أهو شركٌ من نوعٍ جديد؟!

«أشهد أنَّ لا إله إلا الله» شهادة هي أول كلمة في إسلام المسلم، يقول «أشهد» لتدل صيغة الفعل على أنه لمتكلم فرد مفرد فريد مسئول عما يقول: إنه لا يقول «نشهد» لينضم بشخصه إلى غيره من أبناء أسرته أو أمته؛ لأنها شهادة يحملها مفردًا، حتى ولو لم يكن معه إنسان آخر من أهل الأرض جميعًا، كلمة «أشهد» دالة وحدها، منذ أول حرف من حروفها — حرف «الألف» — على أن الإيمان بالدين من شأن كل مؤمن على حدة، يدفعه إليه ضميره، وحتى حين يفرض عليه دينه بعد ذلك أن يجتمع مع شركائه في الدين، أن يجتمع معهم في جهاد، أو في صلاة، أو في حج، فذلك إنما يجيء بعد أن قال — أصالة عن نفسه، لا ينوب عنه أحد ولا ينوب هو عن أحد — «أشهد» بصيغة المتكلم المفرد، والصيغة تبقى هي هي، إذا كان ذلك المتكلم المفرد رجلًا أو امرأة، حاكمًا أو محكومًا، غنيًّا أو فقيرًا، حرًّا أو مقيدًا، فانظر إلى حرف «الألف» الذي هو أول حرف في أول كلمة، أول جملة يدخل بها المسلم في دينه، دين الإسلام، انظر إلى هذا الحرف الواحد، كم يتضمن من مواثيق تضمن للإنسان فرديته، ومسئوليته، إلا أنه أسلم، وليكن بعد ذلك ذا مال أو ذا متربة، صاحب سلطان أو مجردًا من كل سلطان.

وبماذا يشهد الشاهد في شهادته أن لا إله إلا الله؟ إنه يقرر شيئين في وقت واحد، أحدهما بالسلب، وثانيهما بالإيجاب، وهو يبدأ بقراره السالب أولًا، إذ هو يبدأ بأن يمحو الباطل، ثم يعقب على هذا بأن يثبت الحق، فهو ينكر وجود آلهة أخرى، لينتقل بعد هذا الإنكار إلى إثبات وجود «الله»، لا إله — إلا — الله، وليس هذا التعاقب بين سلب الباطل قبل إثبات الحق، أمرًا جاء في الشهادة مصادفة، أو عن غير قصد، بل إنه هو نفسه التعاقب الذي يحتمه منطق العقل في كل منهج للتفكير السليم، بل إنه تعاقب نلحظه في حياة الناس العملية إذا ما توافرت لهم أركان الفطرة السليمة، فتراهم يزيحون الأنقاض قبل أن يقيموا البناء الجديد، وينظفون البيت قبل تأثيثه بفرش نظيف، وأما في منهج التفكير العلمي، فهذا التعاقب بين إزالة الأخطاء القائمة قبل عرض الفكرة الجديدة، أمره معروف للباحثين، فتراهم يبدءون باستعراض ما قد قيل فيما سبق عن الموضوع المطروح للبحث، ليرد الباحث تلك الآراء السابقة، رأيًا بعد رأي، مقيمًا رده على بيان مواضع بطلانها، حتى إذا ما خلت له الأرض، أقام هو فكرته مقرونة بأدلة صدقها، وعلى هذا التعاقب نفسه جاءت شهادة الشاهد بأن لا آلهة لها وجود إلا «الله».

كانت الآلهة الباطلة التي جاءت بشهادة المسلم لتنفي عنها الوجود، أول ما جاء الإسلام، أصنامًا لها أسماء، فهذا الصنم هو «اللات» وذلك هو «العُزى»، وهكذا دار بنا الزمان قرونًا تتلوها قرون، حتى بعد العهد بتلك «الآلهة» بعدًا أصبح مستحيلًا معه أن يرتد عابد عن عقيدته، ليعبد «اللات» أو ليعبد «العزى»، لكن ذلك الزمان نفسه الذي دار بقرونه ما دار، إنما هو كالوحش الكاسر، يتربص بفرائسه أن يدب في أنفسهم دبيب الضعف فيفتك بهم فتكًا لا رحمة فيه، فلئن استحال على الناس، حتى وهم في حالة الضعف، أن يرتدوا إلى عبادة اللات والعزى، فضعف نفوسهم — إذا ضعفت — كفيل أن يوسوس لهم في صدورهم بما يحملهم على خلق أرباب أخرى من دون الله، ولتلك الأرباب عندهم أسماء، ولن أذكر هنا شيئًا عن رب عندهم اسمه «الذهب» ولا عن رب اسمه «السلطان» أو رب اسمه «الشهوة»، فتلك وغيرها صنوف من الآلهة عرفها الناس منذ أقدم قديم في تاريخهم، وجاءت الأديان، وجاء المصلحون، ليوقظوهم من تلك الغفلة، لكنها غفلة إذا استحكمت في الغافي، فهيهات له أن يفيق، وإنه لفي مستطاع الإنسان، إذا كان قوي الروح، مؤمنًا بالله الواحد، واثقًا في نفسه، عاقلًا، حرًّا، مسئولًا أمام ضميره وأمام الله الذي هو مؤمن به، أقول: إنه لفي مستطاع الإنسان أن ينزع عن تلك الآلهة الزائفة شوكتها، بحيث لا يكون لها هي القوة في أن تملك عليه زمامه وتتحكم فيه، بل يبقيها أدوات في يديه، يوجهها كما يشاء لها هو، لا كما تشاء هي له، وعندئذٍ لا يُعاب فيه ذهب، أو سلطان، أو رغبة؛ لأنها لم تَعُد الأرباب التي كانت يوم أن ذل لأحكامها وخشع.

لا، لن أذكر هنا شيئًا عن تلك الآلهة الزائفة، لأن أمرها في حياة الإنسان الضعيف معروف، لكنني سأذكر إلهًا جديدًا ظهر حديثًا في حياة الناس، وهو — بدوره — ذو وجهين، فهو بوجه منهما لا عيب فيه، بل إنه ضرورة مطلوبة، وذلك إذا نزعت عنه شوكة التأله، ولكنه بوجهه الآخر، الذي يتسلح فيه بتلك الشوكة الرهيبة، ينقلب إلى طاغية يسحق فردية الأفراد سحقًا، ليحيلهم إلى أشباح من ظلال، وأعني بذلك الإله الزائف الجديد، شيئًا اسمه «الرأي العام»، ولهذا الرأي العام نحني رءوسنا طاعةً وإجلالًا، على شرط واحد، وهو ألا يكون في معنى من معانيه، حرمانًا لأي فرد أراد أن يختلف بفكره المستقل، عما أعلنه الرأي العام، حتى ولو جاء ذلك الإعلان نتيجة سليمة لاستفتاء صحيح ومشروع؛ لأن ذلك الفرد — إذا كان مسلمًا — كان قد التزم حين شهد، بوصفه فردًا مفردًا فريدًا، أن لا إله إلا الله …

إن وجود فرد واحد، لا يرى الرأي الذي هو «رأي عام»، ينفي عن الرأي العام عموميته، وحتى لو كان من حق الرأي العام أن يضغط بقوته العددية في اتخاذ القرارات، وفي انتخاب النواب الذين ينوبون عنه — وهو حق للناس لا نشك فيه — فليس له ذلك الحق نفسه في منع الآراء والأفكار التي لا تعجب جمهوره، إن الذي يربط أفراد الجمهور بعضهم ببعض في تكوين رأي عام، يغلب أن يكون هو «الانفعال» لا «العقل»، فالانفعال ينتقل من فرد إلى فرد بالعدوى، وأما الفكرة العقلية فينقلها صاحبها إلى متلقيها بالإقناع، والإقناع بحكم طبيعته عملية فردية وليست عملية جماعية، وحتى إذا استطاع صاحب فكرة عقلية أن يقنع بها جمهورًا من الناس، فذلك إنما يتحقق حين يقتنع كل فرد على حدة، بينه وبين نفسه، بصدق الفكرة التي تلقاها، أما «الجمهور» من حيث هو كذلك، فليس العقل هو الوسيلة إليه، ألم تر إلى الآية الكريمة التي فصلت الوسائل الثلاث في الدعوة إلى سبيل الله؟ إنها ذكرت: «الموعظة الحسنة» و«الحكمة» و«المجادلة بالتي هي أحسن»، إنها وسائل مختلفة، ويظهر اختلافها عند تدبرها وتحليلها، واختلافها هذا يقابل تفاوت الناس في الطريقة التي تناسب الدرجة الثقافية التي لكلٍّ منهم، فعامة الناس — عادة — لا يتحملون «البرهان العقلي» ويكفيهم أن تضرب لهم الأمثلة الموضحة للفكرة التي تعرضها عليهم، ويحسن أن تُساق إليهم تلك الأمثلة في أدب خطابي يُثير انفعالهم، ليحرك قلوبهم وتلك هي الموعظة، وأما «الحكمة» — حين تساق في معرض الدعوة والإقناع — فشأنها شأن آخر؛ لأنها طريقة لا تبني النتيجة على «فروض» يفرضها عارض الفكرة الجديدة، إنما هي تبدأ مع المتلقي من «الصفر» وكأنهما — عارض الفكرة ومتلقيها — يبدآن المعرفة من أول وجديد، وهنا يسير عارض الفكرة مع المتلقي خطوة خطوة، ولا ينتقل من خطوة إلى التي تليها إلا إذا أقام على الفكرة الأولى برهان صدقها، كما ترانا نفعل في علم الحساب أو علم الهندسة، وواضح أن منهاج «الحكمة» هذا، لا يناسب إلا الصفوة التي ظفرت بتدريب عقلي أكسبها القدرة على إقامة البراهين، وأخيرًا تأتي طريقة «المجادلة بالتي هي أحسن»، فلئن كانت الموعظة الحسنة أصلح الوسائل إلى «قلوب» الجمهور العريض، ثم كانت «الحكمة» أنسب الوسائل إلى «عقول» الصفوة، فهنالك وسط بين الطرفين، فلا هو من الصفوة الممتازة بقدرتها العقلية العلمية، ولا هو من عامة الناس الذين لا يطيقون الاستماع إلى البراهين العقلية في بطء سيرها، وفي دقة لفظها، إنما هو وسط بين بين، فهؤلاء يناسبهم، لا أن تبدأ معهم من الصفر، بل أن تبدأ معهم بنص معين، أو بفكرة معينة، تعلم أنهم على استعداد لقبولها بلا نقاش، ثم تستخرج لهم من تلك المقدمة المسلم بها نتائجها التي تلزم عنها لزومًا منطقيًّا، فلا مفرَّ عندئذٍ من قبولها … فالآية الكريمة حين جعلت لكلِّ درجة من درجات القدرة العقلية وسيلتها إلى قبول الفكرة الجديدة، تضمن فيها أن ما يدركه فرد من الناس، قد لا يستطيع إدراكه فرد آخر أو أفراد آخرون، والذي يهمنا في سياق حديثنا هذا، هو أن نخلص إلى حق الفرد الواحد في أن ينفرد وحده بفكرة معينة، حتى ولو كانت تلك الفكرة مستعصية على الآخرين، وحسبه في ذلك أنه «فرد» ضمنت له «الألف» التي هي أول حرف في «أشهد أن لا إله إلا الله» أن تُصان فرديته حتى ولو خالفه سائر أفراد البشر جميعًا.

على أن هذا الحق الذي يبيح للفرد أن يتفرد بفكره وبعقيدته لا يمتد به إلى دنيا العمل تطبيقًا لذلك الفكر أو لتلك العقيدة؛ لأن دنيا العمل هي على الأغلب دنيا الناس، اللهم إلا إذا حصر صاحبنا نفسه في عالم مغلق لا شأن لأحد به، أما ما دامت دنيا العمل شاملة لأفراد آخرين، فها هنا يصبح لكل منهم نفس الحق الذي هو لصاحب الفكرة أو العقيدة، الذي انفرد وحده بما رأى وما اعتقد، فدنيا الناس المشتركة، والتي هي مجال الحياة العملية، من حقها أن تسير وفق متوسط الرأي عند معظم الجمهور — وذلك هو الرأي العام — دون أن يكون في ذلك حرمان للفرد المختلف برأيه من الدعوة إلى فكرته بالوسائل المشروعة، لعل يومًا يجيء، تحل فيه الفكرة الجديدة محل الفكرة القديمة، وتصبح بدورها هي «الرأي العام».

إنني ما ذكرت مرة هذه المفارقة العجيبة بين الرأي الفردي والرأي العام، إلا وذكرت معها موقفًا رائعًا لسقراط، وهو في سجنه على وشك أن يُنفذ فيه الحكم بالموت، وهو حكم قَضَت به محاكم أثينا، استجابةً «للرأي العام» الذي وجد في سقراط خطرًا على تقاليدها الفكرية، وكانت المحكمة التي أصدرت عليه حكمها بالموت، قد طلبت منه أن يعارض هذا الحكم باقتراح من عنده، لتحدث الموازنة بين الحكمين، ثم يكون الرأي الأخير النافذ، فأجابها سقراط بسخريته المعروفة — إن اقتراحي هو أن تنفق عليَّ أثينا؛ لأنني أعلمها ما فيه خير لها، أقول: إنه حين دنا موعد تنفيذ الحكم بالموت مسمومًا، أنبأه بعض الأثرياء من أتباعه، بأنهم قد مهدوا الطريق لفراره من السجن، حتى يخرج من أثينا سالمًا، فعجب لأمرهم، ولم يتردد في رفض ما عرضوه قائلًا لهم: إنه إذ يحاول جهده أن تغير أثينا من قوانينها وتقاليدها ما من شأنه أن يعرقل سيرها نحو ما هو أفضل، إلا أنه يظل ملتزمًا بالعمل في ظلِّ تلك القوانين، إلى أن تتغير عن اقتناع من أبنائها.

ذلك هو المثل الأعلى في العلاقة بين الرأي الفردي والرأي العام، فللفرد حريته الكاملة في عرض الفكرة التي يراها صالحة ومصلحة لحياة الناس، ولجمهور الناس حق القبول والرفض، دون أن يتعرض صاحب الفكرة للأذى، إن للرأي العام حرمته وقيمته، لكن ليس له شيء من التقديس الذي يتوهمه له من يتوهم، فليس الرأي العام تنزيلًا من التنزيل، بل هو رأي ينقد، ويتغير إذا ألزمته الظروف المستحدثة أن يتغير، أما قيمته التي أشرنا إليها، فهي أنه صمام للأمان من العثرات القاتلة، فليس كل جديد تأتي به الحضارة الجديدة في أي عصر تنشأ فيه حضارة غير الحضارة التي يكون لها السيادة عندئذ، أقول: إنه ليس كل جديدٍ مقطوعًا له بالصواب منذ أول ظهوره، بل الأمر مرهون بالتجربة خلال الممارسة العملية، فإما ثبت ذلك الجديد، وإما أهمل وترك ليزول، وهنا يكون للرأي العام قيمته الحضارية؛ لأنه رأي بطبيعته أميل للتمسك بما هو قائم، فهو — عادة — يبادر برفض القادم الجديد، حتى إذا ما أخذ ذلك القادم الجديد يتسلل في حياة الناس قطرة قطرة، ويقابل بالرضا شيئًا فشيئًا، أرخى الرأي العام قبضته الحديدية على القديم، تلك هي القيمة الكبرى للرأي العام وجموده النافع، إلا أنه لا بدَّ في الوقت نفسه للجديد أن يتسلل ولو خلسة، لكي يوضع تحت الامتحان، فمن الذي يفتح له الثقوب التي يتسلل منها خلال الجدران المصمتة؟ إنهم أفراد أخلصوا للفكر إخلاصهم لشعبهم الذي هم من أبنائه، ولعلنا نلحظ خلال القرن الأخير كله، ظواهر تدل على قيام الحالة التي وصفتها لتوي، وهي أن جديدًا يتسلل إلينا، رذاذًا أحيانًا، وغيثًا منهمرًا أحيانًا أخرى، وهذا وذاك يقابله الرأي العام بالرفض الشفوي من ناحية، وبأخذه واستخدامه في الحياة العملية من ناحية أخرى، ولست أشك لحظة في أن النصر آخر الأمر هو للجديد النافع، وستذهب صيحات الرفض أدراج الرياح.

حدث لي في إحدى اللجان الرسمية التي كنت عضوًا من أعضائها، أن كان الموضوع المطروح هو مطالبة الدولة بأن تكفل حرية الفرد في التعبير عن فكره، فأبديت رأيًا أعلق به على الحوار الدائر، فقلت: إنها ليست الدولة التي تكمم الأفواه عن الفكر الحر، بقدر ما هو «الرأي العام»، وهذا الرأي العام لا يفك عنه الجمود قوانين تصدرها الدولة، بل يفعل ذلك بعلم وإعلام، ولعلني قلتها في مناسبة سابقة مما كتبته، وأعني تلك الظاهرة العجيبة في حياتنا الثقافية، وهي أن التعليم قد ازداد اتساعًا، والأفراد الأفذاذ قد ازدادوا عددًا في كل ميدان من ميادين حياتنا، مما يشهد بنجاح نسبي لحركة التعليم في بلادنا، لكن الأمر الذي يدعو إلى العجب حقًّا، هو أن «الرأي العام» لم يكد يتقدم قيد أنملة في أواخر القرن عنه في أوائله؛ ولذلك، فقد يحدث أن ترى العالم من علمائنا قديرًا في علمه وهو في ميدانه، لكنه ما إن يفرغ من واجبه إزاء تخصصه العلمي، حتى يسرع الخطى لينخرط مع الرأي العام فيما هو غارق فيه من تهاويم قد تبلغ أحيانًا كثيرة حد الخرافة العمياء.

وسر ذلك هو أن الفكرة، إذا جاء بها إلى الناس فرد يحمل رؤية حضارية معاصرة، لم يستطع أن ينفذ بها إلى عامة الجمهور، وبين تلك العامة — من الناحية الثقافية — أعداد ضخمة ممن تلقوا تعليمهم في المدارس والجامعات، كاملًا أو منقوصًا، إذ كانت عامة الجمهور في شبه احتكار لجماعة وجدت مكانتها وأرزاقها وشهرتها ومناصبها في الدعوة إلى بعث الماضي لتعيش فيه، لا لمجرد استلهامه وتشرب قيمه المبثوثة في نصوصه، ولكي يزيدوا موقفهم رجحانًا وقوة، مزجوا ذلك بسلامة الإيمان الديني، وبحرارة الشعور الوطني في آنٍ واحد، نعم، إنه لا مراء في أن إحياء الروح الديني وقيم الأسلاف ضرورة لا غنى عنها في ترسيخ الشعور القومي، وتثبيت الهوية الخاصة بنا، لكن أبناء النصف الأول من هذا القرن عرفوا كيف يُضيفون إلى ذلك الأساس الضروري، أقباسًا قبسوها من ثقافة العصر، فكاد الميزان الثقافي الجديد تعتدل له كفتاه، لكن جاءت هذه الموضة التي تغمرنا اليوم، والتي أزعم أنها قد استمدت قوتها من هزيمة ١٩٦٧ التي زعزعت فينا الثقة بالنفس، أقول: إن هذه الموجة الجديدة جاءت لتحذف من المركب الثقافي ذلك الجانب العصري، ولتشكك الناس في طواياه ونواياه، حتى لقد أصبح الفرد السابح بثقافته مع توازن النهضة في العشرينيات والثلاثينيات إنما يسبح ضد التيار، ويعرض نفسه لغضب الرأي العام وسخطه، فتراه في معظم الحالات يلوذ بالصمت وإيثار السلامة، متجاهلًا — أمام غضب الجمهور العام — أنه فرد مسئول أمام ضميره وأمام رَبِّه، بحكم قوله: «أشهد أن لا إله إلا الله.»

المسلم مسلم لكونه أسلم إرادته لمشيئة الله، وإننا لنخطئ خطأ خطيرًا، إذا أخذنا الظن بأن معنى ذلك هو أن يتجرد الإنسان من إرادته، لأنه لو فعل، لأصبحت عبادته لله ذاتها معدومة القيمة، إذ هي في هذه الحالة عبادة تحولت إلى حركات يتحرك بها من لا إرادة له، في حين أننا نعلم أن إعلان العابد لنيته بأن يعبد، نقطة جوهرية في أداء تلك العبادة؛ لأن إعلان النية مقدمًا، كأن يقول القائم للصلاة: نويت الصلاة، وأن يقول المتأهب للصوم: نويت الصوم، أقول: إن إعلان النية مقدمًا معناه أن العابد يؤدي عبادته عن إرادة واعية واختيار حر، إذن لا بدَّ أن يكون إسلام المسلم لإرادته لمشيئة الله، ذا معنى آخر، وهو أن المسلم يُسخِّر إرادته لتحقيق ما أمر الله بأن يتحقق، كما يدعونا إخلاصنا للوطن — مثلًا — أن نوجه إرادتنا إلى فعل ما هو صالح للوطن.

على أن تسليم المسلم لإرادته، لتتجه نحو ما يرضي الله — سبحانه — لا يشمل فيما يشمله من معانٍ، تسليم المسلم لعقله؛ لأننا لو زعمنا ذلك كنا ننقض أنفسنا بأنفسنا، وشرح ذلك هو أن الإرادة وظيفتها أن تضع الأهداف، كأن يقول القائل: أريد بناء مسجد بما أنعم الله به عليَّ من مال، فإذا ما وضع الهدف، بدأ العقل مسيرته في سبيل الوصول إلى ذلك الهدف، من شراء للأرض الملائمة لبناء المسجد، والاستعانة بمهندس معماري قادر، وإنفاق على عمال البناء … إلخ، وهذه كلها خطوات من تصميم «العقل» في خدمة ما وقع عليه اختيار «الإرادة»، وواضح من هذا أن القوة العاقلة في الإنسان تفقد مبرر وجودها، إذا هي لم تصب فاعليتها على رسم الخطوات المؤدية إلى تحقيق الأهداف، فإذا لم يكن لمجتمع الناس في وقت معين، أهداف معلومة وواضحة، تبعثرت قوته العاقلة في لتٍّ وعجنٍ لا ينتهيان بالناس إلى رغيف من الخبز، وكذلك إذا رأينا مجتمع الناس في مرحلة معينة ذات أهداف معلومة وواضحة، لكن عقولهم كالمخدرة بنعاس أو بيأس أو بضلالة وجهالة، ظلَّت تلك الأهداف معلقة وكأنها أحلام النائمين!

المجتمع الذي يريد أن يخرط أفراده بمخرطة تسوي بينهم جميعًا في الفكر والسلوك، كما يخرط النجار قوائم المقاعد والمناضد على مخرطة واحدة، كي تصبح «طاقمًا» واحدًا، هو مجتمع يبعثر في الهواء هبة الله لعباده، فإذا سألتني: وكيف — إذن — تريد للأفراد الذين اختلفت أهواؤهم أن يصبحوا «أمة» واحدة؟ أجيبك بأن العلاقة كما أتصورها بين مختلف الأفراد وما يُوحدهم في أمة واحدة — مصرية، أو عربية، أو إسلامية — هي أن تكون «الوحدة» بمثابة «إطار» وأن يكون كل فرد بمثابة عجينة خاصة متميزة تنصب في ذلك الإطار، فالصورة القومية واحدة، والمضمونات الفردية متمايزة، ويطوف بخاطري الآن تشبيه جيد، وهو أن تكون العلاقة بين الطرفين كالعلاقة بين الصورة الرياضية في علم الجبر، وما يملأ تلك الصورة نفسها من قيم عددية لتتعين وتتحدد فتصبح جزءًا من علم الحساب، وبالطبع لا حصر للمضمونات العددية التي يمكن اختيارها لتملأ الصورة الجبرية المفرغة، فمثلًا خذ هذه الصورة برموز الجبر:

(س + ص)٢ = س٢ + ٢ س ص + ص٢، فها هنا تستطيع أن تستبدل بالرمزين س، ص أي عددين أردت، فتتحول الصيغة الجبرية المفرغة لتصبح صيغة حسابية محددة كأن تختار — مثلًا — العددين ٢، ٣ بدل الرمزي س، ص الصيغة التي أمامك (٢ + ٣)٢ = ٤ + ١٢ + ٩ = ٢٥، فالعلاقة بين الإطار الصوري في الجبر، ومضموناته العددية التي يمكننا أن نملأ بها ذلك الإطار والتي لا حصر لها، هي كالعلاقة بين إطار قومي وأفراده، فالإطار واحد، والأفراد الداخلون به متمايزون، وبهذا يحقق كل فرد فرديته الكاملة دون أن يخرج على الروح القومية الواحدة، التي تجمع في ظلها جميع الأفراد، وبهذه الفردية المنتمية إلى أمتها، يتحقق للإنسان المسلم ما كان متضمنًا في قوله: «أشهد أن لا إله إلا الله» …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤