القسم الثاني

أدباء أحبُّوا مي

(١) دموع الحب

«أحببتُ في حياتي مرتين: أحببتُ «سارة»، وهذا ليس اسمها الحقيقي، وإنما هو اسمها المُستعار أطلقتُه عليها في قصتي المعروفة بهذا الاسم، وأحببت «ماري زيادة» الأديبة المعروفة باسم «مي».

كانت الأولى مِثالًا للأنوثة الدافقة الناعمة الرقيقة، لا يشغل رأسها إلا الاهتمام بجمالها وأنوثتها، ولكنها كانت — إلى ذلك — مُثقفة.

وكانت الثانية — وهي مي — مُثقَّفة قوية الحُجة، تُناقش وتهتم بتحرير المرأة وإعطائها حقوقها السياسية، وكانت جليسة علم وفن وأدب، وزميلة في حياة الفكر؛ أي أن اهتمامها كان مُوَزَّعًا بين الأدب والأنوثة.

كلتاهما جميلة، ولكن الجمال في «مي» كالحصن الذي يحيط به الخندق، أما الجمال في «سارة» فكالبستان الذي يحيط به جدول من الماء النمير، هو جزء من البستان، لا حاجز دون البستان، وهو للعبور أكثر مما يكون للصد والنفور!»

ذلك ما سمعتُه من العقاد في حديث معه، وقد نشر قصته عن «سارة» منذ سنوات، أما قصته عن «مي» فكيف كانت، وكيف بدأت، وكيف تطوَّرت من زمالة فكرية إلى صداقة أدبية، ثمَّ إلى حب، فغرام وهيام ودموع؟

لقد عرف العقاد الآنسة «مي» قبل أن يعرف سارة بعدة سنوات، عرفها عن بُعد من مقالاتها في الصحف، وتأليفها للكتب، وعرفها عن كَثَب في صالونها الأدبي الذي كان يؤمُّه كبار الأدباء والمفكرين مساء كل ثلاثاء، وكان هو أصغر رُوَّاد هذا الصالون سِنًّا حين كان يؤمُّه في سنَتي ١٩١٥ و١٩١٦، وكانت سِنُّه لا تزيد عن سبع وعشرين سنة، وكانت سنها لا تجاوز الحادية والعشرين، ولكن كلاهما كان نجمًا ساطعًا في شباب الأدباء وجيله المثقف الحديث.

وحدث أن سافر إلى أسوان على أثر مرض انتابه، فبعثت إليه برسالة تسأل عن صحته، وتبلِّغه فيها تحيات أدباء الصالون الأدبي، وتمنياتهم الطيبة له بالصحة والعافية، فردَّ عليا برسالة أنبأها بأن طبيبًا ألمانيًّا كان يزور أسوان سائحًا طمأنه على صحته، وقد كشف عليه كشفًا دقيقًا. وبدأها بقوله:

آنستي الأديبة اللوذعية مي زيادة

«أكتب إليك الآن وأنا أقرأ «سبنسر» في «قصر ملا»، وهو طلل دارس منصوب للرياح، أقضي فيه الوحدة بين صفحات كتاب، وقد جمع منظره بين وحشة القِدم المُتبدِّد، ونضرة الصِّبا المُتجدِّد. وقامت حوله روضة عالية تُعرَف باسمه، ويرتاح إليها الطارق من سآمة ذلك الشبح المهجور في أكمته، وهي رابية أثرية ذات طباق يعلو بعضها فوق بعض، في كل طبقة منها حياض الأزهار والنوَّار، ومنابت العشب والبَهار، تنتهي من بحبوحتها العليا إلى جانبها الغربي فتُشرف من ثَم على النيل، ويستقبلني الجبل الغربي تليه الجُزُر والجنادل المُعترضة في جوف النهر، وهو ينساب بينها انسيابًا، فروعًا وشعابًا، وأجلس بعد الغروب، فأنظر أمامي إلى المقياس في هيكله القديم، وإلى النيل يجري وكأنه لا يجري، وإلى الجنادل قد أطلعت رءوسها على متنه كأنها بعض حيوان، يتنسَّم هواء الليل، وإلى الجبال ممتدةً على طول الأفق كالديباجة السوداء حول تلك المناظر الساحرة.»

ويستمر في وصف «قصر ملا» إلى أن يقول:

«وقد كنتُ أتردد على هذه الأماكن الفَينة بعد الفَينة أقضي هزيعًا من الليل، فأجلس إلى صخر قديم ساوره النيل إعصارًا ثمَّ قنع بمسح أقدامه، وطغى عليه أعوامًا فلم يظفر بغير المرور من أمامه، وأُعوِّض العُزلة بمُساجلة بنات الأحلام ومُسامرة عرائس الشعر، ولله هن ما أجذلهن وأطربهن!»

وبعد أن يستوعب وصف هذا القصر يذكر لها كيف عرف الطبيب الألماني، وهو يقرأ كتابًا لهيني في معبد فيلا، ثمَّ يصف لها جو أسوان في الشتاء، ويذكر أنه نظم قصيدة طويلة في ذلك الوصف يقول فيها:

أسوان تزهو حين يذ
بل كل مُخضرٍّ نضيرِ
في كل مربأة بها
نور تألَّق فوق نورِ
بلد تجود له الطبيــ
ـعـة بالصغير وبالكبيرِ
لا تستجن شموسه
إلا على غير البصيرِ
نسماته بَرْء العليـ
ـل وماؤه عذب نميرِ

وبعد ذلك يذكر لها أنه في شوق إلى ندوتها، ويطلب منها إبلاغ تحياته إلى الإخوان!

•••

وأقام العقاد في أسوان مدة بعيدًا عن القاهرة، فبعثت الآنسة مي رسالة إليه بدأتها بقول المعري:
علِّلاني فإن بيض الأماني
فنيت والظلام ليس بفاني
إن تناسيتما وِداد أناس
فاجعلاني من بعض من تذكرانِ
رُبَّ ليل كأنه الصبح في الحُسـ
ـن، وإن كان أسود الطيلسانِ
قد ركضنا فيه إلى اللهو لما
وقف النجم وقفةَ الحيرانِ

«هكذا قال حكيم المَعرَّة، وأنا أعلم مقدَّمًا أنه من أصحابك المقرَّبين، فرأيتُ أن أبدأ هذه الرسالة من القاهرة بأبياته عسى أن يكون فيها تذكرة، وعوض عن الوحشة والبُعد.»

ثمَّ تحدَّثت عن ندوتها (صالونها) والحاضرين فيها، وأخبرته أن الأستاذ نجيب هواويني لم يحضر الأسبوع الماضي، وكان الصحب مشوقين إلى فكاهاته ودعاباته الظريفة، وقالت إنها ألقت محاضرة في النادي الشرقي عن «فضل مصر على الشرق»، وكانت تَتُوق إلى أن يسمعها ليقول لها رأيه فيها، «وعلى كل حال، فإن بعدك في أسوان لا يحول دون اطِّلاعك على هذه المحاضرة؛ لأنها ستُنشَر في الصحف، وأرجو أن أعرف رأيك فيها!»

•••

وكان جبران خليل جبران قد أصدر كتابه «المواكب» سنة ١٩١٩، فكتب العقاد مقالًا في جريدة الأهالي نقد فيه هذا الكتاب، وكشف فيه عن أخطاء لغوية، وانحراف في الفِطرة والطبيعة الشاعرة والخيال السليم. وحدث أن سافر إلى أسوان، فبعثت إليه «مي» رسالة تقول فيها بعد الديباجة والتحيات:

«وقد لاحظت قسوتك على جبران خليل جبران، وإن كنتُ أوافقكَ على بعض ما قلتَ وأعارضكَ في البعض الآخر، ولا تتسع هذه الرسالة لأن أقول لك ما أوافقكَ عليه وما أعارضكَ فيه، وأترك ذلك لفرصة أخرى، وإلى لقاء قريب.»

مي
وقد أرسل إليها العقاد ردًّا على هذه الرسالة يقول:

آنستي العزيزة مي

«وصلني خطابكِ الرقيق وقرأتُه، وكم كنت أودُّ أن أسمع أو أقرأ النقاط التي وافقتِ عليها أو عارضتها في مقالي عن «المواكب» لجبران، وأنا أعرف أن له مكانة في نفسكِ. وعلى كلٍّ، فعندما نلتقي سأناقشكِ فيها، أما عودتي من أسوان فلم أفكر فيها الآن، وقد تقصر أو تطول، وسأكتب لكِ حينما أعزم على السفر إلى القاهرة. أما الجو في أسوان فهو حار، ونحن في شهر مايو والسُّيَّاح يُسرعون في العودة وهم من الحر في ضيق شديد.»

عباس
فأرسلتْ إليه خطابًا مستعجلًا على أثر هذه الرسالة تقول فيها:

الأستاذ الجليل العقاد

«وصلتني رسالتكَ، وقصدتُ أن أكتب هذه على وجه السرعة قبل رحيلكَ من أسوان لكيلا تنسى ما وعدتني به وأنتَ معي بالقاهرة، وأعتقد أنه سيكون في ذاكرتكِ.

لا تنسَ حين الوقوف على أطلال «معبد فيلا» إبلاغ تحياتي إلى النيل الخالد بأسوان، في هذا المكان الساحر الذي كنتُ أتمنى أن أكون بجواركَ أثناء تسريحكَ الطَّرْف في مياهه الذهبية الهادئة، وسأكون في انتظار عودتكَ، وأرجو أن أراكَ يوم وصولك مساءً.»

مي

سِهام الحب

مضت مُدَّة بلا رسائل بين الأستاذ العقاد والآنسة مي، وكانت هو قد شُغِل بالمعارك السياسية بين الوفد برياسة سعد زغلول، وخصوم الوفد وعلى رأسهم عدلي يكن وعبد الخالق ثروت وإسماعيل صدقي، وكان هو كاتب الوفد الأول. وحدث أن سافرت في صيف سنة ١٩٢٥ إلى إيطاليا، ثمَّ غادرتها إلى ألمانيا للزيارة، فبينما هو جالس في مكتبه هبطت عليه رسالة طويلة تصف فيها رحلتها إلى روما، وتحدِّثه عن أهم شيء في نظره، وهو «المكتبات». وأخبرته عن كتاب للأديب الإيطالي «أمانولي» عثرت عليه، وقالت: «إن رأيت أن أرسله لك أو يكون معي إلى حين عودتي.» وسألته عن أخبار القاهرة، وأسفت لحرمانها من مناظر النيل الجميلة وقت الأصيل، ولكنها تتعزَّى عنها بمناظر الحدائق التي تطل عليها من نافذة الفندق، وقالت له: «سأحضر لك مجموعة من صور روما العريقة في الفن والجمال والمدنيَّة.» ثم كتبت وصفًا لينابيع روما في أربع صفحات منفصلة عن الرسالة جعلت عنوانه «نشيد إلى ينابيع روما»، أودعت فيه عواطفها الشابة المشبوبة التي تنم عن الحب المكبوت، وثورة القلب المحروم، وقد قالت في هذا النشيد الذي لم تنشره في كتاب من كُتُبِها:

«تفيضين من كل صَوْب — يا ينابيع المدينة الخالدة — وتهزجين من كل ناحية، وتُنادين بالنابه والخامل على السواء، ولك مُساجلة مع المحروب والمحبور … وصوتك يأبى إلا المُضي في اصطحاب مُحكم مع جَوق الأجيال التي تمر وتنقضي، ومع البيان الناطق في آثار التاريخ وأطلال الحدثان.

على مقربة من المعابد والبِيَع والمحاريب، وفي الساحات والميادين والحدائق، عند أبواب المتاحف وتحت أروقة القصور، في جانب مدافن العامة والدهماء كما لدى ضرائح الآلهة والقياصرة والأبطال ومضاجع البابوات والقدِّيسين والشهداء.

على ضفتَي نهر التيبر الأشهب، كما في غِياض الهِضاب السبع المُحدِقة بواديه، في جِوار أنقاض الماضي وعلى مشهد من الأعمدة والرتائج والأفاريز وأقواس النصر، التي يزعم شاعرها أنك ما زلت في كل مكان، منتصبة في انتظار مواكب ظفر جديد، أنت يا نوافر رومة حاضرة في كل مكان مُتفجِّرة مُنبجِسة في كل زمان شادية في كل أين وآن!

للإشادة بصنيعك، وتمجيد حُسنك، وتضخيم قدرتك، عمدت يد الفن إلى مقالع الرخام الملون، ومناجم المرمر الشفاف، ودرست عبقريات العصور خصائص الجمال والحب والحزن والحماسة والبطولة والطغيان وأحكام القدر ومظاهر الطبيعة، واحتجاب الروح الشاملة، فصاغت لها جميعًا نفيس الشخوص والدُّمى والكواسر والضواري والأنصاب، وأقامتها عند فوهاتك وعلى حفافيك تمثل للأجيال اختلاج الكائنات ونزعات الأرواح.»

ثمَّ تقول في هذا النشيد:

«كم ذا طلب عطشي الارتواء من المُثول لديكِ، يا عيون روما، وكم ذا سألت خريركِ أن يُنسيني نفسي الجريحة!

كم ذا تمنَّيتُ أوضاع تماثيلك وملامحها، وأنا أحبها سعيدة بامتصاص روحها من روحك، وارتباط نصيبها بنصيبك في خدمة الفن وتمجيد العبقرية.

… تأملتكِ في الصباح والأصيل، وعند انتصاف الليل، يا ينابيع روما، وسمعتكِ قُرب الصروح الشامخة، وبين الأخربة الدارسة تسوقين في نَفَس لا ينقطع معاني الضحك والبكاء والعبث والتفجُّع، والتهليل والنحيب، والمجون والحكمة، ففهمت منكِ أن نسيج الزمان كنسيج المياه مُتماسك مُتناثر، وأن ركبه يمر ويبقى، وأن كل بداية تتلوها نهاية، وكل نهاية تعقبها بداية، وفهمت أنك أنت من أصدق الصور للأزمنة المتدافعة في المسافة، أبدًا في ابتداء وانقضاء، أبدًا في انقضاء وابتداء.

نسيتُ نفسي يا للرغد ويا للهناء، لكني أعود، فأَذكُرها ويشتدُّ عطشي المُلتهب العميق، فأتلقَّى من مائك — يا ينابيع روما — وأشرب شربة لها في فمي طعم الترياق والكوثر.

لحظة ليس غير، لقد رجعتُ إلى حالي، فما ارتويتُ بقطرة إلا كانت لهيبًا في الأوام الذي لا يرتوي، وما فُزتُ بفهم جديد إلا كانت الخاطرة المُستحدثة وقودًا لعذاب فكري، وطمعًا إلى توسيع حدوده، وما نعمتُ بنفحة عطف إلا كانت زكوة لعاطفة الحنان التي لا تشبع فيَّ، ولا تكتفي!»

بعثت الآنسة مي هذا النشيد العاطفي الرقيق ضمن رسالتها من روما إلى الأستاذ العقاد، فحرَّكت في نفسه الشوق إليها، وحفزته إلى التعبير الصريح عما يُضمره نحوها من شعور عميق وحب روحي صادق، فردَّ عليها بهذه الأبيات التي لم تُنشَر في الديوان:

آنستي العزيزة مي
القاهرة، ٢٥ يوليو سنة ١٩٢٥

أبعث بهذه الأبيات من وحي رسالتكِ الأخيرة:

آل روما لكمو مني الولاء
وثناء عاطِر بعد ثناء
وسلام كلما ضاء لنا
طالع الإصباح أو جَنَّ مساء
في حماكم كعبة ترمقها
مُهج مِنَّا وآماق ظِماء
كعبة لا كالتي يعمرها
بينكم رهْطُ القسوس الحُنفاء
كرمت روما وذكراها بها
وبنو روما ومن تحت السماء
نزلت ثمَّ حجيجًا داعيًا
وهي أولى بحجيج ودعاءِ
أنت في روما، وفي مصر أنا
بعدت شقتُنا لولا النجاء
بيننا جيرة نور ساطع
فوق رأسينا ونور في الخفاء
أرقب البدرَ إذا الليل سَجا
فلنا فيه على البُعد لقاء
وأرود الشعر في مثل الكرى
فإذا فيه من الطيف عزاء
حلم الصادي فمن يُوقظه
وعلى «فيه» من الماء شِفاء
عباس

وكان «العقاد» يمضي رسائله دائمًا إلى «مي» باسم «عباس» مُجرَّدًا. وقد تلقَّت هذه الأبيات بعد رحيلها من روما إلى برلين، فوجدت فيها نفس الشعور العميق الذي تشعر به نحوه، فردَّت عليه من برلين برسالة صريحة عبَّرت فيها عما تشعر به من حب وهُيام.

كبرياء وحياء

كانت العلاقة بين الآنسة مي وعباس العقاد — في أولها — علاقة أدبية، أو قُل كانت تبدو صداقة أدبية، وزمالة في الفكر والأدب؛ فكلاهما أديبان، وكلاهما كاتبان مُفكِّران. وقد مكثت هذه العلاقة في ظاهرها مُدة لم يُصرِّح فيها أحدهما للآخر بما يكمُن في جوانحه، وما يُضمره في أعماق قلبه من حب وهُيام!

ولكن لماذا مكثا هذه المدة لم يصرح أحدهما بما يشعر به للآخر؟

لماذا لم يُصرِّح العقاد للآنسة مي بأنه يحبها من أول رسالة أرسلها إليها من أسوان إلى القاهرة؟ ولماذا لم تُصرِّح الآنسة مي للأستاذ العقاد بأنها تغرم به، وأنه أول رجل أحبته في حياتها، من أول رسالة أرسلتها إليه من القاهرة إلى أسوان؟

لماذا لم يصرِّحا بالحب؟ ولماذا يصبر كل منهما هذا الصبر الطويل، ويكبت هذا الشعور الحي القوي هذه المدة، حتى يجد منفذًا صغيرًا، فينفجر، ويجرف كل شيء أمامه، ولكن في حدود الخُلق الرفيع والأدب اللائق، وفي حرارة الروح لا في شهوة الجسد!

لقد كانت «مي» فتاة جميلة النفس جميلة الروح، فاتنة برِقَّتها وحديثها الشهيِّ وملَكتها النابغة. وكان العقاد في شبابه فتًى جميلًا، قوي الشخصية، لامع الاسم واسع الشُّهرة في الأدب وعالم الفكر، ولكن كُلًّا منهما تربَّى تربية دينية، ونشأ منذ طفولته وصِباه على العادات والتقاليد الشرقية التي كانت في ذلك الحين تُسيطر على الشباب، وعلى الحياة الشخصية والاجتماعية، وتستنكر التصريح بما يشغل العاطفة من حب وهُيام، وخاصة الفتاة؛ فكلمة «الحب» وإن كانت صغيرة في لفظها ومبناها، ولكنها في معناها كبيرة وخطيرة!

وكان في طبع العقاد كبرياء يشبه كبرياء «المتنبي» في الحب حين يطلب إلى حبيبته الجميلة الفاتنة أن تزوده من حسن وجهها، وأن تصله هي، فيصلها هو كذلك ما يقول:

زوِّدينا من حسن وجهك ما دا
م فحسن الوجوه جال تحولُ
وصلينا نصلك في هذه الدنـ
ـيا، فإن المقام فيها قليلُ

وكان في طبع الآنسة مي حياء شديد، وفي خلقها احتشام كبير درجت عليه منذ صباها كفتاة شرقية عربية تُحافظ على التقاليد، وكانت ذات فطنة واحتفاظ بكرامتها على الرغم من شبابها المتوقِّد، فهي تخشى أن تتورَّط في التصريح بالحب، فلا تجد من الجانب الآخر مثل ما صرحت به من شعور، فترجع كاسفة جريحة الفؤاد كئيبة النفس.

رسالة من برلين

ولكن حين وصلتها قصيدة العقاد بعدما بارحت روما إلى برلين في يوليو سنة ١٩٢٥، وفيها يُعبِّر عن شعوره نحوها، ويقول:

أنت في روما، وفي مصر أنا
بعُدت شقتنا لولا النجاء
أرقب البدر إذا الليل سجا
فلنا فيه على البُعد لقاء
وأرود الشعر في مثل الكرى
فإذا فيه من الطيف عزاء
لما قرأت هذه الأبيات وسواها مما تضمَّنته القصيدة صادفت هواها، ووافقت شعورها، وشجعتها على أن تُصارحه بأنها تشعر بنفس الشعور الذي يشعر به، فأرسلت إليه من برلين بتاريخ ٣٠ أغسطس سنة ١٩٢٥ رسالة تقول فيها:

عزيزي الأستاذ

«أكتب إليك من بلد كنتَ دائمًا تُعجب بشعبه، كما أُعجب به أنا أيضًا، ولكن إعجابي بقصيدتك البليغة في معناها ومبناها فاق كل إعجاب، وقد اغتبطت بها غبطةً لا حدَّ لها، واحتفظت بها في مكان أمين بين أوراقي الخاصة خوفًا عليها من الضياع!

إنني لا أستطيع أن أصفَ لك شعوري حين قرأت هذه القصيدة، وحسبي أن أقولَ لك إن ما تشعر به نحوي هو نفس ما شعرت به نحوك منذ أول رسالة كتبتها إليك وأنت في بلدتك التاريخية أسوان.

بل إنني خشيتُ أن أفاتحكَ بشعوري نحوك منذ زمن بعيد، منذ أول مرة رأيتكَ فيها بدار جريدة «المحروسة». إن الحياء منعني، وقد ظننتُ أن اختلاطي بالزملاء يثير حميَّة الغضب عندك، والآن عرفتُ شعورك، وعرفتُ لماذا لا تميل إلى «جبران خليل جبران»!»

وكانت «مي» تُقدِّر جبران، وقد كتبت عن كتابه «المواكب» مقالًا أثنت عليه ثناءً جميلًا، وكان العقاد له رأي خاص فيه، ولكنها بطبيعة المرأة ظنَّت بعد تصريحه بشعوره نحوها أنه يغار منه حين تتحدث عنه!

ثمَّ قالت في نهاية الرسالة:

«… لا تحسب أنني أتهمك بالغيرة من جبران، فإنه في نيويورك لم يرني، ولعله لن يراني، كما أني لم أراه إلا في تلك الصور التي تنشرها الصحف، ولكن طبيعة الأنثى يلذُّ لها أن يتغاير فيها الرجال وتشعر بالازدهاء حين تراهم يتنافسون عليها! أليس كذلك؟!

معذرة، فقد أردتُ أن أحتفي بهذه الغيرة، لا لأضايقك، ولكن لأزداد شعورًا بأن لي مكانة في نفسك أُهنئ بها نفسي وأُمتِّع بها وجداني؛ فقد عشت في أبيات قصيدتك الجميلة، وفي كلماتها العذبة، وشعرت من معانيها الشائقة، وفي موسيقاها الروحية ما جعلني أراكَ معي في ألمانيا على بعد الشُّقَّة وتنائي الديار.

سأعود قريبًا إلى مصر، وستضمنا زيارات وجلسات، أُفضي فيها لك بما تدَّخره نفسي، ويضمه وجداني، فعندي أشياء كثيرة سأقولها لك في خلوة من خلوات مصر الجديدة، فإني أعرف أنك تفضل السير في الصحراء، وأنا أجد فيك الإنسان الذي أراه أهلًا للثقة به والاعتماد عليه.»

أتعرف الشوق والحنين؟

وبعد أن ختمت هذه الرسالة، وضعت معها مقالة بعنوان: «أتعرف الشوق والحنين؟» وقالت له في هامش رسالتها: «كتبتُ هذه المقالة من وحي قصيدتك، وسوف لا أنشرها الآن حتى أعود إليها مرة أخرى، كما أفعل دائمًا، وكما يفعل الشعراء في قصائدهم، وأنا أعتبر هذه المقالة قصيدة منثورة، أليس لي أن أدَّعي ذلك ما دُمت لا أستطيع مثلك أن أدبج الشعر المنظوم؟» وفي هذه المقالة تقول بعد سطور:

«أعرفتَ الشوق، وقد ثار وفار؟!

أعرفتَه وقد أطلق من وجدانكَ شخصًا مجهولًا منك، يطمح في وجع وتفطر إلى البعيد السحيق.

أعرفته تنبهه المحسوسات، وتزكيه المدركات، وتُؤجِّجه الذكريات!

أعرفتَه يرعى في كيانك، فأنت رُوح تلوب، وصوب يلهج، ويد تلتمس، وجوانح تضطرم، وجَنان يتسعَّر، وضلوع تتفجر؟!

إن أنت عرفتَ مرَّة الشوق والحنين، وشعرت بالانكماش الأليم يملأ صدرك غمًّا وكربًا، وإن أنتَ كنتَ مرَّة ضحية الكلابة التي تعض على القلب بنابها القاسي، وفريسة المطارق التي تطرق فيها بلا رحمة فتدغدغه، وترضضه دون أن تقوى على تحطيمه وملاشاته.

إذن، فاعلم أنك في تلك الساعة متمتع باستعداد الخالق القادر، تضطرم في فؤادك الشرارة التي سرقها الإنسان القديم من نادي الأرباب الأقدمين.

لأن هذا العالم، إنما هو ابن الصبابة والجَوى!

وما برأ الباري هذه الأكوان إلا عندما شاء عطفه أن يعرف الشوق والحنين.»

كانت الآنسة مي تضع في رسائلها إلى الأستاذ العقاد بعض خطراتها مما يناسب عاطفة الحب التي ربطت في ذلك الحين بين قلبيهما، أو ترسل إليه في رسالتها الشخصية مقالة أو بحثًا تريد أن يطَّلع عليه قبل غيره، وكثيرًا ما تكون المقالات عاطفية، فإذا كانت بحوثًا مسَّت عاطفة الإنسان من جانب من الجوانب.

وكان الأستاذ العقاد يضع كذلك ضمن رسائله بعض كلماته العاطفية نثرًا أو نظمًا، وكثيرًا ما نظم فيها أبياتًا أو قصائدَ نشر بعضها في الديوان دون التصريح باسمها، بل كان يسمِّيها هندًا أو ليلى، أو غيرهما من الأسماء المستعارة، وكان اسم «هند» في شعره هو الأكثر لأنه على وزن «مي».

حزن وكآبة

وانتهت رحلة ألمانيا، وعادت الآنسة مي إلى مصر، فعلمت أنه سافر إلى أسوان لوفاة شقيق له يُدعى «مصطفى». وكان هذا الشقيق شابًّا رياضيًّا نشيطًا يعشق الرياضة ويزاولها كثيرًا، فكُسِرَت ذراعه في إحدى المرَّات، وعلى الرغم من علاجه وشفائه، فإنها كانت تعوقه عن مزاولة الرياضة، وخاصة السباحة التي كان يعشقها، فلما جاء وقت الفيضان أبى إلا أن يسبح كعادته مع بعض الشُّبَّان، فخانته ذراعه ومات غرقًا في النيل؛ فأرسلت إليه «مي» تلغرافًا عزَّته فيه عن مصابه، فرد عليها بخطاب شاكرًا لها هذا العزاء، وقد قال فيه:

عزيزتي مي

«سافرتُ كما تعلمين إلى أسوان بغير قصد مني، ووددتُ أن أكون بالقاهرة حين عودتكِ من برلين، وقد آثرتُ أن أكتب إليك هذه الرسالة بدلًا من التلغراف.»

ثمَّ جعل يغازلها بعبارات مسجوعة يصف فيها رقتها وأنوثتها الفيَّاضة وروحها العذبة. ثمَّ قال:

«لولا أني أشعر بالتعب من تأثير مُصابي بأخي مصطفى لقلتُ لك الكثير. وإذا كان الإنسان في مُصابه يتعزَّى حين يرى أحبابه وأصدقاءه يشاركونه شعوره فإني أبعث مع هذا بتلك الأبيات التي رثيتُ فيها أخي، ونقشتُها على قبره. ولستُ أقصد أن تشاركيني في أحزاني، ولا أن تشعري مثلي بالكآبة، فأنا أودُّ — لو أستطيع — أن أجمع كل ما في الدنيا من غبطة وسرور لأقدِّمَها إليكِ. ولكن الأدب يحيا بالقراءة، ولا سيَّما إذا قرأته «مي». أما الأبيات، فهي:

أيها القبرُ فيكَ غصن رطيب
قصفته المنون قبل أوانه
مثلما تعبث السمومُ بزهرٍ
عاطر ناضر على أغصانه
بنت يا مصطفى، وما بنت عن قلـ
ـب كسير يذوب في أشجانه
كان أحرى بك الديار من القبـ
ـر، وثوب العروس من أكفانه
سوف ألقاك في الثرى عن قريب
كل حيٍّ مُوكل بزمانه»
قرأت «مي» هذه الأبيات، فبكت واكتأبت، وبعثت إليه برسالة تقول فيها: «لقد أبكيتني كثيرًا، وإني لأشعر بالكآبة تُعذِّب نفسي، وتُسيطر على حسي.» ثمَّ ترجمت له فصلًا كتبته بالفرنسية في كتابها «زهرات الحلم» بعنوان: «كآبة» تقول فيه:

«حزينة اليوم رُوحي، وحزنها القائم مؤلمي، فعلامَ الاكتئاب؟

أترى الأوراق المتناثرات عن غصونها تدري لأي غرض تقلبها الريح، وتتلاعب بها في تطايرها؟

إنها لتتناثر تلك الوريقات المسكينة، وتتهاوى أكوامًا، هي التي كان يمضها أسر الالتصاق بشجرة أنالتها الحياة، هي التي نزعت إلى الانعتاق والتحرُّر، ها هي في نهاية الأمر فائزة بحريتها.

كم تخال مغتبطة لهذه الوريقات المُصفرَّة الذابلة، المُتجمدة، المُتغضنة المُنقبضة! كم هي مُغتبطة بهذا الانفصال؟»

إلى أن تقول في النهاية:

«أيها الإله …

لماذا وضعت في عيني الإنسان هذه العَبَرات؟ وقضيتَ بألا تجف، ولا تنضب؟

لماذا؟!

أي مسرَّة أنت ملاقٍ في النكال والإيلام؟ إنكَ القادر، ونحن ضعاف. إنك العظيم، ونحن بائسون. نحن أشرار، وأنت كل الصلاح. أما كان الغُفران أجدر بعظمتكَ؟ أوما كانت ملاشاتنا أوفق لرحيب قدرتكَ؟

نفسي اليوم حزينة، وحزنها قائم، أُفكِّر في الأوراق المتناثرة، وفي الأحياء الذين يضحكون، وفي الموتى الذين مضوا كأنهم لم يكونوا.»

مي

وصلت هذه الرسالة إلى الأستاذ العقاد، وكان على أُهبة السفر إلى القاهرة، فنظم لها أبياتًا بعنوان «تبكين». ولما حضر إلى منزله بمصر الجديدة بعث بها داخل خطاب إليها بتاريخ ١٧ نوفمبر سنة ١٩٢٥، وهي عشرة أبيات جاء فيها:

تبكين، وا لهف الفؤاد يُذيبه
ذاك الحنين يذوب في خديكِ
أيراكِ باكيةً وأنت ضياؤه
ونعيم عيشي كله بيديكِ
وعزيزة تلك الدموع فليتَها
يقنو قطيرتها نظيم سليكِ
لملأت ثمَّ يدي بأكرم جوهر
من عطف قلبكِ فاض من عينيكِ
لو أستطيع جمعتُ كل ذخيرة
في الدهر من ضحك يروق لديكِ

إلى آخر هذه الأبيات التي نشرها في ديوانه — الجزء الرابع — دون أن يصرِّح باسمها أو تاريخها كما فعل في كل ما نشره عنها في هذا الديوان.

فلما قرأت الأبيات، ولم يكن قد اتَّصل بها حين عودته من أسوان، أرسلت إليه رسالة بمنزله بمصر الجديدة تعتب عليه، فردَّ عليها برسالة أيضًا جاء فيها:

عزيزتي

«لا تظنِّي إنني تأخرتُ لقصد مني في هذا التأخير، ولكن كان هناك عمل شغلني في الجرنال، ثمَّ لازمت الفِراش نتيجة التعب والإرهاق، وكنتُ سأكلمكِ بالتليفون، ولكن آثرتُ أن أكتب إليكِ بدلًا من التليفون!»

ثمَّ تحدَّث عند ندوتها «الصالون الأدبي»، واعتذر لها عن عدم حضوره «يوم الثلاثاء» — وهو موعد الصالون كل أسبوع — لأنه يستثقل بعض الحاضرين، ثمَّ ذكر لها «مصطفى الرافعي.» وقال:

«ماذا يعجبكِ في هذا الرجل الثقيل الأصم! إنني أعرف أنكِ لا تُعيرينه انتباهًا، وتكرهين تحبُّبه إليكِ، وتمقتين غزل الشيوخ بالشباب، والأولى أن تعتذري عن حضوره، وإني أُفضِّل أن يكون لقاؤنا في غير الثلاثاء. وفي انتظار رسالتكِ.»

عباس
جاءت هذه الرسالة إلى «مي» وكانت في قلق لأنه كان في تلك الأيام مهمومًا بكثيرٍ من الهموم السياسية والعائلية، وتخشى أن تصرفه تلك الهموم عنها بعدما صرَّحت بشعورها نحوه، وكان هذا الشعور عن وجدان خالص وقلب مُتيَّم، فأرسلت إليه ردًّا على رسالته تقول فيه:

«وصلتني رسالتكَ، ولا يسعني إلا أن أُقدِّر شعوركَ، ولا تظن أني أنظر إلى أحد من زُوَّار الندوة نظرتي إليكَ، أو نظرة تجعلني في مكان الانتباه إليه. وأنتَ لستَ في حاجة إلى كتابة كلمات أُؤكِّد فيها شعوري نحوكَ، وما أُكنُّه لكَ من إعجاب وتقدير، وفي اللقاء متسع للتعبير.

أما عن اقتراحكَ الحضور في غير «الثلاثاء» فإني أتركَ لك اختيار اليوم والوقت، على أن يكون الموعد مساءً.»

مي

وبعد هذه الرسالة اتَّصل الأستاذ العقاد بالآنسة مي، واتفقا على أن يكون اللقاء مساء يوم الأحد من كل أسبوع.

(٢) مي وسارة

وكان أن تقابل العقاد ومي في «يوم الأحد»، وصار هذا اليوم هو موعد لقائهما من كل أسبوع بدل يوم الثلاثاء، وهو موعد الندوة أو «الصالون الأدبي» الذي كان يجتمع فيه طائفة من كبار الأدباء في الشرق، وكانت فيه النجمة الساطعة التي تُحيط بها العيون وتتنافس في التحدث معها والاستماع إلى حديثها الأفواه والآذان.

وفي يوم الأحد الأول جاء العقاد إلى منزلها، وجلسا معًا في غرفة المكتب يتحادثان، فكان الحديث حديث الحب، فقدَّم لها العقاد ثمانية أبيات جعلها بعنوان «مولد الحب»، فتناولتها فإذا فيها:

وُلِدَ الحُبُّ لنا، عاش الوليد
وحماه الله من كيد الحسود
وبدا في مهدِهِ، بل عرشه
ضاحكًا يأمر فينا ويسود
«مي» ما نرضعه؟ نرضعه
بأفاويق حياة لا تبيد
ولنُدلِّله وننشئه على
غِبطة العزة والعيش السعيد
وليعش طفلًا على طول المدى
هكذا يخلد أطفال الخلود
نتولاه بعطفٍ دائم
وأناشيد حِسان ووعود
وغذاء من يُذقه يبتعد
أبدًا عن كبرة العمر المديد
إنه من رُوحنا إن نُحيه
يُحينا في غده هذا الوليد

قرأت «مي» هذه الأبيات فسُرَّت سُرورًا كبيرًا، وأثنت على أدبه وشعره، وقالت تُداعبه: «إن من يقول هذا الشعر جدير بأن يغار منه «جبران»، لا أن يغار من «جبران».»

وهي تشير إلى نقده لكتاب «المواكب» لجبران خليل جبران، وحَمْلتُه عليه، ومخالفته له فيما ذهب إليه، وكانت تشعر أنه يغار من عطفها على أدب جبران، ويظنُّ أنها تُحبه!

وحدث أن كتب في ذلك الحين مقالين في «البلاغ»، أحدهما عن «حب المرأة»، والثاني عن «الغيرة». وقال في الأول:

«ولسنا نظلم المرأة، ولا نحن نقصد إلى القدح في طبيعتها حين نقول إنها تُحب لتهب وتستسلم، وتغمض عينيها في نشوة الثقة والاعتماد الطيِّع الأمين، فليس للمرأة في قرارة نفسها سعادة أكبر من سعادة الطاعة، ولا أمل أرفع من حب الرجل الذي تُطيعه، وتُلقي بنفسها بكل ما فيها من ذخر حلاوتها بين يديه، وليقسُ عليها الرجل، أو يرحمها، ويعذبها أو ينعم بالها، فإنها لسعيدة بالطاعة إذا وجدت من يُطاع.»

ثمَّ قال:

«خُلِقَت المرأة لتُعطي، وخُلِقَ الرجل ليأخذ منها كل ما تُعطيه، خُلِقَت المرأة للطاعة وخُلِقَ الرجل للسيادة، خُلِقَت المرأة للأمان وخُلِقَ الرجل للجهاد، خُلِقَت المرأة لتحب وخُلِقَ الرجل ليحب نفسه في حبه إيَّاها. هذه هي حقيقة الحقائق، قد أسرف الشرق في الإيمان بها، وأسرف الغرب في إنكارها، وبين هذين النقيضين وسط هو خط السلامة وباب النجاة!»

وقال عن غيرة المرأة في المقال الثاني أنها أشد من غيرة الرجل، وأنها أشقى منه بغيرتها لأنها أحوج إلى الحب وأعظم استغراقًا فيه، وأخوف من الفقد والهجران، إن الغيرة ثمرة الحب والأثرة والخوف، وهذه العناصر الثلاثة تُثمر في طبائع النساء ما ليست تُثمره في طبائع الرجال، فهؤلاء وهؤلاء يغارون، ولكن أحرى الفريقين بالزيادة من هو أحرى بالإشفاق، وأخسر صفقة في الضياع!

قرأتْ هذين المقالين، فلم تنتظر حتى يأتي موعد «الأحد» بل بعثت إليه برسالة تُوافق فيها على رأيه في غيرة المرأة، ولكنها تعترض على رأيه في حب المرأة وسيادة الرجل عليها، ثمَّ قالت:

«… وكنت أتمنى أن تكون رفيقًا بحواء؛ فإن حواء تعتزُّ بأنوثتها الضعيفة القوية في وقت واحد، وهي إن قبلت الطاعة فلن تقبل السيادة، وهي إذا أحبَّت الرجل واستغرقت في حبه فليس ذلك عن أثرة أو أنانية، وإنما عن تضحية تدفعها إليها الطبيعة. وأنا إذا عُرِضَ عليَّ — فرضًا — أن أتخلى عن أنوثتي التي أعتزُّ بها لأكون رجلًا سيِّدًا، فإني أرفض رفضًا باتًّا، بل أنا أول الرافضات!

وإني أعتقد أنك ستُغيِّر رأيك في المرأة في يوم من الأيام.»

مي
فردَّ عليها برسالة جاء فيها بعد عبارات الأشواق:

«إنك على ما ظهر قد فسَّرتِ رأيي في المرأة على غير ما أعنيه، وأنا أمدح احتفاظكِ بأنوثتكِ، وتعصُّبكِ لهذه الأنوثة الجميلة، وأؤيدها كل التأييد، وأعارض كل المعارضة أن تُصبحي رجلًا، أعوذ بالله من ذلك!

وإني أرى أنكِ لو تخليت عن جنس حواء لضاعت الأنوثة من هذا الجنس كله، وفقد كل لطف وحلاوة وجمال.

فأنتِ بالنسبة لبنات حواء نجمة ساطعة يُضيء جنسكن بضيائك، ويزدان بلألائك، ولو تخلَّيتِ عنه لفقد كل ما فيه من بهاء وجاذبية ورقة وعطف!»

عباس
ولم يكن قد زارها في ذلك الأسبوع لشاغل منعه، فاعتذر لها، فبعثت هي برسالة موجزة إليه، تقول بعد سطور من الشوق والحنين:

«كنت في انتظاركَ لأناقشكَ رأيك فيما ذهبتَ إليه في بنات حواء؛ لأنك على ما يبدو ما تزال على رأيك فيهن، على الرغم من أن تجربتكَ مع إحداهن (تعني نفسها) قد دلَّتكَ على أنها صديقة لكَ وأكثر من صديقة، ورفيقة لكَ وأكثر من رفيقة.

ولا أدري لماذا هذه الحملة التي تابعكَ فيها بعض الكُتَّاب بعنف على بنات حواء، وقد أعددتُ لكَ يوم الأحد القادم «مائدة» من المناقشة الحامية، ولكن ليس فيها ما يلذع، وأتمنى أن تكون أهدأ حالًا.»

مي

إياك أن تهجوني

وذهب إليها في الموعد، وأخذت تناقشه في رأيه في المرأة وحب المرأة، فأصرَّ على رأيه، وأصرَّت هي على رأيها، ثمَّ قالت له: «أنا إحدى بنات حواء، وأعتبر أي حملة عليها هجوًا لي، وهل ترضى أن تهجوني؟!» فأخذ يُلاطفها حتى هدأت، ثمَّ اقترحت عليه في ذلك المساء أن يذهبا — كعادتهما من آن لآخر — لحضور حفلة الفانوس السحري في «كنيسة حي الظاهر». وكانت هذه الكنيسة تعرض في مساء كل «يوم أحد» فيلمًا دينيًّا عن حياة المسيح وتعاليمه، وحياة القدِّيسين المسيحيين؛ لأنها كانت تتحرج من أن تخرج معه إلى حفلة عامة أو إلى دار من دور السينما.

ولكن كنيسة الظاهر كانت فرصة للحبيبين ينتهزانها للخروج معًا دون أية شُبهة، وبعد انتهاء الحفلة اصطحبها إلى منزلها بشارع المغربي، ثمَّ قالت وهي تُودِّعه في لطف ودعابة: «إياك وحواء، إياك أن تهجوني!»

فابتسم ضاحكًا من قولها، وأجابها: «نعم، سوف أهجوك!»

وعاد إلى منزله بمصر الجديدة، فلم ينم في تلك الليلة حتى نظم خمسة عشر بيتًا، وفي الصباح أرسلها إليها في رسالة بعنوان: «أهجوكِ» جاء من أبياتها:

أهجوكِ يا أكرم من أمدح
ومن بإطرائي لها أصدح
أهجوكِ والتسبيح أحرى بما
أجِدُّ فيه اليوم أو أمزح
قاسية أنت، ولكنني
أقبِّل الكفَّ التي تجرح
وأُعظم القسوة تلك التي
يلهو بها المجروح بل يفرح

إلى أن يقول:

هذا هجائي فيكِ فصلته
وليتها تجربة تفلح

أشواق لبنان

وفي صيف ذلك العام سافر إلى لبنان، فما كادت تمضي عليه بضعة أيام في ربوع هذا القطر العربي الجميل حتى أرسل إليها من مصيفه فوق جباله الشامخة رسالة يُعبِّر فيها عن شعوره في غربته عنها ولو أنه ليس غريبًا في وطنها، وشعوره في غربتها عنه ولو أنها ليست غريبة في وطنه. ثمَّ يقول:

«لقد أصبحنا بديلين، أنت في مصر وأنا في لبنان، ولكننا شريكان في وطن كبير واحد هو الوطن العربي، وإذا كان كلٌّ مِنَّا نازح عن داره إلى دار صاحبه، فإن حبنا قد ربط ما بين الدارين برباط وثيق.»

ثمَّ قال هذه الأبيات:

يا بنت لبنان أُقريكِ التحية من
هضاب لبنان بين البحر والشُّهُبِ
لا يمنع القلب عنها حين يُرسلها
بُعد من البَيْن أو بُعد من الغضبِ
أمسيتُ ضيفكِ في أرض درجتُ بها
طفلًا صغير الخُطى مأمونة اللعبِ
وذقتُ أول نشوات الحياة بها
وكنتِ نشوة «أم» برة و«أبِ»
لقلما علم الراءوك يومئذ
من ذا يذوق الجنى من ذلك العنبِ
وإن لبنان يسقي كَرْمه لفتى
بجانب النيل صادي القلب مُكتئبِ
أمسيتُ ضيفكِ في أرض لبست بها
وَشْي الصبا وبُرود الحسن والطربِ
أرى مثالك فيها حيثما طمحت
عيني، وأخلو بها في كل مرتقبِ
فأنت لبنان في زهرٍ وفي ثمرٍ
وأنت لبنان في ماءٍ وفي عُشبِ

إلى أن يقول:

فليت لبنان يغنيني إذا نظرت
عين، ولم ترَ تلك العين وا حربي
وليت لبنان يرويني إذا ظمئتْ
روحي، وتغرك ناءٍ غير مقتربِ

وقد كان لهذه الأبيات تأثير كبير في نفس الآنسة مي، وهي من أبلغ ما قاله في وصف شوقه وحنينه إليها، وهو بعيد عنها في لبنان. وقد زاد على هذه الأبيات في ديوانه حتى أصبحت قصيدة تبلغ خمسة وعشرين بيتًا وتعد من غُرر قصائده في الحب!

أين وطني؟

وقد حرَّكت رحلة العقاد إلى لبنان في نفسها لاعجًا غير لواعج الشوق والحب نحوه، لاعجًا كل ينتابها، وتُسائل نفسها من أجله قائلةً: «أين وطني؟» فإن أمها من فلسطين، وأباها من لبنان، وهي تعيش في مصر، وقد اتَّخذتها لنفسها وطنًا، فكتبت إليه رسالة طويلة ضمَّنتها مقتطفات من مقالة نشرتها بعد عودته بعنوان «أين وطني؟» جاء فيها:

«عندما ذاعت أسماء الوطنيات، كتبت اسم وطني، ووضعت عليه شفتي أقبِّله، وأحصيت آلامه مفاخرة كأن لي كذوي الأوطان وطنًا. ثمَّ جاء دور الشرح والتفصيل، فألممت بالمشاكل التي لا تُحل، وحنيت جبهتي، وأنشأت أُفكِّر. وما لبث أن انقلب التفكر فيَّ شعورًا، فشعرت بانسحاق عميق يذلُّني لأني دون سواي، تلك التي لا وطن لها!

وُلِدتُ في بلد، وأبي من بلد، وأمي من بلد، وسَكَني في بلد، وأشباح نفسي تنتقل من بلد إلى بلد، فلأي هذه البلدان أنتمي؟ وعن أي هذه البلدان أُدافع؟ يمضي الموتى تاركين للأحدث وراثات حسية ومعنوية ينعمون بها، وشرفًا قوميًّا يُعزِّزونه، وتقاليد يحافظون عليها. أما أنا، فلم يبقَ لي من آثار موتاي سوى الأثقال المُعلَّقة في يدي وعنقي!

فلماذا قُدِّرَ عليَّ أن أكون ابنة وطن تنقصه شروط الوطنية، فأُمسِي تلك التي لا وطن لها؟!

ما سمعتُ وصف بلاد إلى سعى إليها اشتياقي.

ولا حُدِّثت عن بسالة أمة وسؤددها إلا تمنيتها أُمتي.

ولا تخيَّلت مسافات الأرض، وأبعاد الفلك والصحاري والبحار والكواكب والعوالم الأخرى إلا اهتاجني الحنين إليها كأنها أوطان يُردد هواؤها ترنيمة طفولتي، وتنتظرني فيها قلوب الأحباب والخِلَّان.

أما وقوى إعزازي توزع باستهتار وجنون، فلماذا تتجمع قوى اكتئابي عميقة مرهفة، لأني أنا وحدي — وحدي في الدنيا — تلك التي لا وطن لها؟»

أنت هي الدنيا

وصلت هذه الرسالة إلى الأستاذ العقاد، وفيها هذا الوصف، فعرف أنها تُعاني ضيقًا نفسيًّا شديدًا، فردَّ عليها برسالة يقول فيها:

«عجبتُ حين قرأت كلماتك التي أرفقتها برسالتكِ وقد ذكرتِ أنكِ «وحدك في الدنيا» مع أنكِ «أنتِ هي الدنيا» بما فيها من نور ونار، ونجوم وأزهار، وجوهر ونضار، ونشوة ومتاع.»

ثمَّ قال في أبيات بعنوان «أنت هي الدنيا»:

ماذا من الدنيا لعمري أريد؟
أنتِ هي الدنيا، فهل من مزيد
فيكِ لنا نور ونار معًا
وأنجم زُهْر وأُفق بعيد
وفيكِ رَوض مُسفر عاطر
وجوهر حرٌّ ودُرٌّ نضيد
وكل ما في الكون من روعة
لها نظير فيك حي جديد
بل أنتِ دُنيا غير هذي الدُّنى
وكل حب فيه «كون» وليد

كانت رسائل العقاد في أكثرها مملوءة بالشعر، بل كان بعضها شِعرًا خالصًا ليس فيه من النثر إلا «آنستي العزيزة مي!» وقد نشر طائفة منه في الجزء الرابع من ديوانه الذي أصدره سنة ١٩٢٨. وأبدل فيه باسم «مي» اسم «هند» حين كان يضطر إلى ذكر الاسم في سياق الأوزان! أما «سارة» التي كان يحبُّها في الوقت الذي كان يحبُّ فيه «مي» حُبًّا روحيًّا، فيذكرها باسم مستعار أيضًا هو «سعاد» أو «ليلى». وليس لنا أن نذكر اسمها الحقيقي الآن؛ لأنها ما تزال حية تُرزَق في باريس، وهي مسيحية لبنانية كانت تعيش في مصر، ثمَّ سافرت إلى فرنسا منذ ثلاثين سنة وما تزال بها حتى الآن. وقد أرسلت صورتها إلى الأستاذ العقاد منذ خمس سنوات، وهي صورة تُمثِّلها في سن الستين، ولكنها تحتفظ بذكريات الجمال والشباب وما تزال بها ملامح صورة لها صوَّرها العقاد جالسة عن يمينه في شباب الحب الذي جمعهما في شباب العمر وربيع الحياة، واحتفظ بها مع الثانية في مكان خاص إلى وفاته!

مي وسارة

وقد كانت «مي» لا تعلم من شأن «سارة» شيئًا، وكانت «سارة» لا تعلم من شأن «مي» إلا أن «عَبَّاسًا» يعرفها معرفة أدبية، ويقدِّرها لعلمها وأدبها، ولكنها كانت تتبرم بزيارته لها حين تعلم أنه زارها، وكانت تجتهد أن تشغله عن زيارتها في اليوم الموعود، فيؤجل موعد زيارة «مي» مكتفيًا بحديث التليفون. إلا اليوم الذي تعلن فيه «كنيسة الظاهر» عن أفلام الفانوس السحري، فلا اعتذار عن حفلتها، بل لا بدَّ أن يذهبا معًا إليها؛ لأنها الحفلة التي تقوم مقام الذهاب إلى السينما معًا، وتتيح للحبيبين أن يقضيا وقتًا سارًّا لا شُبهة فيه ولا رقابة ولا رقباء، فتنعم فيه روحاهم بأنس الحب، ومتعة القرب ونجوى السرائر والوجدان.

وهنا نسأل «العقاد» كيف جمع بين هذين الحبَّين: «حب مي» و«حب سارة»، ويجيب عن هذا السؤال، فيقول: «إذا ميَّز الرجل المرأة بين جميع النساء، فذلك هو الحب!

وإذا أصبح النساء جميعًا لا يغنين الرجل ما تغنيه امرأة واحدة فذلك هو الحب!

وقد يُميِّز الرجل امرأتين في وقت واحد، لكن لا بدَّ من اختلاف بين الحُبَّين في النوع، أو في الدرجة، أو في الرجاء. فيكون أحد الحُبَّين خالصًا للروح والوجدان، ويكون الحب الآخر مستغرقًا شاملًا للروحين والجسدين، أو يكون أحد الحُبَّين مُقبلًا صاعدًا والحب الآخر آخذًا في الإدبار والهبوط. أمَّا أن يجتمع حُبَّان قويَّان من نوع واحد في وقت واحد، فذلك ازدواج غير معهود في الطِّباع؛ لأن العاطفة لا تقف ولا تعرف الحدود، وإذا بلغت العاطفة مداها جبَّتْ ما سواها.»

ثمَّ يعترف واصفًا ما كان بينهما بصيغة المتكلم: «وقد كنتُ أحب «مي» حين التقيت بسارة لأول مرة في «بيت مريانا» بمصر الجديدة، أحببتها الحب الذي جعلني أنتظر الرسالة، أو حديث التليفون كما ينتظر العاشق موعد اللقاء، وكُنَّا كثيرًا ما نتراسل ونتحادث، وكثيرًا ما نتباعد ونلتزم الصمت الطويل إيثارًا للتَّقية، واجتنابًا للقيل والقال. ولكننا في جميع ذلك كُنَّا أشبه بالشجرتين منهما بالإنسان تتلاقيان وكلاهما على جذوره وتتلامسان بأهداب الأغصان، أو بنفحات النسيم العابر من هذه الأوراق.

وكنت أُغازلها، فتومئ إليَّ بأصبعها كالمُنذرة المُتوعدة، فإذا نظرتُ إلى عينيها لم أدرِ أتستزيدني أم تنهاني، ولكنني أدري أن الزيادة ترتفع بالنفحة إلى مقام النشوز.

وكُنَّا نتواعد إلى جلسة من جلسات الصور المتحركة في مكان لا غُبار عليه «كنيسة الظاهر»، فنتحدث بلسان بطل الرواية وبطلتها، ونُسهب ما احتملت الكناية والإسهاب، ثمَّ نُغيِّر سياق الحديث في غير اقتضاب ولا ابتسار.

وكُنَّا أشبه بالنجمين السيَّارين في المنظومة الواحدة، لا يزالان يحومان في نطاق واحد، ويتجاذبان حول محور واحد، ولكنهما يَحذَران التقارب؛ لأنه اصطدام!»

•••

ذلك ما اعترف به العقاد في حب «مي» التي كان يسميها «هند» في شعره وكتابته، وهو حب روحي نزيه تسوده البراءة والطهر. فلما عاد من لبنان، اتَّصلت به تليفونيًّا لتهنئه بالعودة، وتدعوه للقاء كعادتهما قبل السفر. وصادف أن «سارة» كانت موجودة عند العقاد، ولم يكن هو بجوار التليفون، فردَّت عليها «سارة» ردًّا أيقظ في نفسها الشك والقلق، وشعرت بأن هناك فتاة أخرى تشاركها حبها وتنازعها هواها، ولم تكن تعتقد الرهبانية في «العقاد»، ولا تزعم بينها وبين وجدانها أنه معزول عن النساء، ولكنها لم تكن تحفل باتِّصاله بالنساء ما دام اسمهن نساء، لا يلوح بينهن شبح غرام بامرأة واحدة غيرها!

وساوس الهجر

فلما شعرت بأن هناك امرأة أخرى يُحبها غضبت، وامتنعت مدة عن محادثته بالتليفون، فأرسل إليه رسالة منظومة بعنوان «وساوس الهجر» جاء فيها:

قلتُ للقلب، وهو جَدُّ عجول
يشتكي بعدها، ويبغي الشفاء
إن يكن عندها هواكَ فدعْها
سوف ترجو كما رجوتَ اللقاء
أو يكن عندها قِلاكَ فدعْها
تُضمر القُرب أو تُطيل الجفاء
لستُ يا قلب خاسرًا أن تولتْ
ولك الغنم إن أجدت وَلاء
قال لي القلب، وهو يُعرض عني
من نفار، وما يُطيق الدعاء
إنَّ في قلبها، «ذماء غرام»
أتراني أسلو، فأردي «الذماء؟»
إيه يا ناصحي لكَ الله دعني
أترجى، وإن أضعتَ الرجاء
سوف أشقى برجعة الحب حتى
أُبصر الحب ميِّتًا لا مراء

موت الحب

فلما وصلتها هذه الأبيات لم ترد عليه بأية رسالة، أو كلمة في التليفون، بل ذهبت إليه بعد مدة على حين غِرَّة، ودخلت عليه مكتبه بجريدة البلاغ، وإني أدع «العقاد» نفسه يروي بصيغة المتكلم هذا الحادث — حادث القطيعة — بينه وبين الأديبة النابغة، قال: «زارتني على حين غِرَّة في مكتب عملي، وهي الزيارة الأولى والأخيرة من قبيلها، ولم يكن لها مُسوغ من طول الغيبة، ولا امتناع الحديث في التليفون. فما شككتُ لحظة في غرض الزيارة، ولا في باعثها، وتوقعتُ منها عتبًا عنيفًا في أسلوبها في التعبير الصامت المبين، ولكني علمتُ سَلفًا أنها غير مُنصفة في عتبها؛ لأنني لم أختلس منها شيئًا هو من حقِّها عليَّ، فرحَّبتُ بها وأبديتُ لها استغرابي لزيارتها، وابتهاجي بسؤالها عني، وأنصتُّ مترقِّبًا، فقالت بعد فترة وصوتها يتهدج: لست زائرة، ولا سائلة!

فقلت: إذن …

ولم أتمها؛ لأنها نظرت إليَّ كمن يستحلفني ألا أتكلم، وانحدرت من عينيها دمعتان!

فما تمالكت نفسي أن تناولت يدها، ورفعتها إلى فمي أقبِّلها وأُعيد تقبيلها، فمانعتني، ولم تكفف عن النظر إليَّ، ثمَّ استجمعت عزمها ونهضت منصرفة وهي تتمُّ هامسة: دع يدي ودعني! ثمَّ انصرفت بعد أن سكن جأشها وزال من صفحة وجهها أثر الدموع!»

وقد قال العقاد: لو جاءت هذه الزيارة، وأنا في بداية العلاقة بسارة لما كان بعيدًا أن تقضي على تلك العلاقة، وأن تردَّ سارة اسمًا مغمورًا في عامة النساء!

مات حب «مي» إذن، وقضت سارة على هذا الحب الذي عاش فترة قصيرة من الزمان، ولو أنه عاش طويلًا لأهدى إلى الأدب العربي ثروة كبيرة من «أدب الحب»، ولقد شيَّع «العقاد» هذا الحب الراحل بقصيدة طويلة بعنوان «موت الحب» جاء منها:

وُلِدَ الحُبُّ لنا، وا فرحتاه
وقضى في مهده وا أسفاه
مات لم يدرج، ولم يلعب ولم
يشهد الدنيا، ولم يعرف أباه
ليته عاش فأمَّا إذ قضى
فليكن بردًا على القلب جَواه
أشكر الموتَ وأشكوه معًا
غال حبي قبل ما تنمو قواه
غاله وهو صغير قبلما
تكبر البلوى به يوم نواه
فتولَّى رحمة الله على
أمل لاح ولم يبلغ مداه
آه لو تُغنِي من اللوعة آه
ليتني أسمع في القبر صداه

(٣) بين مي وجبران

الرسالة الأولى

أحبَّت «مي» جبران خليل جبران، وأحب جبران ميًّا، دون أن يرى أحدهما الآخر أو يجتمعا معًا مرة واحدة؛ فقد عاش في أمريكا طول حياته، ولم يخرج منها إلا حين وفاته سنة ١٩٣١ حيث نُقِلت جثته إلى بشرى بلبنان، وعاشت هي طول حياتها في مصر لم تسافر قط إلى أمريكا، وكان أول تعارف لهما عن طريق النقد والكتابة الأدبية، ثم تطور ذلك إلى صداقة فحب عميق، فرغبة في الزواج لولا بعض الظروف العائلية.

كان أول تراسل بينهما حين أرسل إليها مؤلَّفه «الأجنحة المُنكسِرة» في أواخر أبريل سنة ١٩١٣، وكان عمره وقتئذٍ ٢٩ عامًا، وكانت هي في نحو الخامسة والعشرين؛ فقد قرأت هذا الكتاب ككاتبة أديبة، ورأت أن تُبدي رأيها في فصوله، فأرسلت إليه خطابًا كان أول خطاباتها إليه، وقد انتقدت أول شيء تهتم به المرأة وهو الزواج، فقالت:

«إننا لا نتفق في موضوع الزواج يا جبران، أنا أحترم أفكاركَ، وأُجِلُّ مبادئكَ لأنني أعرفكَ صادقًا في تعزيزها مُخلصًا في الدفاع عنها، وكلها ترمي إلى مقاصد شريفة، وأشارككَ أيضًا في المبدأ الأساسي القائل بحرية المرأة، فمثل الرجل يجب أن تكون المرأة مطلقة الحرية بانتخاب زوجها من بين الشُّبَّان، مُتَّبعة في ذلك ميولها وإلهاماتها الشخصية، لا مُكيِّفةً حياتها في القالب الذي اختاره لها الجيران والمعارف، حتى إذا ما انتخبت شريكًا لها تقيَّدت بواجبات تلك الشركة العمرانية تقيُّدًا تامًّا. أنت تُسمي هذه سلاسل ثقيلة حبكتها الأجيال، وأنا أقول نعم سلاسل ثقيلة، ولكن حبكتها الطبيعة التي جعلت المرأة «ما هي»، فإذا توصَّل الفكر إلى كسر قيود الاصطلاحات والتقاليد، فلن يتوصَّل إلى كسر القيود الطبيعية لأن أحكام الطبيعة فوق كل شيء.

لِمَ لا تستطيع المرأة الاجتماع بحبيبها على غير علم من زوجها؟ لأن باجتماعها هذا السري مهما كان طاهرًا تخون زوجها، وتخون الاسم الذي قبلته بملء إرادتها، وتخون الحياة الاجتماعية التي هي عضو عامل فيها.

عند الزواج تَعِد المرأة بالأمانة، والأمانة المعنوية تُضاهي الأمانة الجسدية أهميةً وشأنًا، عند الزواج تتكفَّل المرأة بإسعاد زوجها، وعندما تجتمع سِرًّا برجل آخر تُعدُّ مُذنبة إزاء المجتمع والعائلة والواجب. ربما اعترضتَ على هذا بقولكَ إن الواجب كلمة مبهمة يعسر تحديدها في أحوال كثيرة، فليس لنا إلا أن نعلم «ما هي العائلة؟» لنجد الواجبات التي نفرضها على أفرادها، ودور المرأة العائلي هو أصعب الأدوار وأوضعها وأمرها!

إنِّي أشعر شعورًا شديدًا بالقيود المُقيَّدة بها المرأة، تلك القيود الحريرية الدقيقة كنسيج العنكبوت المتينة متانة أسلاك الذهب، ولكن إذا جوَّزنا ﻟ «سلمى كرامة» بطلة الرواية — ولكل واحدة تُماثل سلمى عواطفَ وسموًّا وذكاءً — إذا جوَّزنا لها الاجتماع بصديق شريف النَّفس عزيزها، فهل يصحُّ لكل امرأة لم تجد في الزواج السعادة التي حلمت بها وهي فتاة أن تختار لها صديقًا غير زوجها، وأن تجتمع بذلك على غير معرفة من زوجها، حتى لو كان القصد من اجتماعهما الصلاة عند فتى الأجيال المصلوب (تعني المسيح)؟»

مي

هذا هو أول التعارف الكتابي بين «مي» و«جبران». وقد ردَّ عليها مؤيِّدًا وجهة نظرها، مقدِّرًا صراحتها ولباقتها في نقدها، ثمَّ أرسل إليها بعد ذلك كتابين: «المواكب» و«المجنون»، فكتبت إليه رأيها فيهما. ثم تعددت الرسائل بينهما، وتطوَّر التعارف إلى إعجاب، ثم إلى صداقة، ثم إلى حب شديد بين أديبين شابين أودعا في رسائلهما كل ما يشعران من لهفة وولع وغرام.

(٤) قصة غرام

في سنة ١٩١٩ أصدر جبران خليل جبران كتابيه «المواكب» و«المجنون»، فكتبت مي عن «المواكب» مقالًا ترددت فيه بين النقد والتقريظ، وبين الهجوم والاستسلام، وكان حبها له وقتئذٍ في الطريق لم يدق «الباب» بعد، أعني باب القلب. أو أنه دقَّ هذا الباب، ولكنها أمسكت بمصراعيه؛ لأنها كانت تشعر بذاتها، وتعتد بنفسها كأديبة ناقدة قبل أن يسيطر الحب على القلب والقلم، فيحوِّلها إلى أديبة مُعجبة مُحبَّة لأديب مُعجَب مُحبٍّ، وإنسانة فنانة مغرمة بإنسان مغرم فنان.

كتبت تنقد هذين الكتابين، فمدحتْ بحساب، ونقدتْ وآخذت أيضًا بحساب، فقالت في مدحه:

«في المواكب كما في المجنون أكاد أتبين تأثير نيتشه، وإن كانت بسمة التهكم الفني الدقيق التي نراها عند جبران أفندي لن تشبه أبدًا ضحكة نيتشه ذات الجلبة الضخمة المزعجة.

إن الشاعر العربي فني في كل شيء، ونظرة واحدة إلى كتاب «المواكب» تكفي لتعيين ما عنده من ذوق بسيط أنيق، ولا تقيم المرارة لديه طويلًا لأنه يعود إلى ذكر الطبيعة وحبها، وينشد مطربًا حزنه ولهفه بنغمة عذبة:

ليس حزنُ النفس إلا
ظل وهمِ لا يدوم
وغيوم النفس تبـ
ـدو من ثناياها النجوم

وقد يرتفع أحيانًا إلى أعلى ذُرى التأمل، فتحسب الإمام الغزالي متكلِّمًا إذ يقول:

وغاية الروح طيُّ الروح قد خفيت
فلا المظاهر تُبديها ولا الصورُ
فما طوت شَمْأَلٌ أذيال عاقلة
إلا ومرَّ بها الشرقي فتنتشرُ

فيجيبه في الغاب بما يدل على اعتقاده بوحدة الوجود:

لم أجد في الغاب فرقًا
بين نفس وجسد
فالهوا ماء تهادى
والندى ماء ركد
والشَّذا زهرٌ تمادى
والثَّرى زَهرٌ جَمَد
أعطني الناي وغنِّ
فالغنا جسمٌ وروح
وأنين الناي أبقى
من غَبوق وصَبوح

ولا يفتأ المرء يُسائل نفسه ما هذا الناي الذي يبقى بعد فناء كل شيء وأنينه «سر الخلود». أهو أداة الفن، ريشةً كانت أم قلمًا، أم وترًا؟ أهو الجاذبية سر تعارف الأكوان؟ أهو نظام الاستمرار الدائم مع ما يتخلله من تحول وانشعاب؟ أم هو الحياة كل الحياة؟

لستُ أعلم ما إذا كان ذلك واضحًا في ضمير الشاعر، وهل هو يعني بالناي شيئًا مُعيَّنًا؟ ولكن إن غمُض علينا هذا المعنى، فإن كل معنى في صُوَره الأخاذة جلي، وإن كلًّا منها حكاية خاطرة، وقصيدة رمزية رُسِمَت بريشة أستاذ ماهر جمع بين الحدس الشرقي والإتقان الغربي.»

ثمَّ تقول في النهاية ناقدة:

«ولكني أعتقد أن ذاتية الكاتب لم تدرك بعد استعدادها الأقصى، ولم تقف بعد على ذروة اقتدارها، سواء في التصوير أو الكتابة. إن جبران أفندي خليل جبران ما زال مُتسلِّقًا كنف الجبل الذي قيَّدته الأقدار بالصعود إليه، وسيتابع الصعود متمرِّدًا ما دام كَلِفًا بهذا النعت وراء ستار الهجوم والتهكم بالرموز والأمثال، ولكنه سيصل يومًا إلى القمة، فنسمع منه عندئذٍ أجمل أنغامه، ونلمح أسمى هيئة من نفسه الفنية السنية التي تسطع في أرجائها الأضواء.»

من النقد إلى الصداقة الأدبية

نقلتُ ذلك مما كتبته عن كتاب «المواكب» لجبران؛ ليُتابع القارئ «قصة هذا الحب» الذي بدأ أدبيًّا، ثمَّ تحوَّل فأصبح قلبيًّا عاطفيًّا، ولقد كان كفتاة رفيعة الشعور مُتحرِّجة مُشفقة في نقد جبران كفتًى أديب فنان، تُضمر له الإعجاب والحب الدفين، ولقد أشفقت أن تنقد كتابه «المجنون» الذي صدر في نفس السنة التي صدر فيها كتاب «المواكب»، فأرسلت برأيها إليه في خطاب لم تنشره في الصحف، فأجابها جبران بخطاب خاص يقول فيه:

«المجنون ليس أنا بكليتي، واللذَّة التي أردتُ بيانها بلسان شخصية ابتدعتها ليست كل ما لديَّ من الأفكار والمنازع، واللهجة التي وجدتها مناسبة لميول ذلك المجنون ليست باللهجة التي أتَّخذها عندما أجلس لمحادثة صديق أحبه وأحترمه!

وإذا كان لا بدَّ من الوصول إلى حقيقتي بواسطة ما كتبته، فما عسى يمنعك عن اتخاذ فتى الغاب ونغمة نايه منها إلى المجنون وصراخه، وسوف يتحقق لديك أن المجنون لم يكن سوى حلقة من سلسلة طويلة مصنوعة من معادن!

لا أُنكر أن المجنون كان حلقة خشنة مصنوعة من حديد، ولكن هذا لا يدلُّ على أن السلسلة كلها خشنة ومن الحديد!

لكل روح فصول يا مي، وشتاء الروح ليس كربيعها، ولا صيفها كخريفها.»

ثمَّ انتقل في هذا الخطاب إلى الحديث عن كتابه «دمعة وابتسامة» الذي صدر قبل سنة ١٩١٤. وكانت «مي» قد انتقدت في خطابها إليه لهجته المضطربة وضعف مقالاته، وسألته عما حداه إلى نشره، فأجابها:

«أجل لنتحدث قليلًا عن كتاب «دمعة وابتسامة»، فأنا لست بخائف، ظهر هذا الكتاب قبل نشوب الحرب العالمية بمدة قصيرة، وقد بعثتُ إليك بنسخة منه يوم صدوره، ولكن لم أسمع منكِ كلمة واحدة عن وصوله. أما مقالاته، فهي أول شيء كتبته، نُشرت متتابعة في جريدة المهاجر منذ ١٦ سنة، ولقد شاء نسيب عريضة فجمعها وأضاف إليها مقالين كتبتهما في باريس — سامحه الله — ولقد كتبتُ ونظمتُ قبل «دمعة وابتسامة» بين الطفولة والشباب ما يملأ المجلَّدات الضخمة، ولكني لم أقترف جريمة نشرها، ولن أفعل.»

من صداقة إلى حب

بدأت إذن علاقة جبران ﺑ «مي» وعلاقتها به بطابع من الأدب والنقد، والتراسُل الأدبي، ثمَّ تطورت إلى صداقة، ثمَّ تطورت الصداقة إلى حب، فغرام، فرغبة في الزواج. وقد شجَّع جبران على هذا التطور ما كان يقرؤه في رسائل مي إليه سواء أكانت نقدًا لكُتبه، أو سؤالًا عنه في غربته، أو اهتمامًا بصحته وحالته، أو تعريفًا له بأنها تحرص على قراءة مؤلفاته. وقد جاء في خطاب بعثته إليه في ٢٢ مايو سنة ١٩١٢:

«أمَّا هناك في لبنان، فلا أُحادث إلا الذي سرَّني حديثه، ولا أساتذة لي إلا أحلامي وتأملاتي، ولا أقرب من الكتب إلا الكتاب الذي أُحبه، وكل واحد من مؤلفاتكَ صديق عزيز عليَّ، بل أراني تلميذة أفكارك في مواضيع كثيرة.»

وقد قابلت هي هذا التطور بارتياح، بل استجابت إلى أنه الحب، واتَّجهت إلى مِحرابه، وكانت وقتئذٍ في عنفوان الشباب، وقد أخفت عليه في أول أمرها غرامها به، وتظاهرت بالصداقة الفكرية، ثمَّ طواها الحب كما يطوي في بحره وبين عواصفه قلوب العاشقين فصرَّحت به، وصرَّح هو بحبه لها وغرامه بها، وجرت بينهما الرسائل الرقيقة البليغة التي تُعدُّ نموذجًا خالدًا من أدب الحب، فكتبا رسائلهما بأسلوب اجتمع فيه القلب والفكر والوجدان، وتسامت فيه النفس عن الجسد، وتغلَّبت فيه الروح على الماديات، ولكنه حب إنساني، عاش بين إنسانة وإنسان، واستعبد أديبةً وأديبًا، وأسعدهما بما فيه من لذة وجمال.

أنت وأنا غريبان

وقد بعث إليها جبران في أول نوفمبر سنة ١٩٢٠ يصرِّح لها بأنه منذ عام يشعر بالميل إليها ميلًا قويًّا، وهو الحب نفسه، ولكنه كان يكتمه حتى اضطر إلى أن يُصارح به صديقة له في نيويورك، فقال:

عزيزتي مي

«النفس يا مي، لا ترى بالحياة إلا ما بها، لا تُؤمن إلا باختباراتها الشخصية، وإذا ما اختبرت أمرًا صار جزءًا منها. وأنا قد اختبرتُ أمرًا في العام الغابر، اختبرتُه مِرارًا عديدة، اختبرته بنفسي وعقلي وحواسي، اختبرته وكان بقصدي أن أكتمه كشيء خصوصي، ولكني لم أكتمه، بل أظهرته لصديقة لي تعودت محادثتها، أظهرته لها لأنني شعرت إذ ذاك بحاجة ماسة إلى إظهاره! وهل تعلمين ماذا قالت صديقتي؟ قالت لي على الفور: «هذا نشيد غنائي.»

لو قيل لوالدة تحمل طفلها الوحيد على منكبيها: هذا تمثال من الخشب، وأنت تحملينه بعياقة، فبماذا تجيب تلك الوالدة، وبماذا تشعر؟

ومرت الشهور، وهذه الكلمة «نشيد غنائي» تطوف في نفسي، ولم تكتفِ صديقتي بما قالته، بل ظلَّت واقفة لي بالمرصاد، فلم أقل كلمة إلا ذيَّلتها بالتعنيف، ولم أحدق بشيء إلا وأخفته وراء الستار، ولم أمد يدًا إلا وثقبتها بمسمار، بعد ذلك قنطتْ!

ليس بين عناصر النفس عنصر أمرُّ من القنوط، ليس في الحياة شيء أصعب من أن يقول المرء لنفسه: قد غُلِبت!

والقنوط يا مي جَزرٌ لكل مدٍّ في القلب، والقنوط عاطفة خرساء؛ لذلك كنت أجلس أمامكِ في الآونة الأخيرة، وأنظر طويلًا إلى وجهكِ بدون أن أنبس ببنت شفة؛ لذلك لم أكتب بدوري، كنتُ أقول في سري: لم يبقَ لي دور.

ولكن في قلب كل شتاء ربيع يختلج، ووراء نقاب كل ليل صبح يبتسم، وها قد تحول قنوطي إلى أمل!

وماذا عسى أن أقول عن رجل يوقفه الله بين امرأتين: امرأة تحول من أحلامه يقظة، وامرأة تحول من يقظته أحلامًا؟

ماذا أقول عن قلب يضعه الله بين سراجين؟

ماذا أقول عن هذا الرجل؟

هل هو كئيب؟ هل هو سعيد؟ هل هو غريب عن هذا العالم؟

لا أدري، ولكني أسألك: هل تُريدين أن يبقى غريبًا عنكِ؟

هل هو غريب، وليس في الوجود من يعرف كلمة من لغة نفسه؟ لا أدري ولكني أسألك: أوَلا تُريدين مُحادثته بهذه اللغة وأنت أعرف الناس بها؟!

هل هو كئيب؟ هل هو سعيد؟ هل في هذا العالم كثيرون يفهمون لغة نفسك؟

أنت، وأنا، يا مي من الذين حَبَتهم الحياة بالأصدقاء والمحبين والمريدين، ولكن قولي لي: هل يوجد بين هؤلاء الغيورين المخلصين من نستطيع أن نقول له: «ألا فاحمل صليبي يومًا واحدًا؟» هل منهم من يعلم أن وراء أغانينا أغنية لا تسجنها الأصوات ولا ترتعش بها الأوتار؟ هل بينهم من يعلم بالفرح في كآبتنا والكآبة في فرحنا؟

قد تقولين لي: أنت فنِّي، وأنت شاعر، ويجب عليكَ أن تكون مُقتنعًا بأنك فنِّي وشاعر، ولكن يا مي أنا لستُ بفنِّي وشاعر، قد صرفتُ أيامي مصوِّرًا كاتبًا، ولكن أنا لست في أيامي ولياليَّ!

أنا ضباب يا مي، أنا ضباب يغمر الأشياء، ولكنه لا يتَّحد وإياها، أنا ضباب لم ينعقد قطْرًا، أنا ضباب وفي الضباب وحدتي، وفيه هو انفرادي ووحشتي، وفيه جوعي وعطشي، ومصيبتي هل أن الضباب — وهو حقيقتي — يشوق إلى لقاء ضباب آخر في الفضاء، ويشوق إلى استماع قائل يقول: لستَ وحدك، نحن اثنان، أنا أعرف من أنتَ!

أخبريني يا مي، أفي ربوعكم من يقدر ويريد أن يقول لي: أنا ضباب آخر أيها الضباب، فتعالَ نُخيِّم على الجبال وفي الأودية، تعالَ نسير نسير بين الأشجار وفوقها، تعالَ نغمر الصخور المتعالية، تعال ندخل معًا إلى قلوب المخلوقات وخلاياها، تعال نطوف في تلك الأماكن البعيدة المنيعة غير المعروفة!

قولي يا مي، أيوجد في ربوعكم من يريد ويقدر أن يقول لي ولو كلمة واحدة من هذه الكلمات؟»

قرأت مي رسالته، فاهتزَّت عواطفها، وردَّت عليه برسالة رحَّبت فيها بشوقه إليها وعاطفته النبيلة نحوها، وطلبت منه أن يعفو عما فَرَط منها في نقدها لبعض كتبه، وقد قست عليه قسوة شديدة. ثمَّ أخذت تسأله أسئلة توحي باهتمامها به كما تهتم الفتاة المحبة بفتاها الحبيب، سألته عن جوِّه المعنوي، وعن بيئته وصحته، وماذا يلبس من ملابس، وكم سيجارة يدخن في اليوم، وعن حياته اليومية كيف يقضيها؟

وسألته عن مكتبه، وهل هو بسقف يحجبه عن السماء أو بلا سقف، فيتَّصل مباشرة بالسماء وبالعالم العلوي بنفسه وفكره، وتأملاته ونظراته بلا حاجز أو حجاب؟

وقد أرسلت مع هذه الرسالة نسخة من كتابها الجديد «باحثة البادية» الذي صدر في ذلك الحين، فكتب إليها هذه الرسالة:

عزيزتي مي

«ماذا أقول عن جوِّي المعنوي؟ لقد كانت حياتي منذ عام أو عامين لا تخلو من الهدوء والسلام، أمَّا اليوم فقد تبدَّل الهدوء بالضجيج، والسلام بالنزاع. إن البشر يلتهمون أيامي ولياليَّ، ويغمرون حياتي بمنازعهم ومراميهم. لكم مرة هربت من هذه المدينة الهائلة إلى مكان قصيٍّ لأتخلص من الناس، ومن أشباح نفسي أيضًا، إن الشعب الأمريكي جبَّار، لا يكلُّ ولا يملُّ، ولا يتعب ولا ينام ولا يحلم، فإذا أبغض هذا الشعب رجلًا قتله بالإهمال، وإذا أحبه قتله بالحب والانعطاف. فمن شاء أن يحيا في نيويورك عليه أن يكون سيفًا قاطعًا، ولكن في غِمد من عسل، السيف لردع الراغبين في قتل الوقت، والعسل لإرضاء الجائعين، وسوف يجيء يوم أهرب فيه إلى الشرق.

إن شوقي إلى وطني يكاد يُذيبني، ولولا هذا القفص — هذا القفص الذي حبكتُ قضبانه بيدي — لاعتليت متن أول سفينة سائرة شرقًا. ولكن أي رجل يستطيع أن يترك بناء صرف عمره ينحت حجارة وصفها، حتى وإن كان ذلك البناء سجنًا له؟ فهو لا يقدر، أو لا يريد أن يتخلَّصَ منه في يوم واحد.

إن صحتي الآن أردأ نوعًا مما كانت عليه في بدء الصيف؛ فالشهور الطويلة التي صرفتها بين البحر والغاب قد وسَّعت المجال بين روحي وجسدي. أما هذا الطائر الغريب (يعني قلبه) الذي كان يختلج أكثر من مائة مرة في الدقيقة، فقد أبطأ قليلًا، بل أخذ يعود إلى نظامه العادي، غير أنه لم يتمهَّل إلا بعد أن هدَّ أركاني وقطع أوصالي!

وأنتِ يا مي تُريدين أن أبتسم وأعفو، لقد ابتسمتُ كثيرًا منذ الصباح، وها أنا ذا أبتسم من أعماقي، وأبتسم بكُلِّيتي، وأبتسم طويلًا، وأبتسم كأنني لم أُخلق إلا للابتسام!

أما العفو، فلفظة هائلة أوقفتني متهيِّبًا خجولًا، إن الروح النبيلة التي تتواضع إلى هذا الحد لهي أقرب إلى الملائكة منها إلى البشر، أنا المُسيء وحدي وقد أسأتُ إليكِ في سكوتي، وفي قنوطي؛ لذلك أستعطفكِ أن تغفري لي ما فرط مني وتسامحيني!»

ثمَّ يتحدث عن كتابها «باحثة البادية»، فيمتدحه دون أن ينقده، ويقول:

«وغدًا بعدما يطرح الزمن ما يكتبه الكُتَّاب وينظمه الشعراء في هُوَّة النسيان، يظل كتاب «باحثة البادية» موضوع إعجاب الباحثين والمفكِّرين.

أنت يا مي صوت صارخ في البرية، وأنت صوت ربَّاني، والأصوات الربانية تبقى متموجة في الغِلاف الأبدي حتى نهاية الزمن!»

ثمَّ يجيبها على سؤالها عن ملابسه، وعن ألوانها وعاداته في لبسها، فيقول:

«من عاداتي — يا مي — أن أرتدي بذلتين في وقت واحد، بذلة من نسج النسَّاجين، وبذلة من لحم ودم وعِظام. أما اليوم، فإني أرتدي ثوبًا واحدًا طويلًا وسيمًا عليه أثر الحبر والألوان، وهو بالإجمال لا يختلف عن ملابس الدراويش إلا بنظافته!

أنا أكره ملابس رجال الغرب؛ فهي بلا وزن ولا قافية، وإذا ما عُدت إلى الشرق فلن ألبس إلا الملابس الشرقية القديمة.»

ويجيبها على سؤالها عن التدخين، فيقول:

«ما أعذب هذا السؤال! وما أصعب الجواب عليه، هذا نهار تدخين، فقد حرقت منذ صباحه «مليون لفافة!»

والتدخين عندي لذَّة، لا عادة قاهرة؛ فقد يجيء الأسبوع الكامل ولا أدخِّن فيه سيجارة واحدة.

أما مكتبي، فلم يزل بلا سقف ولا جدران، وأبحار الرمل وبحار الأثير، فهي كما كانت بالأمس، عميقة كثيرة الأمواج، وبدون شواطئ، وأمَّا شِراع السفينة التي أخوض بها هذه البحار فهو غير منشور، فهل تستطيعين نشر شِراع سفينتي؟

ها قد بلغت قمة عالية، فظهرتْ أمامنا سهول وغابات وأودية، فلنجلس هنيهة يا مي، ولنتحدث قليلًا. نحن لا نستطيع البقاء هنا دائمًا، لأني أرى عن بعد قمة أعلى، وعلينا أن نبلغها قبل الغروب.

قد قطعنا عقبة صعبة المسالك، وقطعناها بشيء من التلبُّك، وإني أعترف لك بأني كنت لجوجًا، وأعترف لكِ أني لم أكن حكيمًا في بعض الأحايين، ولكن أليس في الحياة ما لا تبلغه أصابع الحكمة؟ أليس في الحياة ما تتحجَّر الحكمة أمامه؟!

الانتظار حوافر الزمن يا مي، وأنا دائمًا في انتظار، أنا دائمًا أنتظر ما لا أعرفه ويُخيَّل لي في بعض الأحايين أني أصرف حياتي مُترقِّبًا حدوث ما لم يحدث بعد، وما أشبهني بأولئك المقعدين الذين كانوا يجلسون بجانب البحر مترقبين هبوط ملاك يُحرك الماء!

أما الآن، وقد حرك الملاك البركة، فمن يلقيني في الماء؟ فإني أسير في ذلك المكان المهيب المسحور، وفي عيني نور، وفي قدمي عزم.

لديَّ أمور كثيرة أريد أن أقولها عن العنصر الشفَّاف وغيره من العناصر، ولكن عليَّ أن أبقى صامتًا عنها، وسوف أبقى صامتًا حتى يضمحل الضباب، وتنفتح الأبواب الدهرية، ويقول لي ملاك الرب: تكلَّم؛ فقد ذهب زمن الصمت، وسِر فقد طال وقوفك في ظلال الحيرة، متى يا ترى تنفتح الأبواب الدهرية، هل تعلمين؟ هل تعلمين متى تنفتح الأبواب الدهرية ويضمحل الضباب؟»

مي تعتذر عن الزواج

وقد عرض جبران وقتئذٍ في إحدى رسائله الزواج من مي، وهذا العرض — على ما يظهر — كان مفاجئًا لها؛ لأنها وإن غزا الحب قلبها وأصبحت تشعر شعورًا عميقًا بأن جبران هو فتاها الوحيد وصديقها المختار، بل الحبيب المُصطفى بين من عرفتهم من الأدباء والشعراء والمُفكِّرين، فقد كان يُخالجها الشك والتردد وكانت لا تُصدق أن يأتي اليوم الذي تهجر فيه مصر إلى نيويورك؛ لأنها كانت تعيش ابنة وحيدة بين أبوين شيخين في القاهرة يحبَّانها كل الحب، ويحرصان على وجودها بينهما كل الحرص، ولا يستطيعان أن تُفارقهما وتذهب بعيدة في بلاد تفصل بينها وبين مصر مسافات شاسعة؛ فكتبت إليه بتاريخ ٦ ديسمبر سنة ١٩٢١ تقول:

عزيزي جبران

«لما كنت أجلس للكتابة كنت أنسى من أنتَ وأين أنتَ، وكثيرًا ما أنسى أن هناك شخصًا، أن هناك رجلًا أُخاطبه، فأكلمك غالبًا كما أُكلم نفسي، وأحيانًا كأنك «رفيقة في المدرسة». إنما كان يطفو على تلك الحالة المعنوية عاطفة احترام خاص، لا توجد عادةً بين فتاة وفتاة، أهي المسافة وعدم التعارف الشخصي والبحار المُنبسطة بيننا هي التي كانت تُلبس حقيقة ذلك التراسل ثوب الخيال؟ قد يكون، غير أن مكانتكَ في اعتباري وتقديري كانت مصدر هذه الثقة التي ظهرت منذ نشأتها كأنها فطرية بديهية، لم تنتظر الوقت لتقوى، ولا التجربة لتثبت.

فوصلت الرسالة وقرأتها، فأحجمت إزاء بعض الكلمات خوفًا مما تجرُّ إليه، ومرَّت أسابيع ستة أو سبعة دون أن أكتب؛ لأني كنت أقول لنفسي: يجب أن أقف هنا، ولكنَّا لم نقف، بل خطونا خُطوة، بل قفزنا قفزة!

أنت قيَّدتني «مذنبة» في دفتركَ، وقمتَ تشكو لأني كنت كلما حدقت في شيء أخفيه وراء القناع، وكلما مددت يدًا أثقبها بمسمار، نعم فعلت ذلك، فعلت متعمدة، تعمدت قطع تلك الأسلاك الخفية التي تعزلها يد الغيب، وتمدها بين فكرة وفكرة، وروح وروح، وصِرت أحرِّفُ المعاني، وأمسخُ الأشياء، وأضحكُ عند الكلمات التي تملأ العين دموعًا!

وهل كان لديَّ من وسيلة أخرى لأحوِّلك عن «هذا الموضوع»، وأُذكِّرَك أني وحيدةُ أَبَوَيَّ؟ وقد لا يكون في العائلة الغربية إلا ولد واحد، فيقذفون به من إنجلترا إلى الهند، أو فتاة واحدة فترحل من فرنسا إلى الصين بلا جَلبة ولا ضوضاء، ولكن أين نحن من هؤلاء ونحن شرقيون؟!

تعمدتُ ذلك خصوصًا لأوفِّرَ على نفسي عذابًا أنا في غنًى عنه، ولأتحامى كل كلمة تُقربني من ذلك الموضوع الذي ملأ روحي شوكًا وعلقمًا في السنوات الماضية، ففهمتَ ما أريد، وإنما على غير معناه الحقيقي، وفهمتَ على وجه لم أقصده. ثمَّ سطت عليكَ الكبرياء — كبرياء الرجل — فنسيت أن السكوت لا يحسن بيننا على هذه الصورة، نحن اللذين تكاتبنا كصديقَين مَفكِّرَين، نسيتَ أن الموضوع الآخر جاء عَرضًا، وما دام أنه لم يكن الأصل فقد كان له أن يتلاشى دون أن يُؤثِّر في علاقتنا الأدبية الفكرية، أم صدق القائلون إن صداقة الرجل والمرأة رابع المستحيلات!

آلمني سكوتك من هذا القبيل، وأرهف انتباهي، فألفتني إلى نقط كلها غير مُسِرَّة. منها أنكَ لم تشاركني ارتياحي إلى تلك الصداقة الفكرية؛ لأنك لو كنتَ سعيدًا بها مثلي لما كنت رميتَ إلى أبعد منها.

علمت أنني كنت وحدي حيث كنت أظننا اثنين، وقدرت أنك لم تكن تحسب تلك سوى «مقدمة»، وأنا كنت أقدِّرها لذاتها، وصار معنى سكوتكَ عندي، إمَّا ذاك وإمَّا لا شيء، وأنتَ أدرى بأثر هذا في نفسي.»

إنِّي أعطيك قلبي

بعثت «مي» إلى جبران بهذه الرسالة، فلم يُسرع إليها بالإجابة، وساعد على إبطائه في الرد عليها أنه كان في ذلك الحين يشكو عِلَّة في قلبه، فشغلت لذلك شُغلًا كثيرًا وقلقتْ قلقًا شديدًا، وأرسلتْ إليه في الرابع من أغسطس سنة ١٩٢١ رسالة تُفصح فيها عمَّا تُكنه من حبٍّ وقلق في ثوب من الاحتشام الشرقي، فقالت:

عزيزي جبران

«أُريد أن تُساعدني وتحميني، وتبعد عني الأذى، ليس بالروح فقط بل بالجسد أيضًا، أنتَ الغريب الذي كنتَ لي بداهة وعلى الرغم منك أبًا وأخًا ورفيقًا وصديقًا، وكنتُ لكَ أنا الغريبة بداهة وعلى الرغم مني أُمًّا وأختًا ورفيقةً وصديقةً.

ولا يكفيني انتظام القلب المعنوي منكَ، بل أريد انتظام القلب الآلي، وإني أعطيكَ لذلك بطيبة خاطر انتظام قلبي الشديد المتين، إن لي مكانة أهل رءوس الجبال، وقد أعطاني أبي كِسْرَوانية بما فيها من مقاومة بدنية فخُذ كل ذلك مني. وها أنا ذا عندما أتنفس أُبطئ حركة التنشُّق لأضم إلى قوتي قوة البحر وحيوية الطبيعة، ثمَّ أتنفس موجهة مجموعة هذه القوى إليك لتشفى بها وتتشدد!

حدِّثني عنكَ وعن صحتكَ، واذكر عدد ضربات قلبك، وقل لي رأي الطبيب، افعل هذا، ودعني أقف على جميع التفاصيل كأني قريبة منكَ.

أخبرني كيف تصرف نهارك، أتوسَّل إليكَ أن تتناول الأدوية المقوِّية مهما كان طعمها ورائحتها؛ فمن هذه المعنويات ما هو ضروري كل الضرورة، مفيد كل الإفادة، وكل ما تفعله لوقاية نفسكَ أحسبه أنا لك يدًا عليَّ وأشكرك لأجله بكل ما في قلبي من صداقة ومودة.

أرسل إليَّ سطرًا أو سطرَين من أخبارك، بلا إجهاد.»

أنا مدين للمرأة

وقد أمضت «مي» هذه الرسالة بإمضاء «مي الجبلاوية» لأنها أهدت إليه قلبها القوي الجبلي، وعرضت هذه التضحية الكبرى في تلك الهدية العزيزة؛ لأنها أصبحت ترى فيه أباها وأخاها وفتاها ورفيقها وحبيبها، وإذا أخلصت المرأة ضحَّت بروحها وقلبها ودمها في سبيل من تحب، فبعث إليها جبران بهذه الرسالة الرقيقة يقول:

عزيزتي مي

«في عقيدتي أنه إذا كان لا بدَّ من السيادة في هذا العالم، فالسيادة يجب أن تكون للمرأة لا للرجل!

أنا مدين بكل ما هو «أنا» للمرأة منذ أن كنت طفلًا حتى الساعة، والمرأة تفتح النوافذ في مصيري، والأبواب في روحي.

ولولا المرأة الأم، والمرأة الشقيقة، والمرأة الصديقة، لبقيتُ هاجعًا مع هؤلاء النائمين الذين يُشوِّشون سكينة العالم بغطيطهم.»

ثمَّ يتحدث عن صحته ومرضه وطبيبه وأدويته، فيقول:

«إن الراحة — يا مي — تنفعني من جهة أخرى. أما الأطباء والأدوية، فمن عِلَّتي بمقام الزيت من السراج. لا، لستُ بحاجة إلى الأطباء والأدوية، ولستُ بحاجة إلى الراحة والسكون.

أنا بحاجة موجعة إلى من يأخذ مني ويخفف عني، أنا بحاجة إلى فصادة معنوية، إلى يد تتناولني مما ازدحم في نفسي، إلى ريح شديدة تسقط أثماري وأوراقي!»

أنا بركان صغير

ثمَّ يقول لها عن نفسه، وقد طلبت منه أن يكتب إليها بلا إجهاد:

«أنا — يا مي — بركان صغير سُدَّت فوهته، فلو تمكنتُ اليوم من كتابة شيء كبير أو جميل لشُفيت تمامًا.

لو كان بإمكاني أن أصرخ عاليًا لعادت عافيتي، قد تقولين لماذا لا تكتب فتُشفى؟ لماذا لا تصرخ فتُعافى؟ وأنا أجيبكِ: لا أدري، لا أدري، لا أستطيع الصراخ.

هذه عِلَّتي؛ عِلَّة في النفس، ظهرت أعراضها في الجسد. وتسألين الآن: إذن ماذا أنتَ فاعل؟ وماذا عسى أن تكون النتيجة؟ وإلى متى تبقى في هذه الحالة؟!

أقول: إنني سأشفى، أقول إنني سأنشد أغنيتي؛ فأستريح، أقول إنني سأصرخ من أعماق سكينتي صوتًا عاليًا.

بالله عليكِ لا تقولي لي: أنشدتَ كثيرًا، وما أُنشِد قد كان حسنًا، لا تذكري أعمالي الماضية؛ لأن ذِكرها يؤلمني؛ لأن تفاهتها تحوِّل دمي إلى نار محرقة؛ لأن الكُليَّات المُجردة مني إليها في صحتي، فإذا أنا أسندتُ رأسي إلى هذه المساند، وأغمضت في هذا المحيط، وجدتني سابحًا كالطير فوق أودية وغابات هادئة متَّشحة بنِقاب لطيف، ووجدتني قريبًا ممن أحبهم، أناجيهم وأحدِّثهم، ولكن بدون غضب، وأشعر شعورهم، وأفكر أفكارهم، يلومونني ولا يسخطون عليَّ، بل يلقون أصابعهم على جبهتي بين الآونة والأخرى، ويباركونني!

حبَّذا لو كنتُ مريضًا في مصر، حبَّذا لو كنتُ مريضًا بدون نظام في بلادي، قريبًا من الذين أحبهم، أتعلمين يا «مي» أنِّي في كل صباح ومساء أرى ذاتي في منزل في ضواحي القاهرة، وأراكِ جالسة أمامي تقرئين آخر مقالة كتبتها، أو آخر مقالة من مقالاتكِ لم تُنشر بعد!»

شوقه لتأليف كتاب «النبي»

ثمَّ يُحدِّثها في هذه الرسالة عن شوقه إلى تلك «الكلمة» التي يُريد أن يقولها قبل أن ينصرف عن هذا العالم، وهي ما قالها بعد في كتابه «النبي» وضمَّنها الكثير من فلسفته وخواطره في الحياة والحب والدين والناس، فيقول:

«أما تعلمين يا مي أني ما فكرتُ في الانصراف الذي يسميه الناس موتًا إلا وجدتُ في التفكير لذَّةً غريبةً، وشعرتُ بشوق هائل إلى الرحيل، ولكني أعود، فأذكر أن «كلمة» لا بدَّ من قولها، فأحار بين عجزي واضطراري، وتُغلَق أمامي الأبواب!

لا، لم أقل كلمتي بعد، ولم يظهر من هذه الشعلة غير الدخان، وهذا ما يجعل الوقوف عن العمل مُرًّا كالعلقم!

أقول لك يا مي — ولا أقول لسواكِ — إنِّي إذا ما انصرفتُ قبل تهجئة كلمتي ولفظها فإني سأعود لأقول الكلمة التي تتمايل الآن كالضباب في سكينة روحي.

أتستغربين هذا الكلام؟ إن أغرب الأشياء أقربها إلى الحقائق الثابتة، وفي الإرادة البشرية قوة اشتياق تُحوِّل السديم فينا إلى شموس!»

سر الوجود في الأطفال

وقد كان جبران يُحب الأطفال، وقد اصطفى طفلة من أقاربه يُغدِق عليها الكثير من عطفه وحنانه، وكانت الطفلة تحبه وتكثر من زيارتها له في مرضه، فأخذ يتحدث عنها في هذه الرسالة أيضًا، ويقول للآنسة «مي»:

«أنتِ بالطبع تُريدين أن تسمعي شيئًا من أخبار صغيرتي الحلوة، فإليكِ بعضها:

نحن في هذه الأيام لا نستطيع الركض في حدائقنا وبساتيننا، أو نقفز فوق السواقي، أو نخترع الألعاب الجديدة، وصغيرتي تعلم ما بي؛ ولذلك لا تُعنِّفني ولا … بل تدخل غرفتي مبتسمة وتجلس إلى جانب سريري، ثمَّ تضع يدها الصغيرة الوردية في يدي، فأقصُّ عليها الحكاية بعد الحكاية، وهي تنظر إليَّ وفي عينيها الكبيرتَين كل ما في عيون الملائكة من العطف الرباني والمعرفة الدهرية.

أقول — يا سيِّدتي — حياة الرجل تظل كالصحراء الخالية، حتى يبعث الله إليه طفلة مثل طفلتي، وأقول إن من ليس له ابنة عليه أن يتبنَّى ابنة؛ لأن سِر الوجود ومعناه يختبئان في قلوب الصغيرات!

إنني أدعو ابنتي «أميرة» لأن حركاتها وسكناتها ونغمة صوتها وابتسامتها وألاعيبها واختراعاتها، بل كل شيء فيها يدل على الإمارة، وهي مُستبِدة، ولها آراء خاصة، لا يستطيع أحدٌ من الناس تغييرها أو تحويرها.

ولقد عرفتُ أن الرجل المُستوحَد المشغوف بالعمل، يستطيع أن يكون أبًا وأُمًّا وأخًا ورفيقًا وصديقًا!»

جبران

١٠ سنوات في المرض والحب والتأليف

ولقد استمر جبران مريضًا بالقلب والحب العذري — حب مي — منذ سنة ١٩٢١ إلى أن تُوفِّي في سنة ١٩٣١، وفي خلال هذه المُدة ألَّف أهم كتبه، وفي رأس هذه الكتب: «النبي» و«حديقة النبي» و«عيسى ابن الإنسان».

ولقد زاره صديقه الأديب الكبير ميخائيل نعيمة وهو يؤلف كتاب «النبي»، وقد رأى له في نومه حلمًا مزعجًا؛ رأى أنه واقف على حافة بئر مستديرة عميقة لا ماء فيها، وفي باطنها شجرة يابسة ذات ساق ضئيل، وفروع قليلة لا أوراق فيها ولا ثمر، وتحت الشجرة رأى رجلًا مُضطجعًا على جانبه الأيمن، وقد توسَّد ذراعه، ثمَّ رأى الرجل ينهض متواكلًا ويفرك عينيه ويتأمل الشجرة، ويتسلق بنظره جدران البئر الملساء كأنه يبحث عن وسيلة للنجاة، ورأى في وجهه الهزيل الأصفر المقنع بالحزن والألم بُقعًا سوداء وخضراء وصفراء، وتخيَّله في كل حركة من حركاته كأنه اليأس بعينه، أو كأنه بقية من الحياة تسرولت بسراويل الموت، فناداه بأعلى صوته: «جبران»، ثمَّ أفاق مذعورًا من هذا الحلم، وذهب بعده إلى منزل جبران وسأله في اهتمام عن صحته، فأجابه جبران: تُدهشني شدة اهتمامكَ بصحتي اليوم أكثر من كل يوم، فكأنكَ تشعر بالخلل الطارئ عليها، والذي لم أكشفه بعد لأحد، كنتُ أظنني من حديد، لكن هذه الآلة العجيبة الصنع والتركيب التي تدعوها الجسد تنتابها عِللٌ شأن كلِّ آلة مرُكَّبة من أجزاء كثيرة؛ فأنا أخذتُ أشعر في الأيام الأخيرة برعشة في قلبي ما شعرت بمثلها من قبل، وهذه الرعشة تشتد في بعض الأحيان إلى حد تضيق فيه أنفاسي، فيصعب عليَّ أن أصعد الدرج من أسفل البناية حتى منزلي.

فسأله ميخائيل نعيمة: هل استشرتَ بشأنها طبيبًا يا جبران؟

فقال جبران: أنا أكره الطب، ولا أومن بالأطباء، فهم يرون الجسد أجزاء متعددة، ويحاولون أن يداووا الجزء جاهلين أن عِلَّة الجزء هي علة الكل، وأن مصدرها قد لا يكون في المحسوس، بل في غير المحسوس، وكيف تُداوي ما ليس محسوسًا بالعقاقير والطلاسم الطبية المحسوسة. ومع ذلك قد أضطر إلى مخابرة طبيب، لعله يعرف جسدي وعِلله خيرًا مني!

فقال له ميخائيل نعيمة: ليس خفقان قلبك إلا نتيجة جورك عليه يا جبران، أنصفه يُنصفك، أنت تنهشه نهشًا بقلمك وريشتك، وأنت تنبش منه كل خباياه لتعرضها على الناس، وتسرق كل دقة من دقاته لتجعلها نغمة في كلمة، أو خطًّا في صورة، وأنتَ تسهر الليل وتقضي جانبًا كبيرًا من النهار، مُطارِدًا قلبك حيثما ارتحل وأنَّى استقر، وأنت فوق ذلك تُجهد ما فيه من لحم ودم بكثرة ما تتناوله من القهوة والدخان، والمشروبات الروحية، فخفِّف من كل هذا!

فأجابه جبران: يا ميشا (كما كان يدعو ميخائيل) ألم ترَ أني انقطعت عن القهوة بتاتًا؟ أما الدخان فسأحاول أن أُقلِّل منه، لكنني لن أستغني عنه، وأمَّا المشروبات الروحية فإني أعتقد أنها تنفع قلبي ولا تضره، لكن الداء هو أعمق من كل ذلك يا ميشا، وقد لمستَ بعضه فيما قلتُه، فماذا أعمل؟!

أأنقطع عن الكتابة والتصوير وهما كل حياتي؟ أأترك كتاب «النبي» وهو ما يزال جنينًا، وهو خير ما حبلت به روحي حتى اليوم؟ بل سأمضي به حتى النهاية، وإن انتهت حياتي بنهايته، ولكن قل لي ما الذي جعلكَ تُكثر السؤال عن صحتي اليوم، أرأيت شيئًا جديدًا في وجهي؟

فأخبره ميخائيل أنه رأى حلمًا مزعجًا، ولم يخبره بتفاصيله، فدار بينهم حديث عن الأحلام وأنواعها وتأويلها وما تدل عليه، وروى ميخائيل حلمًا رآه منذ سنتين، حينما كان طالبًا في روسيا، وفسَّر رموزه لجبران، وبيَّن له كيف كان ذلك الحلم بمثابة خريطة لحياته بمعانيها الواسعة لا بدقائقها الصغيرة، فقال جبران: أما أنا، فلا أزال أذكر حُلمًا حلمته من زمان، وكلما ذكرته ارتعشتُ؛ فقد رأيتني جالسًا على صخرة في وسط نهر واسع المخاضة، كثير الرغوة، شديد العربدة، ليس على ضفتيه أثر لإنس ولا لجان، ومع أني لا أُحسن السباحة فلم أكن في خوف من طغيان النهر، بل كنتُ أشكر الله لأنني في مأمن من الحياة الصاخبة، وأعجب كيف توصلت إلى الصخرة، وأُفكِّر في كيفية العودة إلى اليابسة.

وإني لكذلك إذا بأفعى عظيمة هائلة تخرج من النهر وتتسلق الصخرة التي أنا عليها؛ فترتعد فرائصي منها، وأحاول أن أرفسها، ثمَّ أمسك بخناقها لأدفعها عني، ولكن بغير جدوى، أما هي فتأخذ تلتف عليَّ دورة بعد دورة، ويشتد ضغطها وثقلها على أضلاعي إلى أن تنحبس أنفاسي، فأجمع كل قواي لأصرخ طالبًا الإغاثة، وعندها أفيق من نومي، وقلبي يقرع أضلاعي قرعًا، وقطرات العرق البارد تُبلل جبهتي!

فقال له ميخائيل: وما تفسيركَ لهذا الحلم يا جبران؟

فقال جبران: فسِّره كما شئتَ، أما أنا، فقد رأيتُ فيه رمزًا لحياتي، مثلما رأيت أنت في حلمكَ رمزًا لحياتك!

«مي» هي أمنيته الكبرى

ولقد فسَّر ميخائيل هذا الحلم بأن النهر الصاخب الذي رآه جبران هو العالم الصاخب بأمجاده وأهواله، وملذَّاته وأوجاعه، ورغائبه وأطماعه، والصخرة هي حقيقة الوجود الثابتة في تيار الحياة العالمية، وقد أدركها جبران بخياله، واطمأن إليها بروحه، أما الأفعى الخارجة من النهر فهي ميول جبران العالمية، وتعطُّشه إلى مجد العالم، وعظمته وملذَّاته، وقد أفسدت عليه طمأنينته الروحية ونشوته الخيالية، وقضت على أمنيته الكبرى، وهي التوفيق بين أعماله وأقواله، والتوحيد بين ذاته الظاهرة وذاته الخفية.

وقد كان من هذه الأمنية الكبرى أن يرى «مي» رأي العين، ويحظى بحبها عن كَثَب، ويعيشان معًا في نيويورك أو مصر، ولكنه حُرِمَ منها كما حُرِمَت منه؛ فقد كانت تحبه حُبًّا عميقًا حتى دعته بحبيبها ومحبوبها، وصارحته بالحب، ولقد أرسلت إليه خطابًا في مارس سنة ١٩٢٢ وهي على عزم السفر إلى أوروبا تتعطش فيه إلى رؤيته، وذيَّلت هذا الخطاب بهذه السطور:
حاشية: من المحتمل أن أغادر مصر إلى أوروبا في أواخر الشهر الآتي، أو الشهر التابع، وإذا وقع ذلك كنتُ سعيدة لأني أشعر بأن جميع ذرَّات كياني تتوق إلى الخروج من الشرق زمنًا، ليت نيويورك في أوروبا، ومع ذلك مباركة حيث هي لأجل من تضم، وعليها ألف سلام وسلام.

وقد دامت العلاقة القلبية بينهما في أدب رفيع، ومتاع روحي جميل، تقوِّيها الرسائل العاطفية التي يُدبِّجها كل منهما بأبلغ العبارات، وأجمل معاني المودة والصداقة والحب، حتى صارت تلك العلاقة الروحية قصة شائعة بين أديبة نابغة وأديب نابغ، بين فنانة مرهفة الحس وفنان سامي الشعور والوجدان.

ولقد بلغ الحب بالآنسة «مي» أن صارحته به، وكاشفته بأنه محبوبها الوحيد في رسائلها المتوالية، فمن ذلك ما كتبته إليه في ١٥ يناير سنة ١٩٢٤ بعد صفحات ضمَّنتها الكثير من عواطفها. قالت:

«جبران، كتبتُ إليكَ كل هذه الصفحات ضاحكة لأتحامى قولي إنك محبوبي، لأتحامى كلمة «الحب». إن الذين لا يتاجرون بمظاهر الحب، ودعواه في السهرات والمراقص والاجتماعات ينمي الحب في أعماقهم قوة ديناميتية رهيبة قد يغبطون الذين يوزِّعون عواطفهم في اللألاء السطحي؛ لأنهم لا يقاسون ضغط العواطف التي لم تنفجر، ولكنهم يغبطون الآخرين على راحتهم دون أن يتمنوها لأنفسهم، ويُفضِّلون وحدتهم، ويُفضِّلون السكوت، ويُفضِّلون تضليل قلوبهم عن ودائعها، والتلهي بما لا علاقة له بالعاطفة، يُفضِّلون أي غربة وأي شقاء، وهل من شقاء وغربة في غير وحدة القلب؟

ما معنى هذا الذي أكتبه؟ إنِّي لا أعرف ماذا أعني به؟!

ولكني أعرف أنكَ محبوبي، وأني أخاف الحب. إنِّي أنتظر من الحب كثيرًا، فأخاف ألا يأتيني بكل ما أنتظر!

أقول هذا مع علمي بأن القليل من الحب كثير، ولكن القليل من الحب لا يُرضيني، الجفاف والقحط واللاشيء خير من النَّزْر اليسير.»

ثمَّ ترجع «مي» إلى نفسها كفتاة شرقية تعوَّدت الحياء والانطواء والخوف من التصريح بعواطفها، وخضعت لحُكْم العُرف الشرقي بأن مثلها لا يُسمح لها بأن تُصرِّح بالحب، أو تلفظ بكلمة تُعبِّر فيها لمن تحب عما تُكنُّه له من حب وهيام؛ لذلك أسرعت فاعتبرت هذا التصريح بحبها لجبران جسارة، فقالت في هذه الرسالة:

«كيف أجسر على الإفضاء إليكَ بهذا؟! وكيف أفرط فيه؟ لا أدري، الحمد لله أني أكتبه على الورق ولا أتلفظ به؛ لأنكَ لو كنتَ الآن حاضرًا بالجسد لهربت أنا خجلًا بعد هذا الكلام، ولاختفيتُ زمنًا طويلًا، فما أدعكَ تراني إلا بعد أن تنسى، حتى الكتابة ألوم نفسي عليها أحيانًا؛ لأني بها حرة كل هذه الحرية!

أتذكر قول القدماء من الشرقيين إنه خير للبنت ألا تقرأ ولا تكتب! إن القديس توما يظهر هنا، وليس ما أُبدي هنا أثر الوراثة فحسب، بل هو شيء أبعد من الوراثة، ما هو؟

قل لي أنتَ ما هو؟ وقل لي ما إذا كنتُ على ضلال أو على هُدًى؛ فأنا أثق بك، وأصدق بالبداهة كل ما تقوله!

وسواء أكنتُ مخطئة أم غير مخطئة، فإن قلبي يسير إليكَ، وخير ما في نفسي يظل حائمًا حواليكَ يحرسكَ ويحنو عليكَ!

غابت الشمس وراء الأفق، ومن خلال السحب العجيبة والأشكال والألوان حصحصت نجمة لامعة، نجمة واحدة هي الزُّهَرة إلهة الحب.

أترى يسكنها كأرضنا بشر يحبُّون ويتشوَّقون؟!

رُبَّما وُجِد فيها من هي مثلي لها واحد «جبران» حلو بعيد بعيد، هو القريب القريب، تكتب إليه الآن، والشفق يملأ الفضاء، وتعلم أن الظلام يخلف الشفق، وأن النور يتبع الظلام، وأن الليل سيخلف النهار، والنهار سيتبع الليل مرات كثيرة، قبل أن ترى الذي تحبه، فتتسرَّب إليها كل وحشة الشفق، وكل وحشة الليل، فتلقي بالقلم جانبًا، لتحتمي من الوحشة في اسم واحد «جبران».»

إنِّي عطشى

وأصدر جبران كتاب «النبي»، وقد قدَّم فيه نفسه، وقدَّم فيه صورة الإنسان الكامل، وصورة المعلم المُجرِّب العميق، وضمَّنه أهم ما وصل إليه من تجارب، وما عرفه من دروس الحياة، وما تأثَّر به من آلام، ولقد شُغِل جبران في ذلك الحين بهذا الكتاب وبأقوال الكُتَّاب والمفكرين الغربيين والشرقيين فيه عن مراسلة «مي» بضعة أشهر، فأرسلت إليه رسالة في ٢٠ نوفمبر سنة ١٩٣٤ تقول فيها:

«إنِّي عطشى لرؤية خط يده الجميل، وللمس قرطاسه، واستماع أخباره، وبودِّي أن أسوق إليه كلمات الخصومة والملام، فلا أجد إلا كلمات الشكر والعطف والاشتياق!

إن نور الشمس اليوم يتألَّق ويضحك كأبهى نور عرفته الخليقة، تُرى ما هذا الذي جعل مصطفى (بطل كتاب النبي) ينسى صديقته الأفريقية «مي» كل هذا النسيان؟

اكتب إليَّ، لا تحرمني حنانك.»

في عيد الميلاد

وفي ٢٠ ديسمبر سنة ١٩٢٤ كتبت إليه رسالة بمناسبة قُرب عيد الميلاد، وهي رسالة حارَّة تشتاق فيها إلى لقائه، وتودُّ أن تراه ولو في الخيال، أو بالروح عن كثب لتحيا معه تلك الحياة التي تهفو نفسها إليها، أو تلقاه بالحس والمدركات. ثمَّ تعود إلى ما كانت قبل هذا الموسم، في بيتها بالقاهرة بعد أن جلست إليه، وفرغ لها عن شواغله وملاهيه، وتجرَّد لها وحدها عن كل شيء وعن كل أحد، فقالت في هذه الرسالة:

«سأذهب إليك مرارًا عديدةً خلال هذه المواسم، وأمكث في حماك طالبة الاغتباط بحضوركَ!

أَتَعِد — يا جبران — أن تتفرغ من شواغلك وملاهيك، ولو دقائق، لاستقبالي؟ وأن تُكرِّسَ لي وحدي لحظات تتجرَّد فيها من كل أحد وكل شيء؟

سأذكركَ خصوصًا يوم ميلادك، وأرعاك رعاية أثيرية طول النهار؛ فأحيا معك الحياة التي تُرضيني في أنقى ما يفد عليَّ من الخواطر، وأبهج ما يتناوله حسي من المشاهد والمُدركات، وأنبل ما يتنازعني من الميول، وفي أحرِّ وأبسط ما أتلوه من الصلوات، وفي الصباح سأُلقي عليك أولى التحيات، وأطلب منك أولى ابتساماتك، أتعطيني؟!»

قصصتُ شَعْري

ثمَّ أخبرته أنها قصَّت شَعْرها وقصَّرته على «الموضة»، ولكنها أسفت عليه بالرغم من رأي المزين الروماني، فقالت:

«لقد قصصتُ شَعْري، وعندما ترى من صديقاتك بعد اليوم — يا جبران — من هُنَّ في هذا الزي يمكنك أن تذكرني، وتقول لهن في سرك إنك تعرف من تشبههن!

كنتُ إلى شهور راغبة في التخلص من هذه الذوائب التي يقولون إن لطولها يدًا في قِصَر عقل المرأة، وهو محضُّ افتراء طبعًا، ولكن عندما رأيتُ شعري بحلكته وتموجه الجميل وعقاربه الجريئة مطروحًا أمامي تداعبه يد المزين شعرت بأسف على هذه الخسارة، غير أن المزين طيَّب خاطري بعبارات تكسَّرت فيها الكلمات الألمانية والإيطالية، وهو روماني على ما يقول، فهل كان في وسعي إلا أن أضحك؟!

وقد مضى يصف لي جمال الشعر القصير، ومنافعه ومميزاته، وخاصة أنه — على ما زعم المزيِّن الصالح — يليق لي كثيرًا.

وسألته إلى كم امرأة قال كل هذه الكلمات؟ فأجاب: «إنِّي فيلسوفة.» أرأيت هذه الفيلسوفة التي تسعى إلى قصِّ شعرها، ثمَّ تحزن عليه، ثمَّ تضحك لأن المزيِّن يُعزِّيها عن فقده بكلمات مسرحية؟!

وأين تلك الفلسفة والفتاة المذكورة تحدِّث بهذا الحديث عن شعر قاتم هو شعر البداوة والسمرة، تحدِّث فنانًا شاعرًا شغف بشعر الحضارة والشقرة، فهو لا يروق له إلا الشعر الذهبي، ولا يترنَّم إلا بجمال الشعر الذهبي، ولا يحتمل في الوجود إلا الرءوس التي تحمل الشعر الذهبي.»

يا صديقي الحلو الرقيق

وقد أجابها جبران على هذه الرسالة برسالة قصيرة ومعها «هدية» تتألف من: محفظة يد، ومرآة، وقلم جميل، وصورة يد من ريشته، فأجابته بهذه الرسالة التي تدلُّ على أن غرامها به قد تمكَّن من فؤادها وأصبح شاغلًا لكل جوانحها، وقد كتبتها في ١٧ فبراير سنة ١٩٢٥، فقالت:

«جبران، يا صديقي الحلو الرقيق الكريم، كُن مباركًا لأجل عطفك، كن مباركًا لأنكَ تذكر، كن مباركًا لأنك ترغب في إدخال السرور على نفسي.

محفظتي لي في نهاية الأمر، وهي الشيء النفيس الوسيم، وهي الشيء الآتي منك، وقد انقشعت عنه لمسات الأيدي الغريبة، فلم تعلق به غير أثر أناملك، ولم يسفر عنه غير مظهر عطفك.

ومضت جميع الوجوه من المرآة، إلا أنها استبقت لي نظرة بعيدة قريبة من عينيك، فأتلقَّاها بنظري وأتملاها، فأقول لها شيئًا يعرفه القرطاس كذلك.

أما اليد، فسأُحيطها بإطار خفيف بسيط، لا يخفى من بياض لوحتها إلا اسمك واسمي؛ لأني لا أُريد أن يعرفها غيري، ولأني أُريد أن يكونا سِرِّي المكنون اللذيذ!

وستكون هذه اليد أبدًا على منضدتي هذه لتُحدِّثني عن الإخلاص بارتفاعها، وتُدفئ رُوحي بصورة لهيبها.

محفظتي لي في النهاية، وقلمي لي، والمرأة والصورة كلاهما لي، فإذا بها جميعًا الروح التي تحضنني وتحب!»

أرسلت «مي» هذه الرسالة في فبراير، ويظهر أنه شُغِلَ بمرضه وأعماله في نيويورك فلم يُسرع بالرد عليها، فقلقت قلقًا شديدًا، وبعثت إليه برسالة أخرى في ١١ مارس سنة ١٩٢٥ قالت فيها:

صديقي جبران

«لقد توزَّع في هذا المساء بريد أوروبا وأمريكا، وهو الثاني من نوعه في هذا الأسبوع، وقد فشل أملي في أن تصلني فيه كلمة منكَ، نعم إنِّي تلقيتُ منكَ في الأسبوع الماضي بطاقة عليها وجه القديس يوحنا الجميل، ولكن هل تكفي الكلمة الواحدة على صورة تقوم مقام سكوت شهر كامل.

لا أريد أن تكتبَ إليَّ إلا عندما تشعر بحاجة إلى ذلك، أو عندما تُنيلك الكتابة سرورًا، ولكن أليس من الطبيعي أن أشرئب إلى أخبارك كلما دار موزِّع البريد على الصناديق يفرغ حقيبته؟

أيمكن أن أرى الطوابع البريدية من مختلف البلدان على الرسائل، حتى طوابع الولايات المتحدة، وعلى بعضها اسم نيويورك واضحًا، ولا أذكر صديقي، ولا أصبو إلى مشاهدة خط يده ولمس قرطاسه؟!»

وبعد سطور أفضت إليه فيها بمكنون نفسها وصريح عواطفها، قالت في نهاية الرسالة:

«ولتحمل إليك رُقعتي هذه عواطفي، فتُخفِّف من كآبتك إن كنت كئيبًا وتُواسيك إن كنت في حاجة إلى المواساة، ولتقوِّك إن كنت عاكفًا على عمل، ولتُزد في رغدك وانشراحك إذا كنت منشرحًا سعيدًا.»

(٥) ما أحلى اللقاء

وفي ١١ نوفمبر سنة ١٩٢٦ أرسلت «مي» إلى جبران هذه الرسالة، وكان غرامها به قد بلغ ذُروته، فقالت فيها بعد كلام غرامي طويل:

«ما أحلى اللقاء بعد الفراق يا جبران! ما أحلاه على القرطاس خلال الألفاظ المتقطعة! إنِّي ما زلت ألتقي بك في الضباب (تشير بذلك إلى رسالته السابقة التي بعثها إليها، وقال فيها: «أنا ضباب يا مي، أنا ضباب يغمر الأشياء»).

الضباب، عالمنا الذي منه كل شيء، وإليه كل شيء يرجع، ولكننا من روح وجسد، ولا بدَّ أن تكون مسرَّاتنا مزيجًا من المحسوس وغير المحسوس؛ لذلك يروق لي أن ألتقي بك في الضباب وخارجًا عنه!

تعالَ — يا جبران — وزُرنا في هذه المدينة (القاهرة)، فلماذا لا تأتي وأنت فتى هذه البلاد التي تناديكَ؟

تعالَ، فأشعة القمر تثير الرمل حول أبي الهول وتمرح في موج النيل.

تعالَ يا صديقي، تعالَ فالحياة قصيرة، وسهرة على النيل تُوازي عمرًا حافلًا بالمجد والثروة والحب!»

بهذه المناجاة العاطفية الرقيقة ختمت الآنسة مي هذه الرسالة الغرامية، ولكنها لم تكن خاتمة رسائلها؛ فقد استمرَّت الرسائل متبادلة بينهما إلى أن تُوفِّي جبران سنة ١٩٣١، وكان كل منهما يتمنَّى أن يرى الآخر، وأن يتبادلا لواعج الحب باللسان، وأن يتحدثا عن كَثَب بالقلب والوجدان، ولكن شاءت المقادير أن يتبادلا هذا الغرام القوي العميق على الأوراق. ولعل في ذلك كسبًا للأدب، فقد سجَّلنا في الفصول التي نشرناها عن قصة الغرام بين «مي» وجبران ما يُضيف إلى الأدب العربي ثروة نفيسة بما دبَّجاه من أسلوب أدبي جميل في معاني الحب وفلسفة الحب، وما خطر لكل منهما من خواطر نفسية وروحية، وما تملكهما من شعور عاطفي وصفاه بأفصح العبارات وأبلغ المعاني.

وإذا كانت الحياة الحب، والحب الحياة، فإن للحب في الأدب العربي وفي آداب الأمم الأخرى مكانة كبيرة، حتى كاد يكون بإنتاجه الغزير في الشعر والنثر والقصة الأساس الذي تقوم عليه هذه الآداب.

(٦) مي ولطفي السيد

كان لطفي السيد مولعًا بالشعر والأدب العربي منذ كان طالبًا في مدرسة الحقوق، وقد عُنِي بالأدب بعد تخرجه من الحقوق وهو في النيابة، ثمَّ وهو في المحاماة. وكثيرًا ما كان يروي في مجالسه ألوانًا من أشعار الحب وجمال الطبيعة والإنسان، ولقد حدَّثني صديقه المرحوم عبد العزيز فهمي باشا أنهما — وهما وكيلان لنيابة بني سويف — كانا في أوقات الفراغ يتطارحان الأشعار، قال عبد العزيز باشا: فكان لطفي يُنشد عن ظهر قلب كثيرًا من الأشعار القديمة، وعلى الأخص من شعر الغزل والحب، ومما هو باقٍ في ذاكرتي من إنشاده قول مهيار الديلمي:

بُعد أحبابي كساني الأرقا
مات صبري فلهم طول البَقا
كنتُ بالشِّعْب وكانوا جيرتي
فافترقنا والهوى ما افترقا
لي حبيب كلما عانقته
نثر الورد علينا الورقا

ثمَّ قال عبد العزيز باشا: «مثل هذه الأبيات وغيرها، كان يرويها لي صديقي لطفي أثناء المطارحة ونحن شباب والحياة باسمة خضراء. ولا شك عندي أن صداقتي لهذا الأخ الأديب الأريب الواسع الاطِّلاع مما شجَّعني على دراساتي العلمية والأدبية.»

ولقد انتزع الأدب والقلم لطفي السيد من منصب القضاء وصناعة المحاماة، وتولَّى تحرير صحيفة «الجريدة» عدة سنوات، وكان في تحريره لتلك الصحيفة صاحب مبادئ ديمقراطية وصاحب دعوة اشتراكية، وكان من أول الداعين إلى الحرية والاستقلال، ومناهضة الطغيان والاستبداد، وقد أنشأ في الجريدة فصلًا للدراسات العالية الحرة كان من تلامذته الدكتور طه حسين، والدكتور محمد حسين هيكل، والدكتور منصور فهمي، والآنسة مي، وغيرهم من أعلام المدرسة الحديثة، ثمَّ نمت هذه المدرسة واتَّسعت، فأصبحت فكرة لجامعة كبرى تحققت فيما بعد، فصارت جامعة أهلية، ثمَّ جامعة حكومية، ثمَّ جامعات!

•••

كان يصطاف في لبنان وجلس يتعشى في فندق «يسو» ببيروت، فلاحظ بالقرب منه فتاة لطيفة تجلس إلى مائدة مجاورة، وهي تتحدث بالفرنسية حديثًا فصيحًا مع قنصل فرنسا في مصر، وكانت تدافع عن المرأة الشرقية دفاعًا حارًّا قويًّا، فسأل لطفي السيد صديقه خليل سركيس: «من تكون هذه الفتاة المتحمسة للمرأة الشرقية؟» فأجابه: «إنها ماري زيادة ابنة الصحفي المعروف إلياس زيادة، صاحب جريدة «المحروسة».» وكانت هذه «المحروسة» تصدر في مصر في ذلك الحين. وبعد أن انتهت «مي» من حديثها مع القنصل قدَّمها سركيس إليه.

كان ذلك سنة ١٩١١، ولما رجع لطفي السيد من مصيفه، ورجعت الآنسة «مي» أهدت إليه كتابها «ابتسامات ودموع»، وهو رواية حب ترجمتها إلى العربية عن اللغة الألمانية عنوانها «غرام ألماني». وكانت قد أصدرت باللغة الفرنسية كتابَين قبلها، وكانت الفرنسية تغلب عليها، وتؤثِّر في أسلوبها العربي، وقد أخذت في ذلك الحين تنشر في جريدة والدها «المحروسة» مقالات بعنوان «يوميات فتاة».

لاحظ لطفي السيد في هذه المقالات أن كاتبتها في حاجة إلى العناية باللغة العربية؛ فنصح لها بقراءة الأدب العربي، وبعثه إعجابه بذكاء هذه الفتاة ونظراتها الصادقة وآرائها الناضجة إلى الاهتمام بتهذيبها وتقويم أسلوبها، فكان يقرأ كل يوم مقالها في اليوميات، ويُصحِّح مآخذه بالقلم الأخضر، ويمضي هذا التصحيح بإمضاء «لطفي» ويُرسله إليها.

•••

وذات يوم كان جالسًا يتحدث معها، فقال لها: «لا بدَّ لكِ يا آنسة من تلاوة القرآن الكريم، لكي تستفيدي من بلاغة معانيه وفصاحة أسلوبه.»

فقالت له: «ليس عندي نسخة من القرآن».

فقال لها: «أنا أُهدي إليك نسخة منه!»

وبعث إليها في اليوم التالي بنسخة من القرآن مع كُتُب أخرى في الأدب العربي، وقد قالت لي الآنسة مي في ذلك، وأنا أزورها ذات ليلة:

«ابتدأتُ أفهم من لطفي السيد اتِّجاه الأسلوب العربي، وما في القرآن من روعة جذَّابة ساعدتني على تنسيق كتابتي ورُقي أسلوبي.»

كان الأستاذ أحمد لطفي السيد في ذلك الوقت في ربيع الحياة وعنفوان الشباب، وكانت الآنسة مي في العشرين، أو على الأصح في الخامسة والعشرين، وكانت هذه الأديبة من ملاحة الطلعة وخفة الروح وسحر الحديث ما يجذب إليها النفوس، ولا سيَّما نفس الأديب؛ فاستهوت نفس أديبنا الكبير، وشغلت قلبه وفكره، وأصبحت فتاة أدبه وكعبة رسائله العاطفية. وكان في أول أمره يُعجب بذكائها ونبوغها، ثمَّ تطور هذا الإعجاب إلى حب روحي عميق، وكانت «مي» تحترمه لعلمه ومكانته وقلمه البليغ، ثمَّ تطور هذا الاحترام إلى إعزاز وتقدير؛ فأخذت تثق به كل الثقة وتنزل له من نفسها منزلة عزيزة، وتستشيره في الكثير من شئونها، وتُسِرُّ إليه بما تُخفيه عن غيره من الأصدقاء والأقربين.

•••

وقد امتدَّت هذه الصداقة بينهما طول حياة الآنسة «مي»، ولكن السنوات العشر الأولى — ما بين سنتي ١٩١١ و١٩٢١ — هي التي بلغت فيها هذه الصداقة، أو هذا الحب الروحي العميق أعلى درجاته؛ فقد كتب فيها لطفي السيد إلى فتاته النابغة عدة رسائل عاطفية تُعتبر نموذجًا حيًّا بليغًا من رسائل العظماء في الحب!

ولست أستطيع أن أدوِّنَ هنا كل هذه الرسائل، وأكتفي بمقتبسات من أربع رسائل:

الخطاب الأول

ففي يوليو سنة ١٩١٣ سافر لطفي السيد إلى الإسكندرية للاصطياف، وكان قبل سفره مثابرًا على زيارتها كل أسبوع، وما كاد يمضي أسبوع واحد على فراقه لها في القاهرة حتى اشتاق إلى رؤيتها؛ فبعث إليها بهذه الرسالة في ١٥ يوليو من ذلك العام يقول فيها:

سيِّدتي

«مضى أسبوع كامل من يوم كنتُ عندكم، أستأذن في السفر إلى الإسكندرية. وما كان من عادتي أن أغيب عنكِ أكثر من أسبوع، إذا مضى كان يدفعني الشوق إلى حديثكِ الحلو، وأفكاركِ المتينة الممتعة، إلى زيارتكِ، فلا غرو أن أستعيض عن الزيارة غير المُستطاعة بهذه الرسالة السهلة الكَلِفة، كتابي يُلقي إليكِ في صحة وسلامة وصبر على هذا الحر الذي ربما شبَّهه بعض أصحابنا الشعراء بشوق المحبين، يقصُّ عليكِ أنني أذكُركِ دائمًا كلما هبَّت نسمات البحر، وقابلت بينها وبين لوافح القاهرة، وكلما تجلَّى علينا البدر يُضيء البر والبحر على السواء، ويملأ العيون قُرة، والقلوب رضًا. وكلما جلستُ على شط البحر أتعشى وسط أصحابي، كما كانت حالي وقت أن رأيتكِ لأول مرة، وسمعنا حديثكِ وأعجبت بكِ. أذكركِ كلما خطر ببالي النظر في حال المرأة الشرقية ومستقبلها وعلى من نستطيع أن نعتمد في المساعدة على انتقالها إلى الأفق الذي نرجوه، وكلما قرأت من الشعر ومن النثر أفكارًا تتناسب مع أفكارك أو تختلف عنها. أذكركِ كلما هاج البحر، وألفتُ عقلي إلى مظهر الغضب في وجه الطبيعة الباسم، وآثار الغضب في نفوس بني آدم حتى في نفس فتاة أرحبهم صدرًا وأحسنهم خُلُقًا وألطفهم مُجاملةً وأرعاهم معاملةً وأرقهم قلبًا.

هي أيضًا، مع أنها ملكة بين المعجبين بها و«همو كثر» قد حسبتها يومًا من الأيام إحدى رعايا الغضب.»

وهنا نُشير إلى أن الآنسة «مي» كانت مرهفة الحس سريعة الغضب أو الدلال كما يُعبِّر عنه الشعراء، ثمَّ جاء بعد ذلك:

«هي تملك القلوب بنظرها ولسانها وقلمها، روابط لا انفصام لها، وسلاسل لا قِبَل لأحد بفكاكها، ولكنها مع ذلك تدين إلى الغضب، وتجري عليها — كما تجري علينا نحن الخلائق — أحكامه، وربما زادت علينا في أمر آثار الغضب عندنا لا تُقيم بعد الاعتذار. أما هي فإنها غضبى، يلذُّ لها غضبها في كل أطواره، كما يطيب لنا احتماله في كل مظاهره؛ عبس في الوجه لا يقل في جماله عن الابتسامة الفاتنة، وإعراض كالدلال في الإقبال، وتوقد في العينين كأنه في حلاوة من النظر، فما أشبه نظرهما الشزر، يلحظهما الرحيم في اللعب بقلب الحكيم، ثمَّ قطع للرسائل وهجر جميل.

أذكركِ في كل وقت، ولا أجرؤ أن أكتب إليكِ إلا في ميعاد الزيارة، لكيلا أضطركِ مُكرَهةً بتقاليد الأدب أن تردِّي عليَّ بالكتابة كلما كتبتُ إليكِ. على إنِّي أعرف كثيرًا غيري لهم تراسل قد يضيق وقتك عن العطف عليهم.»

وبعد أن يعتذر إليها لطفي السيد في هذه الرسالة عن التصريح لها بما في قلبه ونفسه يقول:

«فاعذري قلمًا حسَّاسًا، غيورًا طمَّاعًا، يجري إلى ما يحب كالسيل المُتدفق، لا يُبالي صادف سهلًا أو اصطدم في وعر أو حُبس في جسر. إنه لا يعنيه إلا ما يحب من غير أن يفكر، ليس له عذر إلا في صدق، وكفى بالصدق عاذِرًا، وكفى بالصدق شفيعًا!»

الخطاب الثاني

وبعد أن قضى لطفي السيد في مصيف الإسكندرية نحو شهرين سافر إلى بلدته «برقين»، فبعثت إليه الآنسة «مي» بخطاب يتضمن عواطفها النبيلة، وقد سطَّرت فيه جانبًا من أفكارها الأدبية والاجتماعية، فردَّ عليها بخطاب في أول سبتمبر سنة ١٩١٣ جاء فيه:

«لستُ في حاجة إلى العنوان لأني لا أريد أن يُقرأ كتابي من عنوانه، ولستُ في حاجة إلى ندائكِ من بعيد أو قريب؛ فأنت من نفسي أقرب من أن تناديكِ.

جاءني كتابكِ، فشممته مليًّا، وقرأته هنيئًا مريئًا، وإني ممتنع نهائيًّا عن أن أشرح لك العواطف التي تعاقبت على نفسي بتلاوة هذه الرسالة الفيحاء حقيقةً بكل معنى الكلمة. وكل ما يأذن لي تهيبك أن أبوح به هو أني من الصباح إلى هذا المساء وأنا وحدي، فلم أستطع أن أمسك القلم لأُجيب عليه بصراحتي العادية، فما وجدت بُدًّا من الركون إلى أسلم الطرق، وهو أن أحفظ لنفسي وصف الاغتباط الذي نالني من هذا الكتاب.»

ثمَّ قال:

«جاءني كتابكِ اليوم، وأنا في الجنينة — خولي على غلامين وفتاتين يعملون في الجنينة تحت نظري؛ لأني أكسل من أن أعمل بيدي — جاءني ولا أكذبكِ أني كنتُ في انتظاره، فقرأته، ثمَّ قرأته، وذكرت تلك الليلة التي لها في حياتي تاريخ ومركز خاص، وذكرت إذ أستمتع برؤيتكِ، وتهولني قدرتكِ على هذا الشباب الغض!»

وبعد أن يتحدث في هذه الرسالة أن كتابها شغله عن الجنينة وعن العمال؛ إذ كانت هي أكبر مشاغله، وكانت رسائلها إليه هي شغله الشاغل، يقول:

«ذلك هو شغلي طول النهار يا هانم، أخشى أن تكون عصاكِ أو نفثاتكِ قد لعبت بعقلي أيضًا، فأحكم على شوبنهاور ونيتشه حكمكِ القاسي عليهما، ولكني مع ذلك أقول إن شوبنهاور أخطأ خطأً واحدًا، وهو أنه لم يُقدِّر أن سيكون من النساء فتاتنا «مي»، ذلك هو الخطأ الأساسي الذي لو تدبَّر فيه لما تمشَّى في مذهبه على هذا النحو.»

ثمَّ ينتقل لطفي السيد إلى وصف ما تضمنه كتابها من أفكار وآراء، فيقول:

«اعترفي بأنكِ كنتِ في ساعة من ساعات تجلياتكِ، حين كتبت لي هذه الرسالة، أن فيها أفكارًا ومراميَ ذات وزنٍ كبير، وفيها مقاصدَ ومعانٍ تكاد تطير من خفتها، أو تذوب من رقتها!»

ثمَّ تغلب عليه خوالج نفسه ودوافع عاطفته ووجدانه نحوها، فيقول في رسالته:

«أجناية عليَّ أن أتحدثَ بهذه النغمة السابغة؟ ألا أن للأرواح أيضًا غذاء يتنزَّل عليها من مكان أسمى من مكانها العادي، وهزة تأخذها حين تتقابل جاذبيتها، لعل ذلك هو سر السعادة الإنسانية التي يلتمسها الناس فلا يعرفون طريقها، إن روحًا تغترف قوتها من ذلك المعنى الرفيع لسعيدة لا محالة. قلب يخفق، وعين تنديها دمعة الفرح الباردة، ونفس تتخلى ولو مؤقَّتًا عن هذه الرتبة الدنيئة — رتبة الزحف في حمأة المنافع المادية — إلى السبح في بحر الخيال، واستطعام اللذة المعنوية، ذلك أجمل ما في معاني الحياة الإنسانية.

أُفٌّ لقيود الاصطلاح! إنِّي كاسرها، وملقٍ بها عني لأقول ماذا؟ لا شيء، بل لأقول إنه لا ذنب عليَّ إن صرَّحتُ بأني اليوم سعيد، وربما كنته بعد اليوم، هذا ما لا أعرفه.»

ثمَّ يقول في آخر هذه الرسالة:

«ولو علمتُ أني يسرني أن أظل أكتب لكِ، أكتب طول وقتي، لما نفدت مادة أنتِ ينبوعها العذب. وأرجوك ألا ترثي لحال مَلَكي المسكين الذي يحمل صلواتي، فإن لي مَلَكًا آخر من ملائكة الرحمة تغبطه الملائكة أنا أحبه.»

الخطاب الثالث

وعلى الرغم مما في رسائل لطفي السيد إلى الآنسة «مي» من عاطفة مشبوبة، فإنها تتخللها المعاني الإنسانية والخواطر الفلسفية؛ ففي ٢٩ أبريل سنة ١٩١٤ بعث إليها خطابًا عاطفيًّا من «برقين»، وكانت قد غضبت منه لأنه لم يدعِها ولا غيرها من النساء لحفلة تأبين المرحوم فتحي زغلول، ثمَّ سافر إلى بلدته وكان مُرشِّحًا نفسه لانتخاب الجمعية التشريعية، وأُقيمت له حفلة استقبال، وقد جاء في هذا الخطاب:

صديقتي

«سيُقال إني مشغول بحفلة الاستقبال، ويعلم الله بماذا أنا مشغول، أكتب إليكِ تحت سلطان شعور أقرب ما يكون من مشاعر الحزن الصامت، حزن لا يعترف به لأنه غير معروف المصدر، ولا مُحدَّد الجهات، ولكنه مع ذلك حزن!

الطيور تغرد حولي من كل ناحية، وما هي إلا حمامتان وعصافير شتى أدفعها عن الدخول في «أودتي»، وهي لا تندفع ولا تخافني كأنها علمت بأني أنا شجيٌّ بها، تنتقل الحمامتان من فوق ستارة إلى ستارة أخرى، كأنهما تقولان لي: نحن أليفان سعيدان، وصديقان مجتمعان، فأين صديقك أنت؟! والواقع أن العصافير الصغيرة ترى بيتنا أفسح من أن يكون لنا وحدنا، فتريد أن تبني أعشاشها في الشبابيك، ونحن نطردها، وما أقلنا كرمًا، نحب الأثرة حتى مع هذه العصافير البريئة الصغيرة، ونحن مع ذلك ندَّعي من زمان أننا نحب الاشتراكية ونحب المساواة، ونتواصى ببر الضعفاء!

أنا لا أطرد العصافير إكرامًا لخاطر كنارك الصغير، ولا أهيج الحمام إكرامًا لما اشتُهر به من معنى الوفاء في الصداقة وحسن العِشرة.»

وبعد أن يستطرد في هذا الخطاب إلى وحشية الإنسان في محاربة العصافير وطرد الطيور وأكله لها، يقول:

«هنيئًا مريئًا أيها الطاعم على حساب نظام الوجود، وضد مصلحة الفن، كأنها لا يسمع إلا نداء بطنه الجائع، أو كأن هؤلاء لهم بطون إظهار ألمه أشبه بالمستهتر في شهواته ولذائذه!

وإلى أية مرحلة من مراحل التدليل أريد الوصول بهذه المقدسات؟ ستقولين: لا شيء، إلا أني أعترف لكِ بأني أيضًا لي من الاهتمام بأمر العواطف ما لجميع الناس، وأني لا أجد بأسًا من أن أكتب إلى صديقة تفهمني جد الفهم، وأنا غير جذل القلب، ولقد ظفرتُ فعلًا ببُغيتي؛ فإني ما زلت أحدِّثكِ حتى شعرت اللحظة بسعة الصدر بعد ضيقه، وانبساط في حال النفس بعد تقبضها، ورغبة في إطالة هذا الحديث، وقد اطمأننت وأنت أمامي أخاطبك إلى أن في الإنسانية نفوسًا طيبة حسب الإنسان أن يدخل في دائرة أشعتها النيرة حتى تنقشع عن نفسه ظلمات التطيُّر، ويحتل مكانها نور التفاؤل والرجاء.

هنيئًا للنفوس الطيبة التي قد يئس الغضب من التسرُّب إليها، وأصبحت حرمًا آمنًا لا تقرُّ فيه إلا الطمأنينة والرضا بالواقع من أمر الناس، خصوصًا متى كان قد انقطع الرجاء من تغيير هذا الواقع!»

الخطاب الرابع

ولما قامت الثورة الوطنية سنة ١٩١٩ كان لطفي السيد من زعمائها وأحد أعضاء الوفد المصري، وقد سافر مع هذا الوفد سنة ١٩٢٠ إلى باريس ثمَّ إلى لندن للمطالبة بحق مصر في الحرية والاستقلال، فشاقَّه أن يُراسل أحب الناس إليه وهو في غمرة الجهاد ومتاعب السفر؛ فبعث إليها عدة خطابات، منها هذا الخطاب الذي كتبه في باريس يوم ١٥ أكتوبر سنة ١٩٢٠، وقد قال فيه:

صديقتي العزيزة

«أكتب إليك، وإني لأشعر — أنِّي زيادة على تفريطي في الكتابة إليكِ إلى الآن — ربما اخترت الفرصة الأبعد ملاءمة لمحادثتكِ؛ فإني أراني من حرج الصدر بحيث أخشى أن ينمَّ كتابي عن حالي التي ربما غلوتُ كعادة الشباب في تصورها من خلال الحديث.

ولكن لِمَ لا أكتب في هذا الوقت، والإنسان أحوج ما يكون لصديقة حين يعوزه الاكتفاء بنفسه عن الأغيار، والاستقلال باحتمال آلامه الحسية والمعنوية؟ أليس في ذلك الإثبات التام للحاجة إلى الصداقة، والنتيجة الطبيعية أن المرء بطبعه «آلف مألوف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف»؟ أظن الأمر كذلك، وعلى هذا السند أعتمد في الإقبال عليكِ ومحادثتكِ لحظة من الزمان، أصرف بها عن نفسي همَّها، وأقوم بأداء الدَّين الذي التزمت به لديكِ. وخيرٌ من هذا كله أغتنم لذة استحضار شخصكِ المحبوب، وذكرى مجلسك الذي يملأ القلب اغتباطًا، ويسعد كل ملَكات النفس.»

ثمَّ ينتقل في هذا الخطاب إلى الحديث عن القضية المصرية، فيقول:

«… ليطمئن قلبكِ عن قضيتنا، يجب أن أُسارع أمام هذه اللوحة السوداء إلى إخباركِ أنه لا شيء يعترض حُسن سير القضية، وإننا مسافرون إلى لندره في ظرف أسبوع، فمن هذه الجهة كوني مرتاحة البال.»

وقد كان لطفي السيد في ذلك الوقت متفائلًا بنجاح القضية المصرية، وهو كعادته طول حياته متفائل، ولقد صحَّ تفاؤله في نجاح هذه القضية بعد عدة سنوات، وتحقَّقت نبوءته — في العهد الأخير — بالجلاء التام والحصول على الاستقلال التام؛ ولذلك أخذ يتحدث إلى الآنسة «مي» في هذا الخطاب عن احتمال الألم، والظهور بمظهر المُغتبط المتفائل، فيقول:

«أليس رواء المغتبط أحسن في نظر الناس من رواء المحزون أو المستحق للعطف؟! أليس من أدب الاجتماع ألا يكون المرء سببًا في اتصال الألم، بل إنقاله بالعدوى من نفسه إلى نفس غيره؟!

أُفٌّ لهذا الإنسان، ولكنه لا يستحي، وأنا أيضًا إنسان، ومع ذلك أستحي من إبداء الشوق المُبرِّح إلى لقائكِ. وأرجوكِ ألا يخدعكِ قولي، فتظنين أني فوق الإنسان العادي، كلا، فلطالما أصليتُ صغار الطير نارًا حاميةً من بندقيتي، لا لآكل بل لألعب بالنفوس البريئة التي هي مثلي لها حق في الحياة!

من الحُمق أن أُطيل القول في هذه المعاني إليكِ، إليكِ أنتِ التي قد لا تلعبين بالنفوس الصغيرة، ولكنكِ تلعبين بالنفس الكبيرة. إنِّي حرَّمت قتل الطير من زمان غير قريب، فهل تُحرِّمين على نفسكِ يا «مي» القاسية أن تُسيئي إليَّ بإعراض ترينه هيِّنًا وأراه عسير الحمل قتَّال الأثر؟! وبهذه المناسبة أقول إن الآنسة «مي» حرَّمت على نفسها طول حياتها أكل الطيور رأفة منها وشفقة، أما خطابها عن حفلة تأبين فتحي زغلول فقد نُشِر في الصحف، فلم يجب عليه كتابة لطفي السيد لأنه كما يقول كانت على حق!»

الخطاب الخامس

كانت الحكومة المصرية قد أعلنت عن انتخاب أعضاء اللجنة التشريعية في خريف سنة ١٩١٣، وكان أحمد لطفي السيد في ذلك الحين رئيسًا لتحرير صحيفة «الجريدة»، وقد رشَّح نفسه لعضوية هذه الجمعية عن دائرة بلدته «برقين». وسافر إلى هذه الدائرة للدعاية الانتخابية، ولكن ذلك لم يشغل قلبه عن ذكرى «مي» في جميع تنقُّلاته وأسفاره بين الناخبين، فبعث إليها من «برقين» خطابًا بتاريخ ١٦ نوفمبر سنة ١٩١٣ جاء فيه ما يأتي:

سيِّدتي

«خرجتُ أمس من قرية اسمها «أم الدباب» على بعد ساعتين اثنتين، كنت أزور أهلها زورة انتخابية. ولم أكن كغالب الأحيان في جمعٍ من أصحابي، بل كنتُ ثالث ثلاثة، خادمي وحصاني، خرجت منها مع بزوغ القمر، أسايره، هو يعلو على الأفق، كلما ارتقى ميله قطعت أنا من الأرض ميلًا، وإني على هذه الحال ساكت، وحصاني الهزيل خفيف الحركة ينهب الأرض نهبًا، بخُطًى خفيفة لا يكاد يسمع وقْع حوافره على الطريق، وظله نحيف مثله يسليني النظر إليه مرة، وقياس ميل القمر مرة أخرى.

وليس فيما حولي من الأشياء في ذلك السكون الشامل، والنوم العميق ما يلفت نظري بوجه خاص، وإني لكذلك إذا بي أنتبه من لهوي إلى ما أنا فيه من همٍّ ناصب وتعب مستمر أُقدِّر شقاءنا في هذه الحياة، فما كادت ترجع نفسي من تقديرها، وتفرغ من الموازنة بين اللذة والألم، وبين السعادة والشقاء قائمة بأن ما نحن فيه ضلال، وإن كفة الشقاء راجحة على كفة السعادة الموهومة!

ما كادت تقنع نفسي بهذه النتيجة السوداء، حتى جاءني منكِ طيف صديق جميل الصورة جميل النفس في نظرته رجاء اليائس، ومن بيانه السحر الحلال، لا عُذر لدعوى الشقاء من رجل كسب صداقتك وهي شيء كثير، ولا محل للموازنة بين اللذة والألم عند امرئ له أمل صادق في حضور مجلسك واستماع حديثكِ.

على هذا الخيال، أو على هذه الحقيقة، أرخيتُ لحصاني العنان يسير على هواه، حتى أفكر أنا أيضًا على هواي. وأرجو أن يطيل سراي حتى لا تنقطع مني سلسلة الخيالات الجميلة!

ما أسعد حظ الشعراء، ما زال طيفكِ يسري معي، وكلانا تعمُره أشعة القمر الباهتة، ويطوقه السكون الشامل حتى وصلت البيت، وكان الطريق قد انطوى تحتي فلم أحس طوله، والوقت قصر فلم أشعر بأجزائه، بل ندمت على أني أتبعت الطريق المستقيم. وكان أولى أن أقطع المسافة خطًّا متكسِّرًا يطول به وقت الائتناس بكِ.

وها أنا ذا جئتُ أشكر لكِ حسن صنعكِ إنه لا يكفر بالنعمة إلا من لا يرجو دوامها، ولشد ما أرجو أن أراكِ في كل الأوقات إلا يوم الثلاثاء — يوم زيارتك — إذ يجب على كل إنسان أن يقول كل شيء إلا رأيه الحقيقي في الأشخاص وفي الأشياء!

عملية تلك، وأية عملية؟! بل سخرة كما يقولون، وما أقسى السخرة على النفوس، لا تظني أني أغار من الذين يمدحونك أمامي وأمامك، ولو كانوا كلهم الدكتور شميل.»

وهنا نقف لنقول إنه يريد الدكتور شبلي شميل، وكان من أصدقاء «مي» الذين يترددون على صالونها كل ثلاثاء، وكان مُغرَمًا بها وطالما نظم القصائد في حبها والإعجاب بها، ثمَّ يقول الأستاذ أحمد لطفي السيد في هذا الخطاب الرقيق:

«على النقيض من ذلك، أنا أحبهم؛ لأنهم معي على رأي واحد في أمرك، ولكني لا أحب المجالس الرسمية، لا أحب منها إلا «الجمعية التشريعية»، ومن يعرف أني سأحبها في المستقبل كما أحبها الآن.

أشكركِ، وأرجوكِ ألا تظني أن طيفكِ الرقيق الحاشية الجريء القلب، الذي ينزل عليَّ ليُسايرني وسط الخلاء المخيف في الليل، لا تظني أنه يغنِّي غناء قلمك، فتتباطئين في رد كتابي كما عودتني بعض الأحيان. فإن فعلت، فما أنا ممن يسكت على هضم حقه، وأنا أعرف كيف آخذ حقي وزيادة!»

ثمَّ يقول في نهاية هذا الخطاب:

«أراني الآن كنت طيِّبًا، فما أراد الله أن يظهر جفائي على الرغم من أرادني، ليكن، ولكن مع ذلك أرجوكِ أن تعتقدي في أني أطلب رضاك، وأقدم إليك تحياتي الخالصة.»

عتاب «مي»

وكانت الآنسة «مي» تتخذ من لطفي السيد صديقًا كبيرًا تأنس إليه، وتحترمه وتستشيره في الكثير من شئونها، وتقدِّر آراءه السياسية والاجتماعية وتأييده لصديقه قاسم أمين في حرية المرأة، وما يجب لها من حقوق. ولكن حدث سنة ١٩١٤ أن تُوفِّي أحمد فتحي زغلول شقيق سعد زغلول، وكان قاضيًا كبيرًا وعالمًا ضليعًا ومُترجمًا نابغةً، فأقام له لطفي السيد مع رجالات مصر حفلة تأبين في يوم الأربعين خطب فيها خُطبة بليغة. ولم تدعُ لجنة الحفلة أية سيدة إليها؛ لأن حضور السيدات وسفورهن في ذلك الحين لم يتعوده الكثيرون في مصر، فغضبت الآنسة «مي» وأرسلت إلى لطفي السيد عتابها في هذا الخطاب الذي جاء فيه:

«في نفسي كلمات جائلات منذ ثلاثة أيام، إذا حاولت الإفصاح عنها باللسان أو بالقلم تبعتها حتى علامة الاستفهام.

أرفعها إليك لأنكَ كتاب حي يرجع إليه الباحث في ساعة الحيرة والتردد، ولقد جرأني على إبداء فكري أني وجدت في خطبتك الجميلة ذِكرًا لوالدة فقيد مصر، وذكرت من أجلها جميع الأمهات القرويات الساذجات اللائي أعطين لمصر أعاظمها. لم تضرب صَفحًا عن جهلهن وبساطتهن، ومع ذلك فقد اعترفت بأنهن مُهذِّبات فتحي زغلول وأمثاله، كأنكَ أردتَ أن تنبِّه السامع والقارئ أو الخواطر العظيمة — كما قال فو فيناج — تأتي من القلب، وأن على هذا القياس يكون ذكاء القلب أعظم ذكاء.

أما سؤالي، فها هو ذا: لماذا لم يكن للنساء نصيب في حضور حفلة التأبين؟!

حفلة جليلة أقامتها مصر لتأبين فتاها، ومصر كسائر بلاد الله — على ما أظن — تتألف من رجال ونساء. لم تكن الحفلة مقصورة على هيئة الحكومة، أو على طائفة المحامين والعلماء، بل كانت عمومية جامعة بين المحمدي والعيسوي، والشرقي والأجنبي على السواء، غير أنكم نبذتم منها جنسًا واحدًا، وهو الجنس الذي منه رفيقة مهد فتحي باشا، ورفيقة نعشه، والدته وزوجته.

نبذتم ذلك الجنس الذي يعيش بعيدًا في ظل النصر الشامل يوم يُكرَّم الرجل غالبًا قاهرًا، حتى إذا نهش اليأس نفسه وأدماها الألم، وخالطتها وحشة الموت، عاد إلى جنب الجنس الذي لم يُخلق إلا ليكون شقيًّا، الجنس النسائي.»

وبعد أن تُشير «مي» في هذا الخطاب إلى تقصير الرجال في التقريب بين أفهام الجنسين، وإلى تقصيرهم في مساعدة المرأة في ذلك الحين على حضور مثل هذه الاجتماعات الفكرية التي ترفع نفسها إلى أسمى درجات التأثر وتنبِّه عقلها إلى هيبة العلم وعظمة الفضل، مع أنهم يسمحون لها بالذهاب إلى الأوبرا لحضور الروايات التمثيلية. بعد ذلك تقول:

«قد تقولون إن المرأة لا تفهم معاني التأبين كما يفهمها الرجل، فأُجيب أننا اهتممنا بالخُطَب والقصائد اهتمامًا عظيمًا، واستعملنا عند قراءتها ملكتي النقد والاستحسان، وهذا ينمُّ على استعداد فينا غير قليل. وإذا قلتم إن فتحي باشا كان عالِمًا مُفكِّرًا، وإن العلم والتفكير من خصائص الرجال، أجبتُ إن العالم الحقيقي والمُفكر المخلص هو ذاك الذي يكتب للرجال والنساء بلا تفريق، ويودُّ أن تكون كتاباته هُدًى ووحيًا لجميع أفراد الأمة، بل يودُّ أن تكون لشعوب العالم أجمعين.

ولا شك أن فتحي زغلول هو ذلك الرجل، إذ ما رأيت أنا، ولا رأى أحد على غلاف كتبه كلمة كهذه «محظور على النساء» أو «حقوق المطالعة محفوظة للرجال!»»

وبعد أن تشير إلى بلاغة ما أُلقي في هذا التأبين من خُطَب وقصائد، وإلى دموع سعد زغلول حين سماعه هذا التأبين، تقول في نهاية الخطاب:

«لو حضر النساء هذا الاجتماع لأخذن عنه أمثولة طيبة، وحفظن منه في نفوسهن أثرًا جليلًا، هذا سؤال يا سيِّدي الأستاذ ألحقته بالحواشي الطويلات، لعلكَ تجده بعد مطالعته تقريرًا لا سؤالًا، وقد تحكم أن ما حسبته أنا إشارة استفهام ليس إلا علامة أسف!

لكَ أن تحكم بما تشاء، وكلمتي هذه هي ما تريد أن تكون.»

الخطاب السادس

قرأ لطفي السيد هذا الخطاب الذي عاتبته «مي» فيه ذلك العتاب الشديد، فأجاب عنه في صحيفة «الجريدة» باعتذار جاء فيه:

«الحق مع حضرة الكاتبة الفاضلة، ولست أعرف للجنة التي أنا أحد أعضائها عُذرًا في نفي الإنسان عن ألواجهنَّ العادية في الأوبرا في ذلك اليوم إلا لعادة درجنا عليها. ولو سُئلتُ رأيي في اللجنة عن دعوة السيدات إلى هذا الاحتفال لترددتُ كثيرًا، وربما كان جوابي الرفض، ولستُ قادرًا على أن أقدِّمَ لهذا الرفض أسبابًا يقبلها العقل، ولكن الأمر هو هذا: إن احتفال التأبين ضربٌ من مأتم عمومي، ومع ذلك فإن المآتم لا تقوم إلا بالرجال والنساء، فلا أعرف شيئًا جديًّا أقوله في هذا المعنى إلا أننا لم نكسر حتى الآن قيود عادة لم تستحكم بعد.

فالتأبين في ذاته حديث في بلادنا، ومع ذلك يظهر لي أن الذي جعلنا لا نُخصص ألواج السيدات لهن في هذا الاحتفال هو الغضاضة التي نجدها من أن ندعو النساء لحفلة، غضاضة مرجعها إلى العادة.»

ثمَّ يختم هذا الاعتذار بقوله:

«تلك الحال نرجو أن يذهب بها المستقبل القريب، وحسبنا أن نغتبطَ بهذه الروح الجديدة التي تدفع الجنس اللطيف عندنا للحرص على حقوقه، ونثبت للآنسة «مي» في ذلك سعيًا مشكورًا.»

وبعد ذلك سكت لطفي السيد، وسكتت هي كذلك سكوتًا كاد يُفضي بهما إلى المقاطعة. وبعد بضعة أشهر كان قد سافر إلى بني سويف، فهزه الشوق إلى الكتابة إليها، فكتب هذا الخطاب الذي يقول فيه بتاريخ ٩ يونيه سنة ١٩١٥:

«هو هذا، لا أكتب أبدًا، أو أكتب كل يوم، أكتب لأخبرك إن ابنتي تلعب بالبيانو على المعنى العام، أو بعبارة أخرى تخبط تخبيطًا لتذاكر «الجام»، وهي في ذلك تنسى أني أطالع في الحجرة المجاورة، لست غضبان منها بالذات، ولكني غضبان من جميع البنات لأجلها ولأجلك ولأجلهن. ومع ذلك جئت أشكوها إليكِ، لا لتغضبي منها، ولكن لأقيم بهذه الشكوى دليلًا على مضايقة البنات لنا حتى «مي»، فليذهبن وليطالبن بحق الانتخاب الذي أخفت الحرب (الحرب العالمية الأولى) صوته، وليمرِّضن الجرحى في ساحات القتال، ليتَّخذن بذلك يدًا عندنا نعرفها لهن في السلم، وليثبتن بدليل جديد أنهن أيضًا ضروريات للعالم.»

وبعد أن يعاتبها عتابًا خفيفًا يشتد في بعض سطوره يقول:

«ما لي وهذه اللغة الجافة التي ليست من دأبي — دأب رقة العواطف، وحسن المجاملة، وطيب العِشرة. أظن أن هذه العصبية مُسبَّبة على أنه صعب عليَّ منك أن تسكتي عني، لا لذنب آخر غير مقابلة سكوتي بالسكوت أو بالجفاء، وهذا خُلُقٌ إن كان عادلًا فهو على كل حال غير لطيف.

اكتبي لي، واكتبي كثيرًا، وثِقي بأنكِ كتابكِ لي أقرأه خيرٌ عندي من أكبر لذائذي في الدنيا وهي الطعام. ستضحكين مني. الله يبسطك، ولكن هذا هو الواقع من الأمر، ولست وحيدًا في تقدير الطعام هذا التقدير العالي، في حين أن كل الناس حتى أقلهم عقلًا، وأكثرهم تواضعًا في الادِّعاء ينفر جِدًّا من أن ينسب إليه أنه يحب الطعام، ولو كان في سره يقول: «بعد بطني الطوفان.» والواقع أن الطعام هو كل شيء. ألا ترين أن بني إسرائيل من قبل لم يشاءوا أن يعجزوا الله إلا بالمائدة، وأن الحواريين لم يجدوا ما تطمئن به نفوسهم إلى تصديق عيسى إلا بالمائدة؛ فالمائدة هي صوت الموسيقى وهي خطوط الجمال، وهي قوائم الشعر ولباب النثر، وهي كل شيء، ولو كان في العالمين والأميين شيءٌ من الصراحة لقالوا معي إنهم يعيشون ليشهدوا أواني الطعام على مائدة الغداء أو العشاء.

كتابكِ عندي خيرٌ من هذا. لا أقول ذلك الكلام البارد الذي يردده جماعة المُتشدِّقين، كتابكِ غذاء لروحي، أمسك. ها هم أولاء يعترفون معي بأن الطعام ألذ ما يكون؛ ولذلك جعلوا للنفس المُجرَّدة غذاء، خير ما يظنُّون من حُسن الفكر أو لطيف المشاعر، حسنٌ هذا، اتَّفقنا، اكتبي طويلًا سواء كتبتُ أم لم أكتب، وعليَّ أنا أيضًا هذا العهد، إن كان في القرن العشرين يجمل بالناس أن يوفوا بالعهود، ودومي لصديقكِ.»

الخطاب السابع

وقد استمرَّت الصداقة بين «مي» ولطفي السيد حتى قامت ثورة ١٩١٩، وكان لطفي السيد من زعمائها البارزين وأحد أعضاء الوفد المصري العاملين، وقد سافر هذا الوفد إلى باريس سنة ١٩٢٠، ثمَّ إلى لندن للسعي لحرية مصر واستقلالها، وقد شاقه وهو في متاعب الجهاد الوطني أن يُراسل أحب الناس إليه، ويُفضي بما يُخالج نفسه من آلام وأمال؛ فأرسل إليها في ١٥ أكتوبر سنة ١٩٢٠ هذا الخطاب، يقول فيه:

صديقتي العزيزة

«أكتب إليكِ، وإني لأشعر أني زيادة على تفريطي في أمر الكتابة إليكِ إلى الآن ربما اخترتُ الفرصة الأبعد ملاءمة لمحادثتك؛ فإني أراني من حرج الصدر بحيث أخشى أن ينمَّ كتابي عن حالي التي رُبمَّا غلوت كعادة الشباب على تصورها من خلال الحديث.

هوِّني عليكِ الخطب، ولا تتعبي نفسكِ في تفرُّس أمر هذا السلم الجديد، فليس جديدًا على الحي ما دام حيًّا أن يألم قليلًا أو كثيرًا حسب وقوع تصاريف القدر على مقتضى ما يريد أو على نقيض ما يريد. وليس جديدًا على من يُحاولون أن يقوموا إلى النهاية بأمر عام أن يعرض لأحدهم من الفروض أو التصورات ما يُريبه.

واقبلي معي أن صفاء القلب قد تُكدِّره فارغة، وأفرغ من الفارغة يومًا أو بعض يوم. وها أنا ذا في هذه الحال هذه الساعة، ومع ذلك أكتب إليكِ، ومع ذلك أعلم بأن المجموعة الشمسية لا تزال بخير، وأنا عالمنا لا خطر يحيق به، وأنني شخص وفير الصحة على قدر ما أستطيع أن أكون وفيرها، وفي سعةٍ من العيش لستُ محتاجًا في شيء إلى عون من الناس، فالألم بعد ذلك ألم المُتفكِّه من الألم، وربما كان من النفوس من خلق ليألم، ومن يوشك أن يخلقه لنفسه ألوانًا من الآلام، وربما كنتُ من هذا القبيل على ما أظهر في مجالسي من المبالغة في سعة الصدر، ومما قد يظنُّ بعضهم ألا أُقيم وزنًا للمشاعر ولا أهتم إلا بمقولات العقل ونتائجه! غير صحيح، بل فاسد وظلم للحقيقة شنيع!»

وقد كان لطفي السيد في ذلك الوقت مُتفائلًا لسير القضية المصرية إلى النجاح؛ ولهذا أخذ يتحدث إلى الآنسة «مي» في هذا الخطاب عن احتمال الألم والظهور بمظهر المُغتبط المُتفائل، فيقول:

«ألا ترين أن إظهار الجزع مصيبة، والجري فيه على منهج المسترسلين في أحزانهم مجاراةً لقلة العقل، ومفارقة لغير النافع، أوَلا ترين أن الإغضاء عن مقابلة الشر بالشر في الأقوال وفي الأعمال ترفُّع يتَّفق مع مقام العقل الرفيع الذي يضبط حركات الشهوات. أليس أن رواء المُغتبط أحسن في نظر الناس من رواء المحزون أو المُستحق للعطف؟ أليس من أدب الاجتماع ألا يكون المرء سببًا في اتصال الألم، بل انتقاله بالعدوى من نفسه إلى نفس غيره؟ أليس المبالغ في إظهار ألمه أشبه بالمُستهتر في شهواته ولذائذه.»

ثمَّ يختتم أحمد لطفي السيد خطابه بعد الحديث عن النجاح والفشل والناس وعن السياسة بقوله للآنسة «مي» وهو في باريس:

«ولي من الثقة في صداقتكِ ومن الطمأنينة ما قد حدا بي إلى أن أخبرك أني كنتُ قبل أن أستمتع بحديثي معكِ مألومًا أو غضبان، أو ما شئتِ فقولي، أوَلا يبعث هذا المعنى لنفسكِ ألا تتحرَّج في أن تذكر لي ما هي عليه؟ لستُ أطلب ما لا تريدين أن أعرف، فهذا لكِ، ولكن لي أيضًا وأنا صديق أن أعلم بالإجمال إن شئتِ لا بالتفصيل: أسعيدة أنت؟ أُحِبُّ وأُحِبُّ كثيرًا أن تكوني كذلك، ولا أظنُّ أن نفسكِ الجميلة إلا سعيدة في كل ظرف، اكتبي لي طويلًا وكثيرًا، اكتبي على عنواني المسطور في صدر هذه الصحائف، وهم يُرسلون كتبكِ المتتابعة إليَّ في لندره، وقدِّمي تحياتي لحضرة الوالد، وحضرة الوالدة، ودومي لصديقكِ.»

الخطاب الثامن

وكانت «مي» في تلك السنة — سنة ١٩٢٠ — قد أصدرت لها مجلة المقتطف كتاب «باحثة البادية» فأرسلته إليه وهو مع الوفد المصري في لندن، فبعث إليها هذا الخطاب بتاريخ ٢٤ أكتوبر سنة ١٩٢٠، يقول فيه:

صديقتي

«وردني كتابكِ، وإذ كنتُ في لندره أشغل ما أكون إلا عن ذكرى أويقات محاضرتنا الأولى التي كان الاقتضاب هو المعنى السائد عليها، أثارتها في نفسي عبارة إهداء كتابكِ، أو كتاب الباحثة، أو على الحقيقة، لا على المجاز وثبات نفسك الكبيرة الحسَّاسة التي تجلَّت، فغطَّت بجلالها آثار صديقتكِ، بل آثار صديقي المرحوم (يقصد حفني ناصف والد الباحثة)، وظهرت أنت من حيث لا تريدين، بل من حيث أردتِ ألا يظهر لك شخصية فيما تكتبين، تحاولين المستحيل إذ تحاولين أن يتضاءل النور الساطع أمام النور الضئيل. حسبي حتى لا أُتَّهم بتمليق الكتاب، ولو بالحق استدرارًا لعطفهم، واتِّقاءً لشرهم.

ولقد علَّمني أستاذي وأستاذك (يعني القرآن) أن الله لا يحب كل مختال فخور، لا تبْسَمي يا «مي» من قولي، فأنا أحب الله، وأحب كثيرًا أن يُحبني، بل لا أعرف كيف يستطيع الحسَّاس ألا يحب الله، أو يصبر على ألا يكون محبوبًا من الله، حُبًّا ليس له مظهر في الحياة الخارجية، وإن كان له في النفس أعلى مكان وأعزه، لا تدل عليها المسابح والتسابيح.

أتفلسف يا أستاذي؟ ستقولين ذلك، ولا يا ابنتي، ولكن عهدي معكِ أن أرسل قلمي على حريته يخط ما يرد في نفسي من الخواطر من غير احتراس ولا تكلُّف. وكم أنا سعيد بأن أراكِ قريبًا، وأول زيارة لكِ بالضرورة، أو بعبارة أصح أول زيارة ترضيني!»

ثمَّ ينتقل في هذا الخطاب الرقيق إلى تهنئتها بكتاب «باحثة البادية»، فيقول:

«نسيتُ أن أُهنئك على كتابك بكلام كويس، صحيح طويل، ولكن إلى الملتقى، وربما كان هو موضوع أول محاضراتنا الأولى، أيوم الثلاثاء هي؟

لا، أنا لا أحب كثيرًا يوم الثلاثاء، لا لأني كما تظنِّين بالباطل لا أحبُّ الشوامَ زوَّارَكم، ولكن أحب أن يكون الحديث دائرًا على ما نريد، لا على ما تريد أية سيدة من السيِّدات التي يجلسن على الكنبات، ويتركننا على الكراسي؛ لهذا أحب أن أجلس على الكنبة مرتاحًا، وأناقشك الحساب في كل ما تقولين، أهكذا؟ نعم هو كذلك، واعملي ما شئتِ أن تعملي فإني في حماية الوالدة، ولستُ معترفًا بالحماية لأحد غيرها مُطلَقًا، لأنني أظننا سننال الاستقلال!

إليكِ أقدِّم احتراماتي الخالصة، وتحياتي القلبية.»

هذه طائفة من رسائل أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد في الحب الروحي الشريف الذي كان يخالج نفسه نحو الأديبة النابغة «مي» في ربيع الشباب، ونحن نقرأ فيها عاطفة مشبوبة وقلمًا مُتيَّمًا شجيًّا، وظُرفًا في الدعابة والعتاب، وحلاوة في الأسلوب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤