الفصل الثاني

الفرس والإغريق والبطالسة

سياسة الفرس

قيل إن أول ملك من ملوك الفرس ضرب النقود هو كيرش، وقيل إنه دارا، والصحيح أن كيرش هو أول ملك ضرب النقود الفارسية في منتصف القرن السادس بعد أن هزم كروسوس، واستولى على كنوزه ومناجمه، ولم يقلد كيرش نظام الليديين في اتخاذ وزنين أحدهما ثقيل والآخر خفيف في كل عملة، بل اتخذ وزنًا واحدًا، فجعل القطعة الفضية تزن ٨٦ قمحةً والذهبية تزن ١٣٠ قمحةً.

وقد اعتمد الفرس في ضربهم النقود على التقسيم الاثني عشر، فقسموا كل قطعة إلى و و وكان سك العملة من حقوق الملك وحده، ولكن ربما يتساهل الملك فيصرح بضرب النقود الفضية لعامل من عماله أو لأحد سراة الفرس.

ولم تكن القطعة الفضية منتشرةً خارج بلادهم إلا في نطاق ضيق بعكس القطعة الذهبية التي تداولها مختلف الشعوب حتى أعداؤهم؛ لأنها كانت مرتفعة العيار الذي وصل إلى ٩٧٠ من ألف ذهبًا خالصًا، وكانت تدفع بها مرتبات الجنود؛ ولذلك أمكن الفرس أن يستخدموا عددًا كبيرًا من الجند المأجورين، وكانت تفرض بها الجزية على الشعوب التي أخضعوها لحكمهم.

وكان ملوك فارس يحرصون على وزن القطعة الذهبية وعيارها أشد الحرص، ويعتبرونها عنوان مجدهم، وسبب نجاحهم في التجارة الخارجية حتى إن دارا كان يفخر بعملته الذهبية، ويقول إنها ستخلد ذكره بين الأمم بعد مماته، وعلى عكس ذلك نرى ملوك الفرس لم يهتموا بالقطع الفضية؛ بل كانوا ينقصون وزنها وعيارها بين وقت وآخر عند ما تمر بهم الأزمات، أو تضطرهم الظروف إلى الإنفاق على الحروب التي خاضوا غمارها لإنشاء الإمبراطورية أو للدفاع عنها، وكانت الحكومة في بعض تلك الأزمات تجبي الضرائب عينًا من المحاصيل، ولا تجبر الأفراد على التعامل بالنقود، ولا جدال في أن الفرس كانوا عباقرةً في الشئون المالية بإجماع آراء الذين كتبوا في هذا الموضوع، شهد لهم بذلك هيرودوت حين وصف ملوكهم بالتجار لدقتهم في الحساب، وامتدح أكسنوفون وزراء ماليتهم في تدبير الميزانية، وقال ماسبرو عن استعمارهم إنه أرقى في أساليبه من الاستعمار الروماني.

تعدد دور الضرب في الجزر الأيجيية

ساعد الموقع الجغرافي سكان الجزر الأيجيية على إحكام الصلات التجارية مع الشعوب المجاورة لهم أو القريبة منهم في بحر الروم؛ فكان تجارهم وقرصانهم في رحلات دائمة إلى شواطئ غرب آسيا وجنوب أوروبا وشمال أفريقيا، فنقلوا فيما نقلوه إلى بلادهم عن الليديين فكرة ضرب النقود، وعن المصريين الفنون والصناعات التي كانت في الواقع الأساس الذي قامت عليه الحضارة الإغريقية القديمة.

ولما بدأ الأيجييون بسك عملتهم الأولى جعلوها في حجم وشكل يقربان من حجم وشكل حبة الفول، ونقشوا عليها السلحفاة المائية رمزًا لجوبهم البحار وشعارًا في الوقت ذاته لإفروديتي التي كانوا يعبدونها في ذلك الوقت، ولسنا نعرف على وجه التحقيق في أية سنة من القرن السادس بدءوا الضرب، وما هو وزن وحدتهم قبل أن يعدلها فيدون الذي نظم الأوزان والمقاييس، واتخذ في وحدة الفضة وزن ٢٠٠ أو ١٩٤ قمحةً، وفي وحدة الذهب ١٣٠ قمحةً، وكان تنظيمه للموازين والمقاييس سببًا في أن يعتقد استرابو أنه أول من ضرب العملة في بلاد الجزر الأيجيية، وكانت دور الضرب متعددةً في تلك الجزر، فوحدها فيدون تحت سلطته القوية، ولكنها لم تلبث أن تعددت بعد وفاته، وهكذا كانت تتوحد متى قام طاغية قوي، وتتفرق بعد مماته، أو عند ضياع سلطانه فيعود إلى كل بلد حقه في ضرب عملته.

قاعدة الفضة عند الإغريق

وانتقلت فكرة ضرب النقود من الجزر إلى البلاد الإغريقية التي كانت تتعامل بقطع من البرونز أو الحديد في شكل كتل أو قضبان؛ فضرب الإغريق نقودهم من معدن الفضة الذي استخرجوه بكميات كبيرة من مناجم بلادهم، وألف الإغريق — وخصوصًا أهل أثينا — ذلك المعدن، ولبثوا عاكفين على قاعدة الفضة أكثر من قرنين، بينما بقيت «أسبارتا» طوال تلك المدة تتعامل بقطع ونقود من الحديد حتى اضطرتها الظروف إلى ترك النقود الثقيلة المتبعة، واستعمال نقود من الفضة.

واختار الإغريق لفرط محبتهم للفضة عيارًا مرتفعًا لها في الضرب كان يتراوح في الأوقات العادية بين ٩١٠ و٩٨٠ من ألف، بل ضربوا قطعة الأربعة درخمات من عيار أكثر من ذلك، وهذه القطعة كانت لها منزلة عند الإغريق كمنزلة الجنيه الذهب عند الإنجليز، ولم يكن لدى الإغريق من الذهب ما يسمح لهم بضرب كمية محترمة منه تصد غارة القطعة الفارسية الذهبية التي أوشكت أن تقضي عليهم في التجارة الخارجية، بل احتلت بالفعل بعض ثغورهم وتُدوولت فيها فأرهقتهم بالعسر والخزي في أرزاقهم وسياستهم وكرامتهم.

وتحايل الإغريق على الخروج من ذلك الموقف القاسي بمختلف الطرق فتارة يرفعون عيار الفضة، وتارةً يخلطون معها الذهب بنسبة من ٢٠٪ إلى ٣٠٪، فلما فشلوا ضربوا عملةً من الذهب قيل إن أول عهدهم بضربها كان في حكم فيليب المقدوني، وقيل إنهم ضربوها قبل ذلك على أثر بعض الحروب الداخلية أو الخارجية التي ارتفعت فيها أسعار السلع، واضطر الإغريق بسببها إلى إخراج الذهب من معابدهم ليتقوا به شر المحن التي لم تُغْنِ الفضة في دفع شرها.

وضرب الإغريق كذلك قطعًا من البرونز كان قوامها خليطًا من النحاس بمقدار ٨٨٪ والباقي من الصفيح أو الزنك، أو منهما معًا، ولكن هذه القطع البرونزية لم يكن لها شأن يذكر في حياة الإغريق؛ لأنهم استعملوها في صرف القطع الفضية الصغيرة.

والمشهور عن قدماء الإغريق أنهم أهل نزاهة وذمة في ضبط النقود وتقديرها، فلما وجد المنقبون في حفائر بعض المدن اليونانية القديمة نقودًا نحاسيةً مموهةً بالذهب أو مكسوةً بطبقة من الفضة أنكروا شأنها، ونسبوها إلى تزييف من لا خلاق لهم من القرصان، ولكن ثبت بعد ذلك أنها كانت نقودًا صحيحةً صادرةً من الحكومة تحت ضغط أزمات الحروب، وانقطاع موارد المعادن النفيسة؛ فقد ضرب بوليكراتس نقودًا من الحديد كساها بطبقة من الفضة في ساموس، وكذلك فعل بروديكاس في مقدونيا لما لم يجدا من معدن الفضة ما يكفي حاجتهما من الضرب.

نظم أثينا

يطول بنا القول لو تتبعنا تاريخ النقود في كل بلد من بلاد الإغريق؛ ولذلك نقصر الكلام على ذكر النقود في البلدين المهمين في حياة الإغريق الاقتصادية، وهما أثينا ومقدونيا، كانت نقود أثينا أكثر نقود الإغريق احترامًا ليس فقط في أثينا، بل في سائر البلاد الأخرى التي اعتمدت على الإغريق أو اتصلت بهم في شأن من الشئون الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية، وكانت قاعدة النقود فيها هي الفضة كما قدمنا. ضربت منها قطعة الدراخمة ومضاعفاتها قطعة الاثنين دراخمة، وقطعة الأربعة درخمات، وكانت الدراخمة تتجزأ إلى قطع صغيرة منها النصف والثلث والسدس والجزء من اثني عشر جزءًا من الدراخمة، وكانت قطع البرونز في الغالب تتخذ للتجزئة، وإن كانت الفضة أيضًا قد ضربت لهذا الغرض، ولكنها لم تصلح لصغر حجمها، فالنقود الفضية الصغيرة الحجم لا تصلح للتداول وقتًا طويلًا؛ لأن الأيدي الكثيرة إذا تداولتها مسحت نقوشها، وقللت من وزنها.

واختارت أثينا عيارًا مرتفعًا لنقودها الفضية، وصل في قطعة الأربعة درخمات إلى ٩٨٦ من ألف، ولكنها اضطرت إلى خفضه في القرن الرابع إلى ٩٦٦، ثم رجعت فأضافت الذهب إلى الفضة؛ لكي تقاوم تأثير عملة الفرس الذهبية في التجارة الخارجية كما سبق ذكره.

ولم يكن قط في عادة الإغريق أن يرسموا صورة عظيم من عظمائهم على العملة، أو يذكروا اسمه عليها؛ لأنهم اعتبروا ذلك مهينًا لكرامتهم، وفيه معنى عبادة الأشخاص، الأمر الذي أبته الديمقراطية الإغريقية؛ فجاءت نقوش عملتهم مستمدةً من عقائدهم الدينية وحدها، تحمل رمز الإله الذي صدرت من معبده؛ فمثلًا إذا كان الإصدار من معبد زفس رسموا عليها النسر، وإن كان من معبد أبولو رسموا عليها القيثارة، وإن كان من معبد أفروديتي رسموا السلحفاة، وربما اكتفوا برسم جزء من الأجزاء الهامة في المعبد كمدخله، أو نقش شعار قومي كالبومة أو الصقر أو الغار أو الرأس الأثيني للتنويه بمجد أثينا.

وقد سمح الإغريق للبلاد الأجنبية التي استعمروها، أو سكنت فيها جالية منهم أن تضرب النقود في الرسوم والأوضاع التي ضرب فيها الإغريق نقودهم الأصلية. فكنت تجد بعض الإغريق الذين نزحوا إلى مصر أو آسيا الصغرى أو إيطاليا يضربون عملات على الطراز الإغريقي، ويتعاملون بها مع بلادهم الأصلية التي كانت تقبلها تشجيعًا لهم على التكسب من البلاد الأخرى.

وعهد الإغريق إلى مهرة المصورين في نقش القوالب التي صبت فيها العملات، وحرصت أثينا على أن تكون عملاتها آيةً في البهاء والزخرف لا تقل في جمالها عن جمال التماثيل اليونانية القديمة، وحرص الكهنة على أن يكون إصدار النقود في أيام الأعياد الدينية، وهي مواسم يقبل فيها الإغريق من كل فج للحج والتجارة، ويقدمون فيها القرابين فيغنم الكهنة أرزاقًا طيبة من العطايا والنذور.

وكان من عادة الأثينيين أن ينتخبوا ثلاثة من كبرائهم للإشراف على النقود، كان رئيسهم يبقى في منصبه لمدة سنة، والآخران يتغيران كل ثلاثة شهور أو ستة، وقد جعلوا مدة الانتخاب قصيرةً؛ لأن الذي يشرف على الضرب كان يدفع نفقات الضرب من جيبه، ويضحي في ذلك بمبلغ كبير من ماله نظير الشرف الرفيع الذي يناله من إسناد تلك المهمة إليه، فضلًا عن مسئوليته الجسيمة في حالات حصول عجز أو غش في الضرب، وكان يضع خاتمه على العملة فيعرف تاريخ سكها، ولم يدم ذلك طويلًا إذ كتبوا رقم الشهر على العملة بدلًا من الختم لتعيين الوقت.

أزمان الديون والحروب

تهددت أثينا بالخراب عندما اشتدت وطأة الديون على أهلها، واسترق الدائنون مدينيهم، فقامت ثورة التجأ فيها الأثينيون إلى صولون مناط الثقة في الهيئات والطبقات المختلفة؛ ليتولى بحكمته الأمر، وينقذ البلاد من الدمار، وقبل الرجل أن يضطلع بالأمانة الكبرى التي وضعها القوم في عنقه، وأنفذ إصلاحاته الجريئة في سنة ٥٩٤ق.م، فأعاد السكينة إلى بلاده، ويعنينا في صدد النقود ما اتخذه من علاج لتلك الأزمة؛ فقد قنن تشريعًا منع به أخذ الدائن مدينه رهينةً كعبد حتى يوفي دينه، وأسقط أيضًا ثلث قيمة الديون بإصداره دراخمةً جديدةً أخذ فيها بالوزن الأوبي بدلًا من الوزن الأيجي؛ فأنقص الثلث من وزن الدراخمة، وأكثر منها في أيدي الناس، وبذلك خفض ثلث قيمة الديون، وعالج أزمة التقلص العلاج الواجب لها.

وينسب بعض المؤرخين إلى هبياس الأثيني أنه أنقص وزن الدراخمة إلى النصف؛ ليضخم النقود في بلاده بعد أن فقد الإغريق مناجم ثراقيا الشرقية التي عبث بها دارا ملك الفرس سنة ٥١٢ق.م، فلم يكن بد لهبياس في تضخيم النقود بعد أن أرهق الأثينيين بمختلف الضرائب التي منها ضرائب على النوافذ والأبواب والشرفات في المنازل؛ ليحصل على المال اللازم لموازنة ميزانيته التي أصيبت بعجز جسيم.

ومن الأزمات التي مرت على أثينا ضائقة الحرب بينها وبين أسبارتا تلك الضائقة التي أجبرت الحكومة على الاستيلاء على ما عند الأغنياء، وما في المعابد من معادن ونقود سنة ٤٠٦ق.م، حتى التماثيل الذهبية المقدسة صهروها وأنفقوها في سبيل تلك الحرب، وبينما هدت أسبارتا قوة أثينا، وسببت لها الانحلال الذي لم تقم لها من بعده قائمة في تجارة أو مال، لم تستطع أسبارتا أن تسد الفراغ الذي تركته أثينا العظيمة في عالم الاقتصاد؛ لأن الأسبرتيين كانوا يستنكفون من التجارة، ويحتقرون الثروات المنقولة، ولا يؤمنون إلا بالمقتنيات الثابتة من قصور وضياع.

نظام المعدنين في مقدونيا

ولما أن انتهت زعامة البلاد الإغريقية إلى مقدونيا بانتصار فيليب الذي أراد أن ينظم ملكه على قواعد متينة في أركانها السياسية والاقتصادية؛ بدأ بتعديل أنظمة النقود تعديلًا أساسيًّا اعتمد فيه على سك عملات من الفضة، وأخرى من الذهب، وقد مكنه من ذلك ازدياد محصول الذهب الذي اكتشف في تراقيا ومقدونيا.

وأخذ فيليب في نظامه هذا بوحدة الأثينيين في الذهب، وهي تزن ١٣٣ قمحةً، أو ١٣٥ قمحةً، ولكنه أنقص وزن الدراخمة إلى ٥٦ قمحةً، وجعل كل خمس وعشرين قطعةً من القطع الفضية موازيةً في الصرف لقطعة واحدة من قطعه الذهبية، وأباح التبايع وإبراء الذمم بأي العملتين شاء الدافع، وهذا ما نسميه الآن بنظام المعدنين.

واعترضت فيليب بعض المصاعب في سبيل إنفاذ نظامه الجديد؛ لأن الإغريق لم يتقبلوا نظام المعدنين بقبول حسن، وقد تعودوا التعامل بنقود الفضة منذ وقت طويل فضلًا عن أن فيليب قد أغضبهم بإغلاق دور الضرب التي كانت منتشرةً في كثير من البلاد؛ ليحصر الضرب في داره المركزية بمقدونيا؛ مما جعل بعض الولايات تثور عليه لتسترد حقها في الضرب الذي اعتبرته من أقدس حقوقها الوطنية.

ولما مات فيليب، وخلفه ابنه الإسكندر استشار في الأمر أساتذته الحكماء، فأشاروا عليه بأن يحترم شعور الإغريق ومحبتهم للفضة، وأن يرفع من شأنها بزيادة وزنها وعيارها؛ لأنها العملة القومية التي يتعاقد ويتعامل بها جميع أفراد الشعب. وحَضوه في الوقت نفسه على أن يستكثر ما استطاع من معدن الذهب وعملته؛ ليقضي على سياسة الفرس في التجارة الخارجية، وأن يستبقي ضرب الذهب لنفسه كما يفعل ملوك الفرس، وأن يعيد إلى الولايات حقها القديم في ضرب الفضة مع مراقبته لها.

وعمل الإسكندر بمشورة أساتذته فأعاد للولايات حق ضرب الفضة التي رفع وزن الدراخمة فيها إلى ٨٦ قمحةً، وصعد بعيارها إلى ٩٩٠ بينما أبقى وزن القطعة الذهبية على حاله، ولكنه جعلها من عيار ٩٩٧ والثلاثة الباقية من الألف أضافها من الفضة، وذلك عيار لم يسمع بمثله في عالم النقود.

واكتسح الإسكندر ملك الفرس في آسيا الصغرى، واستولى على كنوز الذهب في آسوس؛ فكثر عنده الذهب كثرةً أنزلت من قدر معدنه بالنسبة لمعدن الفضة، حتى صارت نسبته إليها كنسبة ١ : ١٠، ومن هنا أصيب الإغريق بضيق شديد في أرزاقهم؛ لأن الفضة ارتفع ثمنها فاستتبع ذلك بطبيعة الحال نزول أثمان السلع عندهم، ولم يكن أمام الإسكندر إلا علاج واحد لهذه الحالة، وهو أن ينقص من قدر الفضة، وأن ينزل بوزنها إلى الوزن الذي كان قد اتبعه والده، ثم يجعل كل عشرين قطعةً منها تتداول بقطعة واحدة من القطع الذهبية.

وهكذا كانت سياسة الإسكندر ترمي إلى غرضين؛ أولًا: رفع أسعار السلع، وثانيًا: محاربة عملة الفرس والقضاء عليها من طريق الاعتماد على عملة الذهب، وقد تم له الغرضان، إلا أنه في الوقت ذاته قلدهم في بدعة رسم الملوك على العملة؛ فصور للمرة الأولى في تاريخ الإغريق نفسه على النقود، وقد استبعد بعض المؤرخين أن يكون الإسكندر هو الذي فعل ذلك فنسبوا إلى قواده أنهم صوروه، بل ذهب بعض المؤرخين إلى القول بأن الرسم كان لهرقل في زي الإسكندر، وهذا محض وهم؛ لأن الإسكندر كان قد داخله الغرور في أواخر أيامه فعمل على أن يتأله.

البطالسة في مصر

عرفت مصر للمرة الأولى ضرب النقود في شكل عملة يصدرها الحاكم بعد الفتح المقدوني؛ فقد ضرب الإسكندر لنفسه فيها عملةً يخلد بها ذكرى ذلك الفتح، وانتسابه للإله آمون في معبد سيوه؛ فرسم نفسه على تلك العملة واضعًا في رأسه قرنين دلالةً على انتسابه لآمون الذي كان الكبش ذو القرنين الملتويين شعارَه، ولعله لهذا السبب سمي بذي القرنين كما جاء في القرآن الكريم.

ورجع الإسكندر إلى آسيا ليستأنف جهاده فمات بها، وآلت مصر بعده إلى نصيب قائد من قواده يدعي بطليموس الذي أسس فيها دولة البطالسة التي اتخذت الإسكندرية عاصمةً لملكها، وضربت لنفسها نقودًا تعد من أرقى وأجمل النقود في دار بنتها للضرب خاصةً، واستقدمت لها أحذق الفنانين من بلاد الإغريق.

وكان الوزن والطابع الإغريقيان متغلبين على نقود البطالسة، ولكن التصوير قد اختلف إذ رسم البطالسة جو بيتر وسيرابيوس، بينما كانوا يرسمون على القطع الذهبية، وبعض القطع الفضية البطليموس تارةً بمفرده، وتارةً مع زوجه.

ولم يكن ضرب القطع الذهبية يجري بانتظام إلا في تتويج البطليموس، أو زواجه كتذكار لتلك المناسبة.

واستحدث البطالسة في ضرب الفضة والذهب قطعًا بقيمة ثمانية درخمات وعشرة درخمات، واثنتي عشرة دراخمةً، أما مضاعفات الدراخمة وتجزئتها فقد قلدوا فيها الإغريق، وقد غيروا وبدلوا كثيرًا في أوزان القطع البرونزية إلى درجة تجعل الكلام على تلك القطع وأصولها غير ميسور لنا، وقد راجت نقود البطالسة، وانتشرت في التجارة عند جميع أمم البحر الأبيض أيام كانت الإسكندرية وطن المال والعلوم.

المصارف المالية في الإسكندرية

ولم تكن الإسكندرية عاصمة مصر فقط، بل كانت في معظم عهدهم عاصمة العالم كله، وأهم مدينة فيه، وكان للمصريين أسطولان تجاريان؛ أحدهما في البحر الأبيض، والآخر في البحر الأحمر، ينقلان البضائع التي تستوردها أو تصدرها مصر بطريق البحر، وكانت بالإسكندرية بيوت تجارية، لها فروع في البلاد الأجنبية، وكانت فيها أيضًا مصارف مالية تحفظ الودائع من الأموال والمعادن النفيسة، وتقرض عملاءها لآجال معلومة، وتفتح لهم الاعتمادات.

وكانت هذه المصارف تقبل من الأوامر ما هو شبيه بالشيكات، فيطلب فيها العميل دفع مبلغ من حسابه لشخص معين بذكر اسمه، وبلغت ثروة مصر مبلغًا عظيمًا في عهد بطليموس فيلادلف الذي بلغ دخله ما نقدره بمبلغ ٣٥٠٠٠٠٠ بالجنيهات المصرية الذهب في الوقت الحالي، ولكن ذلك الإيراد نزل في عهد أوليت والد كليوباتره إلى ما نقدره بمبلغ ٢٧٠٠٠٠٠ جنيه.

واستمر الحال على ذلك حتى نضب معين المعادن النفيسة في مصر على عهد الملكة كليوباتره التي أسرفت على أطماعها وعلى الجيش والأسطول؛ فضخمت النقود لتتمكن من الإنفاق، فأكثرت من القطع الفضية المصغرة الوزن، والقطع البرونزية الكبيرة الحجم، وقد أجبرتها ظروف الحرب مع الرومان على إفساد النقود المصرية. ولما هزموها ودخلوا الإسكندرية ارتفعت أسعار السلع والأجور في جميع بلاد العالم مدى وقت قصير، ثم نزلت الأسعار بعد ذلك نزولًا فاحشًا كما يحدث عقب الحروب العالمية، ووقعت مصر كلها في أزمات طاحنة؛ لأن الرومان حاربوا الصناعة في مصر؛ ليجعلوها مزرعةً تقدم لهم ثلث ما كانوا يطعمون من زيوت وحبوب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤