدة الإسلامية، الذي هو «التوحيد»، إذا ما كشفنا فيه ما استطعنا كشفه من أبعاد وأعماق، وجدنا من تلك الأبعاد والأعماق، أن يتوحد الفرد الواحد في شخصية واحدة تدور حول محور واحد، وأن ينظر إلى هذا الكون الفسيح المحيط بنا على أنه متصل الأجزاء في كيان واحد، وإذا نحن استطعنا أن نُربي أنفسنا وأبناءنا على مثل هذه الوحدانية التي تجمع بين الشتات في حياة غير منقسمة على نفسها، فربما كان ذلك أهم ما نقدمه إلى عصرنا، إضافة إيجابية يكمل بها أخطر نقص في بنائه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤