قصر الأموات١

إحدى صحف الماضي

اليوم فقط أسعفني الحظ فزرت مقابر الجثث الشهيرة التي ظلت راقدة نحو ثلاثة آلاف عام في وادي الملوك براحة وهدوء، وهي في مقرها الحالي في سراي «قصر النيل» ذلك القصر المحتشم. لم أضطرب ولم يلحقني الضيق والكمد، كما لو كنت في وادي الملوك المبطن بالحجارة الملساء، بل تمكنت من رؤية تلك الآثار بكل راحة وهدوء وأنا في هذا الملجأ الأمين الموجودة فيه جثث الفراعنة بين ثنايا الجبال الصناعية لهذا القصر.

فكنت أسير في طرقاته غير هيابة ولا وجلة إلى أن وجدت نفسي في صالة كبرى أمام باب ضخم فولجته في الحال. عند ذلك استقبلني صف من الهياكل الأبدية، وهي مصطفة بترتيب واحد على يمين ويسار المدخل الكبير. نظرت إلى هذه التماثيل فخيل لي أنها تنظر إلى ما حولها بازدراء واحتقار، نعم فهذه الآثار الفرعونية الخالدة، هذه التماثيل العظيمة المنحوتة من الجرانيت الملون كانت تدل بسكونها وصموتها عما مر عليها من الخطوب العظيمة والحوادث الجسيمة.

لم يكن في مقدور الإنسان عدم التأثر بتلك النظرات العميقة التي يسطع نور ضيائها من عيون تلك التماثيل، تلك النظرات المملوءة بالتحية والمؤانسة. إن الناظر إلى هاته التماثيل يتصور أنها — وهي جالسة على تلك القواعد المحكمة — تستعرض أمامها سلسلة العصور التي مرت عليها وتذكر شوارع «منفيس» المزدانة بالأعمدة وطرقاتها المحفوفة بالمعابد النادرة ومواسمها الحارة فتقيس ماضيها الخلاب بحاضرها. فكنت ترى على سيما هاته الهياكل أثر السرور، وعلى شفاهها ابتسامة السخرية والاستهزاء، وفي عيونها بريق اللذة، وفي أعماق قلوبها سر الآخرة.

بمثل هذه الصورة كانت هذه الهياكل الجرانيتية الملونة بالحمرة والسواد، جالسة جلسة الفلاسفة تستعرض انقلابات العالم وتبدلاته العظيمة وتطوراته العجيبة.

تركت بعد ذلك هذه التماثيل ذات العيون الصافية في تأملاتها وخطوت نحو الأمام لمشاهدة الآثار الموجودة في القاعة السفلية، بعد أن توقفت في دهاليز عديدة ومررت على جملة أبواب، فكنت أرى كل الغرف ملأى بالآثار النفيسة التي تعيد إلى الذهن آثار الماضي وخيالاته.

فهاكم آثار مدنية بعيدة مجهولة، هاكم هياكل ومعابد وأعمدة ومقابر «أرمنت» و«منفيس» و«الكرنك» و«الأقصر»، تلك المدن الزاهرة منذ آلاف السنين، تزين الآن هذا القصر الساكن وتزيد مجموعة الآثار الموجودة قيمة تذكاراتها النفيسة.

الأوجه الضاحكة البارزة من الحوائط والرءوس العديدة والابتسامات الممزوجة بالهجو والسخرية، كلها كانت تتركني في حيرة واضطراب، ثم التفت إلى الجهة اليسرى من صالة صغيرة فرأيت عينين سوداوين تتأملان في محيط الصالة. هاتان الدرتان النفيستان اللتان تزينان ذلك الرأس الجميل، لا بد وأن يكونا عيني الملكة «تابا» لأن نظراتها الحادة كانت تتعقب المرء فتؤثر عليه بسحرها الخاص.

وقد تمكنت هذه المرأة الفتانة من الزواج بفرعون زمانها مع أنها لم تكن أصيلة أو ذات نسب عريق في المجد، وعلى مر الأيام زادت عظمتها وكبرت أبهتها حتى انقاد الجميع إلى أمرها وحكمها، ثم انتهزت فرصة ممات «أمانوس الثالث» فشاركت ابنها البكر في الحكم وأدت لمصر خدمات جليلة بما أبدته من الحنكة العالية والذكاء الفطري في تدبير الأمور.

تشبه هذه الملكة نوعًا ما السلطانة «كوسم»٢ في الفكر والقدرة؛ لأنها هي أيضًا نالت موقعًا هامًّا من الإجلال والإعظام في أيام حكم ابنها السلطان إبراهيم حتى أصبح في يدها مقاليد كل الأمور.

وقد اشتهر عن كلتا هاتين الملكتين الذكاء والقدرة في تولي الحكم، إلا أن التاريخ يذكر اسميهما مقرونًا بالشدة والغرور.

أصحاب العلم والعرفان يزداد عددهم على مر السنين والأيام، إلا أن منزلتهم العلمية وقيمتهم المعنوية هي هي في كل عصر وكل زمان، فالملكة «تايا» التي كانت سببًا في رفاهية وتقدم مصر في عصرها منذ ستة آلاف سنة مضت، ظهرت عظمتها في القرن الحادي عشر من الهجرة في شخص السلطانة «كوسم».

كنت أمتع النظر بمرأى الآثار العديدة، وأقف أمام مدهشات كثيرة لا تعد. إلى أن مررت بجانب أحد الأبواب فاستلفت نظري أحد التماثيل بشكله المعنوي. كان التمثال هو الهيكل المعروف «بشيخ البلد» ذلك التذكار الباقي من أيام الفراعنة، مصنوع بشكل فني بديع، وفي يده عصاه التي يحث بها قومه على الجد والعمل.

الشرق شرق في كل زمان؛ فالكسل إحدى مميزاته الممزوجة بحالته الروحية تلك الميزة التي يسعى الشرقيون في رفعها وإزالتها في كل حين وآن.

طفت بعد ذلك في أنحاء تلك الغرفة العجيبة الموجود بها عجول «ايبيس» ومنها انتقلت إلى غرفة أخرى، رأيت بها الأميرة «نوفريت» المرتدية بجلبابها الأبيض الناصع تنظر إلى ما حولها بعينيها الجميلتين، حيث كانت جالسة على كرسي سلطنتها جلسة من يستمع أحاديث نخبة من الخلان الأصفياء. فتركت غرفتها ببطء خشية الإخلال بالسحر المعنوي الضارب في أطنابه وتابعت المسير باحثة عن إحدى ملكات الشعر والخيال. فنقبت عنها في كل حجرة وصالة، ولكن ذهبت كل أتعابي أدراج الرياح؛ لأنني لم أعثر على أي أثر يدل عليها. كنت أبحث عن ملكة لها حادث خاص في التاريخ، تلك هي «نيتوقريس» ذات الخدود الوردية. يذكر عنها التاريخ أنها كانت تسبح ذات يوم من أيام الصيف في مياه النيل فتركت حذاءيها المزركشين على شاطئه الذهبي، وبينما كانت الشمس ترسل أشعتها على الحذاءين فيزداد بريقهما انقض عليهما طائر واحتمل أحدهما على منقاره حتى «منفيس» وألقاه أمام فرعون ذلك العهد الذي كان مجتمعًا بأركان دولته وأعيان مملكته في ميدان فسيح.

فلما رأى الملك ذلك الحذاء الصغير عول على أن يبحث عن صاحبته، وما زال يفتش عنها حتى وجدها واقترن بها أخيرًا. وقد تركت هذه الملكة لنفسها صحائف خالدة في تاريخ مصر ما زالت مشرقة الجوانب حتى يومنا هذا، وهي نفسها التي أمرت بإتمام الهرم الموجود بالجيزة ودفنت داخله، غير أنه مما يوجب الأسف أن هذه الملكة الجميلة «نيتوقريس» لم يعثر لها على قبر أو تمثال، وقد ازددت أسفًا عندما سمعت بأن تاريخ حياتها مدون على صحيفة من ورق «الپابيروس» ضمن معروضات متحف «تورينو»!

وقد ظلت قصة هذه الملكة كحكاية خرافية ولم يبقَ لها في التاريخ مزية أكثر من ذكر اسمها الموسيقي.

إلى هنا كنت قد أتممت زيارة البهو السفلي فارتقيت السلالم المؤدية إلى القاعات العلوية ودخلت الدائرة الخاصة بالحيوانات المقدسة، فوقع نظري على جملة من القطط والكبوش والتماسيح والقردة والفيران والطيور المعروفة بأبي قردان، وكانت جميعها مرتبة داخل دواليب من الزجاج ترمق المتفرجين شزرًا بعيونها الزجاجية الباردة.

كان يلوح لي أن أنواع التقديس وضروب الاحترام التي نالتها هذه الحيوانات وهي حية أكسبتها الجمود البادي عليها الآن، إذ كان الناظر إليها وهي مصفحة بأنواع الحلي الذهبية يخيل إليه أنها في انتظار الذين عبدوها حينًا من الدهر.

أي حس عميق يا ترى يسوق الناس إلى إيفاء واجباتهم الدينية في مختلف العصور والأيام حتى يجعلهم يلجئون إلى مثل هذا النوع من العبادة، عبادة عيون الحيوانات ومناقير الطيور؟!

قرب الآن ميعاد غروب الشمس، إذ كانت أشعتها النافذة من القبة الكبيرة تلون الموجودات بلون أحمر وتنشر في أرجاء القصر ألوانًا مختلفة من الهيبة والخشوع.

الإطارات والنوافذ والحوائط والمدافن أصبحت جميعها في طوفان من اللون القرمزي، وكان يخيل للناظر أن الهياكل والتماثيل أخذت في الانتباه والصحو، وأن التوابيت تلتهب بالنيران.

هنا في هذا المكان يرى الإنسان الابن بجانب الأب والحفيد في محاذاة الجد، والكل نائم في صف واحد بعضهم مسدل النقاب على وجهه، والبعض يختال في ثيابه وحلله، والبعض راقد بلا ثوب ولا كفن.

هؤلاء الأعيان والذوات الذين كانوا ينفرون من بعضهم البعض وهم أحياء، جمعهم الموت على حظيرة واحدة في هذه المقابر الغرانيتية التي تزين هذا القصر، وقد اختلط حابلهم بنابلهم، فالعدو بجانب العدو، والخصم مجاور للمخاصم، والحاكم على قيد أمتار من المحكوم، فكم من الملوك الذين يقرأ الخلف تاريخهم الآن على الأعمدة ليلم بأعمالهم وآثارهم قد لبوا الدعوة إلى هذا الموعد!

إن هؤلاء الذين دفنوا ردحًا من الزمن في طي الصحاري وبطون الجبال قد تلاقوا الآن في هذا المكان، وها هم ينتظرون بفروغ صبر الساعة التي تنعتق فيها أجسادهم من هذا الجمود الأزلي.

ألقيت نظرة أخيرة على هذه الموميات الذهبية، فخيل لي أنها تستعد لمسامرة ليلية، وأن كلًّا منها تنتظر انقطاع صوت الأقدام على إثر غروب الشمس لتقفز من زاويتها الساكنة إلى بساط المنادمة والمصاحبة.

في وسط هؤلاء الحكام المغرورين الذين ظلوا تحت أطباق النسيان مدة مديدة في وادي الملوك والمعروضين الآن لحرارة الشمس في هذا القصر المحتشم، كان «رمسيس» الأكبر راقدًا في مقره الأبدي، ملتفًّا بأكفانه المنسوجة من ألياف نبات الصبر الناعمة، داخل دولاب من الزجاج. الهيكل العظمي لهذا الملك العظيم كان يشف عن مهابة وجلال، فجبهته الواسعة تستر تحتها أمارات القوة والاستبداد، وأنفه الأقنى يدل على الغطرسة والكبر، وعيناه المجوفتان يشفان عن السطوة، بينما شفتاه الرقيقتان تنمان عما كان له من قوة وإرادة.

ها هو «رمسيس الأكبر» الذي تحكم في حياته على العالم بجيوشه، يرفع الآن قبضته اليابسة بالتهديد كأنما يريد أن يتحكم على العالم الروحاني أيضًا ويملي أوامره الملوكية على المشاهير الملتفين حوله في هذا القصر.

هذه اليد المرفوعة لغرض خاص، هل كان رفعها إطاعة لأوامر ملك الموت؟ أم أنها رفعت لغضبه من مفارقته مقره الهادئ في «وادي الملوك»؟ أم لأنه اضطرب من حرارة الشمس بعد رقاده الطويل في أعماق الأرض فرفع يده ليتقيها؟ وبالإجمال فالمرء يحار في تعليل ذلك.

قبل هذا التاريخ باثنين وعشرين عامًا أمر الخديو السابق المرحوم «توفيق باشا» بإخراج جثته من تابوته المذهب وأن يجرد من أكفانه التي يبلغ طولها أربعة آلاف متر أمام جمع من العلماء والأعيان، فظهرت علامات الغضب والاغبرار على محياه حتى ذعر الخفراء والمتفرجون وارتدوا إلى الوراء، ويظهر أنه احتدم غيظًا لإخراجه فجأة من الأعماق المظلمة التي ظل فيها ستة آلاف عام إلى وجه الأرض، فرفع إحدى يديه اللتين كانتا مطبقتين على صدره ليهدد العالم. ومنذ ذلك الحين أخذ وجهه يزداد عبوسة.

إن هذا الملك الذي أضاف صحائف خالدة على تاريخ مصر بفتوحاته الشهيرة، والذي كان يلقبه اليونانيون بالمعبود القادر، أوصى وهو مدفوع بتربيته الفكرية وإحساساته الموروثة بأن تدفن جثته في أقصى وأعمق نقطة من وادي الملوك، ليظل جسده بعيدًا عن الأنظار في أمان من السرقة حتى أبد الآبدين. ولكن وا أسفاه لم تمكنه الأيام من إتمام رغبته كما أراد، فإن المقابر التي بذل الفراعنة في تشييدها وبنائها النفس والنفيس، غير مبالين بما ضاع في ذلك السبيل من مال الأمة وأرواحها، قد ناوأها الزمان ولعبت فيها الأيدي وكشف ما كان تحتها من الأسرار فظلت دروس عبرة لأنظار الناس. هؤلاء الفراعنة الذين عملوا لكل أمر حسابًا، هؤلاء الحكام الذين ابتلاهم الدهر بفكرة الخلود، لم يعملوا لهذا الدور الغادر، دور المدنية الحديثة حسابًا ولم يدر بخلدهم إمكان ما وقع لهم اليوم.

لو أنهم ظلوا في أمكنتهم، في تلك الطرق الخفية من وادي الملوك لكان لأجسادهم المحنطة نصيب أوفر من الخلود، غير أنه الآن قد حكم عليهم بالفناء منذ الساعة التي أخرجوا فيها من محيطهم السابق إلى وجه الأرض. إن عظامهم اليابسة المحنطة بالأدوية والعقاقير قد قاومت مرور الأيام والأعوام، ولكنها لا تستطيع اليوم مقاومة نور الشمس.

إن «رمسيس الأكبر» الذي دوخ أممًا عديدة ومدها بالنور والضياء، والذي كان سببًا في شهرة عائلته ورفع ذكرها، تملكت حب الشهرة في نفسه لدرجة عظيمة حتى أصبح أسيرًا لها طول حياته. رغم فتوحاته العديدة وانتصاراته الباهرة، كان في ريب من خلود اسمه ودوام ذكره، فأمر ببناء المعبد المعروف باسم «رمسسيوم» بالأقصر، ذلك المعبد الذي ظل مكانًا مقدسًا حتى أيام إسكندر المقدوني، وحافظ على مكانته حتى في أيام المسيحيين.

وقد ظلت أعمدته الملونة العديدة محافظة على نفاستها وقيمتها، وبقيت مظهرًا لتقدير الناس وإعجابهم ومدارًا لذكر اسم «رمسيس» إلى الأبد.

كل هاتيك الآثار والمباني لم تطفئ تعطشه الشديد إلى حب الشهرة والخلود، إذ كان على الدوام في ريب من الأيام على اسمه المحفوظ بالسطوة والبأس، فعمد إلى تشييد هياكل عظيمة مشابهة له في وسط الصحراء أملا في تخليد محياه المهيب. ففي كل عمل من أعماله أثر من آثار الأنانية، وفي كل حركاته مظهر من مظاهر الغرور، وبالإجمال فقد كان عنوان المهابة والعظمة وتمثالًا مجسمًا للغرور.

ها أنا ذا أراه الآن أمامي راقدًا في تابوته البلوري كبقية الأموات المجاورة له، ولم تبق له مزية من مزايا شهرته منذ اليوم الذي أخرج فيه من مقبره الملوكي وحل هذا المكان. وبعد سنين قلائل تتحلل عظامه فتفسد وتتفكك فينقلب إلى كمية من التراب لا تكاد تملأ الكف، وعندها لا يبقى له في الوجود سوى ذكراه المحفوفة بالغرور. فقل لي بربك من الذي يصدق بخلود «رمسيس» بعد زوال هذه المظاهر الدالة على عظمته؟ وما يبقى إذ ذاك من تلك القدرة والكبر والعظمة والسطوة؟

إن رمسيس الراقد في تابوته البلوري والملتف بأكفانه الصفراء المنسوجة من ألياف نبات الصبر ليس الآن بينه وبين بقية الأموات المحفوظة في هذا القصر أدنى فرق. فكل التوابيت مصطفة بترتيب واحد ونظام واحد وكلها مصنوعة من الخشب والزجاج وعلى جميعها لوحات صغيرة كتب فيها اسم الميت وأسرته. وعندما اقتربت من تابوت «رمسيس» لأقرأ اسم هذا الحاكم المغرور في الورقة البيضاء المعلقة عند قدمه كم وددت أن يضاف على اسمه هذه الكلمة التي قالها الشاعر المرحوم ضيا باشا:
بوقبه ده قالان همان برخوش صدايمش٣
١  وصف المتحف في مكانه القديم بالجزيرة.
٢  وهي المشهورة في التاريخ باسم «كوسم والدة»، من نساء السلطان أحمد الأول أحد سلاطين آل عثمان، اشتهرت في زمانها بما لها من عقل وجمال ودراية ولها في الأستانة جملة مؤسسات خيرية؛ منها جامع في اسكدار، وهي التي وضعت أساس الجامع المسمى «يني جامع».
٣  شطر بيت معناه: الباقي تحت سماء هذه القبة هو صوت لطيف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤