الهياكل

واسترعت معابد مصر المقامة على ضفتي الوادي أنظار بعض الشعراء، وبخاصة إسماعيل صبري وشوقي.

أما إسماعيل صبري فيرى تلك الهياكل المقامة في المدن المصرية تشهد بما للمصريين من سبق في المدنية، ومبالغة في إتقان العمل، ويرى أن مجد إقامتها وما تدل عليه من الحول والمقدرة يتقاسم الفخر فيه فرعون وقومه المصريون، والشاعر بذلك يرد الفضل إلى أصحابه، ولا يبخس الذين شادوا تلك الهياكل بسواعدهم حقهم من الثناء والتبجيل.

ويرى أن كل حجر في تلك الهياكل ينهض شاهدًا على تلك العبقرية الخالدة، ويحس وهو يقف أمامها والناس خاشعون حيالها، كأنما هي صحف من غير هذا العالم الذي نعيش فيه.

ويصور صبري ما دار حول جدرانها من صور تفصح عما أراده منشئوها من المعاني. إنها صور كثيرة مفرطة في الكثرة؛ لدرجة أنها لو كانت ذوات أصوات لروعت بصوتها الصمَّ من الإنس والجان.

ويتساءل الشاعر عن بُناة هذه الهياكل الذين سجلوا سيرتهم في الصخور، وشادوا من الآثار ما يتضاءل أمامه آثار كل ملك فوق هذه الأرض. لقد بادوا أو بادت دول جاءت من بعدهم، ولكنهم خلفوا من الآثار ما هو خالد يقف في ثبات يحارب الدهر، ويقوى على مجالدة الزمان.

ويثور الشاعر على العلم الحديث الذي سطا على بناة هذه الهياكل، فجنى عليهم، وهتك أستارهم، واقتحم جلالهم، وأخرجهم من قبورهم إلى حيث يعرضون على الناس في المتاحف. وكان الأجدر بجلالهم أن يظلوا حيث كانوا، متحجبين بأستار من الوقار والجلال، ولنُصغِ إلى إسماعيل صبري إذ يقول:

تلك الهياكل في الأمصارِ شاهدةٌ
بأنهم أهلُ سبق، أهلُ إمعان١
وأن فِرعونَ في حولٍ ومقدرةٍ
وقوم فرعونَ في الإقدام كُفْئان
إذا أقام عليهم شاهدًا حجرٌ
في هيكلٍ قامت الأخرى ببرهانِ
كأنما هيَ والأقوامُ خاشعةٌ
أمامها صُحُفٌ من عالَمٍ ثانِ
تستقبلُ العينَ في أثنائها صورٌ
فصيحةُ الرمزِ دارت حولَ جُدرانِ
لو أنَّها أُعطِيَت صوتًا لكان له
صدًى يُرَوِّعُ صُمَّ الإنسِ والجان

•••

أين الأُلى سجَّلوا في الصَّخرِ سِيرَتَهم
وصغَّروا كل ذي مُلكٍ وسُلطانِ
بادوا وبادت على آثارهم دُوَلٌ
وأُدرِجوا طَيَّ أخبارٍ وأكفانِ
وخلَّفوا بعدهم حربًا مخلدةً
في الكونِ ما بين أحجارٍ وأزمانِ
وزُحزِحوا عن بقايا مجدِهمْ، وسَطَا
عليهم العلمُ، ذاك الجاهلُ الجاني
ويلٌ له، هتك الأستارَ مقتحمًا
جلالَ أكرمِ آثارٍ وأعيانِ
للجَهْلُ أرجحُ منه في جهالتِه
إذا هُما وُزِنا يومًا بميزانِ٢

ويدل الشعر على لهفة الشاعر أن يبقى للفراعنة جلالهم، وألا يستباح لهم وقار.

ويقف شوقي أمام هذه الهياكل كما وقف إسماعيل صبري معجبًا بما لها من جلال وروعة، فيتساءل عن أصحاب هذه الهياكل التي ارتفع بها الباني، حتى رسا أصلها في الأرض، وارتفع ذراها إلى الثريا في السماء. لقد بدا بعضها كالحصن، وبعضها كالجبل الأشم. إنها تظهر جديدة كأول العهد بها، ومن حولها يبدو القِدَمُ على كل شيء حتى على الأرض الفضاء.

إنها هياكل ضخمة يحس الشاعر كأن الدنيا مُتعبة بحملها، وكأن الأرض ضيقة عن سعتها. وهي أبعد من أن تصل إليها يد الفناء، لا يدري كيف يصل إليها أو يتمكن من تحطيمها، ولِمَ لا وهي ثابته في الأرض كأنها الطود قد نهض محلقًا في السماء. وإذا كانت قد بنيت بالظلم، فإنه ظلم مشرق مُضنٍ، لم يرهق الملوك أممًا بمثلها؛ لأنها فخر خالد للأمم، وذكر لا يبيد.

لقد فُتن الناس بهذه الهياكل؛ يحج إليها القاصي، ويرمقها المقيمون بعين من الإكبار والتبجيل، وزادها مر العصور مهابة وجلالًا، يحس بهما الزائر، ويشم فيها عبير القِدم.

ولكنه يرى التماثيل على سرُرِها متقابلة، قد لبست رداء من الذل والإهمال، قد علاها التراب، وما كان يفوح منها سوى رائحة العطر وأخلاط الطيب. لقد وُطئتْ حجراتُها المقدسة، وهتك البلى أستارها ومزَّقها، وأفنى الزمان حليها وزينتها، ومع ذلك حسنها باقٍ، وشبابها دائم.

لقد كان لهذه التماثيل معانٍ يدركها عبَّادها، وقد نُسيت هذه المعاني، فلو بُعِث فرعون وعاد إلى الحياة لعجب من أن هذه التماثيل لم يعد الناس يدركون معانيها، أو يفهمون ما ترمز إليه، وفي هذا يقول شوقي:

ولِمَن هياكلُ قد علا الباني بها
بين الثُّريا والثَّرى تتنسَّقُ٣
منها المشيد كالبُروجِ، وبعضُها
كالطَّودِ مضطَجعٌ أشمُّ منطَّقُ٤
جُدُدٌ كأول عهدِها، وحِيالَها
تتقادَمُ الأرضُ الفضاء وتعتُقُ٥
من كل ثِقلٍ كاهلُ الدنيا به
تَعِبٌ، ووجهُ الأرضِ عنه ضَيِّقُ٦
عالٍ على باعِ البِلَى، لا يهتَدي
ما يعتلي منه وما يتسلَّق٧
متمكِّنٍ كالطَّود أصلًا في الثرى
والفرعُ في حرَمِ السماء محلِّقُ٨
هيَ من بناء الظلم إلا أنه
يبيضُّ وجهُ الظُّلمِ منه ويشرقُ
لم يرهقِ الأممَ الملوكُ بمثلها
فخرًا لهم يبقى، وذكرًا يَعبَقُ٩
فُتِنت بشطَّيكَ العبادُ، فلم يزل
قاصٍ يحجُّهُما، ودانٍ يرمُقُ١٠
وتضرَّعَت مِسكَ الدُّهورِ،١١ كأنما
في كل ناحيةٍ بَخورٌ يُحْرَق
وتقابلَت فيها على السُّرُرِ الدُّمَى
مستردياتِ الذُّلِّ لا تتفنَّق١٢
عَطلَت وكان مكانُهُنَّ من العُلى
«بِلقِيسُ» تقبس من حلاه، وتسرق١٣
وعلا عليهن الترابُ، ولم يكن
يزكو بهنَّ سوى العبيرِ ويلبَق١٤
حُجُراتُها موطوءةٌ، وستورُها
مهتوكةٌ، بيد البِلَى تتخرَّق١٥
أودى بزينتها الزمانُ وحلِيها
والحسنُ باقٍ، والشبابُ الرَّيِّقُ١٦
لو رُدَّ فرعونُ الغداةَ لراعه
أن الغرانيقَ العُلى لا تنطِقُ١٧
وقد خلَّد شوقي من بين هذه الهياكل قصر أنس الوجود، الذي قال عنه شوقي: إنه «الأثر المحتضَر، الذي جمع العِبَر، ومحاه الدهر أو كاد، وكان إحدى آياته الكبرى هياكل لفرعون وبطليموس، توارثها عن الكهنة القسوس، وصارت للمسيح، وكانت لهوروس،١٨ ثم ظهر الأذان فيها على الناقوس، ثم لا تكون عشيَّة أو ضحاها حتى يهوِيَ في الماء كل حجر كان يقبَّلُ كالأسود،١٩ وكل ركن كان يُسْتَلَمُ كالحطيم.»٢٠

وقد أنشأ شوقي في هذا الهيكل قصيدة خالدة، سيظل فيها خالدًا ما بقي الزمان، كما خلدت قصيدة البحتري إيوان كسرى.

وهو في مطلع قصيدته يطلب إلى رائد هذا الأثر الخالد الذي أحس به الشاعر عالي القدر، رفيع المكانة كالثريا في السماء، أن يدخل الهيكل خاشعًا، خافض الطرف، يملؤه الجلال والمهابة، فيقول:

أيها المُنتحي بأسوان دارًا
كالثُّرَيَّا تريد أن تنقضَّا
اخلع النَّعلَ، واخفضِ الطرفَ، واخشَعْ
لا تُحاوِلْ من آيةِ الدهرِ غضَّا

ويصف شوقي هذا الأثر الجليل، فيرى بعضه قد أمسك ببعض، كأنها قد خافت الغرق فأرادت أن يسند بعضها بعضًا. إن قصور أنس الوجود يبدو بعضها ويخفى بعضها الآخر، في روعة وجمال كأنها العذارى السابحات.

إنها اليوم مشرفة على الزوال، وكانت من قبل تنهض رافعة الرأس في فخر وتيهٍ تعلو كواكب السماء. لقد قدمت وتقادم العهد بها، ولكن الفن الذي يتجلَّى فيها لا يزال غضًّا ناضرًا كأول العهد به، فرُبَّ نقش في هذا الأثر، كأنما انتهى الصانع أمس من إتمامه، ورُبَّ طلاء لا يزال زيته مضيئًا مشرقًا، وخطوط دقيقة كأهداب العين وقد صنعها، وحسن طولها وعرضها، ورسم ضحايا قد أتقن صنعها إلى درجة أن الله لو نفخ فيها من الروح لصارت أحياء تمشي، ومحاريب كأنها الحصون بناها قوم لهم عزمات الجن، وحجرات كان المسك يفت في أرضها، واليواقيت تزين أرضها، فأبدلت بذلك التراب والحصى.

إن التخريب حظ هذه القصور في يومها، في حين أنها كانت بالأمس يصرف الملوك منها حظوظ الناس، فيرفعون ويضعون، حتى أصبح النحس الخالص من نصيبها.

ويختم شوقي هذا الجزء من قصيدته بصيحة إعجاب من هذه الصنعة التي تملأ العقول بالدهشة، ومن هذا الفن الذي كان فرضًا على المصري أن يتقنه. واستمع إلى شوقي إذ يقول:

قف بتلك القصور في اليم غرقى
ممسكًا بعضُها من الذُّعر بعضَا
كعذارى أخفَيْنَ في الماء بضًّا
سابحاتٍ به، وأبدَينَ بضًّا٢١
مُشرفاتٍ على الزوال، وكانت
مشرفاتٍ على الكواكبِ نَهْضَا
شابَ مِن حولِها الزمانُ، وشابت
وشبابُ الفنونِ ما زال غضَّا
ربَّ نَقْشٍ كأنما نفض الصا
نعُ منه اليدين بالأمس نفضَا
ودِهانٍ كلامعِ الزيت مرَّت
أعصُرٌ بالسِّراجِ والزَّيتِ وُضَّا٢٢
وخُطوطٍ كأنها هُدْبُ ريمٍ٢٣
حسُنَت صنعةً وطولًا وعرضَا
وضحايا تكادُ تمشي وترعَى
لو أصابت من قدرة الله نَبْضَا
ومحاريبَ كالبروجِ بنَتْها
عزماتٌ من عزمةِ الجنِّ أمضى٢٤
شيدت بعضَها الفراعينُ زُلفَى
وبنى البعضَ أجنب يترضَّى٢٥
ومقاصيرَ أبدِلَت بفُتاتِ الـ
ـمِسْكِ تُرْبًا، وباليواقيتِ قضَّا٢٦
حظُّها اليومَ هدة، وقديمًا
صرِّفَت في الحظوظ رفعًا وخفضَا
سقَتِ العالمين بالسَّعْدِ والنحـ
ـسِ إلى أن تعاطتِ النحسَ محضَا٢٧
صنعة تُدهِشُ العقولَ وفنٌّ
كان إتقانُهُ على القومِ فرضَا

ويناجي شوقي تلك القصور الغريقة في النيل، وهي على وشك أن تتهاوى فملكه الحزن فبكى.

إنه يراها سطرًا في كتاب أمجاد مصر، ويتألم كيف فض البلى ذلك الكتاب الذي كان مصونًا، فكشف عن أسرار كان الفراعنة أنفسهم لا يدركونها لغموضها.

ويدعو شوقي من صميم فؤاده أن يظل لتلك القصور جلالها وعظمتها، وألا تنزل عن سماء عليائها؛ فقد حارت عقول المهندسين في بنائها، وعجز العلم عن إدراك أسرارها.

ويسألها الشاعر عما شاهدته في ماضيها من ملك عالٍ، وحضارة مترفة، وعما رأته من مواكب لفرعون كان بعضها يتلو بعضًا؛ إذ كان يمضي لفتح الممالك، أو لإشادة الحضارة في أيام السلم، وعما كان لإيزيس من ملك عريض، وتقديس وعبادة، ثم أصبحت اليوم لا حامي لها، ولا ناصر لها على ما تلاقيه من نوائب الزمان. لقد صارت أسيرة سجن في البحر لا تستطيع الخلاص. واستمع إلى تلك المناجاة إذ يقول الشاعر:

يا قصورًا نظرتُها وهي تُفضِي٢٨
فسكَبْتُ الدُّموعَ، والحقُّ يُقضَى
أنتِ سطرٌ، ومجدُ مصرَ كتابٌ
كيف سامَ البِلى كتابَكِ فضَّا
وأنا المُحتفي بتاريخِ مصرٍ
مَن يَصُنْ مجدَ قومِهِ صانَ عِرضَا
رُبَّ سِرٍّ بجانبيكِ مُزالٍ٢٩
كان حتى على الفراعينِ غَمْضَا
قل لها في الدعاء لو كان يُجدي
يا سماء الجلالِ، لا صرتِ أرضَا
حار فيكِ المهندسون عقولًا
وتولَّتْ عزائمُ العِلمِ مرضَى
أين مُلكٌ حيالها وفريدٌ
من نظامِ النعيمِ أصبح فضَّا٣٠
أين فرعونُ في المواكبِ تترى
يركُضُ المالكين كالخيل ركضَا
ساق للفتح في الممالك عرضًا
وجلا للفَخَارِ في السلمِ عرضَا
أين «إيزيسُ» تحتها النيلُ يجري
حكَمت فيه شاطئين وعرضَا؟
أسدَلَ الطرفَ كاهِنٌ ومليكٌ
في ثراها، وأرسلَ الرأس خفضَا
يُعرَضُ المالكون أسرَى عليها
في قيودِ الهوانِ عانينَ جَرْضَى٣١
ما لَها أصبحت بغير مُجيرٍ
تشتكي من نوائب الدهر عضَّا
هي في الأسر بين صخرٍ وبحرٍ
ملكةٌ في السجونِ فوقَ حَضَوْضى٣٢
أين «هوروس» بين سيفٍ ونِطعٍ؟
أبهذا في شَرْعهم كان يُقْضَى؟٣٣

وهكذا خلد الشعر تلك الهياكل الضخمة في بنائها، المليئة بأسرارها، والتي كانت مقر عبادة آلهة المصريين القديمة، وموطن خشوعهم وتقديسهم. وقد راع الشعراء فيها تلك الضخامة، ودقة الصنع، وإحكام البناء.

وصور الشعر ما أحس به الشعراء من الإجلال والتقديس لدى هذه الهياكل المقدسة، وما أثارت في نفوسهم من ذكريات تاريخية مجيدة.

١  يريد بالإمعان: الإتقان.
٢  ديوان إسماعيل صبري، ص١٧٥.
٣  تتنسق: تنتظم.
٤  البرج: الحصن، والطود: الجبل، والأشم: المرتفع، والمنطق: العالي الذي لا يبلغ السحاب رأسه.
٥  حيالها: بإزائها، وتعتق: تقدم.
٦  الكاهل: أعلى الظهر مما يلي العنق.
٧  الباع: قدر مد اليدين، وتسلق الجدار: صعد عليه.
٨  حرم السماء: ما لا تبيح السماء أن ينتهكه أحد، ومحلق: مرتفع.
٩  يعبق: تنتشر رائحة طيبة.
١٠  القاصي: البعيد، ويرمق: يطيل النظر.
١١  يريد: انتشرت رائحة القدم الطيبة كأنها المسك.
١٢  الدُّمى: جمع دمية، وهي الصورة الجميلة، ويريد هنا التماثيل، ومسترديات: لابسات، وتتفنَّق: تتنعم.
١٣  عطلت: ليس عليها حلي، و«بلقيس»: ملكة سبأ، وتقبس: تأخذ.
١٤  يزكو: يليق، والعبير: أخلاط من الطيب، ويلبق: يليق.
١٥  مهتوكة: ممزقة.
١٦  أودى: أفنى، والريق من كل شيء: أوله.
١٧  الغرانيق: جمع غرنيق، وهو الشاب الجميل، ويريد بها هنا التماثيل.
١٨  هوروس: هو ابن إيزيس من ابنها، وزوجها: أوزيريس.
١٩  يريد به الحجر الأسود الذي بالكعبة.
٢٠  الحطيم: جدار حجر الكعبة.
٢١  البض: الرخص الجسد.
٢٢  وضا: وضاء.
٢٣  الريم: الغزالى.
٢٤  أمضى: أنفذ وأتم.
٢٥  زلفى: تقربًا، ويترضَّى: يطلب الرضا.
٢٦  القضة: الحصى.
٢٧  المحض: الخالص.
٢٨  تفضى: تفنى.
٢٩  مزال: مكشوف.
٣٠  فضًّا: مفضوضًا.
٣١  جرضى: مغمومين.
٣٢  حضوضى: جبل في البحر.
٣٣  الشرقيات ١٢: ٦٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤