للعصر الواحد صوت واحد

كان الموعد المضروب هو اليوم الأول من هذا العام — عام ١٩٨٦ — هو «رأس السنة» كما يُسمونه، بعد أن اختفت في منتصف الليل أطراف القدمين من العام المنسحب، ولقد استبشرت خيرًا أن يكون ذلك اليوم من فاتحة العام الجديد، هو موعد لقائي مع حشد كبير من طلبة الآداب وطالباتها، يسعدهم ويسعدني أن ينضم إلينا جماعة من زملائي الأكرمين، فلقد تحقق في ذلك اللقاء — أول ما تحقق — أن تجسدت أمام عيني تلك الصورة التي تصوَّرها الفنان اليوناني القديم، حين رسم التقاء العامين عند تلك اللحظة الفريدة التي يدبر فيها عام ويقبل عام، فرسم رأسًا بشريًّا، برز من عنقه الواحد وجهان، أحدهما يتجه إلى ناحية والآخر يتجه إلى الناحية المضادة، الوجه الأول لرجل شاخَتْ مُجسَّماتُه وتغضَّنَتْ بَشْرتُه وطالت لحيته وتشعثت، وأما الوجه الآخر فهو لشاب في نضارة العمر، تشيع ابتسامة الأمل بين ملامحه، ولا عجب، فقد كان التضاد بين الوجهين، هو نفسه التضاد بين ماضٍ ومستقبل تفصلهما تلك اللحظة الحائرة، التي يتجاذبها أنصار القديم من ناحية، وأنصار الجديد من ناحية أخرى، أقول: إن لقائي بطلاب الآداب وطالباتها في ذلك اليوم الفريد، قد جسد لي تلك الصورة، لولا أن الوجهين في هذه الحالة لم يكونا متضادين في اتجاه البصر، بل كان الجانبان ينظر أحدهما إلى الآخر، إذ جلس الراحل وجهًا لوجه مع من وقف في بداية الطريق، على عتبة مستقبل مجهول لكنه مأمول.

وكان حديثنا المشترك حول هذا العصر وسماته، فبأي شيءٍ يتميز عما سبقه من عصور؟ وحين نقول: «يتميز»، فليست الإشارة هنا إلى ما بين العصور من «تفاضل»، بل هي مقصورة على مجرد الاختلاف، قبل كل شيء «يختلف عصرنا عن العصور السابقة جميعًا»، على أن ذلك لا ينفي أن يكون هذا العصر أفضل مما سبقه، بل إن ذلك بالفعل هو الأمر الحاصل، من وجهة نظر الذين يؤمنون بأن التاريخ سائر بالناس — حتمًا — إلى ما هو أكمل، ومن أولئك الناس كاتب هذه السطور.

أعود إلى القول بأن موضوع الحديث بيننا، كان بحثًا عن السمة التي تُميِّز هذا العصر، لكننا لم نكد نبدأ حديثنا حتى وجدنا سؤالًا أوليًّا يطرح نفسه علينا، هو: وما الذي يحدد عصرًا ما ببداية هنا، أو بنهاية هناك؟ أوليس الزمن متلاحق الموج؛ فأمسه مؤدٍّ إلى يومه، ويومه ممهد لغده؟ وما أسرع ما اتفقنا على أنه بالرغم من أن الزمن نهره دفاق وموصول الماء، إلا أن هنالك من الأحداث الكبرى ما يجيء بداية لعصر جديد، حين يكون عصر سابق قد استهلك قدراته في مواجهة مشكلاته، ثم ولدت له مشكلة جديدة كبرى تحتاج مواجهتها إلى فكر جديد.

وبعد أن استعرضنا معًا أمثلة من عصور سلفت، لنرى كيف جاءت وكيف ذهبت، انتقلنا إلى عصرنا لندير أبصارنا باحثين وفاحصين، وكان لا بدَّ لنا — في ذلك السياق — أن نفرق بين «حديث» و«معاصر» تفرقة أقمناها على القاعدة نفسها، وهي أن يواجه الناس بسؤالٍ جديدٍ يملأ عليهم جو الفكر، لا يخلي بينهم وبين الراحة حتى يجدوا له الجواب، إذ يستعصي عليهم جوابه إذا هم أصروا على ما عندهم من معارف وعلوم، فأما ما يصح تسميته بالعصر «الحديث» فهو الفترة التي بدأت بالنهضة الأوروبية وامتدت إلى أوائل القرن الماضي (التاسع عشر) وأما ما هو «معاصر» فهو ما تلا ذلك وإلى يومنا الراهن، وكان الذي أسدل ستارًا على الحقبة الأولى، هو أنها كانت تدير فكرها كله حول محور أساسي ربما جاز لنا أن نجسده ونلخصه، بالإشارة إلى ما قد تصوره «نيوتن» وتصورته من بعده الحقبة «الحديثة» كلها من «القصور الذاتي» في الأشياء، بمعنى أن كل شيء قاصر بذاته عن أن يغير من أمر نفسه، حركة أو سكونًا أو اتجاهًا، فإذا كان شيء ما متحركًا في اتجاه معين، ظل على حركته تلك إلى أبد الأبدين، لا يغيرها إلا عامل خارجي يصدمه لينحرف إلى اتجاه آخر، وكذلك قل في شيء ساكن، فهو يظل على سكونه ما لم يدفعه إلى الحركة عامل خارج ذاته، فإذا استطاع العلم أن يحسب لحركة الأجسام حسابها الرياضي الدقيق، استطاع بالتالي أن يتنبأ بكلِّ ما سوف يطرأ من أوضاع، وأن يسترجع — بالاستدلال الرياضي — كل ما قد حدث في الماضي: كأن يستدل متى حدث كسوف للشمس أو خسوف للقمر، ومتى سيحدث في مقبل الدهر من ذلك؟ فقد كان التصور العام للكون والكائنات إبان الفترة «الحديثة» هو أنه كالآلة الكبرى، محسوبة أجزاؤها حركة وسرعة واتجاهًا.

ظلت تلك النظرة الآلية السكونية للأشياء سائدة حتى نهاية القرن الثامن عشر، يقوم العلم على أساسها، وعلى أساسها كذلك تقوم أفكار الناس في شتى ميادين حياتهم، من سياسة وتجارة وغيرهما، فلما جرجر ذلك العهد أذياله إلى مغيب، ظهر على مسرح التاريخ عهد آخر، وكأنه كان على موعد مع قيام الثورة الفرنسية، وكانت بدايته ظهور تصور آخر للكون والكائنات لا تكون السيادة فيه لوجهة النظر الآخذة بمبدأ القصور الذاتي في الأشياء، بل لوجهة نظر أخرى تبث في الكون حياة أو ما يُشبه الحياة، بحيث تأتي فيه الحركة من داخله تمامًا كما يحدث لأي كائن حي، فالشجرة — مثلًا — لا تنمو بأن يُضاف إليها من خارجها جذوع وفروع وأوراق، بل تنمو باعتمال ذاتي في داخلها، تستخدم فيه العوامل المحيطة بها من غذاء وماء وهواء وضوء، لكنها هي التي تنسج تلك العوامل على أنوالها بدفعة من حياتها … وبهذا التغير في وجهة النظر، وما يستتبعه من تغيرات بدأت الحقبة «المعاصرة».

فالفرق بين ما كان وما أصبح، إنما هو شيء يُشبه الفرق بين الجامد والحي، أو بين السلب والإيجاب، فبعد أن كان التصور في تفسير التغير، أينما وقع وحيثما وقع، يعزى إلى أسباب تأتي من خارج الشيء لتغييره، أصبح التصور هو أن الشيء يُغير نفسه بفاعليته الذاتية مستعينًا بما يأخذه أخذًا مما هو متاح له: فالشجرة لا يُفرَض عليها ما تغتذي به، بل إنها هي التي تنقيه، بدافع من فطرتها، مما حولها، ودع عنك ما يستطيعه الحيوان، ثم قل ما شئت فيما يستطيعه الإنسان.

وماذا تكون — في ظنك — أول صفة يمكن أن نصف بها مخلوقات الله — جلَّت قدرته — في سمائه وفي أرضه؟ بناء على هذه النظرة الجديدة التي بظهورها ولدت لنا الحقبة «المعاصرة»؟ إن تلك الصفة الأولى فيما يبدو لي إنما هي الحرية: حرية الحركة في هامش يتسع أو يضيق باختلاف الأنواع، كانت الفترة «الحديثة» (القرنان السابع عشر والثامن عشر بصفة خاصة) ترى الكائن المعين صنيعة بيئته، بما في تلك البيئة من عوامل تُشكل في طبيعة الكائن من نواحٍ كثيرة، وانظر إلى كلمة «عوامل» نفسها تدرك كم كان الرأي السائد يرجع كل ما يصيب الشيء إلى «عوامل» تحدث ما يقع من ضروب التغير: فتحول العصر إلى رأي آخر، يضع في الكون ضربًا من الحيوية التي تعتمل بذاتها فينتج لها ما ينتج، فعلوم الدنيا بأسرها لا تستطيع أن تتنبأ على وجه الدقة كم يكون عدد الفروع التي تنبت في شجرة معينة، وماذا على وجه الدقة تكون اتجاهاتها والتواءاتها، وكم عدد الأوراق التي تظهر في كل فرع منها، وقد كان ذلك كله ممكنًا — من الوجهة النظرية على الأقل — في النظرة السابقة.

ومع هذه الحرية النسبية، تجيء صفة ثانية، وهي الصفة التي لا تخطئ إذا نحن زعمنا أنها هي أبرز ما يمكن أن يُوصف به العصر الحاضر من صفات: ألا وهي صفة التطور، فلست أظن أن في دنيانا الآن رجلًا واحدًا من رجال الفكر، أيًّا كان نوع الفكر ومستواه، يجرؤ على تصور الكون بكائناته ساكنًا ثابتًا على حاله، وأن كل ما يحدث فيه من تغيرات لا يزيد على انتقال الأجزاء، من هنا إلى هناك، فمثلًا تكون المادة حفنة من تراب هنا فتنتقل لتكون جزءًا من نبات أو حيوان، وقد تنتقل من هذين لتكون جزءًا من إنسان.

ولست أقول أي نوع من «التطور» هو الذي أصبحت وجهة النظر المعاصرة ترى الأشياء والأحياء على أساسه: بل أكتفي بأنه «التطور» أيًّا كانت صورته، فهو على اختلاف صوره نظريًّا يعني أن الكون بما فيه دائب التحول من طَور إلى طَور: من حالة إلى حالة، حتى ولو اقتضى كل تحول من تلك التحولات آلاف الملايين من السنين، ولكن بينما يمكن للعقل أن يتصور ذلك التطور دون الحاجة إلى معرفة اتجاهه، أهو انتقال بالأطوار نحو الأسفل أم هي أطوار تتنوع دون أن يكون فيها ما هو أعلى من غيره ولا ما هو أسفل — أم أنه تطور نحو ما هو أفضل دائمًا؟ أقول: إنه بينما يجوز للعقل من الناحية النظرية أن يتصور ذلك التطور بغض النظر عن اتجاهه، فإن الإدراك الإنساني السليم يكاد يقطع بأنه ما دام في الكون وفي الكائنات تطور، فهو إذن تطور نحو ما هو أحسن وأفضل وأكمل، والتاريخ يؤيد ذلك؛ لأننا إذا تعقبنا مراحل التاريخ، في أي رقعة من رقاع الأرض، وجدنا حياة الإنسان تنحو باطراد نحو علمٍ أكثر وقدرةٍ أقوى، وحرية أوسع وأعمق.

وانتقل بنا الحديث — كاتب هذه السطور مع طلاب الآداب بجامعة القاهرة وطالباتها — إلى ذكر ما ظهر به القرن الماضي في أوروبا من أفكار ضخام، انطلقت كلها من الرؤية الجديدة إلى حقيقة الكون، لكنها كانت أضخم مما يستطيع أهل زمانها ازدراده في وقت قصير؛ ولذلك لبثت معلقة لا تنتقل من صفحاتها لتسري في شرايين الحياة العملية، إلى أن جاء هذا القرن العشرون بحروبه وثوراته، فأخذ يتفحصها لعله واجد فيها هاديًا تستضيء به الأمم في انتقالها من حضارة كانت إلى حضارة ستكون، وكان أهم تلك الأفكار الضخام أربعًا: جاء ماركس بمذهبه وبمنهجه، وداروين بنظريته البيولوجية في التطور، وفرويد بتحليله للنفس، ثم أينشتين بنظريته في النسبية، على أن تلك الأفكار الضخام الأربع، جاوزها وسايرها طريقة جديدة في البحث العلمي، أساسها الاستناد إلى أجهزة يبتكرها العلماء: لتصل بهم إلى دقة النتائج ومضاعفة قدراتهم على فك رموز الطبيعة لتنطق لهم بأسرارها، وكانت تلك الطريقة الجديدة هي ما يُسمى بالتكنولوجيا (ومعناها الأصلي: علم البحث بالأجهزة).

انتقلت تلك الأفكار الأربع، وانتقلت معها طريقة البحث الجديدة، إلى هذا القرن العشرين، فأصبحت هي شغله الشاغل حتى هذه الساعة: فما من فكرة واحدة منها، إلا ولها أثر عميق على تغيير حياة الناس عما كانت عليه، وكذلك ما من فكرة واحدة منها إلا وقد أخذت هي نفسها تتطور على أيدي العلماء والباحثين، مما أدى إلى أن تكون الفترة الحاضرة التي تعيشها دنيانا سريعة التغير والتحول، ونتج عن هذا التقلب السريع أن بات هذا القرن العشرون، بعد الحرب العالمية الأولى وحتى الآن، يجتاز مرحلة انتقال بين حضارتين بلغت أولاهما ذروتها في القرن الماضي، وأما الثانية فيرجى أن تكتمل صورتها في القرن الحادي والعشرين، ومن هنا نفهم لماذا اهتزَّت بنا القيم، وارتجت النظم، وكثرت الحروب والثورات، واتسع نطاق العنف، وغمضت الرؤية أمام الجميع.

•••

وكان الطلبة والطالبات الذين شاركوا في اللقاء، قد أثيرت رغبتهم في السؤال عن جوانب ورد ذكرها في حديثنا معًا، لكن الوقت لم يكن يسمح بامتداد الجلسة فترة أطول، فحملوني حزمة من أسئلتهم، فلما عدت إلى داري تصفحتها وبوبتها، وإذا أهم ما فيها أسئلة عن «الفلسفة» ذاتها ما طبيعتها، والحق أني لا أدري كم من السائلين كانوا من طلاب الفلسفة، وكم كانوا من طلبة الأقسام الأخرى، وجاءوا ليشاركوا، وهاك بعض ما ورد في تلك الأسئلة: وسأتبع كل سؤال منها بإجابة موجزة.

سؤال (١): ما جوابك عن قول لفضيلة الشيخ بأنه لا مكانه للفلسفة في الإسلام؟

الجواب: الدعاء بالرحمة لفلاسفة المسلمين: الكندي، والفارابي، وابن سينا، وابن طفيل، وابن باجة، وابن رشد.

سؤال (٢): هل تستطيع الفلسفة أن تُغيِّر الواقع؟

الجواب: إذا كان العلم يستطيع أن يُغيِّر الواقع، فالفلسفة تستطيع ذلك بنفس المقدار؛ لأنها هي والعلم امتداد واحد، وكل ما في الأمر أنها أكثر من العلم تعميقًا وتجريدًا، فمعرفة الإنسان قوامها ثلاث درجات تتصاعد في التعميم والتجريد، وهي الخبرات المباشرة بالواقع، كأن يعلم الإنسان العادي بخبرته أن الماء يغلي بحرارة النار، ثم يأتي العلم فيستخرج بتجاربه «قوانين» غليان الماء، وأخيرًا يجيء الفكر الفلسفي باحثًا عن مبدأ عام يضم في وحدة واحدة علم الحرارة مع غيره من العلوم.

سؤال (٣): نقرأ عن أن الفلسفة هي «محبة الحكمة» … فما معنى ذلك؟

الجواب: اسأل أولًا عن معنى كلمة «حكمة» تجد جواب سؤالك، فالحكمة كلمة قريبة الصلة «بالحكم»، والإنسان يكون أقدر على حكم نفسه، كلما ازداد علمًا، ثم استخلص من ذلك العلم مبادئه الأولى التي من شأنها ضبط السلوك، والسير به على هدى، وفي القرآن الكريم إشارة تكررت عدة مرات — إلى الربط بين «الكتاب» و«الحكمة»، وهو ربط يتضمن العلاقة بين «العلم» و«العمل» بناءً على ذلك العلم.

سؤال (٤): ما مدى قدرة العقل العربي على التفلسف؟

الجواب: أولًا يجدر الإشارة بأن القدرة على التفلسف هي نفسها القدرة على التحليل، إلا أن تحليل الفكر له نوعان: أولهما التحليل المنطقي الذي يسير مع الجملة سيرًا أفقيًّا، ليرى العلاقات التي تربط أجزاءها بعضها ببعض، كأن ننظر إلى جملة تقول إن الشمس طالعة، فندرك أن فيها موضوعًا دار حوله الحديث هو لشمس، وصفة نسبت إلى ذلك الموضوع، ثم هنالك كلمة «إن» للتوكيد، أما النوع الثاني من التحليل فتجاهه رأسي، وهو يتناول الفكرة المعينة ليتعقبها إلى العناصر الأولية التي هي قوام تلك الفكرة، كأن نتناول مثلًا مفهوم «الفن» فنحلل محتواه إلى العناصر التي تجعله فنًّا، والفلسفة تحليل بالمعنيين، وأعتقد أن قدرة العقل العربي أظهر في النوع الأول منها في النوع الثاني.

سؤال (٥): نلاحظ أنك تكتب في اتجاهات كثيرة ومنوَّعة، فهل هناك وراءها اتجاه خاص؟ … ثم ورد السؤال نفسه أو ما يقرب منه من سائل آخر يقول: إنه لا يرى فيما أكتبه وجهة نظر خاصة، ولا يرى فيه شيئًا جديدًا عما أنقله عن آخرين.

الجواب: لقد أخرجت كتابًا عنوانه «قصة عقل»، لأبين فيه على وجه التحديد ما هي وجهة النظر الخاصة التي حكمت كتاباتي منذ خمسين عامًا، ولو قرأه السائلون لوجدوا كذلك أين الجديد الذي كنت فيه غير مسبوقٍ بأحد، على أنني بغير شكٍّ درست كثيرًا وقرأت كثيرًا في الفلسفة، ولا شكَّ أني خرجت من تلك الدراسة والقراءة بمحصول تمثَّلته حتى أصبح جزءًا مني.

سؤال (٦): إننا نشعر بشيءٍ من الغربة حين نجد أننا لا ندرس إلا نتائج غيرنا، فماذا ترى في ذلك؟

الجواب: ليست الدراسة في أيِّ جامعة من جامعات الدنيا إلا ما قد أنتجه آخرون غير الطالب الدارس، إلا أن تلك الدراسة لنتاج الآخرين إذا سارت على منهج سليم أدَّت حتمًا إلى قدرة على الابتكار والإبداع عند الطالب الدارس، بحيث يستطيع على ضوء تلك الدراسة أن ينتج بدوره شيئًا جديدًا، فتزول الغربة التي يشعر بها لو أنه اكتفى بحفظ نتاج الآخرين فقط.

سؤال (٧): أليس هو قصورًا في الفلسفة أنها لا تقدم للناس حقائق ثابتة؟

الجواب: أكرر القول بأن الفلسفة هي امتداد للعلم في كلِّ عصرٍ من العصور، فكلما انتقل العلم من رؤية معينة إلى رؤية جديدة انتقلت معه الفلسفة؛ لأنها متصلة به، فكما أن العلم يتغير مع العصور تغيرًا يُصحح به أخطاء نفسه ويزيد من قدراته على كشف حقائق الكون، فكذلك الفلسفة وبنفس المقدار تتغير كما يتغير هو وتزيد عمقًا وتحليلًا ليس فقط لحقائق الكون، بل هي تضيف إلى ذلك تحليلًا لما قاله الفلاسفة السابقون لتبين أين وقع الخطأ وكيف جاء الصواب.

•••

ذلك كان لقائي مع طلاب الآداب وطالباتها في جامعة القاهرة أول يوم من أيام هذا العام، وتلك كانت أسئلة الطلاب والطالبات أو قل إن تلك هي أمثلة مما وجهوه إليَّ من أسئلة، وواضح في تلك الأسئلة أن طلابنا ينطوون على قلقٍ شديدٍ انبعث في نفوسهم من الدراسة التي يدرسونها، فلا هم يجدون سبيلًا إلى فهمها وهضمها، ولا هم يرون علاقة واضحة بينها وبين ما سوف يعملونه كسبًا للعيش في حياتهم العملية، وليس في مثل هذا القلق غرابة، فقد سمعنا خلال الستينيات من هذا القرن، أي منذ نحو عشرين عامًا، عن مثل ذلك القلق الشديد الذي استبدَّ بطلاب الآداب بكل فروعها في فرنسا وفي إنجلترا وفي أمريكا وفي غيرها، إذ رأوا أن العلاقة مبتورة أو تكاد بين ما يدرسونه وما سوف يعملونه في مستقبلهم، لكن ذلك كله إذا انصبَّ على الطالب ودراسته بالنسبة إلى الحياة العملية، فهو لا ينصب على الفكر الفلسفي في حدِّ ذاته وهل هو ضرورة أو زائدة يُستغنى عنها، وعن هذه النقطة أقول: إنه فضلًا عن أن مثل ذلك الفكر هو جزء من فطرة الإنسان وتطلعه، ولن يكتمل تعبير الإنسان عن نفسه إلا إذا جاء ذلك التعبير مستوفيًا لكلِّ جوانب تلك الفطرة، فهو بفطرته يبحث في الأشياء ليعلم أسرارها وذلك هو العلم، ثم هو يتناول ذلك العلم نفسه ليبحث عما يوحده ليبين صلة أجزائه بعضها ببعض حتى يظل الإنسان كائنًا موحدًا، وإلى جانب العلم وفلسفته هنالك نواح أخرى للتعبير كالفن والأدب، وهما بدورهما يخضعان للفكر الفلسفي ليبين كيف أن الإنسان في أمة بعينها وخلال عصر بعينه هو أيضًا إنسان موحد الكيان، فمن شأن الفلسفة أن تتناول نتاج الفن في عصرها ونتاج الأدب كذلك لتصب عليها تحليلاتها التي تكشف عن الوحدة الكامنة في نتاجها برغم تعدد أجزائه.

فإذا عرف طلابنا وطالباتنا الذين يدرسون الفلسفة في الجامعات أنهم هم المسئولون قبل غيرهم عن حراسة الحياة الثقافية في بلدهم أولًا وفي العالم كله ثانيًا، حراسة يستخدمون فيها ما قد درِّبوا عليه من تحليل للفكر وجوانبه من علوم وفنون وآداب ليروا مدى ما حقَّقه للإنسان في العصر المعين من حياة اكتمل كيانها، فإذا رأوا شيئًا من التمزق في تلك الحياة كانوا هم أول القادرين على الكشف عن موضع النقص ابتغاء الكمال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤