الفصل العاشر

من الأزمة إلى الحرب الحاضرة

عوامل الأزمة بوجه عام

ظن كثير من الناس أن العالم سيستريح من متاعبه بعد سنة ١٩٢٨ بفكرة أن الضائقات التي مرت عليه من انتهاء الحرب إلى تلك السنة قد صفت نتائج تلك الحرب من الوجهتين السياسية والاقتصادية، وأن التعديلات التي أدخلتها الدول على نظمها النقدية قد جعلت النقود مستقرة على الذهب الذي يضمن ثبات الأسعار.

ولكن مع الأسف كان ذلك الظن خطأ لم يقع فيه الأفراد العاديون، وإنما وقع فيه أيضًا معهم فريق من المفكرين ورجال الأعمال، وعُذرهم في ذلك أنهم لم يدرسوا التاريخ الاقتصادي حق دراسته، فغاب عنهم أن يطبقوا عظات الماضي على الحاضر، أو طبقوها بغير أن يراعوا ظروف العالم عند قيام الحرب الماضية وبعدها.

لم تكن عشر سنوات مرت على العالم بعد الحرب كافيةً لتصفية سيئاتها، ولم يكن تثبيت النقود إلا عملًا أتته كل دولة بدافعٍ من مصلحتها الخاصة، متجاهلةً فيه مصالح الدول الأخرى وظروفها.

وإذا كانت الحروب الصليبية قد سببت للعالم متاعب الأرزاق في النقود ظل يرزح تحتها عشرات السنين، وكانت حروب نابليون في التاريخ الحديث أوقعت العالم في أزمات زهاء ربع قرن، فكيف بنتائج الحرب العالمية التي هي مرحلة من مراحل التطور الفكري والاقتصادي في حياة الإنسانية؛ فهناك الاشتراكية المتطرفة تقوم عليها بعض الدول، وهناك أيضًا تقدم في المخترعات، وطرق الاستغلال تقوم عليها دول أخرى في ميدان الإنتاج تحت نظام رأس مالي دقيق معقد حساس شديد الانفعال، لا يكفي في إصلاحه إذا اختل وقوع أزمة أو أزمتين، كما اعتقد أولئك الذين تفاءلوا سنة ١٩٢٨، وحسبوا أن العالم قادم على الرخاء والرفاهية.

لقد كانت أعراض المرض كامنةً تتحين الفرصة لتفتك بالعالم في أزمة طاحنة بدأت سنة ١٩٢٩، واستمرت عدة سنوات، ونستطيع أن نرجعها إلى عدة عوامل أهمها ما يأتي:
  • (١)

    معاهدة الصلح.

  • (٢)

    اختلاف وجهات نظر الدول المنتصرة.

  • (٣)

    فساد مبادئ التعويضات والديون الدولية.

  • (٤)

    سياسة الاستكفاء الذاتي التي سارت عليها أغلب الدول.

  • (٥)

    رد الفعل الذي يحدث من تثبيت النقود.

  • (٦)

    قلة الذهب وسوء توزيعه.

  • (٧)

    عوامل نفسية عند الأفراد والحكومات.

ولما كانت هذه العوامل بعضها متضافر مع البعض الآخر، وربما كان سببًا أو نتيجةً له؛ فقد رأينا أن نتكلم عليها جملة في ذلك السياق الذي أخذت تتطور فيه وقائعها.

لقد جاءت معاهدة الصلح بعد الحرب الماضية تفرض على ألمانيا تعويضات قاسيةً قصد التنكيل بها، وإتلاف ماليتها، ولم يكن الحلفاء كرامًا معها بعد أن عجزت عن مداومة القتال، وألقت سلاحها تطلب صلحًا على أساس شروط ولسون الذي بشرها، وبشر العالم بإنجيل قال فيه: لا مغلوب ولا غالب، ولا ضم ولا غرامة، ولا سيد ولا مسود بين الشعوب، ولكنه عجز عن تنفيذ مبادئه، وانضم إلى ساسة الحلفاء في فرض شروط قاسية ودين مرهق لا يقارن من حيث العقوبة المالية بما فرض معاهدة فينا سنة ١٨١٥ على فرنسا التي مع ذلك لم تدفع إلا أقساط أربع سنوات فقط، ثم سامحتها الدول المنتصرة رغبةً منها في إزالة الأحقاد، ومع أن كاسلره كان من غلاة المحافظين الإنجليز، وطغاة الساسة المتجبرين، فقد كان أقل قسوةً من لويد جورج وكليمنصو وولسون الذين غالوا في البطش بألمانيا، والانتقام منها انتقامًا كان الغرض منه تعجيز ألمانيا، ومنعها من استرداد مكانتها.

ولم يَدُرْ بِخَلَد الذين وضعوا الشروط الاقتصادية أن دفع التعويضات كان أمرًا مستحيل التنفيذ، بل لم يفكروا في الطريقة التي ستتم بها تحويلات الديون التي رتبوها بين الدول المختلفة؛ فقد ظنوا أن صادرات الدول المدينة ستكفي زيادتها لسداد قيم تلك الديون، فلما وقع العكس أنكرت الدول مسئولياتها، وأخذت تتنصل من دفع الديون.

كان أيضًا من العوامل التي أدت إلى الأزمة ذلك النشاط الغريب في الإنتاج الذي طفر بعد الحرب في زيادة هائلة غير متكافئة مع الاستهلاك، ولو كان الاستهلاك بدوره قد زاد بمقدار ما زاده الإنتاج لما وقعت الأزمة، ولكن العكس هو الذي حدث فقد علَّمت الحرب الناس قلة الاستهلاك، وطبعتهم على البساطة والإقلال من اللذائذ والمتع في المأكل والملبس والمسكن، ذلك ما تعودوه أثناء الحرب وحافظوا عليه بعدها؛ فقد كان كل شعب محصورًا في بلاده يعمل جهده ليستكفي بما في بلاده من زراعة وصناعات، فلما انتهت الحرب بقيت آثارها عالقةً بالشعوب التي وجدت أنها أقامت صناعات أو زراعات لم يكن بد من إقامتها لسد حاجات الأهلين، وقد أضحت تلك الصناعة أو الزراعة الجديدة مورد رزق لبعض أفراد الشعب؛ فعز على الحكومات أن تقعدهم عن العمل، وأن تقطع أرزاقهم، فساعدتهم اعتقادًا منها بأنها تؤدي واجبًا وطنيًّا مفروضًا عليها.

ربما كانت بعض الحكومات على حق في مساعدة الصناعة أو الزراعة التي نشأت بسبب ظروف الحرب، إذا كانت الزراعة أو الصناعة ناجحةً في ذاتها، أو كانت مما لا غنى للشعب عنها، أما إذا كانت تلك الصناعة أو الزراعة لا لزوم لها في وقت السلم، أو كان مثلها يستورد من الخارج بأقل مما تتكلفه في البلاد التي تريد حمايتها، فهنا تخطئ الحكومة مرتين إذا هي عملت على حماية تلك الصناعة أو الزراعة؛ تخطئ أولًا في حق شعبها، وخصوصًا الطبقة الفقيرة منه؛ لأنها تجبره على استهلاك سلع مرتفعة الثمن، وتخطئ ثانيًا لأنها حاربت شعبًا آخر في إنتاج يتقنه، فمن حقه أن يفيد منه.

لسنا من أنصار حماية الإنتاج الوطني إلا إذا كان لازمًا للبلاد، وكان ناجحًا في ذاته؛ لأننا نرى الحماية درعًا يتقي به الإنتاج الوطني منافسةً غير مشروعة، ولسنا نرى الحماية سببًا في خلق صناعات مخففة بطبيعتها، أو لا حاجة للشعب بها في بناء كيانه الاقتصادي الصحيح.

تلك الحمايات المعيبة المبنية على التعصب الأعمى قد جرت العالم إلى حرب اقتصادية استعرت بين الدول، كل دولة منها تقابل الاعتداء بمثله فتغلق أبوابها دون محاصيل غيرها ومصنوعاته، والحرب الاقتصادية أطول مدًى وأبعد أثرًا في حياة الأمم من الحروب العسكرية التي تخمد جذوتها بمجرد أن يهزم الجيش المغلوب، والحروب الاقتصادية يصيب ضررها جميع طوائف الأمة، فإذا بدأت بأزمة عند طائفة انتقلت منها إلى غيرها.

ومن الأخطاء التي أدت إلى وقوع تلك الأزمة الساحقة التي انتابت العالم من سنة ١٩٢٩ إلى سنة ١٩٣٤ عودة الإنجليز إلى الذهب في سنة ١٩٢٥.

لم يغب عن بال الإنجليز أنهم قد يعرضون أنفسهم والبلاد المتصلة بهم إلى الضرر برفعهم سعر الإسترليني، ولكنهم قدروا أن الضرر الذي يحدث سيقابله نفع يعود عليهم من استرداد لوندره مكانتها الاقتصادية، ومن استرجاع الجنيه الإنجليزي زعامته على نقود العالم، ومن ثم لم يعبئوا بتحذير من عارض في الرجوع إلى الذهب، ومضوا في عملهم مقدرين وجوب بذل التضحية، مدفوعين بغريزة الاعتماد على النفس، وسجية ركوبهم الأخطار.

ولكنها كانت تضحيةً سريعةً جسيمةً ضاعفتها الحوادث التي يرجع بعضها إلى ظروف الإنجليز، وبعضها إلى الظروف العالمية.

لقد كان لرفع سعر الإسترليني أثر سيئ في التجارة البريطانية؛ إذ رفع أسعار السلع الإنجليزية وهي من طبيعتها غالية الثمن؛ فأصبحت لا تستطيع أن تنافس السلع الألمانية أو الأمريكية، وهي سلع متقنة لا تقل جودةً عن السلع الإنجليزية إن لم تفقها في الجودة، بينما صناعة الروس واليابان تغرق أسواق العالم بسلع رخيصة قليلة النفقات في إنتاجها، معضدةً من حكومتها بأنظمة تساعدها على التغلب عند المنافسة.

وأسباب غلاء المصنوعات الإنجليزية كما نعلم راجع إلى غلاء المواد الأولية في إنجلترا، وإلى ارتفاع أجر العامل فيها، وإلى كون الإنجليز كانت أغلب مصانعهم على الطراز القديم الذي يدار بالفحم، بينما الدول الأخرى أدخلت بعد الحرب على مصانعها أحدث المخترعات؛ لتقلل نفقات الإنتاج، وتزيد في كميته، فجعلت مصانعها تدار بالكهرباء أو بالمازوت؛ لذلك قل أو انعدم ربح الصناعة البريطانية؛ فاضطر بعض أصحاب المصانع إلى إنقاص أجور عمالهم والاستغناء عن بعضهم؛ فزاد العاطلون من العمال في إنجلترا، وأصبحت الحكومة مجبرةً على تقديم إعانات لها تبهظ كاهل ميزانيتها، ولا بد للحكومة في مثل تلك الحالة من أن تزيد الضرائب، وفي ذلك ما يرهق الشعب البريطاني، ويحمل كثيرًا من أصحاب رءوس الأموال على تفضيل استغلال أموالهم في الخارج.

ومما يأخذه بعض كتاب الاقتصاد على إنجلترا أنها دفعت ببعض البنوك الإنجليزية إلى إقراض النمسا وألمانيا قروضًا طويلة الأجل؛ تنفيذًا للسياسة التي رسمتها الحكومتان البريطانية والأمريكية؛ لتمكين الدول المدنية من الوفاء بتعهداتها، تلك السياسة التي حبذها ساسة الإنجليز بقولهم: إن مساعدة المدين على دفع دينه خير من تركه يفلس، ويضيع على الدائن كل دينه.

وبينما يحدث ذلك في إنجلترا نرى عكسه تمامًا يحدث في فرنسا بعد تثبيتها للفرنك، فقد راجت تجارتها الخارجية في ظل سعر الفرنك المخفض، وتدفقت عليها أموال جمة من الدول الأخرى.

وفرنسا لا تقرض ألمانيا؛ لأنها تضمر لها العداوة، وهي أيضًا تحارب كل فكرة ترمي إلى مساعدة الألمان الذين تريد القضاء عليهم.

أخذت فرنسا تعرقل كل عمل تقوم به إنجلترا والولايات المتحدة لتمكين ألمانيا من استئناف نشاطها، ودفع ما فرض عليها من تعويضات، واتخذت فرنسا من الذهب الذي تكدس في بلادها سلاحًا تحارب به الإنجليز.

ولو أردنا أن نحدد نصيب الدول من المسئولية في إحداث تلك الأزمة لجعلنا على عاتق فرنسا قسطًا كبيرًا من التبعة؛ فهي التي بدأت حرب العملات حين ثبتت فرنكها على سعر أقل مما ينبغي أن تثبت عليه، وهي التي عملت على اختزان الذهب في بلادها، والذهب من طبيعته قليل لا يفي بحاجات العالم في الوقت الحاضر؛ فأربكت فرنسا بتلك السياسة الدول الأخرى.

إنجلترا توقف العمل بقاعدة الذهب

اجتمعت العوامل السابق ذكرها على ميزانية إنجلترا وتجارتها فأصابتهما بنقص خطير، هال أمره الحكومة البريطانية؛ فشكلت في ٥ نوفمبر سنة ١٩٢٩ لجنة مكملان؛ لتبحث الموقف من الناحيتين الاقتصادية والمالية.

وقدمت لجنة مكملان تقريرها القيم للحكومة الإنجليزية التي طبعته ونشرته رغم ما فيه من صراحة؛ فازاداد الموقف سوءًا على سوء؛ لأن نشر ذلك التقرير كشف الغطاء عن فساد السياسة المالية في إنجلترا، ومن سوء حظ الإنجليز أن يجيء نشر التقرير في الوقت الذي ظهرت فيه متاعب ألمانيا والنمسا، وإعلانهما العجز التام عن سداد المستحق عليهما من ديون وطلبهما مهلةً وتعديلات في أقساط الديون.

اقترح الرئيس هوفر إجابة طلب ألمانيا والنمسا إلى الموراتوريوم، ووافقت إنجلترا على اقتراحه؛ لأنه الحل الوحيد في مثل تلك الظروف، ولكن فرنسا رفضت إمهال ألمانيا، واشترطت شروطًا مهينةً معجزةً تختص بالتسليح وبالجمارك لم تقبلها ألمانيا؛ فعرقلت فرنسا كل عمل يرمي إلى انتشال ألمانيا من إفلاسها؛ فأحدثت فرنسا بذلك أزمةً سياسةً فوق الأزمة المالية.

أخذت فرنسا تقاوم سياسة إنجلترا وتظهرها بمظهر المخطئ، وتذيع عنها أنها بمساعدة ألمانيا ستفلس معها، وأفلحت فرنسا في دعايتها ضد إنجلترا؛ فخشى الذين لهم أموال مستغلة في الخارج عليها من الضياع، وسارعوا إلى سحبها من بنوك ألمانيا والنمسا وإنجلترا.

توقفت بنوك في النمسا وألمانيا عن الدفع، ولكن إنجلترا مدت لهم يد المساعدة فثارت ثائرة فرنسا، وحملت على إنجلترا حملةً شعواء لم تعبأ بها إنجلترا التي اتفق ساستها مع ساسة الولايات المتحدة على عدم سحب النقود من ألمانيا، واستبقت إنجلترا ٧٠ مليونًا من الجنيهات في ألمانيا.

ولكن بنك إنجلترا وقع في مأزق حرج، فأموال الإنجليز مستغلةً في الخارج في قروض طويلة الأجل، بينما أموال الأجانب في إنجلترا مستغلة في قروض قصيرة الأجل، وهو يوالون سحب أموالهم من إنجلترا، وأخذ رصيد الذهب في بنك إنجلترا يقل يومًا عن يوم؛ فعمد إلى الوسيلة التقليدية وهي رفع سعر القطع، ولكنها لم تفده فائدةً محسوسةً؛ فاضطر إلى الاستدانة من الخارج فاقترض مرةً ٥٠ مليونًا من الجنيهات، ومرةً ٨٠ مليونًا من فرنسا والولايات المتحدة، ثم طلب من الحكومة الإنجليزية طبقًا للمادة الثامنة من قانون ١٩٢٨ أن تسمح له بزيادة ١٥ مليون جنيه في بنكنوته بغير غطاء، وهنا انكشف مركز البنك بهاتين الظاهرتين.

وتوالى العجز في الميزانية البريطانية، وفي التجارة الخارجية، فكان يسدد في الميزانية بزيادة فئات الضرائب، وفي التجارة الخارجية من عمليات التأمين والنقل البحري وأرباح رءوس الأموال المستغلة في الخارج حتى ظهر في يوليو سنة ١٩٣١ أن الميزانية البريطانية بها عجز لا يقل عن ١٢٠ مليون جنيه، وجاء في الإحصاء الرسمي عن تجارة الثمانية أشهر الأولى من تلك السنة أن الواردات البريطانية بلغت قيمتها ٥٣٣٠٦٠٠٠٠ جنيه، بينما الصادرات بلغت قيمتها فقط ٣٠٩٣٠٧٠٠٠ فضاعت الثقة بسياسة العمل، وسقطت وزارتهم، وحلت محلها وزارة ائتلافية لتتدارك الموقف، وتعمل على الإنقاذ، وقدم مستر سنودن بوصفه وزيرًا للمالية مشروعًا للبرلمان بزيادة موارد الميزانية ٨٠ مليون جنيه، وإنقاص مصروفاتها ٨٠ مليون جنيه تؤخذ من مرتبات الموظفين، واعتمادات الجيش، وأقر البرلمان ذلك المشروع.

وأضحى بنك إنجلترا في خطر من نفاد رصيده الذهبي؛ فأحاط الحكومة علمًا بموقفه فأسرعت إلى البرلمان تطلب منه تشريعًا يجيز إيقاف العمل بقاعدة الذهب، ووافقها البرلمان على ذلك في ٢١ سبتمبر سنة ١٩٣١، وصدر قانون نص فيه على إيقاف تنفيذ المادة الأولى من قانون سنة ١٩٢٥ التي كانت تعطي حامل البنكنوت الحق في الحصول على سبائك ذهب من بنك إنجلترا، وخول القانون الجديد أيضًا لوزير المالية البريطانية سلطة اتخاذ ما يراه لازمًا من الإجراءات في الحالات التي تنشأ عند العمل بإيقاف قاعدة الذهب.

وقد أصدر زير المالية بمقتضى السلطة المخولة له أمرًا في اليوم التالي حرم فيه التعامل والاتجار بالعملات الأجنبية، إلا أن يكون ذلك لأغراض تجارية صحيحة، ولدفع نفقات سياحة، أو لسداد ديون نشأت من عمليات عقدت قبل ٢١ سبتمبر، بذلك الأمر منع زير المالية المضاربات الضارة بسعر صرف الجنيه الإنجليزي.

وقد أقفلت بورصات لندره وبرلين ومصر وغيرها من البورصات الهامة حتى تهدأ الأعصاب، ويضيع أثر الانفعال الذي حدث في بعض الدوائر المالية.

نتائج ترك إنجلترا لقاعدة الذهب

تتلخص النتائج التي نشأت عن ترك إنجلترا لقاعدة الذهب فيما يأتي:
  • (١)

    خروج كثير من الدول عن الذهب أسوةً بإنجلترا.

  • (٢)

    توفير في الميزانية البريطانية.

  • (٣)

    تخفيف أعباء الدين العام في إنجلترا.

  • (٤)

    نشاط الصادرات البريطانية.

  • (٥)

    نشاط الصناعة البريطانية.

  • (٦)

    قلة العمال العاطلين في إنجلترا.

  • (٧)

    تدفق الأموال الأجنبية على إنجلترا.

  • (٨)

    إنقاص الفوائد.

هذه هي أهم الآثار التي ترتبت على ترك إنجلترا لقاعدة الذهب؛ أولها خروج دول عن الذهب أسوةً بإنجلترا، وكأن التاريخ يعيد نفسه في قيادة إنجلترا لدول العالم أخذًا بقاعدة الذهب وتركًا لها، فإذا كانت معظم الدول قد اعتنقت قاعدة الذهب بعد أن اعتنقتها إنجلترا في القرن الماضي، فإن أغلب الدول قد رجعت إليها في سنة ١٩٢٥ عندما عادت إليها إنجلترا، ثم إن كثيرًا من الدول أيضًا تركتها في سنة ١٩٣١ عندما خرجت إنجلترا عن قاعدة الذهب.

لقد خرجت عن قاعدة الذهب في تلك السنة كندا والبرازيل وأستراليا وجنوب أفريقيا والبرتغال ولاتفيا واليونان والهند ومصر وغيرها من الدول واحدةً إثر أخرى؛ لأنها لا تقوى على البقاء على قاعدة الذهب، إما لأن البقاء عليها ضار، وإما لأن الإسترليني له صلة كبيرة بمالية الدولة التي لا تستطيع السير بمعزل عنه.

ولكن فرنسا وإيطاليا وبلجيكا قد استمرت على قاعدة الذهب؛ لأن هذه البلاد لديها من الذهب مقادير كبيرة، ولأنها بلاد قد ثبتت عملاتها على سعر منخفض جعلها تمكث وقتًا لا تحس فيه بشدة الأزمة العالمية، وقد أفادت تلك الدول أنها استطاعت أن تدفع ما عليها رخيصًا بعملة الإسترليني الذي نزلت قيمته بالنسبة لعملاتها، وأن تستورد من الخارج سلعًا زهيدة الثمن، إلا أن هذه الدول لم يعد في مقدورها أن تجد خارج بلادها أسواقًا لسلعها التي أصبحت غاليةً لا تقوى على منافسة سلع البلاد التي رخصت نقودها بخروجها عن الذهب.

ولم تجد الدول الباقية على الذهب في مثل تلك الظروف بدًّا من تعديل سياستها الجمركية بما يكفل منع السلع الأجنبية من مزاحمة سلعها في نفس بلادها، وإذا قارنا الفائدة التي عادت على البلاد التي تركت الذهب بالفائدة التي عادت على البلاد التي عدلت نظمها الجمركية، لوجدنا أن ترك الذهب في ظل سياسة رشيدة خير من التعصب له مع إقامة الحواجز الجمركية، وبذل المساعدات للمنتجين والمصدرين.

وقد أفادت إنجلترا من تركها الذهب أن ميزانية العام التالي انتهت بزيادة ٢٩ مليون جنيه، مكنت الحكومة من إجراء تخفيض في بعض الضرائب كضريبة الإيراد، وضريبة الملاهي، وضريبة السيارات، واستطاعت الحكومة أيضًا أن تدفع الإعانات للعمال العاطلين الذين قل عددهم بطبيعة الحال بفضل نشاط الصناعة البريطانية.

وقد انتهزت الحكومة البريطانية تلك الفرصة السانحة فقللت أرباح دينها بتحويل سندات الحرب War Loan التي كانت تدفع عنها فائدة قيمتها ٥٪ إلى سندات تدفع عنها ٣٪، وقد تمت عملية التحويل بنجاح منقطع النظير، وفي مدى وقت قصير جدًّا، وسارعت الحكومة المصرية إلى قبول التحويل مجاملةً لإنجلترا، ولا نظن أن مصر قد خسرت في ذلك التحويل أقل من ٢ مليون جنيه.

ولم يقتصر نفع إنقاص الفائدة على الحكومة البريطانية وحدها، بل تعدى النفع إلى الأفراد فأنزلت البنوك فائدة الإقراض، وزاد بسبب ذلك أيضًا التعامل في الأوراق المالية؛ فارتفعت أسعار معظمها نتيجةً لرد فعل عملية التحويل، وأقبل الأجانب على إيداع أموالهم في إنجلترا، وعلى شراء الأسهم والسندات الإنجليزية متوقعين الزيادة في سعر الجنيه الإنجليزي.

وتدفقت أموال عظيمة في الخارج على إنجلترا، وحدث ما كان متوقعًا من ارتفاع سعر الجنيه الإنجليزي، ولكن الحكومة الإنجليزية كانت يقظةً فأعدت مالًا للموازنة تستعمله عند اللزوم؛ لتحفظ الجنيه عند المستوى الواجب أن يكون عليه.

وقد أرادت فرنسا أن تقلد إنجلترا في تخفيض فوائد سنداتها؛ فأعلنت تحويل قروض الرانت ٥٪، و٦٪، و٧٪ إلى سندات بفائدة ٤٪، ولكنها لم تلقَ النجاح الذي لقيته إنجلترا، وقد أدت بعملها هذا إلى خروج أموال كثيرة لاستغلالها في أوراق أجنبية، وقد شعرنا بتأثير ذلك في أسواقنا المالية؛ إذ هجمت علينا فجأةً الأموال الفرنسية التي اشترى أصحابها الأوراق المصرية، وبنوع خاص سندات الحكومة المصرية؛ انتهازًا لفرق السعر، وطمعًا في قبض قيمة بعضها وفوائده بالذهب على أثر مطالبة القضاة الأجانب في المحاكم المختلطة بصرف مرتباتهم ومعاشهم بالذهب، وحكمهم في بعض القضايا بصحة شرط الذهب، وقد زادت أسعار الأوراق المصرية بسبب ذلك الإقبال ٣٠٪ من قيمتها، ثم إن خروج مصر عن الذهب كانت نتيجته في مصر مماثلةً لنتيجته في إنجلترا؛ فقد أفادت منه الميزانية المصرية، وزادت صادراتنا مبلغ ٢٧٥٢٠٠٠ جنيه في سنة ١٩٣٣ على الواردات بعد أن كانت الواردات تزيد عليها مبلغ ١٤٨٥٢٠٠٠ جنيه في سنة ١٩٣٠، وارتفع أيضًا سعر القطن المصري حتى صار تقريبًا ضعف ما كان عليه.

هوفر يعالج الأزمة بالقروض

ظلت الولايات المتحدة جامدةً ترقب الحوادث بصبر عجيب بعد خروج إنجلترا عن قاعدة الذهب، وقد تنازع الولايات المتحدة عاملان هامان؛ أولهما: أنها تملك أكبر مقدار من الذهب، وهذا يجعلها — ولو نظريًّا — تشاطر فرنسا فكرة البقاء على الذهب، وثانيهما: أنها على علاقات كبيرة مع إنجلترا والبلاد الأخرى التي خرجت عن الذهب؛ وهذا يجعلها مهددةً في تجارتها الخارجية، ويلزمها أن تحسب حسابًا للضرر البليغ الذي يعود عليها من بقاء الدولار على قاعدة الذهب.

وإذا كان أصحاب رءوس الأموال في الولايات المتحدة من مصلحتهم أن يبقى سعر الدولار مرتفعًا فإن المزارعين والصناع من مصلحتهم أن تخفض الدولار؛ ليربحوا في إنتاجهم، وتصبح صادراتهم قادرةً على منافسة صادرات البلاد التي خرجت عن الذهب.

وقد أخطأ الرئيس هوفر حين أخذ برأي لجانه الاقتصادية التي اقترحت عليه أن يدفع بالحكومة والبنوك إلى إقراض المنتجين حتى يقلوا في عرض حاصلاتهم، وكانت نتيجة ذلك أن الأسعار حفظت مؤقتًا في مستوًى مصطنع، بينما الأزمة تزداد خطورتها يومًا عن يوم، وهي كامنة لا تظهر أعراضها سريعًا في بلاد كالولايات المتحدة غنيةً كثيرة المواد.

إن سياسة علاج الأزمات ببذل القروض للمنتجين، ومد آجال الأقساط عند استحقاقها للمعسرين لهي سياسة قصيرة النظر محدودة المدى تنتهي بعجز المدين عن الدفع فتتراكم عليه الأقساط، ويتحرج موقف البنوك عندما يتعذر عليها تحصيل أموالها.

ولقد استلزم ذلك الموقف في الولايات المتحدة علاجًا مؤقتًا يوقف الذعر المالي، ويساعد البنوك على اجتياز تلك المرحلة الخطيرة؛ فكون الرئيس هوفر هيئةً ماليةً لتسليف البنوك المتوقفة، وقطع ما لديها من ديون متجمدة مقلدًا في ذلك الطريقة التي سارت عليها ألمانيا في بنك الضمان والقبول، ولم يكن هذا العمل بأكثر من مسكن وقتي لأزمة البنوك، أما مرض الأزمة نفسه فقد بقي متغلغلًا في مالية الولايات المتحدة حتى أصاب ميزانية الحكومة بعجز قدر بمبلغ ٢٢٥٠ مليون دولار في أخريات سنة ١٩٣٢ التي بلغ فيها أيضًا عدد العاطلين من العمال ٨٣٠٠٠٠٠ عاملًا، وتفوقت تجارة الإمبراطورية البريطانية تفوقًا محسوسًا على تجارة الولايات المتحدة؛ لأن الإسترليني حفظته الحكومة البريطانية في سعر حوالي ٣٫٥٠ دولارات.

الدولار الورق

وقعت في فبراير سنة ١٩٣٣ عدة أمور خطيرة في ولاية متشجان حيث توقفت بنوكها عن الدفع، فسمحت لها الحكومة بالموراتوريوم لمدة أسبوع ما كاد ينتهي حتى توقفت بنوك كثيرة في ولايات أخرى، فمنحها الرئيس روزفلت الموراتوريوم أيضًا، وجعله عامًّا لإمهال البنوك المعسرة كلها.

وأدرك الرئيس روزفلت من تلك الدروس القاسية التي مرت على الولايات المتحدة أن البقاء على الذهب لا يمكنه من علاج الأزمة؛ فخطا تدريجيًّا الخطوات اللازمة للابتعاد عن قاعدة الذهب؛ حتى لا يعرض بلاده للخسارة في المقدار العظيم الذي تملكه من ذلك المعدن النفيس.

كانت الخطوة الأولى أنه أصدر دكريتو يحظر تصدير الذهب للخارج؛ فأفسد بذلك ركنًا هامًّا من أركان قاعدة الذهب، وهو حرية تنقله الذاتي، ثم خطا الخطوة الثانية بإصدار أمر آخر في نفس يوم ٥ أبريل سنة ١٩٣٣ حرم به على الأفراد والشركات حيازة أكثر من ١٠٠ دولار ذهب، ونص على عقاب من يخالف ذلك بعقوبة شديدة تصل إلى الحبس عشر سنوات، ثم خطا روزفلت الخطوة الثالثة والأخيرة حين أعلن في ٩ مايو من تلك السنة أن شرط الذهب قد ألغي من العقود فأصبح للمدين أن يدفع دينه بالدولار الورق.

ومما يجدر بنا أن نلاحظه كون إنجلترا قد خرجت عن الذهب في وقت لم يكن عندها منه المقدار الذي يكفي حاجاتها، بينما الولايات المتحدة قد خرجت عن الذهب في وقت كان الموجود منه في بلادها فوق حاجاتها، بل لا يقاس إلى كميته ما يوجد في البلاد الأخرى، فقد كانت تملك بملايين الدولارات في تلك السنة ٤١٨٢، بينما تملك فيها فرنسا ٣٢٥٨، وإيطاليا ٣٠٧، وألمانيا ٢٠٩، والهند ١٦٢، ومصر ٣٣.

فضل الرئيس روزفلت أن يأخذ بسياسة النقود المدبرة، فأنزل الدولار إلى ما يقرب من سعره القديم بالنسبة للجنيه الإنجليزي، وأمكنه بتلك الطريقة أن يزيد في مقدرة المنتجين، وأن ينشط قابلية المستهلكين، وأن يرفع الأسعار إلى ضعف القيمة التي كانت عليها قبل ترك الذهب، فرأينا بعد وقت قصير ثمن القطن يصعد من ٥٫٩٠ دولارات إلى ١١٫٧٥، والبترول من ٢٥ إلى ٧١، والنحاس من ٥ إلى ٩، ونرى الصعود يتناول سهوم الشركات الصناعية؛ لأن الصناعة أخذت تنشط وتقوى، فارتفعت سهوم شركة الصلب المتحدة من ٢٢ إلى ٦٧، وسهوم شركة الجنرال موتورز من ١٠ إلى ٣٤ دولارًا.

مؤتمر لندن

لم يستمر طويلًا ذلك الارتفاع الذي حدث في البلاد التي تركت قاعدة الذهب؛ فقد عادت الأسعار إلى الهبوط مرةً ثانيةً؛ لكثرة المخزون من المحاصيل والمصنوعات التي لم يمكن تصريفها بسبب القيود والموانع التي فرضتها الدول على البضائع الواردة لها من الخارج.

ولما رأت الدول أن قيام كل دولة منها بعلاج الأزمة في بلادها علاجًا يضر غيرها من الدول، ويفضي إلى تفاقم الأزمة؛ رحبت بالفكرة التي دعا إليها مجلس عصبة الأمم، لعقد مؤتمر دولي لبحث شئون النقد والاقتصاد، وتقرير علاج ينتشل العالم من كبوته، واقترحت الولايات المتحدة أن تتهادن الدول فلا تأتي إحداها عملًا جديدًا يزيد الموقف تعقيدًا، وقبلت الدول ذلك تمهيدًا لخلق جو صالح يسهل على المؤتمر القيام بمهمته.

وافتتح ملك الإنجليز المؤتمر رسميًّا في ١٢ يونيو سنة ١٩٣٣ بلندره، وبدأ المؤتمرون أعمالهم في شعبتين؛ إحداهما: لدرس النقود ومعضلاتها، والثانية: لدرس الحالة الاقتصادية، وكونت كل شعبة من الشعبتين لجانًا فرعيةً من أعضائها، فكانت الشعبة النقدية منقسمةً إلى لجنتين؛ لجنة للإصلاح والإنعاش السريع، يتناول عملها الائتمان والأسعار، وتقلب أسعار الصرف، ولجنة أخرى لوضع السياسة الدائمة التي ينبغي أن تسير عليها الدول، يتناول عملها أشغال البنوك وسياستها المالية وأرصدتها المعدنية، أما الشعبة الاقتصادية فقسمت بدورها لجان تدرس التجارة، وما يجب لها من حرية أو قيود، والإنتاج والاستهلاك والتوزيع، وما ينشط العوامل الاقتصادية أو يعرقلها من نظم.

ولم يكد المؤتمر يسير في طريقه حتى اصطدم بعقبة تثبيت النقود التي وضعتها في سبيله فرنسا، بحجة أنه لا معنى لأبحاث المؤتمر طالما كانت النقود عرضةً للتقلبات، وعارضتها في ذلك الولايات المتحدة بحجة أن أمر تثبيت النقود والرجوع إلى الذهب لا يكون إلا بعد رفع الأسعار، وأضافت الولايات المتحدة إلى ذلك أنه ليس في وسعها أن تتنازل عن أي تصرف تراه لازمًا لتحسين الحالة الاقتصادية في بلادها.

ووقفت إنجلترا والبلاد المتصلة بها في منتصف الطريق بين الرأيين، ولعل السبب في ذلك الموقف الحائر الذي وقفته إنجلترا؛ يرجع إلى كون كبار الماليين في إنجلترا شاطروا فرنسا حجتها في ضرورة العمل على تثبيت النقود، بينما ممثلي دول الإمبراطورية ورجال الاقتصاد كانوا من رأى الولايات المتحدة، ولم يريدوا أن تتقيد بلادهم بالرجوع إلى الذهب مفضلين البقاء ولو مؤقتًا على الورق في نظام مرن يكفل لإنجلترا والبلاد المتصلة بها الرخاء واليسر.

كتلة الذهب

اشتد النزاع بين فرنسا وإيطاليا من جهة، وبين الولايات المتحدة من جهة أخرى، وألقى كل فريق على الآخر مسئولية إخفاق المؤتمر، وأصدر فريق الذهب بيانًا في ٣ يوليو ممضيًّا من فرنسا وإيطاليا وسويسرا وبلجيكا وهولاندا وبولندا، يؤكد تمسك هذه الدول بقاعدة الذهب؛ لأنها لازمة لتقدم العالم وإنعاشه ماليًّا واجتماعيًّا، وقد تعهدت كل دولة من هذه الدول الموقعة على البيان المذكور بأن تبقى على قاعدة الذهب، وبأن تجعل بنكها المركزي ينفذ تعهدها.

وقد رد الرئيس روزفلت على ذلك البيان في حزم وتهكم بقوله: إن المؤتمر أخذ بسبب هذا البيان يتحول من بحث المسائل التي تهم العالم بأجمعه إلى بحث مسائل متعلقة بدول قليلة، وقد كان من الخير له أن يبحث المسائل التي تهم جميع دول العالم ليخرجه من الأزمة، وأوضح نية بلاده فقال: إن الولايات المتحدة إنما تسعى إلى إيجاد دولار تكون له قوة شرائية ثابتة ونافعة، بعكس غيرها من الدول التي تتشبث بالقواعد المعدنية للنقود، وستضطر بسبب ذلك إلى تضييع ما لديها من احتياطي الذهب، مع التعرض للعسر والاضطراب في ميزانيتها.

فشل المؤتمر كما تفشل كافة المؤتمرات الاقتصادية التي تتمسك فيها كل دولة بمصلحتها الخاصة، وبقي أن تقول الأيام كلمتها أي الفريقين أهدى سبيلًا.

كان التكوين النقدي في دول كتلة الذهب قويًّا، ولكن التكوين الاقتصادي كان فيها ضعيفًا، بينما التكوين النقدي في دول كتلة الورق كان ضعيفًا في الظاهر، ولكن التكوين الاقتصادي فيها كان قويًّا جدًّا يمتاز فوق قوته بالمتانة السياسية وبضخامة الموارد، ومن هنا كانت المسألة مسألة وقت وتنظيم ليظهر على الفريق الآخر.

ولم يكن خافيًا على فرنسا أنها أضعف سياسيًّا من إنجلترا والولايات المتحدة، فكانت تعتمد على ما فيها من ذهب، وتظن أنها بكثرته المتزايدة يومًا عن يوم ستتمكن من التغلب على سياسة إنجلترا التي كانت تطلب منها أن تخفف من غلوائها في تضخيم تعويضات الحرب، وهي لا تألو جهدًا في معارضة إنجلترا كلما أرادت أن تستعمل الرحمة مع ألمانيا، فإذا كانت الفترة بين معاهدة فرساي ومؤتمر لوزان حافلةً بالخلاف بين الدولتين، فإن مشروع يونج Young Plan جعل ذلك الخلاف يأخذ شكل تحدٍّ ظاهر في كثير من المناسبات التي تسلحت فيها فرنسا بسلاح الذهب.

سياسة مصر في علاج الأزمة

عالجت الحكومات التي توالت على مصر أزمتها بطرق مماثلة للطرق التي اتبعها الرئيس هوفر في الولايات المتحدة، مع بعض تعديلات اقتضتها ظروف مصر، وتتلخص تلك الطرق في أن حكوماتنا قد تدخلت بما يأتي:
  • (١)

    الشراء في سوق القطن.

  • (٢)

    التسليف على المحاصيل.

  • (٣)

    تأجيل الأقسط المستحقة.

  • (٤)

    تخفيض الفوائد.

  • (٥)

    إنقاذ بعض الأراضي الزراعية من البيع الجبري.

  • (٦)

    تخفيض بعض الديون.

لم تستطع حكوماتنا أن تأتي عملًا ينصب على النقد؛ لأن الجنيه المصري خاضع للإسترليني؛ ولذلك كان عملها في علاج الأزمة أن تتدخل مشتريةً في سوق القطن؛ لتحفظ أسعاره في مستوى معقول، وأن تقرض على المحاصيل الزراعية؛ لتقلل من عرضها فيرتفع ثمنها، ثم أسست بنك التسليف الزراعي، كما أصدرت قرارًا في مجلس الوزراء باعتماد مليون جنيه لدقع قسط أو أقساط عن المدينين؛ لمنع بيع أراضيهم بالمزاد الجبري، ثم اتفقت مع الشركة العقارية على شراء الأطيان التي يتضح أنها معروضة للبيع بأثمان بخسة، وإدارتها حتى يتمكن أصحابها أو أقاربهم من دفع ما عليها واستردادها، ثم أسست البنك العقاري الزراعي، وعهدت إليه ببعض عمليات الإنقاذ.

وقد أفاد المعسرون بلا شك فائدةً كبرى من تلك السياسة، كما أفادت منها أيضًا البنوك العقارية الأجنبية؛ لأنها استطاعت أن تحصل على مبالغ كبيرة من حكومتنا لولاها لما تمكنت من دفع أرباح لمساهميها كما قال المرحوم عبد الوهاب باشا وكيل المالية.

كان من المتعين على حكومتنا إذا أرادت أن تعالج الأزمة العلاج الصحيح بأن تزيد حجم النقود في مصر؛ لأن الأزمة كانت من أهم عوامل ذلك التقلص الناشئ من قلة النقود عن الحد الواجب أن تكون عليه بالنسبة لحاجات البلاد، وكان من المتعين عليها أيضًا أن تخفض جميع الديون بنسبة تتفق مع صعود القوة الشرائية للنقود، ولسنا نظن الدائن يظلم إذا قبض دينه بنقد قوته الشرائية مماثلةً للقوة الشرائية للنقد الذي دفعه لمدينه، ولكن حكومة مصر لا تقدر على ذلك؛ لأن نقدنا موثوق إلى نقد بريطانيا، ولأنه لم يكن في مقدور حكومتنا مع قيام الامتيازات الأجنبية أن تستصدر تشريعًا ولو عادلًا يمس أموال الأجانب.

ولم يكن في مقدور حكومتنا إلا أن تتفق مع البنك العقاري وبنك الأراضي والبنك الزراعي وهي أولى البنوك في مرتبة الرهن، وأشدها خطرًا على تجميد كل المتأخر لها مع تخفيض بعض فئات الفوائد، ومد آجال الأقساط المستحقة، وقد سارعت تلك البنوك إلى قبول الاتفاق الكريم الذي عرضته عليها حكومتنا؛ لأنه كما جاء في تقرير خبراء البنك العقاري في مصلحة تلك البنوك.

أما ديون الدرجة الثانية فقد شكلت الحكومة لجنةً لفحص كل حالة منها على حدة؛ ليتولى بعد ذلك البنك الزراعي العقاري الحلول محل الدائنين فيما تقبله اللجنة من الطلبات التي تقدم إليها، وفي سنة ١٩٤٢، وقد تحررت مصر من ربقة الامتيازات أمكنها أن تصدر قانونًا بتخفيض تلك الديون إلى الحد المعادل ٧٠٪ من قيمة العقارات حسب المعاملات العادية.

وقد تحملت الخزانة المصرية مالًا طائلًا في علاج تلك الأزمة لا يمكن أن يقدر بأقل من ٢٠ مليونًا من الجنيهات، كما قام بنك مصر بقسط كبير من تفريج تلك الأزمة، فقد أقال عثرات الكثيرين، وزج به بعض وزراء المالية، ورؤساء الحكومة في قروض لم يكن من طبيعة عمله أن يعقدها، وفضلًا عن كون القانون قد أجبره على تأجيل بيع العقارات التي آلت إليه من جراء تلك العمليات، فإن حكومتنا لم تقدر له موقفه عندما قلت النقود الجاهزة في خزائنه بسبب تلك السياسة التي دفعته إليها.

ليس من عملنا نتوسع في الكلام على تلك الأزمة؛ لأن دراستها خارجة عن نطاق هذا البحث، ونحن نلقي نظرةً عابرةً على موقف النقود منها، فنرى منه أهم العوامل التي أدت إلى تفاقم الأزمات وتأخير حلها ما يأتي:
  • (١)

    نظام البنك الأهلي.

  • (٢)

    طبيعة الائتمان في مصر.

  • (٣)

    مركز الأجانب وأموالهم.

  • (٤)

    عدم وجود سوق لرءوس الأموال في مصر.

  • (٥)

    الصلة الوثيقة بين الجنيه والإسترليني.

لقد أهلمت جميع الحكومات التي تعاقبت على مصر واجبها الأول، وهو جعل بنك مصر بنكًا مركزيًّا طبقًا للسياسة التي أرادها الخالد الذكر المرحوم طلعت باشا حرب، أو على الأقل تعديل نظام البنك الأهلي بحيث يصبح بنكًا مركزيًّا.

ولعل السبب في ذلك راجع إلى كون الحكومات عندنا تتهيب البنك الأهلي، وتراه متمتعًا بنوع من الحصانة المستمدة من نفوذ إنجلترا في مصر، ومن ثم فقد أضحى ذلك البنك بعيدًا عن متناول الحكومة المصرية لا يمكن الركون إليه في أي أمر تستلزمه نهضة مصر أو تفريج أزماتها، وكأن الحكومة عندنا قد اقتنعت بإدخال بعض كبار المصريين في مجلس إدارته، وبالحصول منه على بعض القروض المتواضعة.

إن السياسة التي جرت عليها الحكومة المصرية مع البنك الأهلي في مختلف العهود لا يمكن أن توصف إلا بالضعف الذي تستشعره الحكومات في الأمم المغلوبة على أمرها، فما عَهِدنا في أي بلد من البلاد المستقلة بنكًا نظامه كنظام البنك الأهلي الذي يتمتع بكافة مزايا البنوك المركزية دون أن يتحمل أية مسئولية من مسئولياتها.

هذا ما نلاحظه على نظام البنك الأهلي، أما ما نلاحظه على الإقراض في مصر بوجه عام، فإننا نرى القروض العقارية طويلة الإجراءات كثيرة التكاليف، قاسية الشروط بالنسبة للمدين، أما في القروض غير المضمونة برهن عقاري فإننا إذا استثنينا بنك مصر وبنك التسليف اللذين أديا لمصر خدمات جليلة، نجد البنوك الأخرى التي تقوم بالإقراض التجاري والصناعي معظمها بنوك أجنبية؛ قامت لترعى مصالح جالياتها بعيدةً كل البعد عن الاتصال بالمصريين إلا في نطاق ضيق لا ينشط إلا في مواسم القطن حين تدفع تحاويل التجار الأجانب، وهم يشترون القطن، أو يقرضون عليه عند حلجه.

تلك البنوك الأجنبية تعتمد على أموال تأتيها من الخارج يرسلها أصحابها لتستغل في مصر إذا كان سعر الفائدة فيها مرتفعًا عن بلادهم، فإن وجدوا مستغلًّا لها في بلادهم عادوا فسحبوها، ومن هنا كان المد والجذر في كمية النقود المعدة للائتمان في مصر، وليس أضر ببلد في موقف كهذا تأتيه أموال من الخارج فجأةً، وتذهب عنه فجأةً، وليس في مكنته أن يمنع هجرتها، يضاف إلى ذلك أن بنوك مصر توظف الكثير من أموالها في قروض على خزائن الدول الأخرى تزيد أو تنقص تبعًا لسياستها المالية.

إن من أكبر العوامل التي أضرت بمصر عدم وجود سوق منظمة بالمعني الصحيح لرءوس الأموال المصرية؛ فقد جرى العمل على أن تلجأ البنوك عندنا إلى سوق لندن أو باريس؛ لتستثمر فيهما جانبًا لا يستهان به من أموال كان من الواجب أن تجد لها سوقًا في مصر، فلا تتعرض بنوك مصر إلى المواقف الحرجة الناشئة من تقدير الودائع المحفوظة لديها بالجنيه المصري، بينما الجانب الأعظم منها موظف في سوق الإسترليني أو الفرنك.

ولسنا في صدد الكلام على موقف النقد من الأزمات عندنا نستطيع أن نغفل تلك التبعية العجيبة بين نقدنا وبين النقد الإنجليزي؛ فالجنيه المصري على صلة وثيقة بالإسترليني، تلك الصلة قد يكون لها بعض المزايا في الأوقات العادية، ولكنها في الأوقات الشاذة كأوقات الأزمات لها أضرار بعيدة الأثر في كيانه الاقتصادي؛ فهي تجرنا إلى ضيق لا شأن لنا به، وتوقعنا في أزمات لا دخل لنا في إحداثها، ولا طاقة لنا على تحملها، ولا قدرة لنا على علاجها العلاج الواجب ما دامت تلك الصلة قائمةً بين الجنيه المصري والإسترليني.

وقد كانت تلك الأزمة سببًا لبحث موضوع الصلة بين النقدين، وهل يجب بقاؤها أم تفصم، واختلف الآراء إلى ثلاثة مذاهب:
  • (١)

    رأي طلعت باشا حرب وفؤاد بك سلطان مديري بنك مصر، وهو يقول: إنه لا بد لعلاج الأزمة من فصل الجنيه المصري عن الإسترليني وتثبيته على الذهب في سعر حوالي ٧٥٪ من قيمته الأصلية.

  • (٢)

    رأي محافظ البنك الأهلي، ومدير البنك الإيطالي المصري كلاهما يرى أنه من المستحيل فصل الجنيه المصري عن الإسترليني، وأنه إذا تم الفصل كانت له في مصر أوخم العواقب.

  • (٣)

    رأي ثالث لجناب مسيو فان زيلند الحجة في شئون النقد، ومدير البنك الأهلي البلجيكي الذي استقدمته الحكومة المصرية بصفته خبيرًا، جاء في تقرير قيم قدمه برأي توسط بين الرأيين المتعارضين، فافترض حدوث حالة من اثنتين؛ الأولى: أن تعود إنجلترا إلى الذهب في موعد معقول، وعلى مستوى لا يبعد كثيرًا عن النزول الذي بلغه الإسترليني — ٣٠٪ تقريبًا — ففي هذه الحالة من رأيه ألا يفصل الجنيه المصري عن الإسترليني، والحالة الثانية عدم عودة إنجلترا إلى الذهب على الوجه المتقدم؛ لأن إنجلترا تقرر صراحةً عدم العودة إليه لأمد طويل، أو لأن الإسترليني يستمر في التدهور، فإنه يرى ضرورة الفصل بين الجنيه المصري والإسترليني؛ لأن مساوئ الارتباط تكون راجحةً، ويجب على مصر في تلك الحالة أن تفصل الجنيه المصري عن الإسترليني، وأن تثبته على الذهب في حدود ٦٠٪ من قيمته الأصلية.

واستقدمت حكومتنا خبيرًا ثانيًا في شئون النقد وأعمال البنوك هو السير أوتونيمير Sir Otto Neyemer أحد أعضاء مجلس إدارة بنك إنجلترا؛ ليقدم لها تقريرًا عن موقف النقد المصري في الأزمة، ومدى تأثرها بالصلة بين الجنيه المصري والإسترليني، وقد قدم جنابه تقريرًا لحكومتنا أشار عليها فيه بأن تنتظر حتى ينجلي الموقف بعد مؤتمر لندره الذي حدثناك عنه، وذكرنا لك ما انتهى إليه من فشل بسبب تمسك الدول بمصالحها الخاصة، وما كان منتظرًا من السير أوتونيمير أن يقول بفصل الجنيه المصري عن الإسترليني، أو يشير على حكومتنا بأمر يغير الأوضاع الحالية التي تربط بين البنك الأهلي وبنك إنجلترا، ولكن حكومتنا مع ذلك جاءت به خبيرًا ليسمعها الرأي الأخير الذي كان من السهل عليها أن تتوقعه.

وما زال البحث في فصل العملتين يتردد بين وقت وآخر على صفحات الجرائد، وفي البيئات المالية والمعاهد العلمية كلما أصيبت مصر بأزمة، أو تهددت بضرر من جراء تلك الصلة الوثيقة بين النقدين، وها نحن نقرأ عنه كثيرًا في هذه الأيام؛ لأن الحرب الحاضرة قد أفضت إلى تجميد أموال لنا في ذمة إنجلترا لا تقل عن ٣٥٠ مليونًا من الجنيهات، بعضها استعمل فيه البنك الأهلي السندات البريطانية غطاءً لما يصدر من بنكنوت، وبعضها اشترى به ذلك البنك وبنوك آخرى من تلك السندات استغلالًا لما أودع فيها من أموال، فاحتبست بذلك تلك المئات من ملايين الجنيهات متجمدةً كديون لمصر في ذمة إنجلترا، وأصبحت مصر لا تقدر على استخدامها في شراء بضاعة من الدول الأخرى إلا بإذن من الإنجليز، وفي حدود ضيقة جدًّا، ولا ندري ما يخبئه لنا الغد في ذلك النوع من الديون على إنجلترا.

وعندما تخمد جذوة الحرب الحاضرة، وتقرر إنجلترا وحلفاؤها القرار النهائي في شأن تلك الديون، ربما يتذكر بعضنا أن طلعت حرب قد قال في سنة ١٩٣٣:

ومن رأينا في مصر ككل بلدان العالم يجب أن يكون لها عملة مستقلة غير تابعة لبلاد أخرى، فإن عملة كل بلد هي أول مظهر من مظاهر استقلاله.

تجارب الرئيس روزفلت

وضع الرئيس روزفلت للولايات المتحدة برنامجًا بالاشتراك مع وزيري المالية والتجارة، وبعض محافظي بنوك الفدرال ريزرف وطائفة من علماء الاجتماع، وأساتذة الاقتصاد، ويتناول ذلك البرنامج عدة أعمال يتعلق بعضها بالإغاثة، وبعضها بالإنعاش، وبعضها بالإصلاح، وقد أطلق عليه الأمريكان تجارب مستر روزفلت Mr. Roosevelts Experiments.

وإن لم يكن من مباحث هذا الكتاب أن نشرح للقارئ ذلك البرنامج الجريء الرشيد، فإننا مع ذلك لا يسعنا إلا أن نشير بمزيد الإعجاب إلى أنه قد قرر في صدد الإغاثة مبدأً ساميًا من مبادئ الإنسانية حين قال: يجب ألا يموت شخص جوعًا، وألا يعطل قادر على العمل، كما قرر في صدد الإنعاش أن الإنتاج الزراعي يجب أن يدر على المزارع ربحًا لا يقل عن الربح الذي تدره الصناعة على الصانع.

والذي يعنينا في هذا البرنامج إنما هو ما يختص بالنقود وسياستها في الولايات المتحدة، ولا نظن أننا بعيدين عن الحقيقة إذا اعتقدنا أن الرئيس روزفلت قد تأثر إلى حد كبير بفكرة الأستاذ إرفنج فيشر Irving Fisher القائلة بجعل وزن الدولار يزيد أو ينقص تبعًا للأرقام القياسية؛ حتى لا يضار الأفراد، ويؤدي الدولار وظيفته بالعدل بينهم، وقد سماه من أجل ذلك بالدولار المعوض Compensated Dollar.
وهذا الأستاذ يرى من أجل ذلك أن الذهب يجب أن يكون بعيدًا عن متناول الأفراد فلا يملكونه عينًا، وإنما يأخذونه فقط شهادات تمثله، ولا شك عندنا في أن الرئيس روزفلت قد تأثر أيضًا بآراء الأستاذ وارن Warren الذي يقول بضرورة جعل الدولار مرنًا مطاطًا؛ لتصعد به الأسعار إلى الحد الواجب عليها أن تبلغه.

ولا بد لنا عند تحليل سياسة روزفلت النقدية من ذكر عهدين؛ أولهما: بدأ في أكتوبر سنة ١٩٣٣، وقد أكثر فيه من شراء الذهب بكميات عظيمة. وثانيهما: بدأ في فبراير ١٩٣٤، وقد تعمد فيه تخفيض الدولار تخفيضًا مؤقتًا للأسباب التي سنذكرها.

لقد أعلن الرئيس روزفلت في ٢٢ أكتوبر سنة ١٩٣٣ أن الذهب سيحدد له في واشنطن سعر رسمي تدفعه الحكومة بواسطة هيئة Reconstruction Finance Corporation التي تشتري كل ما تخرجه المناجم الأمريكية، وما قد يأتي من الخارج من ذهب، وقد قصد روزفلت من ذلك أن يجعل الدولار في المستوى الذي يريده، وأن يمنع التخوف من مستقبله، والإعراض عنه كما حدث لغيره من العملات التي تركت قاعدة الذهب.

ولما اطمأن الرئيس روزفلت على الدولار أبقاه وقتًا غير طويل في تخفيض مؤقت ثم عمد إلى تثبيته بقانون، فاستصدر في فبراير سنة ١٩٣٤ تشريعًا يجيز له التثبيت على التحفيض بين ٤٠٪، و٥٠٪، ثم اختار ٤٠٫٩٤٪ فثبت الدولار مخفضًا عليها، فأصبح بذلك الدولار الجديد قيمته ٥٩٫٠٦٪ بالنسبة لقيمة الدولار القديم.

وأعلنت وزارة المالية في نفس الوقت أنها مستعدة لشراء الذهب بسعر الأوقية ٣٥ دولارًا، كما أعادت الحكومة تقدير أرصدة الذهب بحسب التقدير الجديد للدولار؛ فربحت من ذلك مبلغًا كبيرًا خصصته لدفع أموال الموازنة التي تحفظ الدولار في سعر الصرف المطلوب بالنسبة للعملات الأخرى.

وقد أثرت سياسة خفض الدولار وتثبيته تأثيرًا طيبًا على تجارة الولايات المتحدة؛ فنشطت وصارت قادرةً على منافسة تجارة الدول الأخرى، وكذلك مكنت هذه السياسة الرئيس روزفلت من أن يعمل على إنقاذ بلاده من نتائج تلك الأزمة العالمية، وجعلته قادرًا على القيام بعدة إصلاحات عالج فيها مقدمات تلك النزعة الاشتراكية، التي أخذت بوادرها تنذر الولايات المتحدة وغيرها من الدول بحدوث تيار جارف لا تؤمن عواقبه، وليس من السهل الوقوف في سبيله.

وقد أدخل الرئيس روزفلت عدة تعديلات أساسية على أنظمة البنوك في الولايات المتحدة؛ بعضها غير به نظام بنوك الودائع، وبعضها عدل به نظام ينوك الإصدار.

أما بالنسبة لبنوك الودائع فقد فرَّق تمامًا بين نظامها وبين نظام بنوك الأعمال.

فجعل بنوك الودائع تبتعد عن القيام بالمشروعات والأعمال التي لا تؤتي ثمراتها إلا بعد وقت طويل؛ مما يجعلها عرضةً للتوقف عن الدفع إذا توالى السحب عليها، وليس لديها مال جاهز لتدفع منه للمودعين في ظرف من الظروف غير العادية التي كثيرًا ما تنشأ بفعل بعض هذه البنوك التي ألفت المجازفات، وساعدت عملاءها على المضاربات، وجعل الحكومة لا تبخل من ناحيتها بالمال إذا استدعى الأمر مشاركةً بينها وبين تلك البنوك في رأس المال؛ ليضمن المساهمون تدخل الحكومة لرعاية مصالحهم، وليطمئن المودعون على أنه في مكنتهم استرداد أموالهم في الأوقات الحرجة.

وأما بالنسبة لبنوك الإصدار فقد جعلها تحت إدارة موحدة تشرف عليها الحكومة التي فرضت على بنوك الفدرال ريزرف أن تُودع ذهبها في الخزانة العامة، وتأخذ بقيمته شهادات ذهبية Gold certificates فأصبحت بذلك أرصدة المعدن النفيس تحت سيطرة الدولة.

ويهمنا بنوع خاص أن نذكر أن حكومة الولايات المتحدة قد انتهزت فرصة احتياج بعض البنوك إلى المال؛ فأقرضتها مالًا أخذت به أسهمًا ممتازةً تعطيها حق التدخل في إدارة تلك البنوك، ومن ثم فتلك التعديلات وما اقترن بها من سياسة تنفذها الآن الولايات المتحدة تعتبر في نظرنا خطوةً من حكومة الولايات المتحدة نحو الرأي القائل بتدخل الحكومات في أعمال البنوك؛ لتحويلها إلى مؤسسات حكومية.

بلجيكا تختنق اقتصاديًا

أثرت السياسة التي اتبعتها إنجلترا والولايات المتحدة تأثيرًا كبيرًا على موقف البلاد التي نقصت للذهب؛ فأصيب من جراء نقصها له بالاختناق الاقتصادي، وبالعجز في ميزانيتها، ولم تكن دول كتلة الذهب بعيدة النظر؛ لتُقدِّر أنها مهما تحالفت وتعاضدت لا تستطيع أن تنتصر في حرب العملات التي أعلنتها على باقي بلاد العالم.

ولم يطل الأمر بهذه الدول حتى وجدت بضاعتها غالية لا تستطيع منافسة بضاعة البلاد الأخرى؛ فلجأت إلى الإغراق في سياسة الحمايات الجمركية؛ لتمنع دخول المنتجات الأجنبية إلى بلادها؛ فأرهقت المستهلكين من الفقراء، وانزلقت في خطة لم يعد من السهل الرجوع عنها.

وأصابت الكارثة بلجيكا وهي بلاد تعتمد على الصناعة، ويعيش الكثيرون فيها من إيراد يأتيهم من أرباح الشركات التي يساهمون فيها؛ لذلك عقدت مؤتمرين: أحدهما في بروكسل، والآخر في جنيف؛ لتحكم الصلات التجارية بينها وبين دول كتلة الذهب التي تشكو من مثل موقفها.

ولكن هذه الدول وإن قبلت ما قرره المؤتمران من تسهيل الاتجار فيما بينها، إلَّا أنها لا تستطيع البقاء بمعزل عن الدول الأخرى التي تحررت من ربقة الذهب، أو خفضت عملتها لتساعد تجارتها على الرواج.

ولم تَعُد بلجيكا تحتمل أكثر مما احتملت؛ لأن كل علاج لا يتناول تعديل سياستها النقدية لم يفلح؛ فجاءت بخبيرها العالمي في شئون النقد ومدير بنكها الأهلي مسيو بول فان زيلند paulvan zeeland يشكل وزارتها، وقد أعلن مسيو فان زيلند في البرلمان عقب تشكيله الوزارة أن الفرنك البلجيكي لا بد من تخفيضه بما يتراوح بين ٢٥٪ و٣٠٪ من قيمته، ثم أقفل البورصات ثلاثة أيام أصدر في خلالها تشريعًا يخفض الفرنك البلجيكي ٢٨٪ من قيمته، ويحدد ما يوازيه من الذهب ٠٫١٥٠٫٦٣٢ من الجرام، وقد كان وزنه في قانون ١٩٢٦ = ٠٫٢٩٢ من الجرام، وأصبح بعد ذلك التخفيض الجديد غطاء الذهب ٥٦٫٧٣٪ من قيمة البنكنوت الصادر في بلجيكا، كما أصبح سعر الفرنك البلجيكي بالنسبة للعملات الأخرى ١٠٠ فرنك فرنسي = ٣٩٫١٥٣ فرنكًا بلجيكيًّا، و١٠٠ جلدر = ٤٠١٫٥٠٨ فرنكًا بلجيكيًّا، و١ دولار = ٥٫٨٩٩ فرنكًا بلجيكيًّا. ثم قرر البنك الأهلي في بلجيكا أنه يقبل الجنيه الإنجليزي بمبلغ ٢٣٩٫٢٠ فرنكًا بلجيكيًّا.

وصرحت حكومة فان زيلند بضرورة الاعتراف بحكومة روسيا السوفيتية، وجعلت من برنامجها العمل على إنزال الأسعار حتى لا تضار الطبقات الفقيرة مع تقديم المساعدات للمتاجرين مع الخارج، ثم أعاد فان زيلند تقدير الذهب بحسب التخفيض الجديد فزاد مبلغ ٣٥٠٠٠٠٠٠٠٠ فرنكًا خصصها لإعانة العمال العاطلين، وتنشيط الصناعة.

تلك السياسة الحكيمة التي اتبعها مسيو فان زيلند نرى فيها المبدأ الذي طالما نادى به، وهو تخفيض العملة تخفيضًا يتفق مع ظروف شعبها مع تثبيتها وبقائها على الذهب الذي يحفظ الثروات، ويمنع الأسعار من التقلبات.

عودة الفرنك الفرنسي للتدهور المطرد

أما فرنسا وهي زعيمة كتلة الذهب فقد كان خَطْبها أشد وأقسى؛ لأنها بلاد تعتمد على صناعة مواد الترف والأذواق، ويأتيها مال جم من السائحين الذين يفدون عليها، فإذا نافستها بلاد أخرى في تلك الصناعة، أو قلَّ تطواف السائحين بها أصيبت بالكساد، وهذا ما حدث لها ابتداءً من سنة ١٩٣٣ حين كانت بعض السلع الإنجليزية تباع بأقل من السلع الفرنسية المماثلة لها ﺑ ٢٥٪، وبعض السلع الأمريكية تباع بأقل من السلع الفرنسية ﺑ ٣٥٪ فضلًا عن كون الميزانية الفرنسية بلغ عجزها في تلك السنة ٦٣٠٦٠٠٠٠٠٠ فرنكًا، ثم زاد في سنة ١٩٣٤ فبلغ ٦٤١٨٠٠٠٠٠٠ فرنكًا، ثم زاد فبلغ ٤٠٠٠٠٠٠٠٠٠ فرنكًا في الأربعة شهور الأولى في سنة ١٩٣٥ فأُسقط في يد الحكومة.

كانت سياسة لافال ترمي إلى القرب من ألمانيا وإيطاليا والابتعاد عن إنجلترا والولايات المتحدة؛ لأنه من أنصار الحلف الأوروبي منعًا للحروب بين فرنسا وألمانيا، ومن القائلين بأن يتعاون هذا الحلف سياسيًّا واقتصاديًّا في ظل نقد ثابت على قاعدة الذهب بغير أن يلجأ إلى تخفيض عملاته حتى لا يكون بين أفراده حرب عملات.

وكان أيضًا من رأي مديري بنك فرنسا وغرف التجارة الفرنسية ألا تخفض قيمة الفرنك، وهذا بديهي؛ لأنهم أصحاب رءوس أموال لا يريدون خفض قيمتها وتقليل قوتها الشرائية، وكذلك كان من رأي الوزيرين اللذين تعاقبا على مالية فرنسا، وهما مسيو جرمان مارتان Germin Martin، ومسيو مارسيل رينيه Marcel Regnier عدم إحداث أي تغيير في قيمة الفرنك لاعتبارات فنية اعتمدا فيها على حجج من النظريات الاقتصادية والاجتماعية منها أن تنقيص الفرنك مرات متوالية يضر بسمعة فرنسا، ويفقد الكثيرين مالًا جمعوه من طرق مشروعة، على حين أن تخفيض الأجور والأسعار يفيدان في علاج الأزمة، ثم إن ضغط المصروفات الحكومية وزيادة الإيرادات يؤديان إلى موازنة الميزانية، وهذه النصيحة التي تعودنا سماعها عند الأزمات إذا صحت فيما يختص بالأفراد العاديين فإنها لا تصح كقاعدة مطلقة فيما يختص بالحكومة؛ لأن ضغط المصروفات وزيادة الإيرادات لهما حدود يجب الوقوف عندها وإلا استحال على الحكومة القيام بواجباتها في غير إرهاق للشعب أو تفريط في مصالح العامة.
وكان في زعامة المعارضين للرأي القائل ببقاء الفرنك بغير تخفيض كل من مسيو بول رينو Paul Reynaud، ومسيو مارسيل ديا Marcel Deat اللذين دافعا بشدة عن الرأي القائل بأن التخفيض أمر لا بد منه وإلا تعرضت فرنسا للخراب في تلك الأزمة الطاحنة، وتتلخص حججهما في أن فرنك سنة ١٩٢٨ لم يعد صالحًا للعمل به بعد أن اختلت النسب بينه وبين العملات العالمية نظرًا لخروج إنجلترا، وكثير من بلاد العالم عن الذهب في سنة ١٩٣١، ولأن الولايات المتحدة قد اتبعت سياسةً نقديةً انتهت بتخفيض الدولار فضلًا عن كون بلجيكا التي كانت حليفة فرنسا في كتلة الذهب قد خفضت هي الأخرى فرنكها، فلم يعد ذلك كله في طوق الفرنك الفرنسي أن يحتفظ بالقيمة التي كان عليها في سنة ١٩٢٨.

ولما عرضت الوزارة الفرنسية الميزانية على البرلمان في ١٢ نوفمبر أحرج مسيو رينو الحكومة إحراجًا شديدًا، وأظهر أن العجز الحقيقي أكثر مما قدرته الحكومة، وأنه سيزيد زيادةً كبرى أثناء التنفيذ، وأراد مسيو رينيه وزير المالية أن يلبس الأمر على البرلمان، فقال: «إن العجز الفعلي سيُسَدد من الاقتصاد في النفقات، وتنقيص المرتبات، ولكن مسيو رينو وأغلبية أعضاء اللجنة المالية حذروا الحكومة من تلك السياسة. وقد صح ما توقعوه؛ فلم يمضِ طويل وقت حتى أخذت الحكومة الفرنسية ترفع الميزانية معتمدةً في بعض الأحيان على قروض من بنك فرنسا حتى أسقط في يد الحكومة، وتوالى السحب على الذهب من بنك فرنسا الذي استنفد كل الوسائل لإيقاف تيار السحب، ولكنه لم يفلح وأصبح البنك مهددًا بنزول رصيده المعدني عن الحد الواجب أن يكون عليه قانونًا، وهو ٣٥٪ كما اعترف بذلك صراحةً مديره في اجتماع بنك التسويات الدولية في بال.

باتت فرنسا في حالة حرجة في يونيو سنة ١٩٣٦، وصار من الواضح الجليِّ أن سياسة الاقتراض في البنك وإصدار بونات على الخزانة قد أصبحت سياسةً غير مجدية، بينما من ناحية أخرى أخذ شبح الحرب يبدو في الأفق، فكان من المتعين على الحكومة الفرنسية أن تسرع إلى التسليح الذي كانت قد أهملته، ولم تُعِره العناية الواجبة، واستلزم الإنفاق على الدفاع الوطني والتعمير واستغلال المناجم أن تعتمد الحكومة مبلغًا لا يقل عن ٥٠ مليارًا، كما قرر الخبراء، فكيف العمل، ولا يوجد عند البنك من الذهب إلا مثل هذا المبلغ فقط؟

لم يكن أمام فرنسا إلا حل واحد، وهو تخفيض الفرنك بإنقاص وزنه؛ فأصدرت بذلك قانونًا أول أكتوبر سنة ١٩٣٦ نص فيه على أن الفرنك سيحدد بدكريتو من مجلس الوزراء بحيث لا يكون وزنه أقل من ٤٣ ملليجرامًا، ولا أكثر من ٤٩ ملليجرامًا، وعياره ٩٠٠ من ألف.

نرى من ذلك أن قيمة التخفيض يكون حدها الأدنى ٢٥٫٢٪، وحدها الأعلى ٣٤٫٣٦٪.

أما فيما يختص بالذهب فإن بنك فرنسا منع من إعطاء الذهب للأفراد، بينما كان طبقًا لقانون سنة ١٩٢٨ ملزمًا بأن يعطي الذهب للأفراد متى طلبوه في قيمة لا يقل تقديرها عن ٢١٥٠٠٠ فرنك، ونرى من ذلك أن فرنسا عادت إلى فرض السعر الإلزامي للبنكنوت الصادر من بنك فرنسا، ومنع تصدير الذهب للخارج إلا بتصريح من الحكومة، كما خير القانون كل من يوجد لديه ذهب من الأفراد بين أن يبيعه للبنك بالسعر القديم بغير أن يربح من قيمة التخفيض، وبين أن يستبقيه عنده بشرط أن يدفع للدولة مبلغًا موازيًا لما عاد عليه من التخفيض، وفرض القانون الغرامة على كل من يمتنع عن التبليغ عما في حيازته من الذهب مماثلةً لما أنكره.

الاتفاق الثلاثي

لم تُقْدِم فرنسا على هذا التعديل إلا بعد المفاوضات التي دارت بينها وبين إنجلترا والولايات المتحدة، وانتهت بالعهد المسمى بالاتفاق الثلاثي في ٢٥ سبتمبر أي قبل صدور القانون الذي خفضت به فرنسا فرنكها بخمسة أيام، ولم يكن بد من أن تستوثق فرنسا من سياسة هاتين الدولتين الكبيرتين قبل أن تخطو تلك الخطوة حتى لا تتعارض السياسات النقدية التي كانت فرنسا لا تؤمن فيها بالتعاون لولا أن جربت نتيجة عملها، فضلًا عن كونها لا تستطيع أن تبقى في معترك السياسة الدولية بعيدةً عن التحالف والتعاون مع إنجلترا والولايات المتحدة تعاونًا تمليه ظروف هذه الدول التي لا بد لها — كما جاء في عبارة ذلك الاتفاق — من اتباع سياسة نقدية من شأنها إقامة نظام مستند على توازن بين عملاتها الدولية، تبذل في سبيله كل جهد حتى لا يتطرق إليه أي اضطراب.

خفضت فرنسا فرنكها كما ذكرنا بعد أن حصلت على عهد من كل من إنجلترا والولايات المتحدة بقبول تخفيض الفرنك، وعدم مقابلة هذا العمل بمثله.

واتفقت هذه الدول الثلاث أن تخصص كل منها مالًا للموازنة تستمله عند تبادل الذهب فيما بينها بالأرصدة الوطنية.

وقد وافقت كل من بلجيكا وهولاندا وسويسرا على ذلك الاتفاق، وانضمت إليه.

وقد خفضت سويسرا فرنكها على الطريقة الفرنسية فجعلته يتراوح بين حد أقصى وحد أدنى، وأعدت أيضًا مالًا للموازنة لتحفظ فرنكها في المستوى الذي تريده، ولم يكن أمام سويسرا أن تفعل غير ذلك؛ لأنها بلاد تعتمد على السياحة، فلا بد لها من تخفيض عملتها لتجتذب السائحين وإلا بقيت تعاني وطأة الكساد.

وكان المفهوم أو على الأقل من المنتظر أن يبقى الفرنك الفرنسي طويلًا بعد الاتفاق الثلاثي في ذلك السعر الذي وضع له حوالي ١٠٦ بالنسبة للجنيه الإنجليزي، ولكنه نزل بعد شهور قليلة في أوائل سنة ١٩٣٧ على أثر المضاربات، وظهور عجز في الميزانين التجاري والحسابي Balance du commerce et Balance des comptes، فقد بلغ العجز في الميزان التجاري وحده ٥ مليارات في الثلاثة شهور الأولى من تلك السنة، كما ضاع على فرنسا مبلغ ٧ مليارات و٧٠٠ ألف فرنك من ذهب التثبيت منها ٤ مليارات مقترضة من بنك فرنسا. فاقتضت تلك العوامل السيئة أن يهبط الفرنك متراوحًا بين ١٤٥ وبين ١٥٠ بالنسبة للجنيه، حتى أعلن مسيو دلاديه Daladier في مايو سنة ١٩٣٨ في إذاعة له بالراديو أن الحكومة قد اتخذت قرارًا بعد مشاورتها لإنجلترا والولايات المتحدة في نطاق الاتفاق الثلاثي، تحدد به للفرنك سعرًا لا يتخطاه، وفي اليوم التالي أعلن مسيو دلاديه للصحافيين أن السعر الذي تقرر للفرنك هو ١٧٩ بالنسبة للجنيه، وبهذا تكون فرنسا قد علقت فرنكها بالإسترليني تعليقًا مباشرًا، وبالدولار تعليقًا غير مباشر؛ لأن الإسترليني له سعر يُحفظ فيه بالنسبة للدولار، وهكذا رجعت فرنسا تربط عملتها بالإسترليني والدولار بعد أن كانت تحاربهما.

الفاشست في إيطاليا

أما إيطاليا وهي أقل دول كتلة الذهب رصيدًا منه، فإنها عمدت تحت النظام الفاشي إلى ترقية الصناعات، وتشجيع النقابات والجماعات المدنية والاقتصادية لتنهض ببلادها إلى مصاف الدول الاستعمارية الكبرى، وقد أعدت لذلك الغرض برنامجًا إنشائيًّا عظيمًا نفذت الشطر الأكبر منه بقدر ما تسمح لها مواردها المحدودة؛ فكانت تجهد نفسها لتحقق أحلام موسوليني في إرجاع إمبراطورية الرومان؛ فاقترضت عدة قروض داخلية في سنتي ١٩٣٤ و١٩٣٥ بفائدة مرتفعة قدرها ٥٪، وبسعر إصدار ٩٥٪ مع الإعفاء من الضرائب وسحب يانصيب يربح مبالغ طيبة لتحبب إلى الإيطاليين المساهمة في تلك القروض التي لم يكن منها مفر حتى تستطيع إيطاليا أن تتسلح وتستعد للمغامرات التي بدأتها بحرب الحبشة، ومن هذه القروض قرض لم تحدد له الحكومة مقدارًا، بل تركته مفتوحًا لكل ما يمكن أن يصل إليه من اكتتاب، وفي الواقع كان بعض هذه القروض مما يستعمل فيه الإكراه والتوريط.

وحين فرضت عصبة الأمم العقوبة على إيطاليا؛ لأنها هاجمت الحبشة مخالفةً بذلك عهد العصبة، ضاعفت الحكومة الإيطالية جهدها لزيادة الإنتاج، وتقليل الاستهلاك، وأمرت ببناء سفن جديدة، واعتبار السفن الإيطالية وملاحيها تحت الحكم العرفي، ولم يطل أمر عقاب الدول لإيطاليا؛ فقد أخذت بعض الدول التي وقَّعت العقوبة تتهرب من تنفيذها، فجاءت فرنسا وبلجيكا واليونان وبولندا ورومانيا تستثني بعض حالات خاصة بها، بينما ألمانيا والنمسا لم تقبل أصلًا من اليوم الأول أن تعاقب إيطاليا، وهكذا فشلت العقوبة، واستطاعت إيطاليا أن تجد بسهولة ما يلزمها من المواد الغذائية والحربية.

ولكن كثرة الإنفاق على الاستعداد العسكري جعلت ما كان لديها من الذهب ينقص في كل يوم عن اليوم السابق عليه حتى وصل الأمر ببنكها المركزي إلى الامتناع عن إصدار النشرة التي كان يذيعها بين وقت وآخر لبيان رصيده من ذلك المعدن، فلم تجد الحكومة بعد ذلك وسيلةً تمكنها من الذهب سوى إصدار قانون باحتكار كل ما يوجد منه في بلادها، فأحصت ما يملكه الأفراد والشركات من الذهب، ومنعت بيعه إلا بإذن منها، وشكلت لجنةً لتقدير ما يدفع ثمنًا له عند الاستيلاء عليه، وابتدعت بدعة التبرع بخواتم الخطوبة، فكانت تجمعها من المتزوجين وتعطيهم بدلها خواتم من حديد.

ولقد عملت حكومة إيطاليا كل ما في استطاعتها لتحتفظ بالذهب، وتكثر منه في بلادها؛ لأنه لازم لها في أغراض التجارة الخارجية، فراقبت من أجل ذلك دخول الأموال الأجنبية، وخروجها من إيطاليا، وجعلت النقود تحت إشراف حكومي في منتهى الشدة، وفرضت الموانع والعقبات في الجمارك لتحمي صناعتها وأموالها، وجعلت نوعًا من الليرة للسائحين Lire Touriste تصرفها لهم بسعر منخفض ليقبلوا على زيادة إيطاليا فتفيد منهم فائدةً كبيرةً فيما ينفقونه في بلادها.

ألمانيا بعد المارك الجديد

نعود إلى ألمانيا وقد تركناها عند تعديل نقدها في سنة ١٩٢٤ لنوصل ما انقطع من حديثها في قليل من الإطالة؛ لأن المحن والتجارب التي مرت عليها في الفترة ما بين الحربين تمدنا بعظات ودروس لا غنى عنها لكل من يريد البحث في مادة النقود.

لقد أفادت ألمانيا من تعديل نظامها النقدي بجعله على قاعدة الذهب أن امتنع التضخم المخرب الذي أفسد عليها استعدادها الخلقي، وقلل من كفايتها الاقتصادية، وقضى على مدخرات شعبها، وأتلف عقائده السياسية والاجتماعية.

خضعت الحكومة الألمانية لما فرضه عليها الحلفاء من شروط عندما أقرضوها ما قيمته ٨٠٠ مليون مارك كاقتراح داوز لتنظيم عملتها على قاعدة الذهب، فيأمنوا بذلك ثبات نقدها وقيامها بدفع ما فرضوه عليها من ديون، وكان من الشروط التي التزمت بها ألمانيا عند قبضها هذا القرض أن تعدل نظام بنك الريخ بما يجعله بمعزل عن سيطرتها عليه إذا أرادت أن تتدخل في سياسته لتجبره على إقراضها، ومن ثم أُبعد ذلك البنك من تدبير ما تحتاجه عن ائتمان، وحيل بينه وبين رسم سياسة لفوائد الديون الطويلة الآجال؛ فأصبح بعيدًا عن أعمال السوق المفتوحة في بيع وشراء السندات، وسار في عمله الجديد طبقًا لذلك النظام الذي أراده عليه الحلفاء تحت إشراف منهم قد يصل إلى حد التدخل إذا استدعى الأمر.

وقد نشأ عن ذلك التعديل أن الأجانب اطمأنوا إليه فتدفقت أموال من الخارج أودعت في هذا البنك، وفي بعض بنوك أخرى لآجال طويلة طمعًا في الفوائد المرتفعة التي كانت تدفعها البنوك الألمانية، واستتبع ذلك بدوره قيام عدة عوامل كان لها أكبر الأثر في سياسة ألمانيا النقدية، وفي كيانها الاقتصادي نأخذ منها الدورس الآتية:
  • (١)

    إن هجرة كثير من الأموال الأجنبية إلى ألمانيا طمعًا في الربح منها قد أفادت ألمانيا، ولكنها في الوقت ذاته أضرت بها؛ فالأموال الأجنبية بعضها لآجال قصيرة تضار بها ألمانيا إذا أقبل الأجانب على سحب أموالهم منها في وقت غير لائق، وبعضها لآجال طويلة، وهذه قد يضار بها أصحابها؛ لأنهم لا يستطيعون سحبها قبل الأجل الطويل إذا جد بهم طارئ يحملهم على استردادها.

  • (٢)

    إن السياسة التي اتبعتها ألمانيا في دفع التعويضات من القروض الخارجية ارتكانًا على استيرادها الأموال من الخارج، إنما هي سياسة سيئة قد أدت بالجميع إلى الجهل بحقيقة الموقف إلى درجة خدعت الألمان ودائنيهم خداعًا أضر بالفريقين على السواء.

  • (٣)
    ازدهرت الصناعة الألمانية ونشطت لتتبوأ مكانها، ولكن ذلك النشاط لم يكن يقابله نشاط مماثل في الطلب عليها داخل البلاد الألمانية، فاستلزم ذلك الوضع العمل على تصريف الصادرات بشتى الوسائل حتى زادت قيمتها في سنة ١٩٢٩ مليارًا ونصفًا عما كانت عليه في السنة السابقة، ولكن ذلك النجاح لا يلبث أن تصاب بعده ألمانيا بنكسة ترجع إلى أسباب سياسية واقتصادية؛ بعضها ناشئ من تحامُل فرنسا عليها ذلك التحامل الذي دفع بفرنسا في كثير من المناسبات إلى تحدي إنجلترا والولايات المتحدة متسلحةً ضدهما بسلاح الذهب كما سبق أن بيناه، وبعضها ناشئ من ظروف الأزمة العالمية التي ستحدث بعد قليل عن تأثرها على ألمانيا، اضطر بنك الريخ تحت هذه الظروف الحرجة أن يرفع سعر القطع إلى ٧ كما اضطر هو والبنوك الألمانية الأخرى إلى رفع أسعار الفوائد على الأموال المودعة فيها حتى وصلت ١٠٫٢٪ بالنسبة للفائدة السنوية، و٨٫٩٧٪ بالنسبة للفائدة مشاهرةً لتجتذب البنوك إليها الأموال، وتستبقي ما فيها من ودائع، وقد فعلت البنوك ذلك مكرهةً؛ لأن الصناعة الألمانية كانت في أشد الحاجة إلى المال.
  • (٤)

    لم يمضِ طويل وقت على الأزمة التي بدأت في الولايات المتحدة حتى انتهت بالمضاعفات التي ذكرناها، ثم تطورت واشتبكت مع الأزمة التي عمَّت جميع بلاد العالم، وانعكس الكثير من آثارها على ألمانيا الضعيفة التي ما كادت تدخل في دور النقاهة حتى دهمتها النكسة، فتوقفت بعض بنوك النمسا وألمانيا كما شرحناه في الفصلالعاشر نتيجة عدم الثقة بها، وتوالى السحب من الأجانب على ودائعهم التي خافوا عليها، أو كانوا في حاجة إلى سحبها لاتقاء فعل الأزمة بهم.

وكان من رأي كبار الاقتصاديين الألمان تخفيض المارك؛ لأنهم استبعدوا كل فكرة ترمي إلى الخروج عن الذهب خشية رجوع المارك إلى التدهور الذي ما زالت تعاودهم ذكراه، وكانت حجة هؤلاء الاقتصاديين ناهضةً؛ لأن كثيرًا من الدول قد خفضت عملاتها، وبعض الدول قد خرجت عن الذهب، فإذا كانت ظروف ألمانيا الخاصة تمنعها من مجاراة البلاد التي خرجت عن الذهب، فلا أقل من أن تعالج ألمانيا أزمتها بتخفيض المارك أسوةً بالبلاد الأخرى، وحتى هذا التخفيض المشروع لم ترضَ عنه الدول، وبخاصة فرنسا التي خفضت عملتها عدة مرات، ولكنها لا تسمح لألمانيا بتخفيض عملتها لترهقها وتذيقها صنوف الإذلال الاقتصادي، فلا تفيق من غشيتها ولا تسترد مكانتها.

وفي مثل هذه الظروف القاسية لم يكن في مقدور الدكتور برونتج Brüning إلا أن يستصدر تشريعًا يخفف به وقع الأزمة، فيخفض أجور العمال، ومرتبات الموظفين، وتعريفات النقل، وأجور المساكن والأراضي الزراعية، ورسوم المجالس البلدية، وفوائد الديون، ويعين موظفًا مختصًّا على رأس هيئة تتولى الإشراف على الإجراءات التي تضمن عدم التلاعب في الأسعار في تلك المحنة التي كثر فيها اتهام اليهود والرأسماليين بالجشع، ولكن الأسعار تهبط وحدها إلى حدود أقل مما قُدِّر لها، والإيراد يقل عند الأفراد والشركات بفعل الأزمة، فزاد العطل بين العمال الذين تفشت فيهم نزعة الثورة والميل إلى الاشتراكية التي هي من نبت بلادهم الذي غرسه فيها ماركس.

هبط الإيراد القومي من ٧٦ مليار مارك في سنة ١٩٢٩ فصار ٥٧ مليارًا في سنة ١٩٣١، ثم نزل إلى ٤٥ مليارًا في سنة ١٩٣٢، أما الأجور التي كانت ٤٣ مليار مارك في سنة ١٩٢٩، فقد صارت ٣٣ مليار مارك في سنة ١٩٣١، ثم هوت إلى ٢٦ مليارًا في سنة ١٩٣٢، أما الزراعة فلم يكن الألمان يُولونها العناية الواجبة لتفضليهم الصناعة عليها، فلما نزلت أسعار المحاصيل الزراعية في جميع بلاد العالم صارت خسارة الزراع الألمان فيها مضاعفةً فقلَّت الأغذية والماشية، وبات عمال الزراعة في ضنك ومسبغة.

النازيون في ألمانيا

تلكم هي أهم العوامل التي مهدت الطريق إلى قيام الحكومة النازية في ألمانيا، ومكنت هتلر في ٣٠ يناير سنة ١٩٣٣ من قيادة ألمانيا ليعمل على انتشالها من فوضى الشيوعية، ويأخذ لها بالثأر من هزيمة الحرب الماضية، عمال عاطلون بلغ عددهم رسميًّا ٦ مليون عامل، وفعليًّا ٧ مليون عامل، وحكومة لا تجد في خزانتها مالًا تعين به العاطلين الثائرين، فتصدر سندات على خزانتها بفائدة ٤٪ تجعلها في مقام النقود، فتعطي حاملها الحق في أن يدفع بها ما يستحق عليه من ضرائب.
ذلك جهد فون بابن Von Papen في مشروعه الذي حاول به إنقاذ الموقف، وقد أعد فون بابن برنامجًا يتناول إصلاح شئون العمال وبناء مساكن لهم، وتعمير الأراضي الزراعية، وتسهيل سبل المواصلات، وترخيص أجور النقل، ثم جاء فون شليشر Von Schleicher في سنة ١٩٣٣ فأضاف إلى هذا البرنامج ما جعله أعمَّ وأشمل، وقدَّر له اعتمادات جديدة لا تقل عن ٥٠٠ مليون مارك.
ولما كان بنك الريخ قد جعله الحلفاء كما قدمنا بعيدًا عن متناول الحكومة الألمانية فيما تريده من قروض فقد قامت المجالس البلدية بالاكتتاب، وأُسست بنوك جديدة ونقابات للإنعاش منها Deutche Rentenbank Kedit، وDeutch Bau und Boden للأراضي والمباني ليحتال الألمان على الخروج من المأزق؛ لأن بنك الريخ يستطيع خصم تحاويل البنوك والشركات، وبهذه الوسائل تمكنت حكومة ألمانيا من التغلب على بعض العقبات التي وضعها الحلفاء في سبيل اتصالها بذلك البنك.

فلما جاء هتلر إلى الحكم، وجد الطريق أمامه مُعَبَّدًا إلى حد كبير والنظم مدروسة دراسةً طيبةً والبرامج منفذًا منها البعض والأسس صالحة للبناء عليها.

فكانت ظروفه السياسية والاجتماعية كلها مواتيةً له ليقوم بدعاية تمكِّنه من الصعود إلى الحكم مستبدًّا في صالح أمته التي لا تؤمن بغير فلسفتها ومثلها العليا.

رسم هتلر في أول مايو سنة ١٩٣٣ سياسة برنامج السنوات الأربع التي جعل من أهم أغراضها أن يوجد عملًا لكل عاطل فلا يكونن في ألمانيا عاطل واحد، وأن يبنى المساكن للعمال، وأن يقرض الصغار والمحتاجين منهم، وأن يساعدهم على الزواج، وإكثار النسل، وأن يخفض الضرائب على الأراضي الزراعية التي أعد لها نظامًا تنتج فيه أكثر مما يمكنها أن تنتج من الغلات، كما نظم الصناعة تنظيمًا محكمًا دقيقًا تحت إشراف هيئات تسيطر عليها الحكومة؛ ليوجه الإنتاج في مختلف فروعه توجيهًا عسكري الطابع، وقد نجح في ذلك نجاحًا كبيرًا حسبه أن صافي مكاسب الزراع ارتفع من ٣٠٠ مليون مارك في سنة ١٩٣٢-١٩٣٣ فوصل إلى ٢ مليار مارك في سنة ١٩٣٤-١٩٣٥ الزراعية، ومن المحقق أن ألمانيا لم يكن فيها عامل واحد عاطل في تلك السنة، وقد شجعه ذلك النجاح المنقطع النظير على استكمال نهضة ألمانيا فأعد لها برنامج السنوات الأربع الثاني الذي أعلن عن بدئه في أكتوبر سنة ١٩٣٦ بمؤتمر نورمبرج، وعيَّن بالفعل المارشال جورنج قوامًا على تنفيذه، وأعطاه سلطة المراقبة العسكرية على الوزراء أنفسهم، وأولهم الدكتور شاخت وزير الاقتصاد القومي Dr. Schacht، وقد أراد هتلر من هذا البرنامج أن يجعل ألمانيا مستكفيةً بنفسها تحت التعبئة العسكرية لتستطيع عند الحرب أن تنتصر رغم ما يُضرب عليها من حصار.
وها نحن أولاء نعطي القارئ صورةً سريعةً مركزةً لأهم أغراض ذلك الإصلاح:
  • (١)

    تجنيد جميع القوى الألمانية طبقًا لأحدث فنون الاقتصاد الموجه.

  • (٢)

    استخدام العلوم الحديثة في إنتاج المواد الأولية، واستحداث ما ينقص ألمانيا منها صناعيًّا.

  • (٣)

    الاستفادة من كل شيء حتى جميع المتخلفات والبقايا مهما كانت قليلة القيمة أو عديمة النفع تعتبر ثروةً يجب الانتفاع بها، وردها إلى مواد تدخل في الإنتاج.

  • (٤)

    وجوب إنتاج ألمانيا ما تحتاج إليه من غذاء، وعليها أن تستبقي في بلادها الأغذية فلا تصدر منها للخارج إلا قليلًا مما يكون متوفرًا عندها وفوق مطالبها، مع تعويد الشعب الاكتفاء بالغذاء الضروري المفيد مما تنتجه بلاده.

  • (٥)

    تحديد الأجور والأسعار تحديدًا يكفل للأعمال نجاحها مع ثبات تلك الأجور والأسعار بقدر الإمكان ضمانًا لتنظيم الأعمال وحسن سيرها.

أما في صدد النقود والسياسة النقدية التي جرت عليها ألمانيا، فاستعدت بها للحرب الحاضرة، فإننا نستطيع أن نبين للقارئ أهم نقطة بارزة فيما يلي:
  • (١)

    التحكم في سعر الصرف للمارك: اعتمدت ألمانيا على سياسة نقدية من شأنها السيطرة التامة على سعر صرف عملتها لتضعها عند الحد الذي تراه موافقًا لمصلحتها متمشيًا مع برنامجها، فجعلت بذلك اقتصادها بمعزل عن المؤثرات الخارجية التي تتفاعل بها تجارة العالم، وإذا كانت ألمانيا قد أفادت من تلك الطريقة تعضيد صادراتها وتغليبها على وارداتها في بعض السنين، فإنها بلا شك لم تستطع بواسطة تلك الطريقة أن تقيم فرقًا بعيد المدى بين الصادرات والواردات الألمانية لمدد طويلة من الأعوام، ثم إن هذه الطريقة قد يعاب عليها أنها باعدت بين أسعار ونظام نقد ألمانيا، وبين أسعار وأنظمة نقود البلاد الأخرى، ولكن قد يقال ردًّا على ذلك إن ألمانيا كانت مجبرةً على اتخاذ تلك الطريقة نظرًا للظروف الخاصة التي مرت بها، وما كان لها أن تفعل غير ذلك لتأمن كيد فرنسا لها، وتضمن عدم إيذاء النظم والسياسات النقدية الأجنبية لكيانها الاقتصادي، وعلى كل حال فإن ألمانيا قد استطاعت بتلك الكيفية أن تسدد مبالغ كبيرة من الديون المطلوبة منها للخارج.

  • (٢)

    تخفيض سعر الفائدة على الودائع إلى أقصى الحد الذي يجعلها تخرج لتشتغل في الأعمال والمشروعات، وتلك هي السياسة البنكية المثلى، ثم جعل أرباح الأسهم والسندات في الشركات لا تتعدى ٦٪ فإن زادت عن ذلك وجب أن يشترى بالزائد سندات حكومية، بذلك وجهت ألمانيا سياسة المصارف، وسياسة الأعمال والمشروعات توجيهًا قوميًّا، وقللت من نشاط البورصات، ولكنها لم تلغها بل حدَّت من مضاربتها التي كثيرًا ما تسبب الأزمات.

  • (٣)

    سيطرت الحكومة الألمانية إلى أقصى حد ممكن على حجم النقود والائتمان في بلادها، وجعلتهما مطابقيْنِ لضرورات تقدمها، ومسخريْنِ لخدمة الإنتاج، وهذا تنفيذ جريء لآراء طالما نادى بها أئمة الاقتصاد حين دعوا إلى ضرورة جعل النقود محكومة لا حاكمة؛ لتؤدي ما يطلب منها تأديته نحو رفاهية الشعوب وإسعادها.

  • (٤)

    طبقت ألمانيا أحدث آراء المدرسة الألمانية في تحليل نظريات النقود، فلم تتهيب تجازف بخلق النقود لتوجد بها ثروة حقيقية، ولم تستمع إلى ما يزال يظنه بعض الاقتصاديين مؤديًا إلى التضخم، فالكفاية الإنتاجية عند الشعب الألماني، وما لديه من سلع وخدمات هي المعول عليها عند الحكم على مسئولية النقود.

قام هذا النظام على أساس الفكرة التي أجملها جورنج في قوله: «إن الفرد من الأمة بمثابة الخلية في الجسم؛ ليس له أن يستقل برأي أو عمل، بل عليه أن يؤدي ما تفرضه عليه وظيفته نحو المجتمع.» وذلك تعقيب من جورنج على قول الفوهرر: «الجماعة قبل الفرد Gemeinuntz vor Eingenuntz» وعندنا أن ذلك النظام الذي سموه الاشتراكية الوطنية قد يكون صالحًا لألمانيا بل ولازمًا لمن كان في مثل ظروفها، ولكنه نظام من المستحيل أن يطبق بحذافيره على أية أمة أخرى، وإنما يمكن أن يُقتبس من بعض تفاصيله ما يُسترشد به عند وضع برامج الإصلاح، أو تقرير مبدأ من المبادئ الاقتصادية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤