الإنجيل

الإنجيل كلمة يُونانية بمعنى الخبر السعيد أو البِشارة، وقد تداول المسيحيون في القرن الأول عشرات النسخ من الأناجيل، ثُمَّ اعتمد آباء الكنيسة أربع نسخ منها بالاقتراع — أي بكثرة الأصوات — وهي: إنجيل مُرقس، وإنجيل مَتَّى، وإنجيل لوقا، وإنجيل يُوحنا، مع طائفة من أقوال الرُّسل المُدونة في العهد الجديد.

ويُرجِّح المؤرخون المختصون بهذه المباحث أنَّ الأناجيل جميعًا تعتمد على نسخة آرامية مفقودة يشيرون إليها بحرف «ك» مختزلة من كلمة كويل Quelle بمعنى الأصل، ومنهم من يُسمِّي هذه النسخة «لوجيا» Logia بمعنى الأقوال، ويُريدون بها الأقوال الشَّفوية التي سُمعت ثُمَّ كُتبت على القول الراجح عندهم باللغة الآرامية، ويعلِّلون اتفاق مَتَّى ولوقا في بعض النصوص باعتمادهما معًا على تلك النسخة المفقودة.
أمَّا الأناجيل الموجودة الآن فقد كُتبت جميعًا باليونانية العامة Koine، ولُوحظ في ترجمتها أنَّها تعتمد على نصوص آرامية، وتُحافظ على ما فيها من الجناس، وترادف المعاني، والمفردات، وتتفق الآراء على أنَّ هذه الأناجيل لا تحتوي على ما فاه به السيد المسيح، إذ جاءت في أعمال الرسل التي تضمَّنها العهد الجديد كلمة منسوبة إلى السيد المسيح لم ترد في الأناجيل، وهي: «تذكروا كلمات المسيح: إنَّ العطاء مغبوط أكثر من الأخذ»، وجاءت في الأناجيل الأخرى التي لم تعتمد كلمات من هذا القبيل، وكشفت أوراق بردية في مصر ترجع إلى منتصف القرن الثَّاني لا تُشبه الأناجيل المعتمدة في نصوصها.

وتتفق الآراء أيضًا على أنَّ نُسختين من الأناجيل كتبهما مسيحيان لم يجتمعا بالسيد المسيح ولم يسمعا منه، وهما: نسخة مُرقس التي دوَّن فيها ما سمعه من بطرس الرسول بغير ترتيب، وعلى غير قصد منه أن تُجمع في كتاب، وقد كتبها في رومة بعد مقتل الرسول، وليس معه أحد من التلاميذ، ويتراوح تاريخ كتابتها بين سنتي سبع وستين وسبعين.

والنسخة الأخرى هي نسخة لوقا صاحب بولس الرسول، دوَّن فيها ما سمعه منه، ولعله أضاف إليها جزءًا من النُّسخة المفقودة، ثُمَّ جزءًا من إنجيل مُرقس بعد اطِّلاعه عليه، وكانت كتابتها على الأرجح سنة ثمانين.

أما إنجيل يُوحنا فهو آخر الأناجيل كتابة ومُراجعة، وأكثر النُّقَّاد على أنَّه مكتوب بقلم يُوحنا تلميذ السيد المسيح، وآخرون يعتقدون أنَّها بقلم يُوحنا آخر كان من أفسس، ولم يرَ السيد المسيح؛ لأن يُوحنا تلميذ المسيح هو صاحب سِفْر الرؤيا المُؤلَّف على أصح الأقوال في سنة ستٍّ وتسعين، ولا يُظنُّ أنَّ مؤلفًا واحدًا يكتب في وقت واحد كتابين بينهما مثل ذلك التباين في المنهج والفحوى.

على أنَّ الأب فرار فنتون مُترجم الإنجيل «طبعة أكسفورد» يعن له أنَّ إنجيل يُوحنا هو أقدم الأناجيل، وأنَّه كتبه أولًا بالعبرية بين سنة ثلاثين وسنة أربعين، ثُمَّ نقله إلى اليونانية، ولكن تأخر الزَّمن الذي كتب فيه هذا الإنجيل ثابت من تفصيله بعض ما أجملته الأناجيل، وزيادته في التعبيرات الفلسفية، وتوسعه في شرح العقائد التي أثرت عن بولس الرسول، ولا يُظنُّ أنَّه كُتِبَ قبل سنة ستٍّ وتسعين.

والتَّرتيب المُفضَّل عند المؤرخين أنَّ إنجيل مُرقس هو أقدم الأناجيل، ثُمَّ يليه إنجيل مَتَّى فإنجيل لوقا، وهي الأناجيل الثلاثة التي اشتهرت باسم أناجيل المقابلة، لإمكان المقابلة بين ما فيها من الأخبار والوصايا على اختلاف الترتيب، مع العلم بأنَّها كُتبت في الأصل مُرسلة بغير أقسام، وبغير مواضع للوقت والإلحاق، ولم تُقسَّم إلى إصحاحات قبل القرن الثالث عشر للميلاد.

وليس من الصواب أنْ يُقال إنَّ الأناجيل جميعًا عمدة لا يُعوَّل عليها في تاريخ السيد المسيح؛ لأنَّها كُتبت عن سماع بعيد، ولم تُكتب من سماع قريب في الزمن والمكان، ولأنَّها في أصلها مرجع واحد متعدد النقلة والنساخ، ولأنَّها روت من أخبار الحوادث ما لم يذكره أحد من المؤرخين، كانشقاق القبور، وبعث موتاهم، وطوافهم بين النَّاس، وما شابه ذلك من الخوارق والأهوال.

وإنَّما الصواب أنَّها العمدة الوحيدة في كتابة ذلك التاريخ، ومواطن الاختلاف بينها معقولة مع استقصاء أسبابها والمقارنة بينها وبين آثارها، ورفضها على الجملة أصعب من قبولها عند الرجوع إلى أسباب هذا، وأسباب ذاك.

فإنجيل مَتَّى مثلًا ملحوظ فيه أنَّه يُخاطب اليهود، ويُحاول أن يُزيل نفرتهم من الدعوة الجديدة، ويُؤدي عباراته أداء يُلائم كنيسة بيت المقدس في منتصف القرن الأول للميلاد.

وإنجيل مُرقس على خلافٍ ملحوظٌ فيه أنَّه يُخاطب «الأمم»، ولا يتحفظ في سرد الأخبار الإلهية التي كانت تحول بين بني إسرائيل «المحافظين»، والإيمان بإلهية المسيح.

وإنجيل لوقا يكتبه طبيب، ويُقدِّمه إلى سَرِيٍّ كبير، فيُورد فيه الأخبار والوصايا من الوجهة الإنسانية، ويحضر في ذهنه ثقافة السري الذي أهدى إليه نسخته وثقافة أمثاله من العلية.

وإنجيل يُوحنا غلبت عليه فكرة الفلسفة، وبدأه بالكلام عن «الكلمة» Logos، ووصف فيه التجسد الإلهي على النحو الذي يألفه اليونان، ومن حضروا محافلهم، ودرجوا معهم على عادات واحدة.

وسواء رجعت هذه الأناجيل إلى مصدر واحد، أو أكثر من مصدر، فمن الواجب أنْ يدخل في الحسبان أنَّها هي العمدة التي اعتمد عليها قوم هم أقرب النَّاس إلى عصر المسيح، وليس لدينا نحن بعد قرابة ألفي سنة عمدة أحق منها بالاعتماد.

ونحن قد عولنا على الأناجيل، ولم نجد بين أيدينا مرجعًا أوفى منها لدرس حياة الرسول والإحاطة بأطوار الرسالة وملابساتها، ولكنَّنا نتبع في مراجعتها طريقة غير التي درج عليها مُؤرخو الوقائع والأخبار، فلا نُراجعها من حيث هي وقائع تاريخية، ولا من حيث المقاصد التي أرادها كتابها ورواتها، ولكنَّنا نجمع الوقائع والأخبار، ونسأل عمَّا وراءها من الإبانة عن شخصية الرسول، وفي هذه المراجعة تنفعنا الوقائع المستغربة، كما تنفعنا الوقائع المألوفة، وتهمنا الأغراض المقصودة وغير المقصودة. فهل وراء هذه الأخبار «شخصية متناسقة» مفهومة؟ إنْ كانت هناك علامات على تلك الشخصية المُتناسقة، فحسبنا ذلك من جميع الوقائع والأخبار، وعلينا أنْ نفهم هنا أنَّ النقائض في هذه المراجعة قد تكون من أسباب التصديق، ولا تكون من أسباب الشَّكِّ والإنكار، ثم يتأتَّى لنا أنْ نجعل هذه الشخصية نفسها محكًّا لكلِّ واقعة، ولكل خبر، ولكل كلمة مروية، فما خرج من السواء فهو فضول.

ومن الأمثلة على الاختلاف بين هذه الطريقة وبين طريقة المؤرخين الذين يطلبون الوقائع لذاتها أنَّ الغرائب هنا شيء يجب أن نبحث عنه، إنْ لم نجده ماثلًا بين أيدينا، فإنَّ خلوَّ هذا التَّاريخ من الغرائب هو الذي يُستغرب، وليس هو المألوف الذي يدعو إلى الترجيح أو اليقين. وهل يخلو من الغرائب سجل قوم يُؤمنون بها، ولا يشكُّون في وجودها؟

ونحب هنا أنْ نبيِّن موقفنا من الخوارق والمعجزات حيث وُجدت في تواريخ الأديان، فنحن نسأل: هل هذه المعجزة لازمة في تفسير مسألة من المسائل؟ فإنْ كان تفسير المسألة ميسورًا بغيرها، فلا حاجة بنا إلى الجدل في إمكانها أو استحالاتها؛ لأنَّ التَّفسير الذي يقبله كل إنسان يُغني عن التَّفسير الذي يضطرنا إلى امتحان الممكنات، وامتحان الرُّواة.

أما رأينا نحن في إمكان المعجزات فهو رأينا في إمكان جميع الأسباب، فإنَّ العقل قاصر على تعليل الحوادث بأسبابها، وليس من العقل أنْ يُقال: إنَّ هذه الأسباب المُسماة بالطبيعة هي العوامل الفعالة في إيجاد الأشياء، وأصحُّ ما يُقال فيها قول الغزالي — رحمه الله — إنَّ الأسباب والمسببات تحدث معًا، ولا تزيد علاقتها بعضها ببعض على علاقة المصاحبة والتوافق في الأوقات، وإلا لزم أنْ تكون المادة أُلوفًا من المادات، كل منها مستقل بخصائصه ومؤثراته وعلاقته بالمواد الأخرى، ولا يقول بذلك عقل سليم، فإذا كان العقل لا يُعلِّل الأسباب الطبيعية فمن الشطط أن يتعجل بإنكار المعجزات والجزم باستحالتها.

ومتى ناقشناها فلتكن مناقشتنا لها كمُناقشة الأسباب: هل هي لازمة لتفسير هذه المسألة؟ وكما نقول: هل هذا السبب لازم؟ نقول أيضًا: هل هذه المعجزة لازمة للفهم والتفسير؟ وبهذا القسطاس يجب أن تُوزن الحوادث، ويدرس تاريخ الأديان وغير الأديان.

ونحن لم نتعرض للمعجزات التي وردت في الأناجيل؛ لأنَّ تفسير الحوادث منساق لنا بغيرها، فليس في الأناجيل أنَّ مُعجزات الميلاد حملت أحدًا على الإيمان بالرسالة المسيحية بعد قيام السيد المسيح بالدعوة، وكثيرًا ما نقرأ فيها أنَّ المُعجزة لا تُقنع المُكابر، وأنَّ الجيل الشرير يطلب الآية ولا يعطاها، وأنَّ المُنكرين كانوا يُعجبون لما يرونه أحيانًا، ولكنَّهم كانوا يزعمون أنَّه مِنْ فعل الشَّيطان، بل كان من أسباب التعجيل بمصادرة المسيح أنَّه، كما قال الكهنة، يصنع كثيرًا من المعجزات.

وبعدُ، فمن الحق أنْ نقول: إنَّ مُعجزة المسيح الكبرى هي هذه المعجزة التاريخية التي بقيت على الزمن، ولم تنقض بانقضاء أيامها في عصر الميلاد: رجل ينشأ في بيت نجَّار في قرية خاملة بين شعب مقهور، يفتح بالكلمة دولًا تضيع في أطوائها دولة الرومان، ولا ينقضي عليه من الزمن في إنجاز هذه الفتوح ما قضاه الجبابرة في ضم إقليم واحد، قد يخضع إلى حين، ثُمَّ يتمرد ويخلع النَّير، ولا يخضع كما خضع النَّاس للكلمة بالقلوب والأجسام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤