الفصل الخامس

العصور الوسطى

تأثر الاقتصاد بالسياسة

تقع العصور الوسطى بحسب ما اصطلح عليه أغلب المؤرخين، في المدة التي انقضت بسقوط القسم الغربي، وبين سقوط القسم الشرقي من الإمبراطورية الرومانية، وتلك حقبة من الدهر مليئة بالحوادث الخطيرة التي توصل التاريخ القديم بالحديث، ومن ثم فقد وجبت دراستها، ولو أن الدراسة صعبة، وقد تكون متعذرةً في بعض الأحيان؛ لقلة المصادر الإفرنجية التي يتعين الرجوع إليها لبحث ذلك العصر الحالك من تاريخ أوروبا الاقتصادي.

نعود هنا إلى الإمبراطورية الرومانية لنوصل ما قطعناه من سياق الكلام على نقودها بذكر نقود الخلفاء في الإسلام، فنجد أن تلك الإمبراطورية قد انشطرت إلى شطرين كبيرين؛ الشطر الغربي منها، ويعرف بالإمبراطورية الرومانية الغربية، والشطر الشرقي منها، ويعرف بالإمبراطورية الرومانية الشرقية. أما الشطر الأول فلا يطول أمره حتى ينهار وتقوم على أنقاضه شعوب، وأشباه دول هي أساس التقسيم السياسي الحديث في أوروبا، بينما الشطر الثاني تصمد الإمبراطورية الشرقية فيه للحوادث، وتظل برغم ما استولى عليه المسلمون من أملاكها وحدةً ذات كيان اقتصادي يعتمد على القطعة الذهبية، وإلى جانبها القطعة الفضية، ثم القطعة النحاسية بالكيفية التي تحدثنا عنها في أواخر الفصل الثالث.

ولما كان ملك المسلمين قد أحاط بالبحر الأبيض من جهاته الشرقية والجنوبية والغربية، وفي بعض مواضع من شماله، فقد انقلب هذا البحر من بحيرة رومانية إلى بحيرة إسلامية الملاحة والتجارة، والنفوذ الاقتصادي والسياسي فيه للمسلمين، ويستمر على هذا الوضع حتى تقوم في إيطاليا جمهوريات صغيرة نشطت في المال والعلوم والصناعة، وهي مع ذلك قد حافظت جهد طاقتها على أحسن العلاقات التجارية مع المسلمين، حتى في أشد أوقات العداء الديني بين المسلمين والنصارى، وأخذت عن المسلمين بعض علومهم فكانت منها أصول العلوم الأوروبية الحديثة.

نفوذ السادة والكنيسة

خضعت أوروبا في القرون الوسطى للنظام الإقطاعي، وهو نظام أساسه أن الملك مفوض من الله في حكم البلاد وامتلاكها، فله الحق أن يقطع ما شاء من مواردها لمن شاء، فكان يهب الضياع والمقاطعات للسادة طوعًا أو كرهًا، وهؤلاء بدورهم يهبون منها ما أرادوا للفرسان الذين يدافعون عنهم، ويحيطونهم بضروب من العز والرهبة، وامتلك أولئك السادة وأعوانهم الفرسان الإقطاعات ملكًا شمل ما عليها من زراع وعمال وصناع.

ولم تكن سلطة الملك والسادة وأعوانهم هي السلطات الوحيدة التي قامت عليها حكومة تلك العصور، بل كانت أيضًا للكنيسة ورجال الدين سلطة لا تقل شأنًا عن سلطة الملوك، بل ربما فاقت عليها، وأذعن الملوك لسلطان الكنيسة، واستمدوا من رجال الدين سندًا في حكمهم، وقد ملكت الكنائس وكبار رجال الدين من الثروات ما لم يملكه الملوك.

وطبيعي في مثل تلك الظروف أن يكون للسادة والكنيسة دخل كبير في السياسة النقدية، وتوجيه الاقتصاد القومي في تلك الدول، وقد أعطوا حق ضرب النقود أيضًا، فكانت دور السك متعددةً في الدولة الواحدة التي تتداول فيها نقود مختلفة المصادر والأوزان والأعيرة، كانت نقود الملوك رسميًّا على رأس هذه النقود، وتليها نقود الكنائس، فنقود السادة التي ولو أنها نقود محلية إلا أنها تنتشر بحكم المعاملات في بلد تحت سيد آخر إذا هو لم يمنعها؛ لأن بينهما خصومةً أو لأنها تنافس نقوده.

وكانت النقود المختلفة تتزاحم في الأسواق والمواسم تزاحمًا شديدًا، فتسود منها النقود المنحطة القدر؛ لأن النقود الجيدة يدخرها الناس، ويتبادلون بالنقود الرديئة، وقد فطن إلى ذلك بعض السادة فتعمد أن يضرب نقوده قليلة الوزن والعيار؛ ليسيء إلى غيره، ويجعل نقوده أكثر انتشارًا، بينما البعض الآخر حرص على سك نقود جيدة، ولكن سرعان ما كانت تختفي فيضطر إلى مجاراة غيره، ويسك مثل نقوده الرديئة.

بقي هذا النظام السيئ معمولًا به إلى منتصف القرن الثالث عشر، حين تنبهت الدول إلى المضار الناجمة من تعدد النقود فيها، فأخذت تضيق على السادة في ضرب النقود، وكانت فرنسا أسبق الدول إلى الحد من سلطة السادة في ضرب النقود، فقد منعهم لويس من تقليد نقود الدولة في شكلها، مع ضربها في عيار منحط جعل الناس يلتبس عليهم أمرها، فاتهموا الحكومة بإفساد النقود، ثم تقدمت الحكومة الفرنسية خطوةً أخرى، فمنعتهم من سك النقود الصغيرة التي يتجزأ فيها الدينار، ثم ضيقت على دينارهم، فجعلت تداوله قاصرًا على مقاطعاتهم، وكلما مات منهم سيد منعت وارثه من حق سك النقود، وبذلك تخلصت فرنسا من نقود السادة، وحذت الدول الأخرى حذوها حتى انقضى عهد السادة بضرب النقود في القرن الرابع عشر.

تقليد الدينار الروماني

ساد تقريبًا في كل الدول التي قامت على أشلاء الإمبراطورية الرومانية الغربية، نظام القطع الفضية المقلدة تقليدًا سيئًا للدينار الروماني من حيث الشكل والوزن والتجزئة، حتى في التسمية أطلق الفرنسيون Denier المشتق من لفظ ديناريوس على عملتهم الفضية التي كانت أكثر النقود انتشارًا في غرب أوروبا؛ لأن فرنسا توسطت في التجارة؛ نظرًا لموقعها الجغرافي بين الجرمان والطليان والإنجليز والإسبان، فصارت نظم نقودها نموذجًا لتلك الدول.
ولا يستمر الإنجليز طويلًا في تقليد فرنسا، بل يتخذون لهم وحدةً فضيةً خاصةً، وهي الرطل pound الذي قسموه ٢٤٠ بنسًا، ومع طول الزمن تصبح كلمة باوند تسميةً تطلق على الجنيه الإنجليزي باعتباره وحدتهم النقدية.

وعلى عكس هذه الدول نجد الجمهوريات الإيطالية التي قامت في إيطاليا بين وقت وآخر تعتمد على القطع الذهبية، وتتسمك بها؛ لأن هذه الجمهوريات كانت كما قدمنا على صلات تجارية مع المسلمين، ومع البلاد الباقية في الإمبراطورية الرومانية الشرقية، وهذه البلاد كانت تجارتها مع الخارج قائمةً على الذهب.

أثر الطابع الإسلامي في نفوذ أوروبا

وفي تقليد الدول الأوروبية للرومان قد ظهر الحرص على تصوير العقائد الدينية في نقش النقود الإفرنجية، فصور البابا على العملة في روما، وفي بلاد أخرى وضع رمز من الرموز المسيحية، أو رسم المسيح عليه السلام تارةً بمفرده، وتارةً مع العذراء، ونشأت عادة رسم كل بلد شفيعها الذي تلوذ به من القديسين والأبرار على نقودها.

وبالرغم من تملك العقائد المسيحية نفوس الغربيين في تلك الأزمنة، وكراهيتهم لكل ما هو إسلامي، فإننا نجدهم قد تأثروا بالأشكال والأوضاع الإسلامية في كثير من المناسبات، ففي جنوب إيطاليا مثلًا كتب بالخط الكوفي القطعة الذهبية المسماة Tari، وفي إسبانيا نقشت بالعربية الشعائر المسيحية التي كتبت على القطعة المسماة بالألفونسية، أما الزخرف الفاطمي فقد كان ظاهرًا في حلية النقود لإيطاليا كلها، بل بقي إلى الآن كثير من آثاره وقواعده في الفن الإيطالي.
وكذلك أخذت فرنسا عملتها الذهبية المسماة Ecu نقلًا عن الدينار الإسلامي من حيث الوزن والعيار في عهد الملك لويس التاسع الذي ضرب تلك القطعة بعد رجوعه من الحروب الصليبية في مصر.

تأثير الحروب الصليببية على نفوذ مصر

وقع العبء الأوفى من تلك الحروب على عاتق مصر، واضطلع به الأيوبيون، وبعض المماليك في مصر والشام، وقام فيه بالقسط الأكبر في الدفاع عن الإسلام السلطان صلاح الدين الأيوبي، في وقت لم تكن فيه مصر قد شفيت بعد من أزمات العهد الفاطمي.

واستطاع ذلك السلطان بجهد عجيب أن يحفظ وزن ديناره الذهبي الذي يعادل الآن بالجرامات ٤٫٢٧٦ جرامًا؛ ليستبقي للدينار مكانته في التجارة الخارجية التي اعتمدت على الذهب في مدته، ولكنه عجز عن أن يجعل النقود الفضية في عيار طيب، فقد اضطر إلى جعله ٥٠٠ من ألف ليستطيع الإنفاق على الحروب ضد أوروبا بأسرها تقريبًا.

ولو أن رجلًا غير صلاح الدين في مثل تلك الظروف القاسية لأخفق اقتصاديًّا وحربيًّا، وهو لم يكد يتولى الملك في بلاد تئن من الفتن والأزمات، حتى طمعت أوروبا في غزو بلاده، وانتهزت فرصة ظروفه السيئة؛ فاحتلت بالفعل قسمًا من تخومه، ولكنه انتصر على أوروبا حربيًّا وماليًّا، وصارت كلمته مسموعةً في الدول، ونقوده منتشرةً حتى في بلاد أعدائه الذين استعملوا نقوده في شراء ما راقهم من سلع الشرق.

ولكن رد الفعل لهذه الحروب لا يلبث أن يحدث بعد وفاته فتقل النقود، وتنخفض الأسعار انخفاضًا شاذًّا بعد صعودها الشاذ في وقت الحرب، ثم تنتشر النقود المزيفة والناقصة الوزن.

ولما جاء السلطان الكامل ناصر الدين حاول أن يصلح ما فسد من أمر النقود؛ فأخرج عملةً ثلثاها من الفضة، وثلثها من النحاس، وجعلها تصرف بثمان وأربعين قطعةً من القطع النحاسية التي كانت متداولةً باعتبارها نقود تجزئة، ثم أمر بأن تدفع الضرائب، وتقدر القيم بالنقود الفضية وحدها، ولكنه لم يقدر على تنفيذ ما أمر به؛ لأن ما سكه من تلك النقود كان قليلًا لا يفي بحاجة الناس، وسرعان ما اختفت تلك النقود، واضطر بسبب ذلك إلى سك نقود من عيار منحط، وتولى حكم مصر الصالح أيوب، فطوران شاه الذي أسر لويس التاسع، ثم أطلق سراحه بعد أن دفعت عنه فرنسا فديةً طيبةً، ثم تولت المُلك شجرة الدر، وللمرة الأولى في تاريخ المسلمين ضربت المرأة النقود، وقد كتبت عليها ملكة المسلمين المستعصمة.

ولما جلس على تخت مصر الظاهر بيبرس المشهور بجهاده وحروبه أكثر من سك النقود في مصر وفي حلب، وقد امتازت نقوده بين النقود الإسلامية بتصوير الأسد، وهو شعاره، تلك بدعة استحدثها الظاهر بيبرس في النقود الإسلامية، كما استحدث في السياسة اصطناع أمير للمؤمنين يستمد المعونة في سلطانه الديني، فكتب اسم نفسه على العملة مضافًا إليه لقب «قسيم أمير المؤمنين»، ومع كون نقوده الفضية الأولى كانت من عيار جيد ٧٠٠ فقد اضطر أن يخفضه ليكثر من السك، ويستطيع الإنفاق على حروبه وغزواته.

وقد اضطرت ظروف هذه الحروب مصر أن تفقد ما فيها من نقود الذهب، وأن تعتمد على النقود الفضية والنحاسية في عهود جميع السلاطين من قلاوون إلى برقوق، فلو ضرب منهم سلطان نقودًا ذهبيةً، فإنما فعل ذلك تذكارًا لتوليته السلطنة، وتقليدًا لسنة من سبقه من حكام مصر.

وفي عهد السلطان برقوق حدث تقلص شنيع في النقود، فقد نقصت النقود الفضية، ثم لم تلبث أن اختفت تمامًا بفعل الصياغ وتجار المعادن الذين نشطوا لا في مصر وحدها، بل في جميع بلاد العالم إلى جمع النقود الذهبية والفضية وإذابتها، ثم بيعها سبائك بقيمة مرتفعة جدًّا في الوقت الذي انحط فيه قدر النقود.

تضخم النقود النحاسية وبيعها بالمزاد

يروي المقريزي — وهو مرجعنا في هذا البحث — أن النحاس غدا في كثرة هائلة حتى نزلت نقوده منزلة السلع البائرة؛ فحملت على عربات، ونودي عليها للبيع بالمزاد العلني «حراج … حراج» والمقريزي صادق فيما يقوله؛ لأن محمود بن علي إستادار الظاهر برقوق قد استورد كميات عظيمة من نحاس مرسيليا، ثم ضربها في مصر؛ بفكرة أن إكثار النقود يؤدي إلى الرخاء، وهي فكرة غير صحيحة؛ لأن كثرة النقود في ذاتها عن الحد الواجب تسبب رخاءً عارضًا بفعل التضخم، فكيف بكثرتها إذا كانت النقود من معدن خسيس كالنحاس، هنا تسقط النقود باعتبارها نقودًا، وتصبح مجرد سلعة تباع لتتخذ في أغراض الصناعة.

ولما ولي المؤيد حكم مصر، وجد الناس قد أعرضوا عن النقود؛ لأنها كانت مزيفةً متضخمةً، وتبادلوا السلع فلم يجد بدًّا من إصلاح تلك الفوضى بتغيير النظام من أساسه، فاستورد كمية من ذهب البندقية وضربها، ثم أتى بالفضة أيضًا، وسك منها درهمه المؤيدي، وجعل النقود على ثلاثة أنواع: ذهبية، وفضية، ونحاسية، وقد حرَّف العامة كلمة المؤيدي، فنطقوها ميدي يقصدون منها عملة التجزئة الصغيرة.

ولم يستطع المؤيد أن يضرب مقدارًا معقولًا من الذهب لندرته؛ ولذلك جعل اعتماده على نقوده الفضية والنحاسية، وقد أبطل التعامل بغير نقوده حين أمر أن تعقد الأنكحة، وتدفع نفقات الحكومة، ومهايا الموظفين، وتجبى الضرائب بنقوده وحدها، وقد استفاد المؤيد من علم المقريزي وخبرته، واعتمد عليه في الإصلاحات النقدية والمالية التي نقدها، ورجع إليه في معالجة الشدة التي كانت مصر تعانيها بسبب من تقدموه من الحكام، ومن الواجب علينا أن ننوه هنا بفضل المقريزي بصفته عالمًا مصريًّا جليلًا عني بدراسة النقود والاقتصاد فوق عنايته بدراسة الفقه والتاريخ الذي نبغ فيه، وقد وضع المقريزي رسالةً قيمةً في النقود كما ألف في سنة ٨٠٨ هجريةً كتابًا في وصف الأزمات التي مرت على مصر.

وقد نجح المؤيد في إصلاحاته إلى حد كبير، ولكن بعد أن مات رجعت مصر إلى دور الانحطاط النقدي؛ بسبب سياسة التضخم التي سارت عليها الحكومات لترفع مرتبات الجنود، وترشو القادة، وكبار رجال الدولة والأمراء؛ لتضمن سكوتهم وعدم إثارتهم للقلاقل كما حدث للرومان في عهود تدهورهم.

تأثير الحروب الصليبية على نفوذ أوروبا

إذا كان تأثير الحروب الصليبية على مصر هو كما رأيت تدهور النقود وفساد النظم المالية، فكيف بتأثير تلك الحروب على نقود الشعوب الأوروبية، ونظمها المالية، وهي شعوب كانت أقل مدنيةً ومالًا وصناعةً من مصر في ذلك الوقت، إن الآثار التي لحقت بالنقود ذاتها بسبب تلك الحروب تكاد تكون واحدةً، إنما يأتي الفارق من اختلاف ظروف البلاد المتحاربة، فالبلاد القوية في تكوينها الاقتصادي تتحمل الصدمات، على أن آثار تلك الحروب العالمية لا تقف عند المتحاربين، بل تتعداهم إلى البلاد التي لم تدخل الحرب؛ لكونها متصلةً بالدول المحاربة تجاريًّا، فهي تصاب مثلهم بالتضخم، وهي أيضًا تدخلها النقود المزيفة، وقد تنشط صناعتها لتستعيض بها عما كانت تستورده من الخارج، وتصعد فيها الأسعار، ويعمها الغلاء فشأنها شأن الدول المحاربة.

أما النتائج السياسية للحروب فتظهر سريعًا في الدولة المهزومة، وربما ظهرت أيضًا في الدولة المنتصرة، وقد يستفيد المغلوب من هزيمته فيقوم بعد الحرب بنهضة، وقد يضار الغالب بنصره فتنهك قواه، ولا يلبث بعد وقت أن يسير إلى هزيمة سياسية ناتجة من انتصاره الحربي، ويحدث ذلك في الدولة المنتصرة إذا كانت قد كبرت وشاخت، بينما المغلوبة ما زالت فتيةً تتطلع إلى الحياة، فهنا تستفيد المغلوبة من هزيمتها، وتأخذ بأسباب النهوض.

انتصر سلاطين مصر على الأوروبيين، وردوهم عن بلادهم، ولكن النصر الحربي كما قلنا لا يستلزم النصر السياسي، أو على الأقل لا يستتبعه النصر السياسي إلى أمد طويل، فقد حدث قبل ذلك في مصر التي أخذت تسير من سيئ إلى أسوأ؛ حتى وقعت في آخر الأمر تحت الفتح العثماني في عهد السلطان الغوري، وها هي أوروبا التي خذلت في تلك الحروب الصليبية قد استفادت من نتائج تلك الحروب أن خرجت إلى نهضة أخذت فيها بكثير من مدنية الشرق وصناعاته، لولا أن أخر تقدمها نظم السادة والفرسان، وما جرته هذه النظم على الدول الأوروبية من انقسام داخلي، أضيف إلى تحكم رجال الدين الذين حاربوا العلوم، وعاقوا التقدم الغربي وقتًا طويلًا، ولسنا نريد في صدد الكلام على آثار الحرب بالنسبة للنقود أن نكرر هنا ما حدث لنقود أوروبا، وكان شبيهًا بما حدث في نقود مصر، وإنما نريد أن نلفت النظر إلى ظواهر غريبة امتاز بها فساد النقود في أوروبا، في باب التزييف الذي حدث بعد تلك الحروب، فإن الحكومات الأوروبية كانت تغض النظر عن المزيفين نظير ما قدموه من تبرعات في تلك الحرب وبعدها، بل ثبت أن بعض هذه الحكومات كانت تساعد المزيفين في عملهم، مبررةً عملها أمام شعبها بأن المزيفين سيستعملون نقودهم المزيفة في جلب بضائع من الخارج.

وكان هم الحكومات الأوروبية أن توجد نقودًا في بلادها بأية كيفية، ومن أي نوع، معتقدة لجهلها أن كثرة النقود من أي صنف كانت تسبب الرخاء والرفاهية لأفراد الشعب والحكومة، وتكون النتيجة التي لا مفر منها أن تصبح البلاد والحكومة غارقتين في نقود مزيفة، لا يلبث الناس أن يرفضوها في المعاملات؛ فتضطر الحكومة بعد الخراب الذي يحيق بها وبشعبها أن تعمل على الإصلاح، وهيهات أن تستطيعه إلا بمجهود كبير، أو إلا بعد الإخفاق المؤلم والتضحية العظيمة.

حاولت فرنسا عدة مرات أن تخرج من هذه الحالة السيئة؛ فأصدرت نقودًا لا بأس بها كانت تختفي سريعًا، فقررت حكومتها أن تصادر بالقوة ما في أيدي الناس من النقود الرديئة، فأرسلت جندها يفتشون المنازل والمتاجر تفتيشًا دقيقًا، ويقتصون لها كل ما يجدونه من النقد الواطئ ما لم يقدمه أصحابه برضائهم، ويأخذون بدله من النقود التي أخرجتها الحكومة.

أما الحكومة الإنجليزية فقد جربت كل طريقة حتى أعيتها الحيل فاستسلمت للمقادير، وأقفلت دار الضرب زمنًا طويلًا، إذ لا معنى لأن تضرب عملةً يتلقاها تجار المعادن فيذيبونها أو يهربونها للخارج، وتختفي في اليوم التالي لصدورها، والتهريب بواسطة القرصان البريطانيين مما لا يسهل منعه في مثل الجزر الإنجليزية المتعددة الثغرات في شواطئها الطويلة.

أصبحت التجارة الخارجية لا تعترف بالنقود أيًّا كان مصدرها، وتعتمد فقط على السبائك الجيدة، فتباع السلع وتشترى بالسبائك، ويقدر الثمن في المعاملات الدولية بوزن من المعادن؛ فنرجع بذلك إلى عهد ما قبل العملة عندما كانت الأجرام المعدنية تؤدي دور الوساطة في التداول.

تضع الحكومات عقوبات قاسيةً لمن يعبث بالنقود أو يذيبها، أو يهربها في شكل سبائك إلى الخارج، وقد نص القانون الإنجليزي الصادر في سنة ١٢٩٩ على عقوبة الإعدام لمن يثبت عليه ارتكاب جرم من هذه الجرائم، واستعانت الحكومة الإنجليزية بالقرصان أنفسهم، ودفعت لهم أجورًا كبيرةً، وأحلت لهم أخذ نصف ما يضبطونه من المعادن المهربة.

اتخاذ القطع الفضية الكبيرة

أفادت الشدة التي اصطنعتها الحكومات في المزيفين والمهربين؛ فقل التزييف والتهريب إلى حد كبير، ولكن بقيت في أيدي الناس النقود الناقصة الوزن، والتي لتكرار تداولها في أيديهم أصبحت ممسوحة الكتابة والنقش، فلا يعرف أهي من نقود البلاد، أم هي نقود أجنبية، أم هي مجرد قطع معدنية مستديرة الشكل.

فكرت فلورنسا في حل هذه العقدة؛ باتخاذ نقود من الفضة في حجم كبير يتحمل كثرة التداول، ومن فوائده أيضًا توفير العد في الدفع، وضربت فلورنسا قطعةً فضيةً من هذا النوع موازيةً لاثني عشر دينارًا، وأخرجتها للتعامل بها في سنة ١١٨٢، ولما نجحت التجربة قلدتها البندقية في حجم أكبر، ضربت فيه قطعةً ذات الأربع والعشرين، وأخرى ذات الست والعشرين دينارًا، وسميت هذه القطع الجديدة Grosso أي الكبيرة، وجاءت فرنسا فضربت قطعتها المسماة Gros Tournois، ثم نقلت عنها إنجلترا قطعةً سمتها Groates، ثم أخرج الجرمان بعد ذلك قطعةً سموها Groshen التي حرفها الترك فقالوا فيما ضربوه من مثلها «غروش»، وأخذ عنهم المصريون اللفظ فنطقوه «قروش».

هذه النقود الفضية الكبيرة الحجم، وإن لم تكن بدعةً جديدةً في عالم العملة؛ فقد ضربها البطالسة في مصر كما مر بك، إلا أنها الأساس الذي بني عليه ضرب الريالات الحديثة.

الذهب في المعاملات الدولية

وبالرغم من تحسين نقود الفضة وزيادة الإقبال عليها في المعاملات الداخلية، فإن التجارة الدولية ظلت تفضل سبائك الذهب ونقوده؛ ولذلك ضربت فلورنسا قطعة الذهب المعروفة بالفلورين سنة ١٢٥٢، وأعقبتها البندقية، وهي أيضًا مركز تجاري هام فضربت قطعتها المعروفة بالدوقية، ثم جاءت فرنسا فضربت قطعتها الذهبية على عهد لويس التاسع الذي نقلها كما قدمنا عن الدينار الإسلامي، وكذلك فعلت إنجلترا في سنة ١٢٥٧ على عهد هنري الثالث الذي أخرج البني الذهبي، وجعل وزنه ضعف البني الفضي، وصيره في التعامل بقيمة عشرين بنسًا؛ فكأنه اعتمد نسبة الذهب إلى الفضة كنسبة ١ : ١٠، وضرب الجرمان بعد ذلك قطعتهم المعروفة بالجولدن.

وكانت الغلبة في التجارة الخارجية لقطعتي فلورنسا والبندقية؛ بحكم مركزهما الجغرافي، وصلاتهما التجارية مع جميع البلاد، خصوصًا عملة فلورنسا التي اتخذت لمصانعها وكلاء مقيمين في جميع العواصم الأوروبية؛ لتصريف بضائعها من المنسوجات وخلافها، فكان التعامل بقطعة الفلورين كالتعامل بالجنيه الإنجليزي قبل نكبته، تكتب بها المشارطات العالمية، وتعقد بها الصفقات الدولية.

وحنق الإنجليز لما أصابهم من ضرر بسبب قيام هذه العملة؛ فضربوا لأنفسهم عملةً سموها أيضًا فلورين، وجعلوها في الصرف بقيمة ستة شلنات، وهو سعر لا يقبله التجار حتى الإنجليز منهم، وتعذر على ملك الإنجليز أن يوفي القروض التي عقدها بهذا السعر، فاضطر إلى إخراج عملة ذهبية غيرها سماها نوبل، وقدرها في الصرف بثمانية شلنات وثمانية بنسات، كما أخرج أيضًا قطعةً موازية لنصفها، وأخرى موازيةً لربعها.

مؤتمر جنوه الاقتصادي

وقعت أوروبا في أزمة طاحنة عند قيام حرب المائة سنة؛ إذ ارتفعت أسعار المحاصيل والمصنوعات ارتفاعًا فاحشًا أفاد التجار والمزارعين، ولكنها نزلت نزولًا فاحشًا آخر أضر بالشعوب والحكومات، والسبب في ذلك يرجع إلى التقلب في أسعار المعادن، والتغير المستمر من الحكومات لوزن النقود وعيارها، حتى إن الحكومة الإنجليزية كانت تعدل وحدتها، وتقفل دار ضربها مرات عديدة، وتعطي جُعلًا لمن يضرب النقود الفضية، وتشجع من يستورد الفضة.

أما في فرنسا فإن القطع الفضية أصبحت من أوزان مختلفة لا تكاد القطعة منها تمت إلى الأخرى بصلة؛ ففي الشمال عملة بل عملات، وفي الجنوب غيرها، وكل واحدة منها تتضارب مع الأخرى؛ حتى هبط سعر بعض النقود إلى عشر قيمته الرسمية.

ويصبح التعامل مع الخارج محفوفًا بالمخاطر، بل متعذرًا؛ لأن التاجر أو المقترض لا يعلم بالضبط مقدار ما ينتجه عقده حين يستلم دينه أو يقبض منه ثمن بضاعته بنقود أجنبية، ويريد أن يستبدلها بنقود بلاده، وتضج التجار والمعاهد المالية بالشكوى من هذه الحالة التي تعرضهم للإفلاس، فتقرر الدول عقب تلك الحروب عقد مؤتمر اقتصادي؛ لوضع المقترحات التي يراها لازمةً للخروج من تلك الفوضى. وتختار لاجتماعه مدينة جنوه؛ لأنها المركز التجاري والمالي الذي به كثير من الوسطاء في التحاويل والتجارة الخارجية.

استمر هذا المؤتمر منعقدًا من ٢٩ أكتوبر سنة ١٤٤٥ إلى ٢١ يونيو سنة ١٤٤٧ يبحث ويدرس فيه مندوبو الدول والبيوت التجارية والمالية العامة بغير أن يجمعوا على رأي؛ لأن كلًّا منهم له مصلحة خاصة قد حافظ عليها.

وخلاصة ما أبدى من آراء بشأن النقود؛ أن المؤتمرين انقسموا إلى فريقين؛ فريق وهو الأقلية يقترح على الحكومات أن تتخذ عملتها من ثلاثة أنواع؛ عملة من الذهب بمقدار الثلث، وعملة من الفضة الحسنة الوزن والعيار بمقدار الثلث، وخليط من العملات الرديئة وزنًا وعيارًا بمقدار الثلث أيضًا، وقال ذلك الفريق في تبرير رأيه إنه الرأي العملي الذي يوفق بين مقتضيات التجارة، وبين الحالة التي وصلت إليها النقود بعد تلك الحرب، أما الفريق الآخر، وهو الأكثر عددًا بانضمام مندوبي البيوت المالية العالمية، فقد اقترح أن يكون الذهب هو الأساس الذي يجب أن تعتمد عليه النقود لتثبت الأسعار، وتنشط العقود والتجارة الخارجية، وأكدوا على جنوه أن تستبقي نظامها المبني على عملة الفلورين الذهبية، وقد أثر هذا الرأي في جنوه؛ فأصدرت قانونًا يلزم التجار أن يدفعوا الغرامات التي يحكم بها عليهم بالعملة الذهبية، ويمنعهم من قبول أي تحويل على جنوه ما لم يكن معقودًا بالذهب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤