قدرة المعلم

إذا انتشرت دعوة من الدعوات الكبيرة في العالم ثبت من انتشارها شيئان على الأقل، وهما أنَّ العالم كان عند انتشارها محتاجًا إليها، وكان مستعدًّا لسماعها، وهما شيئان مختلفان لا يذكران في معرض الترادف والتماثل؛ لأنَّ الحاجة إلى الدعوة كالعلة، والاستعداد لسماعها كالشعور بالعلة، أو كالاستعداد لطلب الدواء، وقد يتفقان في وقت واحد، وقد تُوجد العلة، ولا يوجد معها طلب الدواء ولا قبوله، إذا عُرض على العليل.

وجملة ما يُفهم من العصور التمهيدية التي لخصنا الكلام عليها فيما مضى أنَّ العالم في عصر الميلاد كان محتاجًا إلى الدعوة المسيحية، مستعدًّا لسماعها، سواء قصرنا الكلام على عالم إسرائيل، أو عممنا به العالم أجمع.

فعالم إسرائيل كان يُؤمن بالمسيح المنتظر، وبموعده في تلك الحقبة من الزمن، والعالم المعمور كان يُؤمن إيمانًا «سلبيًّا» بإفلاس الوثنية، وإقفار النفوس من الرجاء، وكان عامته في بؤس ويأس، وخاصته مستسلمين للمتاع، أو مستسلمين للتصوف، من كان منهم يفكر دان بالأبيقورية، أو دان بالرواقية، ومن كان مطبوعًا على التدين والبحث في شئون الغيب، دان بِنِحْلَة خاصَّةٍ من النِّحَلِ السِّرِّية التي تحل فيها المراسم والشعائر محل الفرائض والعبادات.

وقد يكون الكثيرون من الخاصة بمعزل عن الأبيقورية والرواقية والنِّحَل السرية، فَهُمْ إذن في حالة الخواء الذي يسبق الامتلاء، وأسلم ما يُقال عنه في صدد العقيدة المقبلة أنَّه لا يملك القوة على مقاومتها بقوة مثلها، وأنَّه قد يتفتح بقبولها فيكون شعور الخواء من أسباب الإقبال عليها والرغبة فيها.

كان العالم في عصر الميلاد محتاجًا للعقيدة مستعدًّا لسماعها، ما في ذلك ريب، ولكنَّه مع هذه الحاجة، وهذا الاستعداد لم يكن خليقًا أن يظفر بتلك العقيدة عفوًا صفوًا بغير جهاد من رسلها ودعاتها، وبغير كفاية عالية في أولئك الرُّسل والدُّعاة.

لم يكن احتياج العالم للعقيدة، ولا استعداده لسماعها مغنيًا للعقيدة عن أدوات الفلاح والنجاح، وأولها قدرة الداعي على كسب النفوس، واجتذاب الأسماع، والغلبة على ما يُقاومه من المكابرة والعناد.

وقد كانت هذه القدرة موفورة في مُعلِّم المسيحية، وبحق سُمِّي المعلم ونُودي به في مختلف المجامع والمحافل؛ لأنَّ مُهمته الكبرى كانت مُهمة تعليم وإحياء روحي حيوي من طريق التعليم.

نُودي المسيح بالمعلم فيما روته الأناجيل مرات؛ ناداه بهذا اللقب تلاميذه كما ناداه به خصومه، ومن يستمعون له غير متتلمذين وغير مخاصمين.

وكان نداؤهم له بهذا اللقب؛ لأنَّهم يجدون في كلامه علمًا واسعًا بالكتب والأسفار، وبديهة حاضرة في الاستشهاد بها، والتعقيب عليها، ويكفي ما بين أيدينا من الأناجيل للجزم بأنَّه كان يرتل المزامير، وكان يحفظ كتب أرميا وأشعيا وحزقيال، فضلًا عن الكُتب الخمسة التي نُسبت إلى موسى — عليه السلام — وفضلًا عن اختلاف المذاهب في تطبيق الوصايا والأحكام.

ويُرجِّح بعض المؤرخين أنَّه كان يعرف اليونانية، وأنَّ الحديث الذي دار بينه وبين بيلاطس كان بهذه اللغة؛ لأنَّ اليونانية كانت شائعة في عصره بين أبناء الجليل، وكان كثير من اليهود خارج الجليل لا يفهمون العبرانية ولا الآرامية، ويحتاجون إلى ترجمة الكتب المقدسة باللغة اليونانية، ومنهم من كان يحتاج إلى بيت المقدس في الأعياد، ومن أبناء الجليل اليهود من كانوا يُسافرون إلى الإسكندرية وبلاد الإغريق، لا يتفاهمون بغير اليونانية مع أبناء جلدتهم هناك، فلا غرابة في معرفة السيد المسيح باليونانية، كما كان يعرفها الكثيرون من أبناء الجليل، ولكنَّ المُحقق أنَّه كان يعرف العبرية الفُصحى التي تُدرَّس بها كتب موسى والأنبياء، وأنَّه كان يعرف الآرامية التي كان يتكلمها كلام البلغاء، وأنَّه إذا عرف اليونانية فإنَّما كانت معرفته بها معرفة خطاب ولم تكن معرفة دراسة؛ لأنَّ أقواله خلت من الإشارة إلى مصدر واحد من مصادر الثقافة المكتوبة بتلك اللغة، ولأنَّ العبارات التي جاءت في الأناجيل اليونانية منسوبة إليه تشف عن أصلها الآرامي بما فيها من الجناس، أو من قواعد البلاغة، وإيقاع الألفاظ.

على أنَّ هذا العِلْمَ كلَّه بالثقافة الموسوية الإسرائيلية لم يكن فريدًا بين أحبار اليهود في تلك الآونة، فربما كان في بيت المقدس يومئذٍ مئات من الكتبة والفريسيين حفظوا من تلك الكتب ما حفظ السيد المسيح، واقتدروا على الاستشهاد بها، والتعقيب عليها بعارضة قوية، وبديهة حاضرة، ولم تكن لواحد منهم كفاية المُعلِّم الذي يبث الحياة الروحانية في النفوس، وينفث في الخواطر تلك الراحة التي تُشبه راحة السريرة، حين تتناسق فيها الأنغام التي كانت متنافرة قبل أن تُجمع وتُصاغ.

لقد كانت اللغة التي حملت بشائر الدعوة الأولى لغة صاحبها بغير مُشابهة، ولا مُناظرة في القوة والنفاذ.

كانت لغة فذَّة في تركيب كلماتها ومفرداتها، فذَّة في بلاغتها وتصريف معانيها، فذَّة في طابعها الذي لا يُشبهه طابع آخر في الكلام المسموع أو المكتوب، ولولا ذلك لما أخذ السامعون بها ذلك المأخذ المحبوب، مع غلبته القوية على الأذهان والقلوب.

كانت في تركيبها نمطًا بين النثر المرسل والشعر المنظوم، فكانت فنًّا خاصًّا ملائمًا لدروس التعليم والتشويق، وحفز الذاكرة والخيال، وهو نمط من النَّظْمِ لا يُشبه نَظْم الأعاريض والتفعيلات التي نعرفها في اللغة العربية؛ لأنَّ هذا النَّمط من النَّظْمِ غير معروف في اللغة الآرامية ولا في اللغة العبرية، ولكنَّه أشبه ما يكون بأسلوب الفواصل المتقابلة والتصريعات المرددة التي ينتظرها السامع انتظاره للقافية، وإن كانت لا تتكرر بلفظها المعاد.

كان أسلوبه في إيقاع الكلام أسلوبًا يكثر فيه الترديد والتقرير، وليس في الترجمة العربية ما يدل عليه من قريب، ولكنَّها مع التأمل تدل عليه من بعيد، كما في هذا المثال:
اسألوا تعطوا.
اطلبوا تجدوا.
اقرعوا يفتح لكم.
لأنَّ من يسأل يأخذ، ومن يطلب يجد، ومن يقرع يفتح له الباب.
من منكم يسأله ابنه خبزًا فيُعطيه حجرًا.
أو يسأله سمكة فيعطيه حية.
أو يسأله بيضة فيعطيه عقربًا.

فإذا كنتم — وأنتم أشرار — تحسنون العطاء للأبناء، فكيف بالأب الذي في السماء يُعطي الروح القدس لمن يسألون.

أو كما في هذا المثال:
كما في أيام نوح كذلك يكون في أيام ابن الإنسان.
كانوا يأكلون ويشربون ويزوجون ويتزوجون، إلى اليوم الذي دخل الفلك وجاء الطوفان، وأهلك الجميع.
كذلك في أيام لوط كانوا يأكلون ويشربون ويبيعون ويغرسون ويبنون، ولكنَّ اليوم الذي خرج فيه لوط من سدوم أمطرت نارًا وكبريتًا من السماء فأهلك الجميع.
هكذا يكون في اليوم الذي يظهر فيه ابن الإنسان.
في ذلك اليوم من كان على السقف، وأمتعته في البيت، فلا يهبط إليها ليأخذها.
ومن كان في الحقل فلا يرجع إلى الوراء، ألا تذكرون امرأة لوط؟
من طلب الخلاص لنفسه يهلكها، ومن أهلكها يُحييها.
أقول لكم فاستمعوا: في تلك الليلة يكون اثنان على فراش واحد فيؤخذ أحدهما ويترك صاحبه.
وتكون اثنتان تطحنان، تؤخذ إحداهما وتترك الأخرى.
ويكون اثنان في الحقل يُؤخذ هذا ويُترك ذاك.
… حيث تكون الجثة هناك تجتمع النسور.
وقريب من هذين المثالين نذيره لأورشليم:
يا أورشليم! يا أورشليم!
يا قاتلة الأنبياء، وراجمة المرسلين.
كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها.
ولم تريدوا.
هو ذا بيتكم رهين بالخراب.
وقريب منه نذيره لبنات أورشليم.
يا بنات أورشليم!
لا تبكين عليَّ، وعلى أنفسكن وأولادكن فابكين.
أيام يقولون طُوبى للعواقر والبطون التي لم تلد والثدي التي لم تُرضع.
أيام يُنادون الجبال أن تسقط عليهم، والآكام أن تكون غطاءً لهم.
إن كان بالغض الرطب يصنع هذا، فباليابس ماذا يصنعون؟

هذه النماذج فيها بعض الدلالة على أسلوبه في تركيب اللفظ، وسياق النذير والتذكير.

أما أسلوب المعنى فقد اشتُهر منه نمط الأمثال في كل قالب من قوالب الأمثال، ومنه القالب الذي يعول على الرمز، والقالب الذي يعول على الحكمة، والقالب الذي يعول على القياس، والقالب الذي يعول على التشبيهات، وكلها تتسم بطابع واحد هو طابعه الذي انفرد به بين أنبياء الكتب الدينية بغير نظير، وإنْ كانوا قد اعتمدوا مثله على ضروب شتى من الأمثال.

فمن نماذج المثل الذي يعول على الرمز مثل الزارع والبذور «زارع خرج ليزرع، وفيما هو في الطريق سقط بعض البذور، فجاءت طيور السماء وأكلته، وسقط بعضها في مكان محجر خفيف التربة، فنبتت على الأثر، ثُمَّ لم يلبث أن أشرقت عليه الشمس فاحترق، وإذا لم يكن له عمق في جوف الأرض جفَّ، وسقط بعض البذور بين الشوك فطلع الشوك وخنقه فلم يُثمر، وسقط غيرها في الأرض الجيدة فأعطى ثمرًا يصعد وينمو، فأتى واحد بثلاثين، وآخر بستين، وآخر بمائة، من له أذنان للسمع فليسمع.»

ومن نماذجه مثل فتيات العرس: «يُشبه ملكوت السماوات عشر عذارى أخذن مصابيحهن للقاء العريس؛ خمس منهن فطنات، وخمس غافلات، أمَّا الغافلات فقد أخذن المصابيح ولم يأخذن معها زيتًا، وأما الفطنات فأخذن الزيت في آنيتهن مع المصابيح، وأبطأ مقدم العريس فغلبهن النُّعاس جميعًا، ثُمَّ علت الصيحة عند منتصف الليل: ها هو ذا العريس قد أقبل فاخرجن للقائه. فالتفتت الغافلات إلى مصابيحهن تنطفئ، وسألن زميلاتهن قليلًا من زيتهن، فأجبنهن: لعله لا يكفينا فاذهبن واشترين حيث يُباع. وفيما هنَّ ذاهبات قدم العريس … وصحبته الحاضرات المستعدات إلى محفل الزفاف، ثُمَّ جاءت الغائبات، وقد أغلق الباب وطفقن يُنادين: افتح لنا يا سيد، افتح لنا يا سيد. فأجابهن: من أنتن؟ إنِّي لا أعرفكن!»

ومنه قوله: «أنا خبز الحياة، من يُقبل عليَّ لا يجوع.»

ومن نماذج المثل الذي يعول على الحكمة: «لا تطرحوا الدُّرَّ أمام الخنازير.» «بالكيل الذي تكيلون يُكال لكم.» «أيُّها المُداوي داو نفسك.» «خمر جديدة في زقاق قديمة.» «لا تدع يسارك تعلم بما تصنع يمينك.» «من ثمارهم تعرفونهم.» «لا كرامة لنبي في وطنه.»

ومن نماذج المثل الذي يعول على القياس: «إن كُنتم تحبون من يُحبونكم فأيُّ فضل لكم؟ أليس ذلك شأن العشارين؟»

ومنه في تبكيت من يُنكرون عليه صحبة الخاطئين: «لا حاجة بالأصحاء إلى طبيب، إنَّما المرضى يحتاجون إلى الأطباء.» ومنه: «إنْ كان النور الذي فيك ظلامًا، فالظلام كم يكون!»

ومن نماذج المثل الذي يعول على التشبيهات خطابه لتلاميذه: «أنتم ملح الأرض، فإنْ فَسَدَ الملح فبماذا يصلح؟ إنَّه لا يصلح إذن إلا لأنْ يُلقى على التُّراب ويُداس، أنتم نور العالم، ولا خفاء بمدينة قائمة على رأس جبل، وما من سراج يُوقد ليوضع تحت المكيال، ولكنَّه يرفع على المنار يستضيء به جميع من في الدَّار.»

ومن نماذجه: «لا تكنزوا لكم كُنوزًا على الأرض حيث يفسد السوس والصدأ، وحيث ينقب السارقون ويسرقون، بل اكنزوا لكم كنوزًا في السماء حيث لا سوس ولا صدأ ولا لصوص. وحيث يكون الكنز يكون القلب.»

وقد أُثِرَ عن السيد المسيح في جميع الأمثال حُبُّ المقابلة بين الأضداد لجلاء المعاني، وتوضيح الفوارق من وراء هذه المقابلة: «يرون القذى في أعين غيرهم، ولا يرون الخشبة في أعينهم»، «يُحاسبون على البعوضة، ويبلعون الجمل»، «في الظاهر جدران مبيضة، وفي الباطن عظام نخرة»، «غني يدخل باب السماء كحبل غليظ يدخل في سم الخياط.»

ومُعظم هذه الأمثلة تأتي في مناسباتها عفو الخاطر، جوابًا عن سؤال، أو تعقيبًا على حادث عارض، أو تقريعًا لمكابر، فيندر أن يسترسل فيها المُعلِّم البصير إلى غير المُناسبة التي توحيها، ولهذا يُرجِّح بعض الشراح المحدثين أنَّ الأمثلة المتوالية في المقاصد المختلفة لم تصدر عنه في سياق واحد أو جلسة واحدة، وأنَّ الخطبة على الجبل — وهي أحفل الخطب بالمقاصد والموضوعات — جمعت من متفرقات كانت منجمة على حسب الموضوعات في أوقاتها ومناسباتها.

وإذا كانت طائفة من عظات السيد المسيح جاشت بنفسه في أوقات مناجاتها فانتظمت فيها كما تنتظم المعاني المنسوقة في البديهة الملهمة، فقد كانت سرعة البديهة تُسعفه في غير هذه الأحوال، فتجري كلماته في مجراها المألوف على نسق سهل قد يظن به التحضير؛ لأنَّه مُنتظم غير مُرسل، ولكنَّه في الواقع لم يكن محضرًا قبل ساعته، وغاية ما يعرض له من التحضير أنَّ الفكر الذي يجود به لم يخل قط من التَّفكير فيه، وأنَّه تعوَّد التفكير في المواقف المتشابهة، فانسبكت قوالب التعبير في بواطن قريحته غير مقصودة ولا مُتكلَّفة، وهي عادة يعرفها من تعوَّد التفكير والتعبير وحضور الشعور بينهم وبين الجماهير، وقد سمعت خطباء جادوا بأبلغ آياتهم الخطابية في لحظة من لحظات الارتجال الفياض بين الشعور المتجاوب والحماسة المنبعثة من القائل والمستمعين، فهم مرتجلون يُخيَّل إليهم قبل غيرهم أنَّهم يسمعون كلامًا معهودًا، ويوشك أن يتساءلوا: أين يا ترى سمعوه قبل الآن؟ والواقع أنهم نقلوه من وعيهم الخفي إلى وعيهم الظاهر، فكان شأنهم كشأن سامعيه في استغرابه، والواقع أيضًا أنَّ النَّاس حين يستمعون إليه يرونه غريبًا وقريبًا في وقت واحد: غريبًا لأنَّه كان يُساورهم ولا يدركونه، وقريبًا لأنَّهم تمثلوه بفضل بلاغة القائل بعد استعصائه على الإدراك.

•••

ومن كان كالسيد المسيح تربَّى مُنذ طفولته على التلاوة في كتب الأنبياء، وتتابعت على سمعه ولسانه أصداء المزامير المرتلة، والأمثال المرددة، واستقامت فطرته على الوحي والإيحاء فليس أقرب إليه من أنْ ينطلق بكلام يحيك في الأسماع بهاتف الصحف الأولى وهو من نبع فؤاده وإملاء بديهته، وهذه هي البديهة التي كان يعنيها حين يُوصي تلاميذه بالاعتماد على الطبع وترك الاهتمام بالتزويق والتنميق قبل الساعة التي تدعوهم دواعيها للخطاب.

ولعل سامعي العظات الدينية في عصر المسيح قد سمعوا الأمثال في قوالبها مرات كثيرة، ولعلَّهم كانوا يُعاودون سماعها كلما دخلوا معبدًا، أو استمعوا إلى خطيب في غير المعابد، فإنَّ نُقاد البيان العبري والآرامي يردون هذه الصيغ البيانية إلى عصور قديمة سبقت مولد المسيح بمئات السنين، فلم يكن المسيح مبدعًا للأمثال، ولا لقوالبها التي تعول على الرموز، أو الحكم، أو التشبيهات، أو منطق القياس، ولكنَّ الأمر المحقق أنَّ سامعي ذلك العصر لم يعرفوا قط أريحية كتلك الأريحية التي كانت تشيع في أطوائهم، وهم يصغون بأسماعهم وقلوبهم إلى ذلك المعلم المحبوب، الذي كان يُناجيهم بالغرائب والغيبيات مأنوسة حيَّة، يحسبون أنَّها حاضرة في أعماقهم لم تفارقهم ساعة أو بعض ساعة، لفرط ما كان يغمرهم من حضوره المشرق، ويستولي عليهم من عطفه الطيب وحنانه الطهور.

ومن البيان ما يروع ويهول ويخيل إلى سامعه أن يبتعد من مصدره كلما أصغى إليه، ومنه ما يجذب ويقرب ويخيل إلى سامعيه أنَّ كلَّ كلمة منه ترفع حاجزًا، أو تدني مسافة، وتزيل وحشة بين القائل والسميع. من هذا البيان كان بيان المُعلِّم المحبوب القدير على تقريب سامعيه بالعطف والإفهام، فمَن فَهِمَ قريبٌ، ومن لم يفهم غير بعيد، وفي وسعنا أن نتخيل أولئك المستمعين البسطاء يُقبلون على الاستماع وهم في ظلام الجهالة لا يدرون ماذا سيسمعون، ثُمَّ تتفتح في أذهانهم الخواطر، وتتفق فيها الأشباه، وتتبين الفوارق بين الأضداد؛ فينجاب الظلام سدفة بعد سدفة، ويعقبه النور قبسًا وراء قبس، ويُداخلهم على مهل شعور الأعمى الذي يسترد بصره مشدوهًا بالرؤية لأول مرة، أو شعور المُدلج الذي يصحب الليل من السحر إلى الصَّباح: هداية في رفق ورحمة، واقتراب في غير عناء ولا اقتحام.

في وسعنا أن نتخيل أولئك البسطاء يقتربون من معلمهم بالفهم والمعرفة، أو يقتربون منه بالعطف والمودة.

في وسعنا أنْ نتخيل من ثَمَّ فضل الرسول في الرسالة، فلا رسالة في الحق بغير رسول، ولا سبيل إلى قيام المسيحية بغير مسيح، فإنَّ مصدر الرسالة الروحية هو زبدتها وجوهرها، وهو الأصل الأصيل في قوتها ونفاذها، وكل ما عداه فروع وزيادات.

لقد كان لبُّ الرسالة المسيحية في لبِّ رسولها المسيح؛ هداية إنسان لا صولة له على أحد غير العطف والإلهام، ومكاشفة القلوب والأفهام، ولو لم يكن فضل الرسول هو فضل الرسالة، لقد كان يُوحنا هو الأولى بالسبق في الميدان؛ لأنَّه صاحب السبق في الدعوة، وصاحب السبق في الشهادة، ولكنَّها دعوة كانت تنتظر صاحبها، وصاحبها هو المسيح، وكانت حاجة العالم كلِّه إلى الدعوة المطلوبة لا تكفي بغير صاحبها القادر عليها، والصالح لإقامتها؛ لأنَّ صاحب الحاجة لا يملك بالبداهة ما هو محتاج إليه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤