الطوائف اليهودية في عصر الميلاد

كان العالم اليهودي في العصر الذي وُلِد فيه السيد المسيح يشتمل على طوائف مختلفة، لكل منها مذهبه في انتظار المسيح المخلص الموعود.

والتعريف بهذه الطوائف ضروري لتقرير مكان العقيدة الجديدة بين العقائد التي سبقتها في بيئات بني إسرائيل.

وضروري من جهة أخرى؛ لأنَّه — فيما نرى — أقوى دليل يُرَدُّ به على الناقدين المحدثين الذين ظهروا منذ القرن الثامن عشر، وجمحت بهم شهوة النقد والتشكيك، حتى جازوا الشَّك في النصوص والروايات، إلى الشك في وجود السيد المسيح نفسه، كأنَّه في زعمهم شخصية من شخصيات الأساطير، وتسقط دعوى هؤلاء الناقدين بمجرد الإحاطة بأصول المذاهب التي كانت معروفة في عصر الميلاد؛ لأنَّ الدعوة المسيحية كانت تعديلًا لكل مذهب من هذه المذاهب في ناحية من نواحيه، وكانت هذه التعديلات في جملتها تثوب إلى وحدة متماسكة من القواعد والمثل العليا، لا بد لها من «شخصية» مستقلة عن هذه المذاهب جميعًا، قادرة على عرض شعائرها وعقائدها على محك واحد متناسق الفكر والإيمان.

ونكتفي من الطوائف الدينية التي كانت معروفة في عصر الميلاد بخمس منها، وهي طوائف الصدوقيين والفريسيين والآسين والغلاة والسامريين، وكل طائفة من هذه الطوائف الخمس مهمة في تاريخ العصر بمزية من المزايا التي تتوقف عليها قوة المذاهب الدينية.

فالصدوقيون هم في دعواهم أتباع «صدوق» وأسرته الذين تواترت الروايات بأنَّهم كانوا يتولون الكهانة في عهد داود وسليمان.

وكانت طائفتهم مهمة بمراكز أصحابها؛ لأنَّهم على الجملة أنصار المحافظة والاستقرار، وأصحاب الوجاهة والثراء.

وقد كانوا متشددين في إنكار البدع والتفسيرات، متشبثين بالقديم يؤيدون سلطان الهيكل والكهان، ويقبلون أقدم الكتب التي احتوتها التوراة، وهي كتب موسى — عليه السلام — ويرفضون ما عداها، ولا سيما المأثورات المنقولة بالسماع.

وتدعوهم المحافظة على النظام القائم إلى مسلك يناقض عقيدتهم فيما هو ظاهر من لوازمها، فقد كانوا أقرب اليهود إلى الأخذ بالحضارة اليونانية وعادات المعيشة في البيئات الرومانية، ومنهم من كان يدين ببعض المذاهب الفلسفية؛ كمذهب أبيقور، كما كان مفهومًا في ذلك العصر، وقد كان الشائع عنه يومئذ أنَّه مذهب اللذة الحسية والمتعة بالترف والنعيم، ولكنهم في الواقع لا يناقضون سنتهم وسنة أمثالهم في كل زمن، فإنهم يُحافظون على نظام المجتمع؛ لأنَّهم أصحاب اليد الطولى عليه، ولهذا يحبون متاعه ونعيمه، ويوفقون بينهم وبين أصحاب السلطان السياسي، وقد كانوا يومئذٍ من اليونان والرومان، ويملي لهم في هذه النزعة أنَّهم يُؤمنون بأنَّ الكتب اليهودية الأولى لا تذكر البعث ولا اليوم الآخر، ولا تعِدُ الصالحين حياة بعد هذه الحياة، خلافًا للطوائف الأخرى التي تؤمن بالبعث والحساب.

وقد كانت الحملة على السيد المسيح بقيادة اثنين من كبار الكهنة الصدوقيين، وهما «حنانيا» و«قيافا»، ولم يكن في ذلك عجب؛ لأنَّ الصدوقيين جميعًا يُحافظون على سلطان الهيكل، ويُحافظون على النظام القائم، أو لا يستريحون إلى الثورة والانقلاب.

وخلاصة الآداب الصدوقية أنَّهم حرفيون في مسائل الدين، متوسعون في مسائل المعيشة، وأنَّهم يُعاشرون الأجانب، ولا يعتزلونهم كسائر أبناء قومهم؛ لأنَّ أعمالهم ومراكزهم متصلة بذوي السلطان.

وتقابل الصدوقيين طائفةٌ أخرى هي طائفة الفريسيين، وهي أقوى من الطائفة الصدوقية بكثرة العدد وشيوع المبادئ والآراء، وحسن السمعة بين سواد الشعب وعِلْيَة القوم الذين لا يُخالطون الأجانب، وإن لم يكن بين أفرادها كثيرون في مرتبة الرؤساء والوجهاء.

واسم الفريسيين مأخوذ من كلمة عبرانية تُقارب كلمة «الفرز» العربية في لفظها ومعناها، فهم المفروزون أو المتميزون، وخصومهم يُطلقون عليهم هذا الاسم تهكمًا وتحقيرًا؛ لاعتقادهم أنَّهم فرزوا أنفسهم عن السلف، واعتزلوا طريق الجماعة الأولى، أمَّا هم فقد كانوا يُطلقون لقب الفريسيين أو المفروزين على أنفسهم ويردونه إلى خطاب الله لبني إسرائيل جميعًا، كما يرونه في الإصحاح العشرين من سفر اللاويين، فهناك يُخاطب الله الشعبَ قائلًا: «وقد ميزتكم من الشعوب لتكونوا لي.» فهم عند أنفسهم المميزون المفضلون.

لهذا كانت تلازمهم في بعض الأحيان صفات الادعاء والتعالي التي تلازم كل طائفة تستأثر لنفسها بالمزيد بين الطوائف الأخرى، وكان بعضهم هدفًا لحملات السيد المسيح تنديدًا بما يُظهرونه من الثقة والكبرياء.

على أنَّهم كانوا يُقابلون بهذه الكبرياء كبرياء الوجاهة والثروة التي كانوا يستنكرونها على خصومهم الصدوقيين، وكانوا يثورون على السلطان «الرسمي»، حيث كان في الهيكل أو في المراجع الأجنبية، فكانوا ينكرون على الكهان استبدادهم بالشعائر والمراسم، وينكرون في الوقت نفسه عادات الأجانب والمتشبهين بهم محاكاة للحكام والمتسلطين.

وقد كانت ثورتهم الأولى على البدع الأجنبية التي كانوا يرفضونها كل الرفض، ولا يُسامحون من يقبلها، فلما أمر الملك «أنطيوخس» كاهن الهيكل أن يُضحِّي في مذبحه بالخنازير (سنة ١٦٨ قبل الميلاد) قاموا قيامة رجل واحد، وعرضوا أنفسهم للموت بالمئات والألوف كراهة لهذه البدعة النجسة، وحدث في عهد الرومان أن الوالي «بترونيوس» عجب من عنادهم في مقاومة الدولة الرومانية مع ضعفهم وقوتها، فسأل زعماءهم: كيف يخطر لكم أن تُحاربوا قيصر ولستم أكفاء لقوته؟! فقالوا: نحن لا نُحارب قيصر، ولا نزعم أننا أكفاء لقوته، ولكننا نموت على بكرة أبينا، ولا نُخالف الشريعة، وكشفوا رقابهم مستعدين لإثبات ما يقولون.

ومن نقائضهم أنَّ ثورتهم على استبداد الهيكل، ورغبتهم في تعميم الشعائر التي كانت محصورة في المحاريب هي التي دعتهم إلى إقامة هذه الشعائر في البيوت بغير حاجة إلى الكهان المرسومين، ولكنَّهم لم يلبثوا أن جعلوا من كل بيت هيكلًا مقدس المراسم، فكانوا على ميلهم إلى السماحة ومقاومة الاستبداد «الرسمي» أشد من المتشددين.

إلا أنَّ الغالب عليهم حين يبتعدون عن الأمور التي تتعرض لهذه النقائض أنَّهم أقرب إلى التصرف والقياس، أو أقرب إلى تحكيم العقل في مسائل النصوص والتقاليد، فكان الصدوقيون مثلًا يصرون على شريعة العين بالعين والسن بالسن ولا يقبلون الدِّية، وكان الفريسيون على عكس ذلك يفضلون الدِّية والمسامحة على القصاص، وكان الصدوقيون أقرب إلى المادية والقواعد العملية، وكانوا هم أقرب إلى الروحانية والآداب النظرية، أو آداب التأمل والتفكير، وقد كان إنكار البعث والحياة الروحية أشد ما ينكرونه على خصومهم الصدوقيين، ومن أجل هذا سبقوهم مراحل إلى انتظار الخلاص، أو انتظار المسيح المخلص في عالم الروح، غير مقيد بشروط الصولة والصولجان.

وإذا وصف الصدوقيون على الإجمال بأنَّهم طبقة «الأرستقراطيين»، فالذين يستحقون وصف الديمقراطيين دون غيرهم من طوائف اليهود في ذلك العصر؛ هم الفريسيون.

وقد جاء عصر الميلاد وهم ينقسمون إلى فريقين: فريق منهما يتبع الحكيم «هلل» الذي قدم إلى فلسطين من بابل، وهو الفريق السمح الودود في معاملة الأجانب؛ والفريق الآخر يتبع الحكيم «شماي»، وهو أقرب إلى التحرج والتضييق، ورد الراغبين في دخول الدين من غير اليهود، وكان شعار هلل الاعتدال بين الزهد والمتاعة، وكلمته المأثورة: «إنَّ الزيادة في اللحم زيادة في الدود.» وشريعته في المعاملة أنَّ الشريعة كلها كلمة واحدة، وهي ألَّا تُصيب أحدًا بما تكره أن تُصاب به، وكل ما عدا ذلك من الأحكام المنزلة فهو تفسير وتفصيل، وأمَّا الحكيم شماي فقد كان الاعتدال بين الزهد والمتاع أكثر مما يطيق، وروي أنَّه كان يحترف التجارة ليعيش من كسب عمله، وأنَّ غيرته على القديم كانت أقوى من إقباله على التجديد والتصرف في تأويل النصوص.

والقول الراجح بين المؤرخين أنَّ مُعلمي السيد المسيح في صباه كانوا من طائفة الفريسيين.

•••

والطائفة الثالثة التي تقل عن هاتين الطائفتين في العدد كثيرًا، وتساويهما أو تزيد عليهما في القوة والأثر هي طائفة الآسين أو الآسينيين كما يكتبها رواة الأخبار عنها في عصر الميلاد.

عددها كما قدره المؤرخ يوسفيوس والفيلسوف فيلون لا يزيد على أربعة آلاف، يعيش أكثرهم في جنوب فلسطين.

ومصدر قوتهم صرامة العقيدة وتنظيم الخطة، وقد تكون دلالتهم أعظم من قوتهم؛ لأنَّهم طائفة من صميم الأمة الإسرائيلية قد استقلت بشعائرها، وعباداتها، وآرائها، وأسرارها، وأوشكت أن تستقل عن «الهيكل» كلِّه في علاقتها بالدين والقومية، ولولا أنَّها تعترف بتقريب القرابين في الهيكل لما حسبت من طوائف اليهود، ولكنَّها مع هذا تنكر ذبح الحيوان، ولا تقرب القرابين من غير النبات.

واسم هذه الطائفة مختلف عليه، ولكنَّ الراجح من الأقوال المتعددة أنَّ الاسم مأخوذ من كلمة «آسي» بمعنى الطبيب أو النطاسي في اللغة الآرامية، وهي تفيد هذا المعنى في اللغة العربية التي تُعد اللغة الآرامية أقرب اللغات السامية إليها، ومن المعقول أن يتسمى أصحاب هذا المذهب بالآسين؛ لأنَّهم كانوا يتعاطون طب الروح، ويدعون إبراء المرضى بالصلوات والأوراد، كما يدعون العلم بخصائص العقاقير.

وقد نشأت الطائفة على الأغلب بالإسكندرية في القرن الثاني قبل الميلاد، واقتبست من المدارس الإسكندرية كثيرًا من أنظمة العبادات السرية، وبعض المذاهب الفلسفية، كمذهب فيثاغوراس الذي يُحرِّم ذبح الحيوان، ويدعو إلى التقشف والقناعة بالقليل.

وكان حرامًا عند أبناء هذه النِّحلة أن يملك أحدهم ثوبين، أو زوجين من النعال، أو يدخر الأمتعة والأقوات، وكانت الرهبانية غالبة عليهم إلا من أذن له بالزواج، ويُعفَى من قيود النسك والبتولة.

وكانوا ينتظمون في النِّحلة على ثلاث درجات: درجة التلمذة، ويقبلون فيها الصبيان فيما دون الحلم؛ ثم درجة المقسمين، وهم الذين يُقسمون اليمين، ويقضون سنة في الرياضة والتدرب على العبادة والاطلاع على الأسرار؛ ثم ينقل المريد إلى درجة الواصلين ويقضي فيها سنتين، ثم يلبس شعار الطائفة وهو ثوب أزرق وزنار، ويحمل الفأس في يده، كناية عن العمل الشاق، ولهم بين المرحلة الأولى والمرحلة الثانية شعائر متواترة يقوم بها الأساتذة، منها الاغتسال، وتلاوة بعض العهود، ويقسم أحدهم مرة واحدة يمين الأمانة والمحافظة على سر الجماعة، ويحرم عليه القسم بالحق أو بالباطل مدى الحياة، ويجوز فصل العضو بعد رسمه إذا حنث في يمينه، واتفق مائة من الإخوان على إدانته، بل يجوز الحكم عليه بالموت؛ إذ بلغ الحنث حد الخيانة والكفر بقواعد الإيمان.

وهم يتطهرون من الحدث، ويصلون عند الفجر، ويحصلون على الراحة في يوم السبت، ومنهم من لا يستبيح في ذلك اليوم إزالة الضرورات.

وليس بينها رئاسة ولا سيادة، والرق عندهم حرام، وعملهم المفضل الزراعة والصناعة اليدوية، أما التجارة، فهي في مذهبهم عمل خبيث أو غير لائق، وأخبث منها حمل السلاح للقتال.

والمادة عندهم مصدر الشر كله، والسرور بها سرور بالدنس والخيانة، وكان يغلب عليهم من أجل هذا وجوم الصمت والندم، وكل ما يباح لهم من السرور فهو سرور الروح أو سرور الاتصال بعالم الأرواح، وهو عالم سماوي في أعلى الأثير يرتفع إليه المؤمن بالعبادة والرياضة والقنوت.

وكانوا يتآخون ويصطحبون اثنين اثنين في رحلاتهم، وقلما كانوا يُشاهدون في المدن الآهلة بالسكان أو في الأحياء التي يرتادها القصاد للفرجة وإزجاء الفراغ.

وهم مؤمنون بالقيامة والبعث ورسالة المسيح المخلص، معتقدون أنَّ الخلاص بعث روحاني يهدي الشعب حياة الاستقامة والصلاح، ورائدهم في طلب الرضا من الله هو النبي عاموس، الذي كان يعلم الشعب أنَّ التقرب إلى الله بالعدل والرحمة خير من التقرب إليه بالذبائح والهدايا.

ولا يبعد أن يكون الغلاة أو الجليليون أتباع يهودا الجليلي فرقة متطرفة من فرق الآسين؛ لأنَّهم يسلكون مسلكهم في التقشف والقناعة، ويزيدون عليهم بالحض على العمل؛ لتحقيق النبوءات، وتقريب يوم الخلاص، وهم الذين ثاروا ونظموا العصابات في السنة السادسة أو السابعة قبل الميلاد، وتمردوا على أمر الإحصاء الذي صدر من «كرينياس» حاكم سورية، وأصبح اليهود بموجبه معدودين في رعايا قيصر، أو عبيده الذيم يدينون له بالسيادة، وحجتهم أنَّ طاعة القيصر من عبادة الأوثان، وأنَّ إحصاء الشعب لاعتباره من عبيد القيصر مروق به من الديانة، ولمَّا رفع الملك هيرود تمثال النسر القيصري فوق هيكل بيت المقدس ذهب اثنان من الغلاة إليه، وانتزعاه عنوة، وأنذر إخوانهما من يعيده إلى مكانه بالموت، وقد ثار هؤلاء في سنة الإحصاء بقيادة يهودا الجليلي، ومات هو وأبناؤه وذووه في إبان الثورة، وكانت الدولة الرومانية تُحذِّر الفتنة في هذه البقعة المتوسطة بين القارات الثلاث، فكانت تؤثر التقية والمداراة في معاملة الثائرين، ولا تأخذهم بالقمع والسطوة إلا إذا ضاقت بها سبل الحلم والأناة.

•••

والطائفة السامرية خليط من اليهود والآشوريين، كانوا يُقيمون في مملكة إسرائيل القديمة، يُقال إنَّهم قبائل آشورية أرسلها ملوك بابل إلى فلسطين؛ ليسكنوها في أماكن القبائل اليهودية التي نفيت إلى ما بين النهرين، وسميت من أجل ذلك بسبايا بابل، ويُقال إنَّهم اختلطوا باليهود الذين بقوا في بلادهم، ولم تحملهم الدولة البابلية إلى بلادها مع القبائل المسبية، فوقع من هذا الاختلاط في السكن والنسب اختلاط في العادات والعبادات، وعاد اليهود الذين رجعوا من السبي بعد سقوط بابل فأنكروا من السامريين شعائرهم المخالفة لتقاليدهم واتهموهم بعبادة الأوثان، ورفضوا مشاركتهم في بناء الهيكل الجديد، فعمد السامريون إلى بناء هيكل خاص لهم في جرزيم، وجعلوا يتعمدون أنْ يُدنسوا هيكل بيت المقدس، ويحصروا القبلة في هيكلهم ومثابة حجهم وعبادتهم، وقد بقي منافسًا لهيكل بيت المقدس زهاء مائتي سنة، حتى هدمه رئيس كهان بيت المقدس حناهير كانوس قبل الميلاد بأكثر من مائة سنة، ولكنهم أعادوا بناءه، وظلَّ قائمًا حتى هدمه الرومان بعد ثورة السامريين في القرن الخامس للميلاد، وقد هدم فسباسيان مدينتهم، وأقام على أنقاضها مدينة سماها المدينة الجديدة «نيوبوليس» أو نابلس المعروفة اليوم، ولا تزال بقايا السامريين تحتفظ بتقاليدها، وتعتمد على نسخة التوراة المكتوبة بلغتها، ولا تعترف بكتاب بعد الكتب الخمسة التي تعرف بالكتب الموسوية، ولا تدين بعاصمة مقدسة غير موطن هيكلها المهدوم جرزيم، وقد استحكم العداء بين أصحاب الهيكلين في عصر الميلاد حتى بطل الأمان في السفر بين السامرة والبلاد الأخرى، وتعرض للإهانة والنكال كل من خاطر بالسفر إلى السامرة من يهود الجنوب أو الشمال.

•••

ومن المحقق أنَّ هؤلاء السامريين كان لهم شأن في تطور الفكرة المسيحية، أو فكرة الخلاص المنتظر على يد الرسول الموعود، ويرجع شأنهم هذا إلى النزاع القديم بين مملكة يهوذا في الجنوب ومملكة إسرائيل التي ورثها السامريون، وهم ينتسبون إلى يعقوب، ويدَّعون أنَّهم — دون غيرهم — الجديرون باسم «الإسرائيليين».

فإذا اعتقد أصحاب مملكة يهودا في الجنوب أنَّ عاصمتهم — بيت المقدس — هي مقر الملك المنتظر، وأنَّ هذا الملك المنتظر سيكون من سلالة داود، فهذا الاعتقاد يرضيهم ويرد المجد إلى دولتهم، ويجعل الخلاص على أيديهم، ولكن السامريين أبناء الشمال كانوا يلجون في عدائهم لداود وذريته، ويثيرون النزاع القديم بين الأسباط، وينكرون على الأقل عقيدة الخلاص على يدي ملك من أسرة الملك في يهودا، ويفتحون بذلك السبيل إلى الإيمان بالخلاص الروحاني والهداية الشعبية، ويزعزعون الثقة في أحبار الهيكل الجنوبي، وفيمن عسى أن يُبايعوه بالملك، إذا حان الموعد المقدور.

ولم تخل البلاد جميعًا — مع هذا — من ناس هنا وهناك يئسوا من جميع الطوائف والنِّحل، واعتزلوا الدنيا، وعاشوا في الصوامع بمعزل عن العمران، وارتفع شأنهم في أعين الشعب؛ لسوء ظنه بالدعاة المغامسين للدنيا في بيئات الساسة والكهان، ومن هؤلاء «بانوس» الذي تتلمذ عليه يوسفيوس المؤرخ الكبير ثلاث سنوات، وكان هذا الناسك الثائر يعيش في عزلة، ويأكل مما يتفق له بغير سعي ولا مسألة، ويكثر من التطهر بالماء، والتزكي بالرياضة والتلاوة، وكان على مثال بانوس نساكٌ متعددون يُشبهونه في شعائر الاعتزال والاغتسال، وأشهرهم يحيى المغتسل المعروف في الأناجيل باسم: يوحنا المعمدان!

أما موقف الهيكل من هذه الطوائف والفرق فهو الموقف «الرسمي» المعهود، أو موقف المسئولين الذين يُحاولون أن يتجنبوا التحيز لهذا أو لذاك، ويجتهدون غاية اجتهادهم أن يكسبوا ثقة الشعب، ولا يغضبوا سلطان الدولة، وقلَّما يتيسر النجاح في هذه المهمة، ولا سيما في أوقات القلق والتطلع والتبرم بكل موجود.

كان الهيكل خيمة في عهد البداوة، وكان الشعب يعتقد قديمًا أنَّ الله يتجلى في هذه الخيمة للأنبياء والكهان، ثم بنيت الخيمة من خشب يفك وينقل في أيام التيه، ثم أقام سليمان الحكيم هيكله بديلًا من الخيمة والمعبد الخشبي، وقيل إنَّه أنفق على بنائه مائة ألف وزنة من الذهب، وألف ألف وزنة من الفضة، غير ما جمعه أسلافه وأعقابه، وبلغت تكاليف بنائه بحساب أيامنا الحاضرة نصف مليار من الجنيهات، وضعف ذلك في حساب الآخرين، حسب تقدير المثقال في المعاملات الرسمية وغير الرسمية، وعظمت هيبة الهيكل، وارتفعت أقدار كهانه وأحباره ردحًا من الزمن، ثم هدمه البابليون بعد أنْ قام في مجده أكثر من أربعة قرون، ثم أمر كورش الفارسي بإعادة بنائه في سنة ٥٣٦ قبل الميلاد، وجاء الملك هيرود بعد خمسة قرون فجدد بناءه وأضاف إليه، وتم ذلك أو كاد في عصر الميلاد.

لكن الهيكل بعد تقلب العصور، وسيطرة الدولة على مناصب الكهانة، خسر من المكانة بمقدار ما كسب من الفخامة، وبدأ عصر الميلاد وسلطان الهيكل يتداعى في الحقيقة الواقعة، ويتمكن في الصورة الظاهرة؛ يتداعى لأنَّه يقوم على غير ثقة، ويتمكن لأنَّه كان الموئل الوحيد الذي بقي لقومه بعد زوال ملكهم واليأس من إعادة ذلك الملك، مع غلبة الرومان على المشرق والمغرب في عصر الميلاد.

•••

وقد كانت وظائف الهيكل كلها محصورة في أصحاب الكهانة، وهي وظيفة دينية كانت موقوفة على سلالة هارون أو قبيلته، يتولاها غيرهم من أسباط اليهود، ومن أعمالهم في الهيكل إمامة الصلاة، والإفتاء في مسائل الفقه، وتقديم الذبائح، والخدمة الدينية في الأعراس والمآتم، والعناية بالآنية المقدسة، وقد تزايد عددهم مع الزمن حتى قيل: إن القائد رزبابل (أي المولود في بابل) كان معه عند عودته من البلاد البابلية نحو أربعة آلاف وثلاثمائة كاهن غير السابقين والمتخلفين، ولهذا كانوا يقسمونهم إلى فرق، تقوم كل فرقة منها بالخدمة أيامًا من الشهر، ويقتسمون جميعًا في النذور والمرتبات.

ولما تطاول الزمن وتكاثرت ذرية هارون، وُجد منهم ألوف بغير علم وبغير عمل، يتعاطون صناعة الكهانة، ويقتسمون النذور، ولا يشتركون في تعليم الشعب، ولا في إقامة الصلوات، ووجد إلى جانبهم أناس يعرفون الكتابة، ويسجلون الأسفار الدينية، ولا نصيب لهم من وظائف الهيكل ولا نذوره وأوقافه، وهؤلاء هم جماعة «الكتبة» أو فقهاء الدين، وكانوا جميعًا من الفريسيين؛ لأنَّهم هم الذين يقبلون الأسفار الحديثة، ويعتمدون عليها في العبادات والمعاملات، خلافًا للصدوقيين الذين كانوا — كما تقدم — يقصرون تلاوتهم على الكتب الموسوية الخمسة، ويرفضون كتب الأديان من بعدها، ولا يعتمدون من ثَمَّ على جماعة الكتبة والفقهاء.

فلما جاء عصر الميلاد كان كثير من الكهان يشتركون في صناعة الكهانة، ولكنهم لا يعملون في الهيكل، وكان كثير من الكتبة والفقهاء يشتركون في العلوم الدينية، ولكنهم لا يحسبون من رؤسائه الوراثيين، وشاع بين الشعب إهمال الكهان في المسائل الدينية التي تحتاج إلى التعليم والإفتاء على الخصوص، وشاع بين الشعب كذلك الإقبال على العلماء «غير الوراثيين أو غير الرسميين» لسؤالهم في المعضلات، والاقتداء بهم في مسالك الحياة، فأصيبت المكانة «التقليدية» بضربة قوية، وانفسح الطريق للدعوة الدينية غير مصحوبة بالمراسم «الكهنوتية»، والشعائر «الهيكلية» على الخصوص.

وولد السيد المسيح ووظائف الهيكل على أشهر الروايات مصفاة في المجمع المقدس الذي يطلق عليه اسم «السنهدرين»، وعدة أعضائه واحد وسبعون عضوًا، منهم ثلاثة وعشرون يتألف منهم المجلس المخصوص، وتغلب عليهم الصبغة الرسمية التقليدية، ويتصل أعضاؤه برجال الدولة في الشئون العامة، وما يرجع منها إلى تنفيذ الأحكام، والمحافظة على الشريعة المحلية أو الشريعة الموسوية.

وعلى حسب المألوف يُحاول أصحاب المناصب في «السنهدرين» أنْ يرجعوا بأصله إلى أقدم العهود، وكانوا يزعمون أنَّه هو المجلس الذي ورد ذكره في سفر العدد إذ يقول: «فقال الرب لموسى: اجمع إليَّ سبعين رجلًا من شيوخ إسرائيل الذين تعلم أنَّهم شيوخ الشعب وعرفاؤه، وأَقْبِل بهم إلى خيمة الاجتماع، فيقفوا هناك معك، فأنزل أنا وأتكلم معك، وآخذ من الروح الذي عليك وأضع عليهم؛ فيحملون معك ثقل الشعب فلا تحمله أنت وحدك.»

غير أنَّ المراجع التاريخية، ومراجع الكتب الدينية نفسها تخلو من ذكر السنهدرين، إلا إشارة عابرة هنا وهناك لا يستفاد منها تقدير عدده، ولا تفصيل حقوقه ووظائفه، ومما لا ريب فيه أنَّ المجلس الذي كان في عهد السيد المسيح قد سلب حق الحكم في الجرائم الكبرى قبل هدم الهيكل الثاني بنحو أربعين سنة، وكانت أحكامه الكبرى في أيام المسيح معلقة على إقرار الحاكم الروماني يبرمها أو ينقضها حين يشاء.

وإذا نظرنا إلى موقف هذه الهيئة من بشرى «المسيح المنتظر» لم نكد نرى فيها باعثًا إلى الترحيب بتلك البشرى؛ لأنَّها تتضمن الحكم بفساد الزمن كله، واليأس من صلاحه، واتهام القائمين على شئون الدين بين أهله، ولكنَّها مع هذا لا تستطيع أن تتنكر لهذه الدعوة؛ لأنَّها هي باب الأمل الوحيد في وجه المؤمنين والمترقبين، فهي في موقف الخائف من رجاء الشعب كله أن يتحقق على غير يديه، أو موقف من يتأهب للبطش بالدعوة على قدر الإقبال عليها، ومخايل الأمل في شيوعها وانتشارها، وهي إذا انتشرت لم يكن انتشارها في مثل ذلك العهد مقصورًا على الدهماء دون غيرهم؛ لأنَّ الفقهاء والعلماء والمتعلمين كانوا من الفريق الذي يستريب بالكهان، ولا يأتي أن يصدق فيهم أنَّهم كهان فاسدون مفسدون؛ لأنَّهم آخر الزمان الذين تدركهم صيحة النذير، وينصب لهم ميزان الحساب.

ولا يُستوفَى الكلام على القوى الدينية التي كان لها عمل محسوس في موطن السيد المسيح، فقبل ميلاده — عليه السلام — بغير الإشارة إلى طائفة النذريين أو المنذورين الذين وهبوا أنفسهم أو وهبهم أهلوهم لحياة القداسة وخدمة الله والتبشير باليوم الموعود؛ يوم الخلاص من الظلم والجور والتطهر من الذنوب.

ولم يكن هؤلاء النذريون طائفة تجمعها الوحدة التي تجمع بين أصحاب النِّحل والمراسم الاجتماعية، ولكنَّهم كانوا آحادًا متفرقين ينذر كل منهم نفسه، أو ينذره أهله على حدة، ولا ينتسبون إلى جماعة واحدة غير جماعة الأمة بأسرها.

والكلمة باللغة العربية ترجع إلى مادة تُفيد معنى التجنيد، واستعيرت على ما يظهر للجهاد في سبيل الدين، يُقال نذر الجيش الرجل؛ جعله نذيره؛ أي طليعه، وربما كان من عمله أن ينذر قومه بالعدو، ويبعدهم عن المخاطر والمفاجآت، ولا شك أنَّ المادة تدور حول هذا المعنى في العبرية مع اختلاف الحروف والأوزان.

ولا يُشترط في النذري أو المنذور أن يهجر العالم، ويعتزل الناس في الصوامع، ولكنَّه يُراض على حياة التنطس، فلا يجوز له شرب الخمر، ولا أن يُدنس جسده بملامسة الموتى أو الأجسام المحرمة، وعليه أن يُرسل شعره، ولا يحلقه قبل وفاء نذره إن كان منذورًا لأجل مسمى، وقد ينذر الطفل قبل مولده، ويمتد نذره طول حياته، ويُقال عن المنذور إنَّه بمثابة النبي في سن الفتوة، قال النبي عاموس بلسان يهوا إله بني إسرائيل: وأقمت من بينكم أنبياء، ومن فتيانكم نذيرين، لكنكم سقيتم النذيرين خمرًا، وأوصيتم الأنبياء أن يدعوا النبوءة. والنبوءة هنا بمعنى الإنذار بما سيكون.

وقد تكاثر النذيرون قبيل مولد المسيح؛ لأنَّه وافق نهاية الألف الرابعة من بدء الخليقة على حساب التقويم العبري، وهو الموعد الذي كان منتظرًا لبعثة المسيح الموعود؛ لأنَّهم كانوا ينتظرونه على رأس كل ألف سنة، ومنهم من كان يقول إنَّ اليوم الإلهي كألف سنة كما جاء في المزامير، وإنَّ عمر الدنيا أسبوع إلهي، تنقضي ستة أيام منه في العناء والشقاء، ويأتي اليوم السابع بعد ذلك كما يأتي يوم السبت للراحة والسكينة، فيدون ألف سنة كاملة، هي فترة الخير والسلام قبل فناء العالم، ولا يزال الغربيون يعرفونها باسم الألفية Mellinnium ويطلقونها على كل عصر موعود بالسعادة والسلام.

فالذين قدروا أنَّ القيامة تقوم بعد سبعة آلاف سنة من بدء الخليقة كانوا يُؤجلون قيام ملكوت السماء على الأرض إلى نهاية الألف السادسة، ويومئذ تسود دولة المسيح الموعود، ولكنَّهم كانوا كغيرهم في انتظار رسول من عند الله، كلما انتهت ألف سنة من بدء الخليقة، وكانت بداءة الألف الخامسة موعدًا منظورًا أو منذورًا، يكثر فيه النذيرون، لعلهم يحسبون من جند الخلاص، أو لعل واحدًا منهم يسعده القدر فيكتب الخلاص على يديه.

والمهم في أمر النذيرين بالنسبة إلى السيد المسيح أنَّ النبي يحيى المغتسل (يوحنا المعمدان) كان علمًا من أعلامهم المعدودين، وكان السيد المسيح يعتمد على يديه، أو يأخذ العهد عليه، وأنَّ بعض المؤرخين يحسب السيد المسيح من النذيرين، ويلتبس عليه الأمر بين النذيري والناصري، وهما في اللفظ العبري متقاربان، ومن هؤلاء المؤرخين من يزعم أنَّه لم يكن من الناصرة، بل يزعم أنَّ الناصرة لم يكن لها وجود؛ لأنَّها لم تذكر قط في كتب العهد القديم، ولكنَّ الأرجح في اعتقادنا أنَّ الناصرة نفسها كانت تُسمَّى نذيرة: بمعنى الطليعة، عندما كانت على تخوم الأرض التي فتحها العبريون قديمًا، وأنَّها كانت مرقبًا صالحًا للاستطلاع؛ لأنَّ التلول التي تُحيط بها تكشف جبل الشيخ والكرمل والمرج المعروف باسم مرج ابن عمير، وبهذا تزول الصعوبة التي اعترضت المفسرين الغربيين على الخصوص، ولا سيما الناظرين في اللغة اليونانية، لغة الأناجيل، فلا عجب أنْ يضلوا مع التصحيف اللساني فلا يفرقوا بين النسبة إلى المنذورين، والنسبة إلى النذيرة، وبخاصة إذا كان اسم البلدة قد عرض له التصحيف على ألسنة العبريين والغرباء على طول الزمن، فنطقوه تارة بالصاد وتارة بالسين.

وليس النذيرون طائفة موحدة كما أسلفنا، ولكنَّهم ينتمون إلى كل مذهب يوافق حمية الشباب، وهذا جعلهم قوات ذات بال في عصر الميلاد خاصة؛ لأنَّهم جميعًا فتيان معمورة قلوبهم بالأمل، معقودة نياتهم على الإصلاح، يؤمنون بأنَّهم رواد الدعوة إلى المسيح الموعود، ويترقبون ظهوره للترحيب به، والإصغاء إليه، ولا تحيط بهم طائفة أو مذهب محدود.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤