الغروب

خيالات

كان للشمس وقت العصر سحر خاص يولد السرور والنشاط وينشر على الكائنات رقة ينسى المرء معها ما قاساه من شدة الحر طول يومه، كما أن طراوة النسيم التي تتخلل دقائق الهواء كانت تحيي نفس الإنسان بلطفها الساحر ويحلو وقعها لديه، كأنما هي أماني العاشق بساعة الوصال. وكانت القبة الزرقاء في صفاء جاذب تدهش العيون بزرقتها. أما أمواج البحر اللامعة فكانت تتلألأ على الساحل فتكسبه حلة لطيفة بابتساماتها الحلوة ودلالها العذب.

وعلى كثب، كانت رياض النخيل التي تزين الرمال الذهبية بمنظرها البهيج تنشر في كل الأرجاء ظلالها المنقوشة «كالدنتلا» بينما كان منظر الكروم الزمردية يدعو النفوس المتعطشة إلى نزهة في ذلك المساء.

لم يكن في الإمكان مقاومة دلال الطبيعة، فما كدت أنظر البحر يتبسم أمامي، وأرى ذلك المنظر المعروض على الأنظار عند رمال الشاطئ، حتى لبيت تلك الدعوة اللطيفة فقمت متجهة نحو خرائب قانوب١ المجاورة لنا حيث ارتقيت قمة التل الذي يتوج تلك الأطلال الدارسة لأمتع النفس بمنظر الغروب.

هذه المدينة معروفة منذ حروب «ترواده» الشهيرة، التي هي من أغرب الفصول في كتاب أساطير الأولين. وقد سميت كذلك لأن «قانوبس» أحد الأدلاء الذين رافقوا الملك «مينالاس» في حروبه كان قد عرج على الإسكندرية فصدمت العواصف سفينته وأغرقتها في ذلك المكان، أما هو فما كاد ينجو من الغرق وتطأ أقدامه الساحل حتى فاضت روحه في تلك البقعة التي أطلق الناس عليها اسم «قانوب» ذكرى لهذه الحادثة.

عرف الإسكندريون واليونانيون مزايا هذه البقعة من جهة الموقع والمناخ، فجعلوها مقر لهوهم وسرورهم، فلم يمض عليها زمن كبير حتى اشتهرت بمعابدها النفيسة وحماماتها اللطيفة ومراقصها التي تجذب إليها عشاق اللهو والطرب من كل حدب وصوب.

في مدة قليلة وفي زمن وجيز ازدهت هذه المدينة وارتقت إلى أن بلغت عرش الإقبال، ثم ما لبثت أن أخذت في سبيل التدهور والسقوط لانهماك أهلها في المناعم والملاذ، وما هي إلا عشية وضحاها حتى طوي بساط ذلك السرور كأن لم يكن منشورًا بالأمس، ولم يبق من مظاهر تلك الأفراح والمسرات إلا اسم ضئيل في صفحات التاريخ يكاد يمحى لضآلته.

ننظر الآن إلى هاته الأطلال فنستعيد إلى الذهن ذكرى ذلك الماضي البعيد ونحن غارقون في لجج الحيرة والتأمل.

في وسط تلك الخرائب والأطلال لا يوجد سوى أثر واحد محافظ على شكله القديم، هو معبد صغير في وسطها يجذب الأنظار بأعمدته المزخرفة ذات الألوان البديعة.

كانت أنوار المغرب تنعكس على تلك الأعمدة الرخامية الناصعة في تلك الخرائب المنسية مما يجعل لها شكلًا خياليًّا بديعًا.

الأسرار الكامنة في الحجرات الدارسة والرفوف والحوائط المتداعية والأعمدة الواقعة وفتات الأحجار المبعثرة هنا وهناك، كل هذه ألسنة تنطق بحوادث عالم زائل وسطور صدق تعرض للأنظار دروس الاعتبار.

إن هذا المعبد الشهير بقية أطلال مدينة «قانوب» الزاهرة، تلك المدينة التي هي تذكار السلف للخلف، كان يتوهج بالنور من تأثير شمس الصيف الساحرة، وكان يخيل لي أن الخواطر المعطرة ما زالت تتماوج في أرجاء هذه الخرائب، وأن الآمال الذهبية تهتز حتى الآن في دقائق الأثير المحيطة بهذا العرش، عرش المسرات والأفراح المدرج إلى الأبد في أكفان العدم والنسيان.

من يدري كم من الرءوس انحنت بخشوع أمام تلك الأعمدة الملقاة على الأرض الآن بحالة ذل وانكسار؟ إنني لا أكاد أذكر أبهة الماضي وسلطانه حتى تتجسم أمام أنظاري الصفحات الخالدة من عظمة هذه المدينة القديمة. وبتأثير الانعكاس الأزلي كنت أشتم في الهواء روائح الزمن القديم ويخيل لي أن في كل زاوية أثرًا للحس والحياة.

بعد أن حييت بإجلال وإعظام المعابد الخربة والأعمدة المتداعية والحجرات المهشمة من خرائب قانوب الحاوية في عرصاتها آثار مدينة زاهية زاهرة، أخذت في إتمام نزهتي ووجهتي خليج أبي قير، وكان البحر إذ ذاك يداعب الرمال الذهبية عند الساحل وشمس الغروب تفيض على كل الجهات بأنوارها الباهرة.

تتبعت طول الساحل ولما يبق على غروب الشمس إلا مقدار طول الحربة، إلى أن وصلت إلى القلعة المسماة بطابية الترك؛ وهي أعلى الطوابي المحيطة بأبي قير.

هنالك رأيت منظرًا بديعًا ترقص له حبات القلوب. رأيت المدينة تحتي ملتفة بثياب بيضاء تسترها غلالة رقيقة من ذرات الرمال. وأشجار النخيل الشامخة بأنفها نحو العلاء، مصطفة بترتيب واحد تزين الطريق بعناقيدها الصفراء والحمراء، والخليج متمخضًا أمامي بأهميته التاريخية، وقد بدا في حلة من الأنوار الذهبية، بينما الشمس تطبع عليه قبلتها الأخيرة، وفي ناحية أخرى كنت ألمح مقبرتين ينشران على العالم آثار الهيبة والخشوع وعلى اليسار من هذا الموقع كان بضعة أفراد من الإنجليز تتلهى بلعبة «التنيس».

وهناك على الساحل كانت جماعات من السماكين مشغولين بسحب شباكهم ينظرون إلى ما قسم الله به عليهم بلهفة واشتياق، وكنت أسمع فوق رأسي طنين تلك الآلة، آلة الطيران التي هي معجزة عصرنا تحلق في الجو طائرة كالنسور، وكلما ارتفعت ظهرت للأعيان كأنها واقفة لا تتحرك، وبالإجمال لم يكن هناك سوى الصمت والدهشة والبهاء!

على بعد شاسع بالقرب من جزيرة نلسون الواقعة في عرض البحر كنقطة استناد كنت أرى جملة نقط بيضاء تقترب نحو الساحل، وبعد قليل تبينت تلك النقط البيضاء التي كنت إخالها أشرعة تتحرك، فإذا هي قوارب صيد من النوع المسمى «نابوليتان» يقتربن إلى الشاطئ كسرب من طيور البحر.

كنت أراقب هذا المنظر البديع، منظر قدوم هؤلاء السماكين من مسافات شاسعة تبعد عن المدينة أربعة أو خمسة أيام، ثم اقترابهم بهيئة منتظمة إلى شاطئ البحر، فيأخذني الإعجاب بسعيهم وإقدامهم فأقول في نفسي أجدر بهذا النشاط أن يكون درس اعتبار لسماكينا الكسولين. ثم انتقل الخاطر فجأة إلى تفاصيل وقعة حدثت في نفس المكان وبنفس هذه الصورة منذ مائة وأربع عشرة سنة.

حاول أسطول نابليون في ذلك العهد الالتجاء بهذا الخليج، وباغته الأميرال الإنجليزي «نلسون» بأسطوله حيث دمر معظم سفن الفرنسيين، وأغرق البقية في أعماق البحر.

لم تستغرق المعركة أكثر من ثلاث ساعات، ومع ذلك فقد كانت رهيبة دمر في خلالها معظم الأسطول الفرنسي، وما سلم منه لم ينج من العطب، وإن الناظر في الخليج وقت هدوء البحر ليمكنه أن يرى تلك السفن التي تقوم بالملايين وهي في قاعه. وقد حاول كثير من كبار الماليين تخليص تلك الثروة الطائلة من قبضة البحر في أزمنة مختلفة إلا أن مساعيهم ذهبت أدراج الريح، وظلت تلك السفن في مرقدها الهادئ حتى يومنا هذا.

وفي النهاية وصلت قوارب الصيد النابولية إلى الساحل، فرأيت أصحابها منهمكين في طي الأشرعة وهم ينشدون الأهازيج والأغاني. وبينما كنت أرى أشكال قبعاتهم المنعكسة في البحر بألوانها المختلفة كانت الشمس أتمت غروبها وغاص قرصها الذهبي في لجة الخليج ناشرًا في أرجاء المكان ضوءًا قرمزيًّا.

وفي ذلك الوقت، أي في الوقت الذي بدأت فيه الأنوار على سطح البحر تخبو والأضواء التي في السماء تتضاءل والرسوم والأشكال التي تكونت في السحب تضمحل، نزلت من المكان الذي كنت فيه وقفلت إلى مسكني راجعة على مهل، طامسة بأقدامي طنافس الرمال الناعمة التي فرشتها يد الطبيعة لتزين شاطئ البحر.

وكان الهواء إذ ذاك محاطًا بسنار رقيق، شفافته تكسب المناظر نوعًا من الإبهام والغموض.

هنا وهناك لمحت بعض نماذج من المساكن الأولية لبني الإنسان، أو بالحري خيامًا نصبها البدو في ذلك القفر، نظرت إلى تلك الخيام فإذا بأضواء الأسرجة تشع من خلالها، وإذا بأصحابها منهمكين بإحضار طعام المساء. كان فريق من هؤلاء البدو قافلين نحو خيامهم وهم يسوقون الإبل أمامهم، وفريق آخر كان جالسًا أمام خيمته بتلك الكيفية الخاصة بالبدو، بينما البعض متمدد على الرمال مسترسل في بحار الخيال والتأمل، والبعض في عزلة عن رفاقه يترنم بالأناشيد الشجية، وفي ناحية من هؤلاء كنت ترى لفيفًا منهم يتناول الطعام مع عائلته، وفريقًا آخر يتنادمون حلقات حلقات مع الأصحاب والخلان.

كنت أرى على وجوههم آثار السرور، وألمح في خيامهم أمارات الأنس والبشر، وفي قلوبهم علامات البساطة وراحة النفس. وبالإجمال كانت تلك البقعة صحراء خالية تملصت من قيود الضجيج ولجب المدينة. فمن منا يحكم بعد ذلك بفقدان السعادة من هذا الوجود، وهو يرى مثل هذا المنظر الرائع، منظر السرور والنشاط في مثل هذه الصحراء البعيدة عن أنوار مدنية العالم العائشين فيه؟ إن الاشتراك بالفكر والحس في حياة القناعة والسذاجة التي يقضيها هؤلاء البدو الناعمو البال لمما يبعث الطمأنينة والهدوء إلى قرارة النفوس. أفلا تشعر معي أيها القارئ أن من يعيش بعيدًا عن مدنيتنا الحاضرة يستيقظ في عالم الهدوء والإيناس، حيث يرى نفسه محفوفًا براحة الضمير والسرور المعنوي؟

عندما رجعت إلى مقر سكني كانت الكائنات قد استرسلت في سكونها العميق واختفت عن أنظار الحس تحت ستار الخفاء.

وكنت أسمع أغاني المساء المعنوية تتماوج في الفضاء وهي تدعو «الكائنات الحية» إلى النوم والراحة.

أما سراي المعمورة، إحدى المعجزات التي تمت على يد الفن، فكانت نجومها الكهربائية تسطع بالبهجة والإشراق.

وبالإجمال فإن آثار الحياة الظاهرة في داخل السراي وخارجها كانت تستعد لاستقبال هذه الليلة الروحية الزاهرة بالابتسامات.

مصر، في ٢٠ جمادى الثانية سنة ١٣٢٩
١  مدينة قديمة بالقرب من خليج أبي قير كانت عامرة في أيام البطالسة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤