الفصل الثالث

الرومان

قاعدة النحاس

لئن تمسك الإغريق بالفضة في تعاملهم وقتًا طويلًا فقد فاقهم الرومان في التعلق بالنحاس والتعصب له؛ إلى حد جعلوا فيه النحاس شعار قوميتهم، وأساس تجارتهم وصناعتهم، والرومان بطبيعتهم محافظون يعلقون بالقديم، وقد وجدوا النحاس بكثرة هائلة في بلادهم فاستخدموه في شتى أغراضهم، وصنعوا منه العدد والأواني والتماثيل والحلي أيضًا.

وقد تعامل الرومان في مبدأ الأمر بقطع من النحاس كبيرة الحجم يقتطع منها عند اللزوم المقدار الذي تتطلبه الصفقة التي يعقدونها، وكانت تلك القطع تعرف باسم As rude، ولكنهم، وجدوا العمل شاقًّا فسهلوه بأن أعدوا للتعامل قطعًا ذات وزن ثابت مقدر يتراوح بين أربعة وخمسة أرطال سميت عندهم As Signatum.

وكانت تستوطن شواطئ بلادهم، كما قدمنا جاليةً من الإغريق نشطت في الملاحة والتجارة، واندمج بعض أفرادها في جيوش الرومان يحارب نظاميًّا أو مأجورًا، وارتقى منهم أفراد في وظائف إدارية وسياسية من وظائف الدولة.

وكان أفراد تلك الجالية الإغريقية يتبادلون فيما بينهم، أو فيما بينهم وبين بلاد الإغريق والبلاد الخارجية قطعًا من النقود الفضية الإغريقية، أو من النقود التي ضربوها لأنفسهم في أوضاع عرفية ليقضوا بها مصالحهم في التجارة.

ويرجع الفضل إلى تلك الجالية في تعليم الرومان اتخاذ النقود في شكل عملات مستديرة مبنية على أصول وقواعد في ضربها؛ فقد استعان الرومان بأفراد من تلك الجالية في القرن الخامس قبل الميلاد، فوضعوا لهم أساس أول نظام نقدي عرفه الرومان.

وقام ذلك النظام على اعتبار الآس وحدةً للنقود، ووزنه الرطل Libra، ويتجزأ إلى قطع صغيرة منها قطعة النصف Semis، وقطعة الثلث Triens، وقطعة الربع Quadrans، وقطعة السدس Sextans، وقطعة الجزء من اثني عشر جزءًا، وهي الأوقية Unica كل هذه القطع ضربوها من النحاس، ونقشوا عليها صور آلهتهم، فرسموا يانوس على الآس إشارةً للبدء به، وجوبيتر على النصف، ومنرﭬا على الثلث، وهرقل على الربع، وهرمز على السدس، وروما على الجزء من اثني عشر جزءًا.

إدخال الفضة

لم تصلح هذه العملات النحاسية في التعامل بالرغم من تهذيبها وتصغير حجمها؛ لأن النحاس معدن رخيص القيمة يستدعي أن يحمل التاجر منه دابةً ليؤدي دفعةً متوسطة القيمة، أو يشحن عربةً ليدفع مبلغًا كبيرًا؛ فكان من المتعين اتخاذ نقود من الفضة تسهيلًا للمعاملات، ولكن الرومان لا يقبلون ذلك، بينما كانت جالية الإغريق التي سكنت وسط إيطاليا تضرب وتتعامل بعملة فضية وزنها ١٣٥ قمحةً، وكانت أيضًا جاليتهم التي أقامت في الجنوب عند صقلية تضرب وتتعامل بعملة فضية وزنها ٨٨ قمحةً، وهو الوزن الذي كان معتمدًا في سواحل اليونان إلى القرن الخامس قبل الميلاد.

وكان من العسير جدًّا على الإغريق أن يتعاملوا مع الرومان بهذه النقود الفضية؛ لأن استبدالها بالقطع النحاسية الرومانية كان أمرًا في منتهى الصعوبة؛ نظرًا لجهل الرومان بنسبة قيمة الفضة إلى قيمة النحاس في الصرف، وعمل الإغريق على تذليل تلك الصعوبة بضرب عملة فضية سنة ٣٣٥ق.م سموها روما أو رومانو. كتبوا عليها مقدار ما توازيه من العملة النحاسية تخفيفًا لأعباء نقل النحاس وتوفيرًا للعد والحساب، ولقيت هذه العملة رواجًا في البلاد الرومانية لا على اعتبارها عملة رسمية، وإنما على اعتبارها عملة عرف تمليه الحاجة، ولا تعترف لها الحكومة بأي وجود قانوني، ولكنها كانت الخطوة الأولى في قبول الرومان للعملة الفضية التي اضطروا إليها تحت إكراه من الظروف الاقتصادية، فلما وجدوا أنفسهم محاطين بأمم لا تريد التعامل بالنحاس معهم في التجارة ضربوا قطعتهم الفضية الصميمة المعروفة بالدينار Denarius، وجعلوا وزنها ٧٠ قمحةً، أو ٧٢ قمحةً، وتبادلها في الصرف بعشرة من قطع الآس النحاسي.

تضخيم النقود في الحرب مع قرطاجنة

ابتُلي الرومان بالقرطاجنيين عدوًّا لدودًا أغاظهم في السياسة والتجارة، وشغلهم بحروب استعرت نصف قرن من الزمن خرج منها الرومان ظافرين، ولكنهم تكبدوا خسائر فادحةً في الرجال والأموال.

وكان من المتعين على حكومة روما أن تعمل بكافة الوسائل الممكنة للإكثار من النقود لتتمكن من الإنفاق على الحرب، وقد قال المؤرخ بليني: إن الرومان أنقصوا في أوائل سنوات الحرب الآس إلى سدس وزنه، وإن كان فستوس يرجع تنقيص وزن الآس إلى تاريخ بعد هذا، وينسبه إلى كثرة الديون التي أرهقت الحكومة والأفراد في أخريات مدة الحرب. فلم يكن بد معها من العمل على تخفيف وطأة أزماتها بتقليل وزن العملة، ويقول هذا المؤرخ في سياق كلامه: إن الدائن الروماني، وإن كان قد ضاع عليه جزء من دينه إلا أنه من ناحية أخرى قد اكتسب؛ لأن الضرائب الفادحة التي كان يؤديها للحكومة قد قلت قيمتها.

والصحيح هو ما ذهب إليه بليني من أن إنقاص وزن العملة قد حدث في السنوات الأولى من الحرب؛ للإكثار منها في نفقات الجنود، ومدهم بالمؤن والذخائر، بدليل أن الرومان لم ينقصوا فقط وزن الآس النحاسي، وإنما ضربوا عملةً فضيةً جديدةً سموها Quadrigatus جعلوها في التعامل موازيةً لدينار ونصف دينار، ثم لم يلبثوا أن أنزلوا وزنها إلى نصفه في السنة التالية، وسموها Victoritatus ليتفاءلوا بأنها ستتم النصر وتنهي الحرب، وقد ثبت فوق ذلك عند جميع المؤرخين أن مجلس السنات قد اجتمع على عجل عندما أخذ هانيبال يسرع في زحفه على روما.
وأصد ذلك المجلس قانون Lex Flamina الذي أنزل به الآس إلى جزء من اثني عشر جزءًا من وزنه، أو بعبارة أخرى جعله في وزن الأوقية القديمة، كما أنقص هذا القانون أيضًا ١٤٪ من وزن الدينار، وجعله في التعامل موازيًا لستة عشر آسًا فقط، ولكن أبقاه بالنسبة لمرتبات الجنود يصرف بعشرة آسات، فيبقى بذلك مرتب الجندي، وهو ١٢٠٠ آس مصروفًا بمائة وعشرين دينارًا.

ولما نضبت موارد الرومان من الفضة بفعل الحصار البحري الذي ضربته قرطاجنه على شواطئهم؛ أمر مجلس السنات بضرب عملة نحاسية عليها طلاء من الفضة تقوم في التداول مقام القطع الفضية، وأقبل الرومان على هذه القطع الجديدة إقبالًا عظيمًا؛ لفرط وطنيتهم التي جعلتهم يعدون امتلاك تلك القطع فرضًا وطنيًّا مقدسًا.

ولما انتهت تلك الحروب، وعقد لروما بسبب انتصارها الزعامة على كل البلاد الرومانية؛ أخذت تعمل جهد طاقتها لعلاج أزمة الحروب وتأثيرها على النقود؛ فاستردت النقود الرديئة، وأخرجت بدلًا منها نقودًا طيبةً في نظم دقيقة ارتقت برقي البلاد عند ما صارت إمبراطورية عظيمة، وانحطت معها في عهود الانحلال والتدهور.

الضرب والعيار

كانت دور الضرب متعددةً، لكل إقليم دار ضرب خاصةً به، فحصرت روما الضرب في دار مركزية بها نظمتها، وأوجدت لها فروعًا في تلك الأقاليم اقتصر عملها في الغالب على توزيع النقود التي تسكها الدار المركزية التي بنيت في معبد Juno moneta، ومن اسم هذا المعبد اشتقت معظم اللغات الأوروبية كلمة النقود، وقد اتخذوا دار الضرب في ذلك المعبد لسببين؛ أولهما: لتكون النقود كنف الآلهة ورعايتها فتمنحها البركة في مقاصدها، وثانيهما: لأن المعبد كان على هضبة مرتفعة منيعة لا تصل إليها أيدي اللصوص أو الأعداء؛ لكونها كانت محصنةً.

وترجع شئون النقود إلى مجلس السنات؛ فهو الذي يوكل إلى كبير القضاة الإشراف على عملية السك، فيضع شعاره على النقود فيخشى المقلدون تزييفها.

ولكن المجلس رجع عن هذه العادة؛ لأنه وجد أن وضع شعار شخص مهما علا منصبه فيه إهانةً لشعور الرومان، وتقديس لهذا الشخص، فأمر المجلس بوضع الحرفين الأولين من اسم المجلس S. C.، وعين موظفًا خاصًّا لدار الضرب مهمته إدارتها الفنية، ثم جعل وقت الضرب وكميته متروكين للجنة تقترحها على المجلس.

وكان محظورًا على المندوب الروماني في المستعمرات أن يضرب أي نقود إلا بتصريح خاص من المجلس، وإلا اعتبر خائنًا ثائرًا، وحكم عليه بعقوبة الإعدام، إنما كان يباح لقائد الجيوش الرومانية أن يضرب نقودًا بغير تصريح من المجلس إذا دعته الضرورة إلى الضرب، ولما كانت مصر قد تمتعت بنظام غير المستعمرات الأخرى يشبه نظام الاستقلال الذاتي فقد ظلت وقتًا طويلًا مسموحًا لها بضرب النقود التي كانت تضربها الإسكندرية بغير أن تتقيد تمامًا بالأوضاع الرومانية.

وحرم الرومان كما حرم الإغريق رسم أي عظيم من عظمائهم على النقود حال حياته، حتى خرج على تلك العقيدة يوليوس قيصر، كما خرج عليها في الإغريق الإسكندر، ثم جاء بعد قيصر خلفاؤه فرسموا صورهم على النقود، وبعضهم رسم نفسه وزوجه، وبعضهم رسم أيضًا أقاربه وأصدقاءه، وقد أفادت هذه الرسوم في نقل صورهم إلينا، وإعانتنا على فهم كثير من حوادث تاريخهم.

ولم يتقلب بطبيعة الحال العيار الذي اتخذوه في ضرب النقود البرونزية؛ لأن النحاس من جهة موضع احترام الرومان، ومن جهة أخرى معدن رخيص لا يفيد فيه تغيير نسبة الخلط، وكان يتراوح بين ٧٠٪، و٨٠٪ والباقي كان من الصفيح أو الرصاص أو منهما معًا، أما الفضة فقد بدءوا ضربها في عيار طيب تراوح بين ٩٠٢ و٩٩٨ من ألف، ولكنه هبط كثيرًا في عهد الإمبراطورية فوصل إلى ٤٥٠، ثم انحط في بعض الأزمات إلى ٢٠٠ فقط في أوقات تدهور الرومان وفساد حكوماتهم.

القطع الذهبية

إذا كان اتخاذ الرومان للفضة جاء كما رأيت بعد تعب ووقت طويلين؛ فأحرى بهم أن يتأخروا في اتخاذ الذهب عن الوقت المناسب، وأن يبطئوا في ضربه نقودًا عن كل الأمم المعاصرة لهم، ومع هذا فقد كان بعض قوادهم يضرب قطعًا من الذهب كبيرة الحجم؛ لينفح بها ضباطه عند الانتصار في المعارك؛ تخليدًا لذكر المعارك، ومكافأةً لهم على حسن بلائهم وشجاعتهم في القتال، وكان مصرحًا لهم أن يشتروا بهذه القطع الذهبية ما يلزمهم من السلع، أو أن يعطوها لتاجر من تجار المعادن النفيسة؛ ليستبدلها لهم بنقود من النقود العادية؛ فكانت تلك المداليات الذهبية تتدوال تداول النقود، أما أول عملة رسمية ضربها الرومان، فهي عملة سوللا التي سكها سنة ٨١ق.م، وسماها الأوريوس Aureus، وجعل وزنها ما يعادل اليوم ١٠٫٩٥ جرامًا، ولكنه لم يضرب منها إلا مقدارًا قليلًا جدًّا؛ ولذلك لم تنتشر في المعاملات، وإنما احتفظ بها الأغنياء والخاصة في خزائنهم.

وإذا كانت نقود الذهب الرومانية قد أنقص وزنها في كثير من الحالات، فإن عيارها ظل يتراوح بين ٢٢ و٢٣ قيراطًا، ومن ثم فقد كان التزييف فيها من السهل الحكم عليه بواسطة لون القطعة، أو عند معالجتها بالمحاليل، أو بكسرها للتأكد من صحتها؛ ولذلك فقد بقيت النقود الذهبية موضع الاحترام والرغبة في كل وقت، وخصوصًا عند انتشار العملات الفضية الرديئة.

يوليوس قيصر يعدل النظام النقدي

ظهرت لقيصر عيوب في نظام النقد الروماني؛ منها أن صرف الدينار الفضي بستة عشر آسًا مع اعتباره بالنسبة للجند مقدرًا بعشرة آسات قد جعل النظام غير دقيق، ومن جهة أخرى فقد زادت تجارة الرومان، وكبر ملكهم إلى درجة أصبح الاعتماد فيها على النحاس والفضة لا يكفي؛ فلا بد من إحداث تغيير هام في النقود؛ لتتفق مع الحالة الاقتصادية التي وصل إليها الرومان أيام يوليوس قيصر، الذي لم يكد ينتصر على أعدائه في الداخل والخارج حتى وجه همه إلى استكمال أوجه النقص في نظام النقود الرومانية، فألغى التفرقة بين قيمتي الدينار، بعد أن رفع مرتب الجندي من ١٢٠٠ آس إلى ٣٠٠٠ آس حتى لا يغضب الجيش فيثور عليه، وأنقص وزن الأوريوس الذهبي إلى وزن يعادل الآن ٨٫٣٤ جرامًا، ثم ضرب منه كميات كبيرة أخرجها للتعامل بها؛ فانتشرت بين الرومان والدول المتصلة بهم في السياسة والتجارة.

وانتزع يوليوس قيصر من مجلس السنات حق ضرب النقود، وحصر في نفسه كل شئون الضرب، بل حابى بعض أصدقائه وأعوانه؛ بأن منحهم ضرب القطع الذهبية، وقد صور نفسه، وكتب ألقابه على النقود ضاربًا بتقاليد الرومان عرض الحائط، وكان من جراء هذه التصرفات وغيرها أن اعتبره بعضهم طاغيةً جشعًا متحيزًا؛ فتآمروا عليه وقتلوه.

وفي عصر الإمبراطورية استطاع أغسطوس، وقد انفرد بالسلطان والمحبة من نفوس الرومان أن يجمع في قبضته القوية كل الشئون التي تتعلق بالنقود، حتى ما كان خاصًّا بالنحاس الذي ظل تدبيره من حقوق مجلس السنات، وقد وضع في مدته نظام المعدنين الذهب والفضة موضع التنفيذ العملي، ولم يكن سلفه قد استطاع أن يوطده نهائيًّا، وقد بلغ الرومان في عهد هذا الإمبراطور ذروة مجدهم الذي لا يدوم طويلًا حتى تدب في إمبراطوريتهم عناصر الفناء، ثم تدركها الخاتمة المقدرة لكل إمبراطورية إذا ما تمت.

التدهور النقدي في الإمبراطورية

وزعت الإدارة والسلطة في تلك الإمبراطورية الضخمة المترامية الأطراف توزيعًا سيئًا، وركن المترفون من سراة الرومان إلى الخلاعة والفسق، وعمت الرذائل وخراب الذمة في الأفراد والحكام، وساعد على تزييف النقود وإفسادها تعدد دور الضرب؛ مما جعل ضبط النقود ومراقبتها أمرًا متعذرًا، وضاعت المسئولية من نفوس الحكام الذين استهانوا بالواجب، والجنود بين حين وآخر يطالبون بزيادة مرتباتهم، والقواد العظام يجبرون الإمبراطور على تقديم الرشوة إليهم، ويهددونه بالثورة والانضمام إلى منافس له يتعهد لهم بإشباع مطامعهم، ولا يجد الإمبراطور مخرجًا من ورطته إلا أن ينقص وزن النقود وعيارها؛ ليضخمها فيضرب كميات عظيمة تكفي للبذخ الروماني، والعطايا المتكررة التي لا بد له من بذلها في مثل تلك الظروف.

وينسب كثير من المؤرخين إلى نيرون أنه البادئ بإفساد النقود الرومانية، متحاملين عليه كراهيةً له؛ لأنه اضطهد المسيحيين، وعذب دعاتهم، والواقع هو أن نيرون لم يفسد النقود التي كانت بالفعل فاسدةً قبل حكمه؛ فقد كانت أربعة أخماسها إما مزيفةً أو منحطة الوزن والعيار، ولما تولى نيرون الحكم أراد أن يصلح تلك الفوضى، وكان الطريق الوحيد أمامه هو أن يمنع تعدد دور الضرب، وأن يخرج نقودًا جديدةً، وإن كانت أقل وزنًا من نقود أسلافه إلا أنها أرقى بكثير من نقود الذين خلفوه في الإمبراطورية، فجعل نيرون وزن الأوريوس الذهبي الجديد ما يزن اليوم٧٫٦٠ جرامًا، وكانت نسبة الذهب إلى الفضة كنسبة ١ : ١٢ فاختزن الناس نقوده الذهبية، وعالج نيرون ذلك بجعل النسبة ١ : ١٠٫٦، وأنقص القطع الفضية ١٤٪ من وزنها، وأنزل القطعة الذهبية مرةً أخرى إلى ما يعادل الآن ٧٫٤٠ جرامًا؛ ليمنع تأثير الذهب في عهد كله فتن وثورات دينية من طبيعتها أن تؤدي إلى الأزمات، ويتضح لنا أن النقود كانت لا بأس بها في عهد نيرون إذا قارنا بينها وبين نقود كاركللا الذي أنزل الأوريوس إلى ما يعادل الآن ٦٫٥٥ جرامًا، وأنزل القطعة الفضية إلى نصف وزنها، وأسقط عيارها إلى ٤٥٠، ويطرد الانحطاط النقدي بعد ذلك حتى تصبح القطعة الفضية في سنة ٢٧٠ لا تحتوي على أكثر من ٢٪ من الفضة فتقع البلاد في أسوأ المحن؛ لأن النقود قد فقدت ثقة الناس، بل ثقة الحكومة نفسها التي أمرت جباة الضرائب بأخذها من الأرزاق والمحاصيل.

أورليانوس يحاول الإنقاذ

أراد أورليانوس أن يضع حدًّا لتلك الحالة السيئة، فأقفل دور الضرب المتعددة؛ ليوحد مصدر النقود، وليحصر في نفسه وتحت إشرافه كل سلطة متعلقة بالنقود، وأمر بمنع إصهار النقود الجيدة، وبمعاقبة من يفعل ذلك عقابًا شديدًا؛ لأنه وجد التجار كلما رأَوْا نقودًا طيبةً جمعوها وحولوها إلى سبيكة يبيعونها في الخارج؛ فيقل الموجود من المعادن النفيسة في البلاد، ويصبح من المستحيل التعامل بنقود جيدة، حاول ذلك الإمبراطور جهده أن يبطل التعامل بالنقود الرديئة، ولكنه أخفق لأنها كانت منتشرةً انتشارًا يصعب معه جمعها؛ حتى اضطر أورليانوس نفسه أن يخرج نقودًا رديئةً عليها طبقة من المعادن النفيسة أكثر مما تحويه العملات المتداولة، ولكنه حتى في هذا فشل؛ لأن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة، وانتهى به الأمر أن أغضب الأغنياء من الممولين، الذين أرغمهم الجباة على دفع الضرائب بالنقود الجيدة التي لم تكن تصل إلى أيديهم إلا بمنتهى الصعوبة، وانتهزت طائفة المتجرين بالمعادن الفرصة فحرضت المتذمرين على الثورة ضده، والتمرد عليه بحجة عدم مقدرتهم على دفع الضرائب بالكيفية التي أمر أن تجبى بها.

إصلاحات دقلطيانوس

ولكن أورليانوس وإن فشل فشلًا ذريعًا في محاولته العلاج، إلا أنه قد أوجد أساسًا للعمل استطاع من أتى بعده أن يعتمد عليه في الإصلاح المنشود، فلما هدأت الأحوال واستقامت الأمور بعض الشيء أمكن دقلطيانوس في سنة ٢٩٠ أن يبدأ بالإصلاح؛ فوضع نظامًا جديدًا جعل فيه وزن القطعة الذهبية ٨٤ قمحةً، ووزن القطعة الفضية ٥٢ قمحةً، وجعل القطعة الذهبية تصرف بعشرين قطعةً من القطع الفضية، وسك أيضًا قطعةً برونزيةً سماها فوليس Follis التي ينطقها العامة الآن الفلوس، وجعل كل عشرين قطعةً منها توازي في الصرف قطعةً واحدةً من قطع الدينار الفضي مقلدًا في ذلك آخر نظام حاوله نيرون.

وأخذت بعد ذلك القيمة التي فرضها دقلطيانوس للذهب تعلو على القيمة التي فرضها للفضة؛ لأن الناس فضلوا الذهب في التجارة على الفضة التي لم يثقوا بها؛ فارتفع سعر الذهب فوق سعره الرسمي، وصار من يملك قطع الذهب لا يخرجها في التعامل إلا إذا أخذ جُعلًا.

وغير دقلطيانوس في سبيل إصلاحه نظام النقود في مصر، وكانت مصر كما قدمنا تضرب نقودها في الإسكندرية على نمط خاص بها، فأقفل دار الضرب المصرية، ثم عاد فصرح بفتحها على أن تضرب النقود على النمط الروماني في الشكل والعيار والوزن.

وكانت مصر إلى عهده لا تستورد نقودًا من الرومان، فإذا دخلتها نقود رومانية كانت تستخدم في أغراض الصناعة بعد إذابتها، أما القطع الذهبية فكانت تبقى في الإسكندرية لاستعمالها في التجارة مع الرومان، وهكذا بعد إصلاحات دقلطيانوس صارت نقود مصر من النقود الرومانية الصميمة.

لا نزاع في ضرورة إجراء الإصلاح وتنفيذه بالقوة كما فعل دقلطيانوس، ولكنه ككل إصلاح له رد الفعل الذي يحدث دائمًا عقب كل تغيير في النظم المالية، فقد جاء بعده ضيق، ثم غلو فاحش في الأقوات والأجور، اضطر معه دقلطيانوس أن يصدر في سنة ٣٠١ تسعيرةً رسميةً شاملةً لأسعار السلع والأجور المختلفة، تناولت من ثمن البصل إلى أتعاب المحامين في القضايا، ونص على عقوبة المخالفين بالإعدام، ولكن المحتكرين للأرزاق تحايلوا بمختلف الطرق على التهرب منها.

إن سياسة دقلطيانوس في اتخاذ النحاس والفضة سياسةً لا غبار عليها، ولكن نزعته إلى تغيير نظام المعدنين جعلت أسعار الذهب غير مستقرة في الإمبراطورية.

قنسطنطين يتخذ قاعدة الذهب في الإمبراطورية الشرقية

ولما جاء قنسطنطين وجد أنه لا مفر من إجراء تعديل في نظم النقود لعلاج الأزمات، ومنع تقلب الأسعار؛ فوضع لذلك الغرض في سنة ٣١٤ نظامًا جديدًا جعل اعتماده فيه على الذهب؛ لأنه وجد الذهب أصلح المعادن لتثبيت الأسعار؛ فسك قطعته الذهبية المعروفة باسم Solidus aureus يعادل وزنها بالجرامات الحالية ٤٫٥٥ جرامًا وإلى جوارها قطعة ذهبية ثانية في نصف وزنها، وقطعة ذهبية أخرى في ثلث وزنها، وسك قطعةً فضيةً تزن من الجرامات الحالية ٤٫٥٥ جرامًا أي مماثلة في الوزن للقطعة الذهبية الكبيرة، وعرفت فيما بعد Miliarense لأن قيمتها كانت تقديرًا من ثمن الرطل الذهب الصافي، وسك أيضًا قطعةً فضيةً أخرى سميت Siliqua auri، وقد اتبع قنسطنطين في هذا النظام النسبة بين الذهب والفضة ١ : ١٣٫٨٨.

ولقد أضر هذا النظام بالفضة فأنزلها منزلة نقود التجزئة، وجعلها عملةً معاونةً، بل جعلها تباع بالوزن على أساس سعر الذهب الذي أصبحت له المكانة الأولى في النقود والديون والتجارة الدولية، وقد قام العمل كله على قاعدة الرطل الذهب حتى أيام التدهور النقدي فلم يستطع قنسطنطين أن يغفل عن العرف الذي جرى بل أيده واستمد منه إصلاحاته، ويرغب الناس عن استعمال نقود النحاس، وتحتل قطعة الذهب مكان الزعامة في جميع البلاد، وتعرف فيها باسم بيزنطة نسبةً إلى مصدرها، وأخذت عنها فلورنسا فيما بعد قطعتها الذهبية التي قلدتها معظم البلاد الأوروبية.

استنزاف المستعمرات والربا

لم يحسن الرومان القيام على المال والاستعمار كما يتصور بعض الكتاب، وإنما كانوا قوةً حربيةً هائلةً همها إخضاع الشعوب واستنزاف ما فيها من مال ومحاصيل، ولم يقفوا عند حد في فرض الضرائب حتى في بلادهم، كانوا يرهقون الملاك بمختلف الضرائب حتى يعجزوا عن سدادها، وكان الملاك بدورهم يجهدون مزارعيهم الأرقاء حتى يموتوا.

وإذا كان الرومان قد أخذوا عن الإغريق نظام البنوك والشركات، فإن بنوكهم لم تعمل على مساعدة التجارة بقدر ما عملت على انتهاز فرص الأزمات؛ لإقراض المحتاجين بالربا الفاحش، أما شركاتهم فكانت تضم إليها أقارب القياصرة لتستغل نفوذهم في احتكار التجارة والمضاربة في الأقوات.

ومن أسباب تدهورهم المالي إمعانهم في الاقتراض بالربا الفاحش الذي لم تستطع القوانين استئصاله من نفوسهم، ومن الغريب أن الحكومة كانت تفرض الأرباح على المستعمرات إذا عجزت عن دفع الجزية، وكان بروتس يقرض بفائدة ٤٨٪، وبعض القياصرة يشارك المرابين، وكانت القروض تنتهي بامتلاك المرابين ثروة المقترضين، ولكنهم لم يقدروا على إدارتها، وهم مهددون بالقتل، ثم اضطهدوا، ونهبت أموالهم، وأجبروا على مغادرة البلاد بعد أن خربوها وأشعلوا فيها الثورات … ألا إن الدين الإسلامي لعلى حق في تحريمه الربا؛ فقد كان الربا من أسباب سقوط الرومان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤