تأوهات مسلة

مبتكرة

خيل لي أنها تتأوه فتقول: «آه، من يستطيع إسكات أوجاعي المتأصلة في أعماق قلبي، ومن أين لي ذلك الذي يخفف عن آلام نفسي ويداوي جراحها ببلسم كلماته المسلية؟

إنني حتى اليوم أعجب لأمر نفسي، ولا أدري لماذا حكم علي بمثل هذا النفي المؤبد والشقاء الدائم. أنظر حولي فلا أجد رفيقًا أحدثه بما بين جوانحي من الأوجاع والتأملات أو صديقًا يشاركني في أصدق العواطف والإحساسات. أكل الدهر علي وشرب وتطاولت الأعوام والأجيال وأنا ما زلت في مكاني هذا لا أتحول ولا أتبدل. إن القوم هنا قدروني حق قدري وأغرقوني بطوفان من إعجابهم وإعظامهم ثم أحلوني صدر ميدانهم الفسيح، لأحرك في نفوسهم كامن الفضول، ورفعوا قامتي نحو العلاء لأشرف عليهم من سماء مجدي وخيلائي. فما أكثر القادمين لزيارتي في هذا المكان! وما أشد إعجاب الملتفين حولي، المتحدثين بشأني!

ينظر القوم إليَّ وأنا في مكاني هذا، وسط هذا الميدان العظيم المعدود من أكبر مشاهد هذه العاصمة التي هي مهبط أنوار المدنية الحديثة، نظرهم إلى نقطة تصل مدنية الأزمنة القديمة بالرقي الحديث.

لا غرو ولا عجب؛ فإن هيئتي الشرقية من أكبر الدوافع على جذب الأنظار، فهم يعلمون بأنني أثر من آثار العصور السالفة وإحدى بقايا تلك العظمة الفرعونية الجليلة الشأن، فلا تكاد عيونهم تقع عليَّ حتى يتركوا ما حولي من التماثيل والهياكل الحديثة المحيطة بي، ويقتربوا مني ليقرءوا على وجهي تاريخ أيامي الأولى. أنا الآن تحت أسرهم وفي قبضة يدهم، فهم يعتزون بي ويفاخرون بوجودي بينهم لجليل قدري في الأيام السالفة ولمكانتي السامية بين وقائع العصور الخالية. ولكن مع هذا الاعتبار والاحترام، ورغم كل هذا الإعزاز والإكرام فأنا لا أزال حتى يومي هذا أعاني آلام الوحدة وأوجاع الانفراد.» عندما وصلت المسلة إلى هذا الحد من القول كان النهار قد بلغ غايته وأذن بالأفول، آخذًا أهبته لوداع سلطنته إلى الغد، وكانت أنوار الشمس القرمزية قد أغرقت كل ما في الميدان من الألوان المتعددة، وانعكست عليها سهام الأشعة الذهبية الصادرة من السماء حتى خيل لي أنها تلتهب بألسنة النيران.

تركتني هذه الأنات والآهات في حيرة شديدة وجعلتني أشعر بأنني أمام لغز غريب تعجز العقول عن إدراك كنهه، وقد هالني الأمر حتى وقفت متعجبة أنتظر نهاية هذه الشكاوى المتجسدة والآلام المفزعة.

اشتد إذ ذاك احمرار الغروب فازداد توهج الكتابات المسطورة على المسلة والحيوانات المرسومة عليها حتى ظهرت للأعيان أجلى وأوضح كأنما قد لبست ثوب الحس والحياة، ثم سمعت بعد ذلك شبه غمغمة آتية من بعيد فأنصت فإذا هي تقول: «بلى، ما أنا في هذا الوسط سوى موضع الاستغراب والدهشة، وقليل أولئك الذين يعلمون أمري تمامًا ويعرفون أصلي ومنشئي وشأني حق العرفان. ولذا فأنا أعد نفسي في هذه العاصمة الكبرى وحيدة لا حول لي ولا قوة. تحتاط بي أنواع شتى من البهارج والزخارف إلا أنني لا أحفل بها ولا أجد لها طعمًا. فكل أنواع الحركة وضروب السرعة والدبدبة تهز أساسي وتضعف متانتي وتوقعني في دهشة وارتباك؛ لأنني لم أعتد على هذا النوع من العيش المضطرب، وإنما كانت نشأتي في وسط هادئ تحف به آيات الجلال والسكون. فأنا اليوم أقطع مراحل حياتي بلا أمل، فأحس وأتألم ولكن بدون لذة أو هناءة، فلا شاغل لي سوى عد سلسلة الأيام التي تمر بي، ولا يغرنك ارتفاعي فأنا متواضعة مع ما ترينه من طول قامتي.»

كانت تصل هذه التألمات إلى سمعي فيزداد بي الحزن والأسف إذ كانت تعوزني شجاعة كبيرة لسماع هذه الشكاوى والآلام.

واستمرت في حديثها تقول: «وقعت فريسة المرض منذ سنين عديدة وأصبحت أقاسي من جرائه آلامًا نفسية شديدة، فأنا اليوم أقاسي كل أحوال الموت ولا يلحقني الفناء. أنا أعلم الدواء الناجع لدائي ولكن هيهات، فأين أنا منه الآن؟ سوف أظل أتجرع كئوس المتاعب والأشجان إلى أن يلحقني البلى والدمار؛ لأن داء الشوق لرؤية الأهل دواؤه الناجع ملاقاة الوطن ولكن آه.»

وما كادت تتم كلماتها هذه حتى ارتجت بنا الأرض على إثر مرور إحدى وسائل النقل السريعة من جانبنا، أعني سيارة ضخمة أحدث مرورها تزلزلًا في الأرض حال دون سماع بقية كلماتها.

ثم نظرت حولي فرأيت كل شيء يؤذن بدخول ليل فاتر، يحف به موكب من النسيم العليل، تهتز لرقته دقائق الأثير، ثم رميت بطرفي إلى القبة الزرقاء فإذا «الزهرة»، تلك النجمة الساطعة، زينة السماء وأبهى عرائسها، قد ظهرت وابتدأت ترسل ابتساماتها الجذابة لبقية الكواكب التي أخذت تستعد لرد تحيتها.

كنت أرى العربات والسيارات وجماعات المشاة يهرولون جميعًا بسرعة زائدة نحو غابة باريس، ليلتجئوا في حمى خضرتها المملوءة بالأسرار والأعاجيب، مؤملين وجود السعادة بين أحضان تلك البقعة الزمردية.

نظرت ثانية إلى المسلة فإذا هي غارقة في لجة عميقة من التأمل والتفكير، بعيدة كل البعد عن الضجيج المحيط بها فأخذت أهبتي للمسير فما كدت أتحرك حتى سمعتها تقول: «بربك قفي وأنصتي قليلًا لحديثي.»

فعجبت من ذلك أشد العجب ووقفت مبهوتة أقول في نفسي: ما أعجب ذلك! إنها كانت شاعرة بأنني كنت صاغية لشكاتها، فلم يكن شكواها إلي مجرد هذيان. فأعرتها سمعي وانتباهي لأعي ما تقول تمامًا فإذا بها تقول: «أناشدك المروءة ألا تذهبي لأنه عندي ما أقوله لك فها أنا ذا أرى في عينيك الرغبة في سماع شكاتي وأشجاني، وأشعر بأنك تشاركينني فيها بقلبك وسمعك. فاصبري لم يبق إلا القليل ولا تمضي برهة صغيرة حتى أفيض بمكنونات صدري في قلبك الرقيق كما يفيض النيل على شاطئيه. فكوني أنيسة روحي ولو لمدة وجيزة وأشفقي عليَّ لأجل الذكريات القديمة. ثم ارحميني لآلام الغربة التي أنوء بحملها الآن.

مضت علي مدة مديدة لم أشْكُ بآلامي لإنسان ما، وما كدت أراكِ حتى انتهزت هذه الفرصة لإفراغ ما في النفس من الآلام والآمال. وها أنت الآن مصغية فشكرًا لك، آه! ما ألذ أن تدار كئوس الحديث والمسامرة بين قلبين متآلفين! حدثيني بربك عن الأوطان وخبريني عن أخواتي المسلات الأخرى الباقيات هناك، تلك البقية الباقية من آثار السلف الدالة على التفنن والإبداع، هل بقين مثلي في متانتهن وروائهن حتى اليوم؟ إنني ما زلت أحفظ لهن حبًّا كامنًا في صدري، وأتذكر حسن جيرتهن وجميل عشرتهن. إن قلبي صخري متين، وكذلك حافظتي قوية لا تنسى شيئًا يمر بها. فإن أنا نسيت فلا أنسى تلك الصحاري الذهبية والليالي المقمرة الفضية. آه! أين أنت الآن أيها النيل العذب؟ كم أنا مشتاقة لمنظر جريانك الجميل، ورؤيا القلوع البيضاء التي تحرك المراكب السائرة بين شاطئيك! إن مناظر الغروب الجميلة لا تزال مرسومة على لوح الخاطر، وسحر تلك الليالي الحارة الجذابة لا يمكن نسيانها أبد الدهر.»

ثم تضاءل صوتها بعد ذلك حتى أصبح غير مسموع، إلا أنني أجهدت نفسي فسمعتها تقول: «اذهبي الآن غير مأجورة يا أنيسة روحي في هذه الليلة واتركيني لهمومي وأشواقي، وإذا ما عدت إلى الأوطان فاذكريني عند أهلي، ودعيهم لا ينسوني أنا المسكينة المنفية إلى صميم هذا الميدان الفخم في وسط هذه العاصمة الكبرى، وأخبريهم بأنني على استعداد لأن أفدي كل هذه البهارج والزخارف تلقاء ساعة واحدة أجد فيها نفسي بين أحضان تربتي الأولى.»

وقد أثرت في كلماتها الأخيرة أيما تأثير، ونفذت إلى أعماق قلبي كأنها سهام نارية، فجمدت في مكاني مبهوتة حيرى، ولم أتحرك إلا أثر سماعي أصوات بعض القادمين لزيارتها، حيث سمعت بعضهم يقول: «ما أعجب أمر هذه المسلة، وما أبهى منظرها في الليل! انظروا إلى الكتابات المنقوشة عليها، كيف تتوهج كالتبر، ثم انظروا إلى جلال قامتها وامتزاج شكلها وائتلافه بهذا الميدان العظيم.

يقولون: إنها من أقدم الآثار وأجلَّها شأنًا. بارك الله في همة «لويس فيليب» ناقلها إلى باريس، فقد تجشم في سبيل ذلك كثيرًا من النفقات والمتاعب. آه! انظروا إلى عيون الطيور المرسومة عليها، كيف تنظر إلينا ببرود واحتقار، ولولا يقيني بأنها صور لا تحس ولا تشعر، لخيل لي أن مناقيرها الحادة تمتد إلينا بالأذى. حقًّا إن الإنسان لا يتمالك نفسه من ابتسامة يرسلها في الفضاء عندما يرى هيئتها. إن لهذه المسلة شخصية غريبة في وسط هذا الميدان الحديث؛ فهي قصيدة شعرية بقيت لنا منذ الأزل، بل أسطورة تاريخية تحدثنا، نحن الواقفين على أسرارها المطلعين على خفاياها، بوقائع الأزمنة السالفة فلتحيا مسلة باريس المصرية وهي موضع الدهشة والاستغراب بطيورها ورموزها، ولتدم سنين عديدة في مكانها، تلهب في النفوس نيران الغيظ والحسد بقدها المائس.»

وعندما فتحت عيني ونظرت فيما حولي كان الصباح قد لاح، وكانت الغزالة ترسل أشعتها الأولى من خلال النافذة إلى غرفتي. فما أغرب هذا الحلم!

باريس، ١٩ أغسطس سنة ١٩١١

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤