شريعة الحب

الجُمود والرياء كلاهما موكل بالظواهر؛ فالجمود يقف بصاحبه عند الكلمات والنصوص، يُخيَّل إليه أنَّها مقصودة لذاتها، فتصبح شغلًا شاغلًا له يُمعن في تأويلها وتوجيهها واستخراج العقد والألغاز منها، وينتهي الأمر به إلى اعتبارها مسألة براعة وفطنة، واعتبار الأحكام والعقوبات فرصة للشارع لا يجوز أن تفلت من بين يديه، وإلا كان ذلك مطعنًا في براعته وفطنته، وهزيمةً له أمام غرمائه المقصودين بتلك الأحكام والعقوبات.

ومن الجامدين من يفخر بعلمه بالنصوص والشرائع، ويقيس علمه بمبلغ قدرته على خلق العقد والعقبات من خلال حروفها وسطورها، أو من المقابلة بين سوابقها ولواحقها وبين مواضع الموافقة والمناقضة منها، ويحدث هذا لكل «شريعة» صارت إلى أيدي الجامدين والحرفيين، فقد أدركنا في مصر أُناسًا من كُتَّاب الدواوين يفخرون بقدرتهم على توقيف العمل بين المراجعات والردود، اعتمادًا على هذا النص أو تلك الحاشية، وافتنانًا منهم في عصر العبارات، ونبش الدفائن، وإقامة الدليل من ثم على سعة العلم والغلبة في ميدان الحوار ومجال اللف والدوران.

ولا حساب للنفس البشرية بطبيعة الحال عند هؤلاء الجامدين الحرفيين، فإنَّما الحساب كله للنص المكتوب من جهة، ولدعوى العلم والتخريج من جهة أخرى، وإنَّما النَّفس البشرية هي الفريسة التي يتكفل العقاب باقتناصها، ويتكفل العلم بإغلاق منافذ النجاة في وجهها، ويقدح في غرور العالم المحيط بأسرار الشريعة وخفاياها أن تتمكن النفس المسكينة من الهرب، وأن يرجع العقاب بغير فريسة، وتلك خيبة للشرائع والقوانين، خيبة لها أن تفتح مذابحها ثم تتيح للضحايا والقرابين أن تفلت منها!

فالشارع الماهر في عرف الجمود هو أقدر الشارعين على مد الحبائل، واقتناص الضحايا.

والفخر كل الفخر لخدام الشريعة أن يُوفِّروا لها الصيد، ويُحكموا من حوله الشبكة.

وقد تنتفخ الأوداج بهذا الفخر علانية، ويُصبح أحق النَّاس بالمفخرة أقدرهم على إدانة الآخرين.

ويتمادى الأمر حتى تُصبح الاستقامة براعة في اللعب بالألفاظ، وتعجيزًا للجهلاء بالحيل والفتاوى، وحتى يزول الجوهر في سبيل العرض، ويزول اللباب في سبيل القشور، وتزول الاستقامة وطهارة الضمير في سبيل الكلمات والنصوص، وتزول الحقائق في سبيل الظواهر والأشكال.

وإذا صار أمر الفضائل إلى الظواهر والأشكال تساوى فيها الصدق والرياء، فإنَّ غاية الصدق والرياء معًا شكل ظاهر باطنه خواء، فلا فرق بين المُرائي وبين الصادق في فضيلته، ما دامت الفضيلة جمودًا لا حس فيه، ولا حياة، ولا اعتبار فيه للنفس البشرية وراء النصوص والأحكام، ووراء الأوامر والنواهي، ووراء العقاب والاحتيال.

إنَّ الجمود والرياء كلاهما موكل بالظواهر.

وعالم الظواهر غير عالم الضمير.

وهذان هما العالمان اللذان تقابلا وجهًا لوجه عند قيام الدعوة المسيحية.

عالم كله قيود وأشكال.

وعالم طلق من القيود والأشكال، في ساحة الضمير.

روى إنجيل مَتَّى في الإصحاح الخامس أنَّ السيد المسيح قال: «لا تظنوا أنِّي جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء. ما جئت لأنقض، بل جئت لأكمل.»

وروت الأناجيل أنَّه عمل في يوم السبت، وسخر من المحرمات التي لا تدنس الإنسان، وخاطب الناس بغير خطاب النَّاموس.

فهل نقض المسيح من تقدموه، أو اتبعهم في كل ما أبرموه؟

إن شئت فقل إنَّه نقض كل شيء.

وإن شئت فقل إنَّه لم ينقض منه مثقال ذرة.

لأنَّه نَقَضَ شريعة الأشكال والظواهر، وجاء بشريعة الحب أو شريعة الضمير.

وشريعة الحب لا تُبقي حرفًا من شريعة الأشكال والظواهر، ولكنَّها لا تنقض حرفًا واحدًا من شريعة النَّاموس، بل تزيد عليه.

وينبغي هنا أنْ نُصحح معنى الناموس في الأذهان، فإنَّ معناه هو «القوام» الذي يقوم به كل شيء، وناموس العقيدة هو الأصول الأبدية التي يقوم بها ضمير الإنسان ما دام للضمير وجود، فلن يزال قائمًا — كما قال السيد المسيح — ما قامت الأرض والسماوات.

ولقد كمل المسيح شريعة الناموس حقًّا؛ لأنَّه جاء بشريعة الحب، وهي زيادة عليه.

إنَّ النَّاموس عهد على الإنسان بقضاء الواجب، أمَّا الحب فيزيد على الواجب، ولا ينتظر الأمر، ولا ينتظر الجزاء.

الحب لا يُحاسب بالحروف والشروط، والحب لا يُعامل النَّاس بالصكوك والشهود، ولكنَّه يفعل ما يُطلب منه ويزيد عليه، وهو مستريح إلى العطاء غير مُتطلع إلى الجزاء.

بهذه الشريعة — شريعة الحب — نقض المسيح كل حرف في شريعة الأشكال والظواهر.

وبهذه الشريعة — شريعة الحب — رفع للناموس صرحًا يُطاول السماء، وثبت له أساسًا يستقر في الأعماق.

وبهذه الشريعة — شريعة الحب — قضى على شريعة الكبرياء والرياء، وعلَّم النَّاس أنَّ الوصايا الإلهية لم تُجعل للزهو والدعوى والتيه بالنفس، ووصْم الآخرين بالتهم والذنوب، ولكنَّها جُعلت لحساب نفسك قبل حساب غيرك، وللعطف على النَّاس بالرحمة والمعذرة، لا لاقتناص الزلات واستطلاع العيوب.

وفي اعتقادنا أنَّ «شخصية» السيد المسيح لم تثبت وجودها التاريخي وجلالها الأدبي بحقيقة من حقائق الواقع كما أثبتتها بوصايا هذه الشريعة؛ شريعة الحب والضمير.

فكلُّ كلمة قيلت في هذه الوصايا فهي الكلمة التي ينبغي أن تُقال، وكل مُناسبة رُويت فهي المناسبة التي تقع في الخاطر، ولا تصل إليها شبهة الاختلاق.

يلزم في شريعة الكبرياء من يتخذ الدِّين سبيلًا إلى التعالي على الآخرين، ويلزم في شريعة الحب من يقول لذلك المتعالي على غيره المتفاني بنفسه: «لماذا تنظر إلى القذى في عين أخيك ولا تنظر إلى الخشبة في عينك؟!»

يلزم في شريعة الفرح بالعقاب، والسعي وراء العورات من يسوق المرأة الخاطئة في المواكب، ويخف إلى موقف الرجم كأنَّما يخف إلى محافل الأعراس.

ويلزم في شريعة الحب من ينهى ذلك الجمع المنافق، ويكشف له رياءه، ويرده إلى الحياء، وقد ارتدَّ إلى الحياء حين استمع السيد يُناديه: «من لم يُخطئ منكم فليرمها بحجر …»

ويلزم في شريعة الرياء والكبرياء أنْ يفخر المصلي بصلاته، وأن يُعلن الصائم عن صيامه، ويتخذه زيًّا ينم عليه بعبوسه وضجره، ويلزم في شريعة الحب من ينهى النَّاس عن صلاة الرِّياء وصيام الرياء؛ لأنَّهم يُحبون أنْ يُصلوا قائمين في المجامع، وفي زوايا الشوارع، «ومتى صمتم أنتم فلا تكونوا عابسين كالمرائين، فإنَّهم يُغيرون وجوههم؛ ليظهروا للنَّاس صيامهم، فقد استوفوا أجرهم فلا أجر لهم، وأمَّا أنتم فمتى صُمتم فادهنوا رءوسكم، واغسلوا وجوهكم، لا يظهر صيامكم للنَّاس، بل لأبيكم المطلع في الصدور.»

يلزم في شريعة الرياء والكبرياء أنْ يفخر المعطي بالعطاء، وأن يستطيل به على الفقراء، وأن يُصوِّت قُدامه بالأبواق، ويُعلن صدقته في الطرقات والأسواق، ويلزم في شريعة الحب أن تسر أعمال المحسنين، فلا تعلم الشمال ما تفعل اليمين.

في شريعة الكبرياء يتقي المُتكبر تقواه ليتكبر بها على المذنبين، ويلوم المرشد المصلح لأنه يجلس مع العشارين والخطاة، وفي شريعة الحب والضمير يُقال للمترفعين بتقواهم ما ينبغي أنْ يُقال لهم: إنَّما يحتاج المرضى إلى الطبيب، وإنَّما يكون الحب على قدر الغفران.

وقد بلغت فتنة «الظواهر والأشكال» غايتها، وطغت من الهيكل إلى البيت، ومن المكتب إلى السوق، ومن المنبر إلى المائدة، حتى لُقمة الطعام أصبحت لا تحل أو تحرم إلا بمقدار ما يُتلى عليها من الأوراد والعزائم، وما تُحاط به من الشعائر والمراسم، وما يرسمه الكهان من أحكام الذبائح والولائم، فبحق يصطدم هنا عالم الظواهر وعالم الضمير، وبحق يُقال للمتطهرين بغسل الأيدي والتلاوة على لقم الطعام وصحاف المائدة: «إنَّ ما يدخل الفم لا يدنس الضمير، وإنَّ الدنس إنَّما يخرج من القلب الذي فيه الشر والزور والفسوق والكفران.»

•••

ومجمل القول أنَّ الخير كله كان في حكم شريعةِ الظواهر والأشكال، شريعةِ الكبرياء والرياء، مسألةَ «امتياز رسمي» يحتكره أصحابه بفضل السلالة والعنصر، ويرجع الأمر فيه إلى الموروثات والمأثورات.

فالفضل بين الأمم «امتياز رسمي» مُحتكر لإسرائيل؛ لأنَّهم أبناء إبراهيم، والفضل بين الإسرائيليين «امتياز رسمي» مُحتكر لأبناء هارون وأبناء لاوي أصحاب الكهانة بحق النسب والميراث، والفضل في الدين والعلم حرفة يحتكرها الكتبة والناموسيون، أو فقهاء ذلك الزمان، بل كادت محبة الله لشعبه المختار أن تكون «وثيقة في صَكٍّ مرسوم» تضمن الإيثار لذلك الشعب، وإن هبطت به أعماله دون سائر الشعوب، «فلا لأنكم أكثر الشعوب لازمكم الرب واختاركم، فإنكم أقل من سائر الشعوب، بل هي محبته وحفظه القسم الذي عاهد عليه آباءكم.»

فلما قامت الدعوة المسيحية بشريعة الحب والضمير، كانت كلمتها هي الكلمة التي تُقال في كل ما ادعوه، وما استأثروا به واحتكروه.

ليس الخير حِكرًا للنسب والسلالة «بل الذي يعمل بمشيئة الله هو أخي وأختي وأمي»، «إنَّ كثيرين يأتون من المشارق والمغارب، ويتكئون مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب على أرائك الملكوت، وأما بنو الملكوت فيطرحون إلى الظلمة بالعراء.»

وإنَّما الرحمة عمل، لا نسبة ولا حرفة. وضرب لهم مثلًا: «إنسانًا خرج عليه اللصوص في الطريق فسلبوه وضربوه وتركوه بين الحياة والموت، وعبر به كاهن فأهمله ومضى في طريقه، وجاء لاوي فمضى ولم يلتفت إليه … ولكن سامريًّا رآه فأشفق عليه وضمد جراحه، وأركبه على دابته، وأتى به إلى فندق، وأولاه عنايته، ثم أخرج لصاحب الفندق عند سفره دينارين؛ لينفقها عليه، ويعنى به، ومهما ينفق عليه فهو مُوفيه عند مرجعه …» قال السيد المسيح لتلاميذه وقد ضرب لهم هذا المثل: «أيُّ هؤلاء الثلاثة أقرب إلى ذلك الصريع الجريح؟» والجواب الذي لا خلاف عليه بداهة أنَّ السامري المنبوذ أقرب إليه من أبناء هارون ومن اللاويين المصطفين!

وراح يُجبْه فطاحل العلماء التياهين بما علموه وحفظوا وتفننوا فيه من ألغاز الفقه وأحاجي الشريعة، فقال لهم: «إنَّ الدِّين بما تعمل لا بما تعلم.» حذَّر أتباعه ومريديه أن يقتدوا بهم في عملهم، وأن يدعوا مثل دعواهم: «لأنَّهم يحزمون الأوقار، ويسومون النَّاس أن يحملوها على عواتقهم، ولا يمدون إليها أصبعًا يزحزحونها، وإنَّما يعملون عملهم كله لينظر الناس إليهم، يعرضون عصائبهم، ويطيلون أهداب ثيابهم، ويستأثرون بالمتكأ الأول في الولائم والمجالس الأولى في المجامع، ويبتغون التحيات في الأسواق، وأنْ يُقال لهم: «سيدي!» «سيدي!» حيث يذهبون …»

ثُمَّ يهتف بأولئك المنافقين التياهين: «أيُّها القادة العميان الذين يُحاسبون على البعوضة ويبتلعون الجمل، إنَّكم تنفقون ظاهر الكأس والصحفة، وهما في الباطن مترعان بالرجس والدعارة، ويل لكم أيُّها الكتبة والفريسيون المراءون! إنَّكم كالقبور المبيضة، خارجها طلاء جميل، وداخلها عظام نخرة.»

ولما تعالموا عليه بالأسئلة عن أسرار الكتب وألغاز الفرائض والوصايا، وسألوه: أيُّهما أعظم في النَّاموس؟ حسبوا أنَّه سيُنقِّب بين السُّطور، ويُطيل البحث بين الأسرار والألغاز، ولكنَّه ترك السطور والنصوص، وجَمع لهم الدين كله والكتب جميعًا في كلمات معدودات: «أن تُحب ربك بجماع قلبك، ومن كل نفسك وفكرك، وأن تُحب رقيبك كما تُحب نفسك.»

هذا كل ما يلزم العابد الصالح أن يحتقبه من القماطر والأوراق، ولا تكون العقبى أنَّه يهدر الفرائض والأحكام، وأنَّه يستبيح ما لا يُباح، بل لعلَّه يتشدد حيث يترخص النصوصيون والحرفيون، كما يتشدَّد الإنسان حيث يُحاسب ضميره، ويصنع في سبيل الحب ما لا يصنعه في سبيل الواجب، وكل ما هنالك أن تُصبح الفضيلة وحي نفس، وحساب ضمير، ولا يُصبح قصاراها وحي القانون، وحساب الصكوك والشروط، وأساليب الروغان من بين السطور والحروف.

لا جرم كانت شريعة الحب والضمير أشد وأحرج من شريعة الظواهر والأشكال؛ لأنَّ الضمير موكل بالنيات والخواطر قبل الأفعال والوقائع، ولأنَّه يُحاسب صاحبه على همساته ووساوسه، ولا يتركه حتى يعمل ما يضر أو يسوء.

«قيل للقدماء: لا تقتل، ومن يقتل وجب عليه العقاب. أمَّا أنا فأقول لكم: إنَّ من يغضب على أخيه باطلًا يأثم ويُجزى … فإن قدَّمت قُربانك وذكرت حقًّا لأخيك عليك، فدع قُربانك أمام المذبح، واذهب قبل فصالح أخاك.»

«وقيل للقدماء: لا تزنِ. أمَّا أنا فأقول لكم: إنَّ من ينظر إلى امرأة فيشتهيها فقد زَنَى بها في قلبه، فإن كانت عينك اليمنى تُلقي بك في العثرات فاقلعها، وألقها عنك، فخير لك أن يهلك عضو لك من أن تهلك كلك.»

«وقيل للقدماء: لا تحنث. وأمَّا أنا فأقول لكم: لا تحلفوا، وليكن كلامكم كله: نعم نعم، لا لا، وما زاد على ذلك فهو من الشيطان.»

«وسمعتم أنَّه قيل: عين بعين، وسن بسن. وأمَّا أنا فأقول لكم: لا تقابلوا الشر بالشر، ومن لطمك على خدك الأيمن فحول له الأيسر، ومن سخرك ميلًا واحدًا، فاذهب معه ميلين.»

«وسمعتم أنَّه قيل: تُحب قريبك، وتبغض عدوك. وأمَّا أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وادعوا لمن يُسيء إليكم ويطردكم، لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات، فإنَّه يطلع شمسه على الأشرار والصالحين، ويرسل غيثه للأبرار والظالمين. وأي أجر لكم إن أحببتم من يحبونكم، أليس العشارون يفعلون ذلك؟ فتعلقوا أنتم بالكمال، فإنَّ الله كامل، يُحب الكمال.»

هذه شريعة تهدم كُلَّ عرف قائم، وتعصف بكل شكل ظاهر، ولكنَّها لا تهدم النَّاموس، ولا تعصف بركن من أركانه، وقد تزيد فرائضه، ولا تنقص حرفًا منها، حيث تنقلها من الأوراق ومناظر العيان إلى الضمائر والقلوب؛ لأنَّ الإنسان يُحاسب نفسه إذا أحب حسابًا لا تُدركه الشرائع، ولا يطلع عليه القضاء.

وقد كان المصطدم بين الشريعتين حيث يتوقع وكما يتوقع، وكان السجال بينهما هو السجال الذي تمليه شريعة الحب والضمير، وشريعة الظواهر والأشكال، ولم تسقط من ذلك السجال كلمة كانت منظورة من دعاة الرياء والكبرياء، ولم يكن الجواب على كلمة منه عرضًا غير مقصود في وجهته، أو جزافًا يقوله كل قائل ويأتي لغير مناسبة، ومن ثم نقول إنَّ الشخصية التاريخية والدعوة المتناسقة لم تثبتا ببرهان أصدق من هذا البرهان، وإنَّ المصطدم بين الشريعتين لا يختلقه المختلق إن شاء؛ لأنَّه من وراء طاقة المختلق أنْ يلحق بطبيعة الشريعتين: شريعة الحب والضمير، وشريعة الرياء والكبرياء، ويدفع بهما حيث تندفعان، ويُملي عليهما ما تسألان عنه، وما تجيبان.

تلك معالم واضحة، ومقاصد بيِّنة معروفة المنحى، فإذا وقع اللبس مرة فليس أيسر من الحسم في مواضع اللبس على ذوي النية الحسنة، فكل ما وافق شريعة الحب والضمير وخالف شريعة الظواهر والأشكال فهو هنا، وكل ما مشى في سبيل الظواهر والأشكال وأعرض عن سبيل الحب والضمير فهو هناك، ولن يطول اللبس في معنى من معاني السيد المسيح إلا على عباد الألفاظ والنصوص، وليس من الإنصاف ولا من حسن الفهم أن تحكم الألفاظ والنصوص في الدعوة التي تزدريها وترجع بكل شيء إلى مقاصد الحب والضمير، ذلك كما قال السيد المسيح هو وضع الخمر الجديدة في الزق القديم، أو وضع الرقعة القشيبة على الثوب الرديم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤