الفصل السادس

الصراع بين الفضة والذهب

الاستعمار لجلب المعادن

يستولي العثمانيون على القسطنطينية في سنة ١٤٥٣ فينتهي من الوجود آخر ظل لإمبراطورية الرومان الشرقية، ويضيع على الغربيين بهذا الفتح طريقهم القديم للاتجار مع الشرق، ويجتهد بارتلميو دياز وفاسكو دي جاما في البحث عن طريق آخر من الناحية الغربية، بواسطة السياحة حول أفريقيا، كما يذهب كولومبوس في رحلة جريئة لمثل هذا الغرض فيكشف أمريكا، وهكذا دخل الأوروبيون في دور استعمار البلاد النائية، ويأتي لهم القرن الخامس عشر وما بعده بثروات عظيمة، وكميات هائلة من المعادن النفيسة من أفريقيا وأمريكا وآسيا.

يقدر العلامة سوتبير ما أخذته أوروبا من الذهب الأفريقي خلال القرن السادس عشر بما لا يقل ثمنه عن ٦٩٠ مليون مارك ذهبًا، معظم هذا الذهب ورد لها من بلاد غينا، وبمناسبة الذهب الغيني نذكر للقارئ أن القطعة الذهبية الإنجليزية المسماة بالجني التي لعبت دورًا هامًّا في نقود الإنجليز، إنما سميت بذلك الاسم؛ لأن مصدرها ذهب غينا الذي كانت تضرب من بعضه قطعة Sovereign المقدرة رسميًّا بعشرين شلنًا، ثم زاد سعرها إلى ٢١ شلنًا، فأراد الملك أن يميز القطع المضروبة من ذهب غينا فأمر دار الضرب أن تصور عليه الفيل والحصن، وصارت بعد ذلك تسير في التعامل رسميًّا بقيمة ٢١ شلنًا، وتعرف باسم Guinea Pieces.

ويقدر العلامة لكسيس ما استولى عليه الإسبان من ذهب الأنتيل والمكسيك في الفترة من سنة ١٥٠٠ إلى سنة ١٥٢٠ بما لا يقل عن ١٥ مليون مارك ذهبًا، وما صدرته لهم المكسيك وحدها من سنة ١٥٢٢ إلى سنة ١٥٤٧ بما لا يقل عن ٨٠ مليون مارك ذهبًا، وتلك قيمة فاحشة إذا قيست بالثروة التي كانت عليها أوروبا في تلك المدة.

أما المقادير التي استولى عليها الإسبان من الفضة فقد كانت في أول الأمر قليلةً؛ لأن الإسبان وجهوا همهم إلى الذهب الذي وجد بكثرة قرب الشواطئ، بعكس الفضة التي كانت مناجمها في داخل البلاد، فلما توغل الإسبان فيها استنزفوا مناجم المكسيك وبوليفيا وبيرو.

ولا ينسى التاريخ للأوروبيين أنهم ارتكبوا من الفظائع في سبيل الحصول على المعادن ما تقشعر له الأبدان، فكم أبادوا من القبائل الوطنية لمجرد الظن أن بلادهم تحتوي على معدن، ولم تأخذهم أقل رحمة في تدمير البلاد وإتلاف الأرواح.

تأثير كمية المعادن على الأسعار

أثرت كمية المعادن الهائلة على أسعار السلع فرفعتها بإسبانيا في أوائل القرن السادس عشر، ثم أنزلتها، ثم رجعت فرفعتها ارتفاعًا بلغ في ختام هذا القرن خمسة أمثال سعرها في أوله، وانتقل هذا الارتفاع في الأسعار من إسبانيا إلى فرنسا بحكم الجوار والتعامل بينهما، ثم سار إلى إنجلترا، ولكنه لم يبلغ في فرنسا وإنجلترا ما بلغه في إسبانيا إذ لم يزد فيهما عن ثلاثة أمثاله.

بقى هذا الارتفاع شطرًا من مستهل القرن السابع عشر، لم يطل أمره حتى حدث له رد فعل شنيع أصاب الأعمال الحرة في العالم كله بنكبة فادحة، صعقت إسبانيا التي كان التدهور في أسعارها عظيمًا بنسبة ما كانت أسعارها متصاعدةً، ومما زاد في وقع تلك الأزمة على الإسبان أن الارتفاع الذي حدث فيها لم يستفد منه الشعب، بل الحكام الذين لم يستعملوا تلك الأموال فيما يعود على بلادهم بالمنفعة، وإنما أنفقوها إسرافًا وجزافًا في شراء سلع الترف من البلاد الخارجية بأثمان باهظة.

وحدث عكس ذلك في فرنسا وإنجلترا إذ استفادت الطبقات الوسطى والصناع والتجار؛ لأنهم باعوا صناعتهم للإسبان، وأخذوا منهم أموالًا طائلةً احتفظوا بها، وكونوا منها ثروةً قوميةً عرفوا أن سبيلها هو التعامل مع الخارج، والنزوح إلى البلاد البعيدة؛ فنشطت طوائف المهاجرين إلى أمريكا وأفريقيا والهند استجلابًا للرزق، أو بحثًا وراء المعادن الثمينة، وقام على أثرهم الماليون يمدونهم بالمال، فبدأت نهضة الاستغلال الاستعماري المشئوم الذي جرهم إلى الحروب التي كانوا وما زالوا وقودًا لها.

لوندره سوق للفضة

اتبع الإسبان سياسة الاستئثار بالمعادن النفيسة، وتعمدوا بكل ما فيهم من قوة وحيلة أن يحرموا الإنجليز من معدن الفضة؛ لينفقوه على الحرب التي أثاروها لنشر مذهبهم الكاثوليكي، وكان الإسبان ينقلون الفضة على مراكب إسبانية أو برتغالية إلى جنوه، ومنها يوزعونه على البلاد التي انطوت تحت مذهبهم، وخضعت لنفوذهم الديني.

ونجح الإسبان في خطتهم هذه نجاحًا انعدم بسببه ورود الفضة إلى بلاد الإنجليز؛ حتى إن دار الضرب في إنجلترا ظلت وقتًا من الأوقات لا تجد فضةً تضربها عملة، وتضايق الإنجليز من ذلك، ولكن قرصانهم الأقوياء وقفوا في عرض البحار لبضاعة الإسبان ومعادنهم فسلبوها، وقطعوا على الإسبان السير في البحار.

ولما تصالح الإنجليز والإسبان على معاهدة كوتنجتن سنة ١٦٣٠ اشترط الإنجليز على الإسبان في تلك المعاهدة أن يستعمل الإسبان المراكب الإنجليزية في نقل فضتهم إلى انتورب أو غيرها من بلاد الشمال، وأن تفرغ هذه المراكب شحنتها في لوندره، ثم تعود فتشحنها من جديد بعد أن تكون دار الضرب الإنجليزية قد أخذت كفايتها من الفضة، وقبل الإسبان هذه الشروط؛ لأن مصلحتهم اقتضت نقل الفضة بالطريق الأقرب، وعدم تعريض متاجرهم للنهب بواسطة قرصان الإنجليز الأبطال، وكسب الإنجليز من ذلك نفعًا لمراكبهم التجارية، وسوقًا للمعادن النفيسة في عاصمتهم.

أوراق الصرافة والبنوك في أوروبا

ذكرنا أن فكرة اتخاذ ورق يقوم مقام النقود، إنما هي فكرة قديمة يعزوها البعض إلى الصينيين، والبعض الآخر إلى الفينيقيين، وقلنا أيضًا إن البطالسة كانت لهم في الإسكندرية بيوت تجارية تقبل الودائع من النقود والمعادن، وأنها كانت تصرف من الأوامر التي يصدرها العميل ما هو شبيه بالشيكات، وأن الرومان قلدوها لا لمساعدة التجارة، وإنما للإقراض بالربا الفاحش، ونذكر الآن أن هذا النظام قد ترقى في القرن الخامس عشر في البيوت المالية بجنوه والبندقية، حتى صار الأساس المباشر للنظام المعروف الآن بنظام البنوك.

لم ينتشر ذلك النظام في أوروبا إلا بعد قرن تقريبًا؛ لأن الصيارفة كانوا يقومون بالأعمال التي تقوم بها البنوك؛ فهم يقرضون المال، ويقبلون الودائع، ويشترون المعادن النفيسة، ويستبدلون العملات الأجنبية.

وكان الصيرفي إذا أخذ مالًا من عميله أعطاه به إيصالًا، فإن رجع العميل يسحب شيئًا من ماله خصمه الصيرفي على ظهر الإيصال، وقيد كل ذلك في دفاتره، وربما اتفق الصيرفي مع عميله على تحويل هذا الإيصال إلى شخص ثالث يكتب اسمه على الإيصال، فيأتي ذلك الشخص ويقبض المبلغ، وإذا شك الصيرفي في ختم العميل أو الشخص الذي يحول إليه المبلغ طلب ضامنًا أو بينةً؛ للتأكد من صحة العملية، وسيرى القارئ أن هذه الإيصالات أصل نظام الشيكات، بل وأيضًا أصل نظام البنكنوت الذي كان في أول أمره لا يصرف إلا لشخص معين بالذات.

لم يقف مجهود الصيارفة حينئذ على الأعمال المالية الداخلية، بل تعدى إلى قبول وسحب الحوالات التي استعملت في التجارة الخارجية، وكان للكبار من هؤلاء الصيارف وكلاء يقيمون أو يجتمعون في العواصم الكبرى كباريس وليون ولوندره وجنوه في أوقات معلومة لتصفية تلك الديون.

إن هؤلاء الصيارفة لشراهتهم في جمع المال قد أساءوا كثيرًا إلى الناس، وظلموهم خصوصًا في عمليات الإقراض بالربا الفاحش، واستبدال النقود، وربما كان أحدهم إذا استلم نقودًا من شخص أخذها بعد التدقيق فيها، فإن كانت جيدة الوزن والعيار قبلها، وإلا خصم مقدارًا منها نظير ما يخرجه فيها من عيوب، أما إذا دفع الصيرفي لشخص نقودًا، فربما دفعها من أردأ النقود، وقال له إنها نقود قانونية لا يمكنك رفضها، فإذا وقعت في يد الصيرفي عملةً جيدة العيار أذابها، وفي ذلك ما فيه من الضرر بالناس؛ إذ تقل النقود الجيدة، وتصبح العملة في التداول ذات سعرين، وفوق ذلك فإن الصيرفي كان ينتهز فرصة جهل الناس بأسعار العملات الأجنبية، فإذا اشتراها منهم دفع فيها ثمنًا بخسًا، وإذا باعها لهم طلب فيها ثمنًا غاليًا، ولم تكن أسعار النقود تعرف بسرعة أو تذاع كما هو حاصل الآن.

لذلك حاربت الحكومات رجال هذه الطائفة محاربةً شديدةً، وطاردتهم في كل مكان، ولكنها خففت من شدتها عليهم عندما وجدت منهم معوانًا لها في أوقات ضيقتها، واحتياجها للمال، ولم يبخل هؤلاء على الحكومات والملوك والأمراء بالقروض الحسنة؛ ليكسبوا عطفهم، وينالوا حمايتهم.

وتتعود الحكومات الرضاء بهم بعد تهذيب طباعهم، وتقليل مفاسدهم بما تضعه لهم من قوانين تكفل عدم إضرارهم بالناس، وتسمح لهم رسميًّا بمزاولة مهنتهم نظير جُعل تتقاضاه منهم، فينصرفون إلى تنظيم شئونهم داخل ما رسمته لهم من حدود، وتكون منهم جماعات مفيدة تؤسس أهم الشركات المالية.

وتقوم البنوك العظيمة على أكتاف هذه الشركات فينشأ بنك أمستردام في سنة ١٦٠٩، ومن بعده بنك هامبورج في سنة ١٦١٠، ثم بنوك تشيلدز وكوتس غيرها في إنجلترا سنة ١٦٧٣.

وفي سنة ١٦٩٤ أسس جماعة من الماليين بنك إنجلترا العتيد بأن انتهزوا فرصة احتياج وليم الثالث للمال في محاربته الفرنسيين فأقرضوه ١٢٠٠٠٠٠ جنيه بشروط منها أن يعطيهم عنها ربحًا بواقع ٨٪ سنويًّا، وأن يصرح لشركتهم بإصدار بنكنوت يمثل قيمة هذا القرض، ومع الوقت ينحصر في هذا البنك حق إصدار البنكنوت في إنجلترا يخصص ما سن لمصلحة من قوانين في مناسبات مختلفة جعلته يرث البنوك الإنجليزية الأخرى في الإصدار.

وأول عهد فرنسا ببنوك الإصدار البنك الذي أسسه الإسكتلندي المشهور لو John Law في باريس ١٧١٦، وقد غير اسمه بعد ذلك فصار البنك الملكي Banque Royale ليكون بنكًا للدولة، ولكن أمره لم يطل إذ أفلس في سنة ١٧٢٠ بسبب المشروعات الجنوبية التي أوقعه وأوقع البلاد معه فيها ذلك المالي المغامر.
وفي إبان الثورة الفرنسية أخرجت حكومتها ورقًا على الخزانة سمته Assignats جعلت رصيده أملاك التاج والكنيسة، وضمنت له ربحًا ليقبل الناس على امتلاكه وتداوله، ولكنها أكثرت منه إلى حد جعله عديم القيمة.

وأخيرًا جاء نابليون، فأنشأ فيما أنشأ من إصلاح لبلاده بنك فرنسا سنة ١٨٠٠ الذي يعد الآن فخر النظام الاقتصادي الفرنسي عماد النقد فيه.

إنجلترا تقع في قاعدة الذهب

انحط قدر الفضة معدنًا وعملةً إذ أهمل الناس شأنها القديم، وقد وقف الذهب إلى جوارها، وأخذ يشتبك معها في صراع يخشى أن ينتهي بهزيمة الفضة، وما كانت إنجلترا لتهتم بالفضة أكثر من أي دولة أخرى؛ لولا أن الهنود لا يعرفون سواها في التعامل، وقد باتت شركة الهند محرجةً يوم أن أصبحت القطع الفضية الإنجليزية في أسوأ حال.

فكلفت الحكومة الإنجليزية السير إسحاق نيوتن مدير دار الضرب، والثقة في الرياضة وشئون العملة، أن يبحث تلك الحالة الشاذة، فقام ببحثها بحثًا مستفيضًا في عدة تقارير أهمها التقرير الذي قدمه للحكومة في سنة ١٧١٧ حضها فيه على الدفاع عن الفضة، وأنذرها باقتراب يوم سيطلب فيه الناس فرقًا في العملة كما حدث لإسبانيا.

استمعت الحكومة الإنجليزية لرأيه، وأخرجت قطعًا فضيةً جديدةً حسنة الوزن اعتمدت الجني فيها بمبلغ ٢١ شلنًا، ولكن الحكومة أخطأت في تسعير الجني بهذا المبلغ الذي كان في الواقع أكثر من اللازم بمقدار ١٪ بالنسبة للنقود الجديدة الفضية الكاملة الوزن، وإذ أدرك الناس هذه الحقيقة اختزنوا قطع الفضة، وتعاملوا بالذهب؛ لأن تعاملهم به كان أكسب لهم.

ولما رأت الحكومة أن القطع الفضية الجيدة قد اختفت بمجرد إخراجها، وأن التعامل لا زال جاريًا بالقطع القديمة أرادت أن تمنعه فحرمت بقانون أصدرته في سنة ١٧٧٣ التعامل بالقطع التي تقل عن وزن مخصوص، فأصلحت الغلطة بغلطة أكبر منها؛ إذ انطلق الجني على أثر ذلك ترتفع قيمته، وصحت نبوءة نيوتن التي توقع فيها مجيء يوم يطلب فيه الناس فرقًا في العملات فوق سعرها الرسمي.

ضج الدائنون وأصحاب رءوس المال من هذه الحالة، ورفعوا العرائض للملك والبرلمان يشتكون فيها، ويطلبون أن تتدارك الحكومة النقود التي أصبح التعامل بها يعرض الناس للأخطار من فرق في الأسعار والأوزان يتحملونه عند قبض ديونهم، ورأت الحكومة أنهم على حق، فأصدرت في سنة ١٧٧٤ قانونها المشهور في عالم العملة؛ قررت فيه أن لا يجبر أحد على أخذ قطع من النقود الفضية في دين له على آخر إلا لغاية ٢٥ جنيهًا، وما زاد عن ذلك يكون الحساب فيه بالوزن على أساس أن الأوقية سعرها ٥ شلن، و٢ بنس.

اندفع الناس يستوردون كميات من الفضة لاستعمالها في سداد الديون بالكيفية التي نص عليها ذلك القانون؛ فنزلت أسعار الفضة لكثرة ما ورد منها، وارتفع بالتبعية لذلك سعر الذهب، ونشأت أزمة عكسية من أزمات المعادن النفيسة؛ بسبب تفضيل الناس للذهب، وإقبالهم على حيازته.

أخفق إذن العلاج، بل ضر أكثر مما نفع فوجب تغييره، واتخاذ علاج آخر ينصب على حجم الفضة من طريق تقليل ضربها؛ لترتفع قيمتها النقدية، ولما كانت حرية ضرب النقود من الحريات التي يعتبرها الإنجليز من حقوقهم المكتسبة؛ فقد لزم الالتجاء إلى البرلمان لاستصدار قانون منه بسحب هذا الحق بالنسبة للفضة، وفعلًا تم ذلك في سنة ١٨٩٧، وأصبحت دار الضرب غير ملزمة أن تضرب نقودًا لمن يقدم لها سبيكةً فضيةً، وقلت نقود الفضة كما أرادت الحكومة.

وإذ قلت قطع الفضة يجد الذهب الميدان فسيحًا أمامه فيحتل مكانه من نفوس الناس، ولم يزل ضربه حرًّا فيحملون سبائك من عيار أي دار الضرب فتضربها لهم، أو تعطيهم بدلها نقودًا من واقع السعر الرسمي للأوقية، وهو ٣ جنيه ١٧ شلن ١٠ بنس، وتكون النتيجة العملية أن القوانين المتعددة التي سنتها إنجلترا دفاعًا عن الفضة قد انقلبت في آخر الأمر شرًّا على الفضة، وخيرًا بالنسبة للذهب الذي لحرية ضربه، وكثرة الموجود من معدنه ومزاياه الطيبة يألفه الإنجليز، ويسيرون عليه في التعامل فتنفذ قاعدة الذهب نفسها.

نتائج حروب نابليون

اهتزت دوائر المال في أوروبا عندما جد نابليون في غزواته الواسعة، فتوالى سحب الودائع من البنوك خوفًا عليها، وأفلست بالفعل بنوك في نيوكاستل، وانتشر الذعر المالي في إنجلترا، وإسكتلندا، وقل رصيد البنوك من المعادن؛ لأن فرنسا بعد أن سقطت قيمة ورق ثورتها جعلت تسترد مالها من النقود في الخارج، وتعرضت أكبر البنوك للإفلاس؛ لأن الحكومات الأخرى أيضًا حثت رعاياها على سحب نقودهم من الخارج، وأصبحت البنوك الإنجليزية كأنها من ورق لا تقوى على العواصف التي هبت عليها من كل ناحية، ولم يفدها كثيرًا ما تقدم به بنك إنجلترا من مساعدات لإنقاذ الموقف عرض معها نفسه أيضًا للخطر.

وإذ كانت أوائل سنة ١٧٩٧ أذاعت الجرائد الإنجليزية أن فرنسا أعدت أسطولًا في برست لتغزو به إنجلترا فازداد الهلع، وتوالى السحب من البنوك على الودائع حتى بات بنك إنجلترا، وليس له من مخرج سوى أن يلتجئ إلى الحكومة لتصرح له بالتوقف عن دفع ما يطلب منه نقدًا، فصرحت له الحكومة بذلك يوم الأحد الموافق ٢٦ فبراير، وفي اليوم التالي اتخذت الإجراءات اللازمة لحض الناس على قبول البنكنوت الصادر من بنك إنجلترا بدلًا من العملة الذهبية، فأخذت الجرائد بقيادة جريدة التيمس تنشر مقالات تنوه فيها بما فعل الإنجليز أيام الملكة اليصابات، وتناشد البريطانيين وطنيتهم المعروفة أن لا يبخلوا على بلادهم وبنكهم بالمساعدة في هذا الظرف الدقيق، واجتمع زعماء المال والتجارة في محافظة لوندره، وأمضوا قرارًا بالإجماع أنهم يقبلون عن طيبة خاطر استعمال البنكنوت الصادر من بنك إنجلترا، وفي الوقت ذاته أصدر مجلس إدارة البنك نشرةً قال فيها: إن مركز البنك متين جدًّا، وأعلن Pitt ذلك في البرلمان، وشكل من فوره لجنةً قدمت إليه تقريرها في ٣ مارس الذي جاء فيه أن البنك في حالة جيدة جدًّا؛ لأن عليه للناس مبلغ ١٣٧٧٠٣٩٠ جنيه، بينما هو يداين عملاءه بمبلغ ١٧٥٩٧٢٨٠ لا يدخل فيها مبلغ ١١٦٨٦٨٠٠ التي يداين أيضًا بها الحكومة البريطانية.

اختفى الذهب، وكثر الورق، وأخذت الفضة تطل برأسها لتنتهز الفرصة فتعود إلى الظهور، وقد فقد الورق ما لا يقل عن ٤٠٪ من قيمته بسبب كثرته، وتشكل الحكومة لجنةً لبحث النقود بوجه عام من أعضائها تسارلس جنكنسون إيرل ليﭬربول، ورئيس عدة شركات من الشركات المالية الهامة الذي ينفرد برأي يمليه على رئيس اللجنة، ويطبعه في تقرير يقدمه للملك، وينشره في البلاد، ذلك الرأي هو الاعتماد في العملة على قاعدة الذهب؛ لأنه المعدن الوحيد الذي يوافق مركز البلاد بالنسبة لما وصلت إليه من غنًى وتجارة، وأن تكون نقود الفضة والنحاس مجرد عملة لتجزئة وملحقة به.

ويحدث تضخم في حجم النقود الورق؛ لأن بنك إنجلترا أصدر كثيرًا منه للحكومة التي توسعت في نفقاتها، وللبنوك الأخرى التي ألزم بمعاونتها في ذلك الوقت الحرج بأن يقبل خصم تحاويلها وغيرها بالمال لتستطيع البقاء، ويقوى الظن بأن نابليون سيهزم فترتفع أسعار السلع على أثر قلة في المحاصيل، وينشط المضاربون في الأسواق فتكون هبَّةً من هبات صعود الأسعار والتفاؤل، ويعد بعضهم المشاريع الاقتصادية لينطلق من الركود الذي أوجدته الحرب.

تثبيت قاعدة الذهب قانونًا

فلما انهزم نابليون، وأخذت الأحوال تعود مجراها الطبيعي؛ صار الورق الإنجليزي يرتفع حتى اقترب من سعره القديم، فقُدمت للبرلمان الإنجليزي عدة رغبات يطلب أصحابها من الحكومة أن تصلح النقود، وأن ترجع البلاد إلى الظروف العادية، وكان الرأي السائد عند الإنجليز وعند اللجنة الاقتصادية التي كانت مكلفةً ببحث شئون العملة؛ هو الأخذ بقاعدة الذهب التي جرى عليها العرف مع تقليل يسير في وزن القطعة الذهبية حتى لا يختزنها الناس أو يصدرونها للخارج.

وأخذت الحكومة بهذا الرأي فأصدرت قانونًا في ٢٢ يونيو سنة ١٨١٦ يعرف عند الإنجليز بقانون اللورد ليﭬربول؛ لأنه اعتمد في جوهره على تقرير ذلك اللورد السابق ذكره.

نص هذا القانون على أن الدفع لكل دين يزيد على ٤٠ شلنًا لا يكون ملزمًا إلا إذا تم بعملة الذهب، وأن الفضة تقبل في السداد لغاية الأربعين شلنًا فقط.

وأدخل ذلك القانون تعديلًا على وزن القطعة الذهبية فصيرها من وزنها القديم، وقدرها في التعامل بمبلغ عشرين شلنًا، وأصبحت تعرف بالسوفرين الجنيه الإنجليزي الأخير بدلًا من الجني، وأخرجت منها دار الضرب في ٥ يوليو من السنة التالية عملةً للمرة الأولى، وفي ١١ أكتوبر من تلك السنة صدر أمر بإخراج قطع أخرى موازية لنصف هذه القطع من حيث الوزن والقيمة تعرف بقطع نصف الجنيه أو العشرة شلنات.

تم النصر بهذا القانون للذهب على الفضة في إنجلترا، وأصبحت قاعدة الذهب ساريةً فيها عرفًا وقانونًا حتى أضحت من تقاليد الإنجليز.

وكان من جراء العودة سريعًا إلى الذهب؛ حدوث تقلص في حجم العملة الإنجليزية، وأزمات متعاقبة بسبب هذا التقلص الذي جاء بعد التفاؤل والإفراط في الإنتاج، تلك الأزمات تشبه من كل الوجوه الأزمات التي مرت على العالم بعد الحرب العظمى.

أما بنك إنجلترا فإنه استطاع بعد وقت قصير أن يستبدل ورقه بالعملة الذهبية، ولكنه اضطرب وتوقف عن الدفع حينًا بسبب الأزمات، ثم اجتازها بفضل إدارته الحكيمة، ومساعدة الحكومة له ماليًّا وتشريعيًّا.

مصر تحت محمد على

أما مصر، فقد كانت في ذلك الوقت خاضعة لحكم الأتراك المهدد بالانقطاع من وقت إلى آخر، فكان نظام النقد فيها سيئًا لهذا السبب؛ ولأن الأتراك لم يعنوا بوضع نظام ثابت للنقود في مصر، وإنما جعلوا همهم الوحيد هو الحصول على أكبر مقدار ممكن من الجزية والإعانات.

وكانت النقود المتداولة في مصر بعضها وطنى وبعضها أجنبي، وأهم القطع الذهبية التي انتشرت على عهدهم في مصر قطع البندقي والزرمحبوب، وأهم القطع الفضية الريالات العثمانية والنمساوية والفرنسية والإسبانية.

وأراد علي بك الكبير أن يستقل بمصر فثار على الأتراك، وضرب في سنة ١٧٩٦ القرش المصري، ولكن أمره لم يطل.

ولما احتل الفرنسيون مصر أصدروا تعريفة بأسعار العملات المنتشرة فيها سنة ١٧٩٨ بإرشاد لجنة ضمت بعض ذوي المصالح من أهالي القاهرة، فقدروا الزرمحبوب الذي يزن ٢٫٦٩٢ جرام، ويوازي ١٨٠ بارةً بمبلغ ٦٫٣٣٨ فرنكات «على أساس أن البارة ووزنها ٠٫٢٢٤٧ من الفضة التي من عيار ٣٥٠ وتساوي ٠٫٣٥ من قيمة الفرنك الفرنسي»، وقدروا قطعة الذهب الإسبانية Quadriple d’Espagne بمبلغ ٨٢٫٨١ فرنكًا، وقطعة الذهب المعروفة بلويس Louis de France بمبلغ ٣٣٫٦٦ فرنكا، وقطعة البندقية الذهبية Sequin de Venice بمبلغ ١١٫٩٧ فرنكًا، وقدروا من العملات الفضية قطعة الستة لويسات بمبلغ ٥٫٩١ فرنكات، والريال النمساوي بمبلغ ٥٫٢٨ فرنكات، والريال الإسباني بمبلغ ٥٫٢٨ فرنكات أيضًا، والقطعة ذات الستة ليرات الميلانية بمبلغ ٤٫٥٧٧ فرنكات.

وكانت سياسة الحملة الفرنسية في مصر ترمي إلى مساعدة القطع الذهبية كلها على الانتشار، ولو كانت من أصل عثماني بعكس ما فعلوه بالنسبة للفضة، فإنهم تعمدوا معاكسة القطع العثمانية فيها بدليل أنهم بالغوا في تقدير القرش الذي كان أصدره علي بك، فجعلوه موازيا لمبلغ ١٫٤٠٨ فرنك، بينما هو لا يساوي أكثر من ٠٫٩٦٤ من الفرنك، وكان من جراء هذه السياسة أن النقود الذهبية اختفت من مصر، وأن النقود الفضية الأجنبية زاد انتشارها.

فلما انتهت ولاية مصر إلى المغفور له محمد على باشا عمد إلى إصلاح شئونها المالية وتنظيم النقد فيها، وكان العمل أمامه صعبًا وشاقًّا؛ لأنه لم يستطع أن يتجاهل وجود العملات الأجنبية التي احتلت مرافق البلاد في تجارتها، وسرت بين المصريين في تعاملهم وفي ضرائبهم وجزيتهم أيضًا للباب العالي، فلم يَسَعْ محمد علي باشا إلا أن يعترف بها وبسعرها رسميًّا في نظامه الأساسي الجديد.

أخرج المغفور له محمد على باشا ذلك النظام بالقرار الصادر في سنة ١٨٣٤ آخذًا فيه بمبدأ نظام المعدنين تقليدًا لفرنسا التي كانت قدوته، ومعتمدًا على نفس النسبة التي جرت عليها بين الذهب والفضة، وهي نسبة ١ :  ١٥، ونص على أن نقود مصر تتكون من قطعة الذهب التي تسمى بالجنيه المصري الذي وزنه ٨٫٥٤٤ جرامًا، وعياره ٨٣٥، وقيمته بالقروش ١٠٠ قرش مصري، وقطع أخرى من الذهب بقيمة نصف الجنيه، وربعه وخمسة وجزء من عشرين جزءًا منه، أما النقود الفضية فمنها الريال المصري، ووزنه ٢٧٫٧٩ جرامًا، وعياره ٨٣٣، وقطع أخرى بقيمة نصف وربعه، والقرش ونصفه وربعه من عيار ٧٥٠، وأما النقود البرونزية فمنها قطع البارة والخمسة بارات والعشرة بارات والعشرين بارةً.
وسَعَّر بعض العملات الأجنبية، وأباح تداولها في البلاد، فقدر الجنيه الإنجليزي بمبلغ ٩٧ قرشًا، و«البنتو» الفرنسي بمبلغ ٧٧ قرشًا، والبندقي بمبلغ ٤٦ قرشًا، والدبللون الإسباني بمبلغ ٣١٣ قرشًا، والخمسة فرنكات الفرنسية بمبلغ ١٩ قرشًا، والمجيدي بمبلغ ٨٧٫٧٥ قرشًا مصريًّا.

وبنى ذلك المصلح الكبير دارًا للضرب خاصةً أخرجت في سنة ١٨٣٧ الجنيه المصري، ولكن بكمية قليلة لم تكف لطرد النقود الذهبية الأجنبية التي استفاد بعضها من خطأ تقدير سعره، واستمر بعضها في التعامل مع دفع فرق فيه فوق السعر المقدر له رسميًّا.

ألمانيا ودول الشمال

انفردت إنجلترا باعتناق مبدأ الذهب في وسط العالم الذي إذا استثنينا منه شعوب الصين والهند، كانت باقي بلاده تتبع نظام المعدنين الذهب والفضة، وترك لأفرادها حرية دفع ديونهم بأية عملة منهما شاءوا.

وإذ فرغت ألمانيا من الحرب السبعينية، وخرجت منها ظافرة، أرادت وضع نظام نقدي جديد يتفق مع نهضتها بالتحالف الجرماني بدلًا من النقود المختلفة الأوضاع التي تداولت فيه، فكنتَ ترى مثلًا سكونيا تتعامل بالجروش الفضية، وبرمن تتعامل بقطعة الريال الذهبية، وبينما الأقاليم الشمالية تصر على استعمال الريال الفضي، تتعصب الجنوبية لقطع متعددة من نقود الفضة اتصلت بتاريخها من قديم.

تكلف ألمانيا جماعة من الاقتصاديين فيها ببحث النظام النقدي؛ فيقترحون عليها أن تأخذ بقاعدة الذهب خصوصًا، وأنها حصلت على خمسة مليارات فرنك ذهبًا في الغرامة التي فرضتها على فرنسا.

أنفذت ألمانيا نظامها النقدي الجديد بقانون أصدرته سنة ١٨٧١ معتمدةً على قاعدة الذهب، فعلت ذلك وهي منتصرة عالية الكلمة في أوروبا، فكان منها عونًا لإنجلترا ذات الحول والطول، وصاحبة الأملاك الشاسعة على نشر قاعدة الذهب، وسرعان ما وجدت دول أخرى مثل السويد والنرويج والدانمرقه أنه لا مفر لها من أن تحذو حذو ألمانيا وإنجلترا، فلم تمضِ سنة ١٨٧٦ حتى كانت هذه الدول قد اعتمدت على قاعدة الذهب، أما هولاندا فجعلت تتردد إذ في سنة ١٨٧٣ تمنع ضرب الفضة تمهيدًا للأخذ بقاعدة الذهب، ثم ترجع في السنة التالية فتضرب الفضة، وأخيرًا تضطر بحكم ما بينها وبين دول الذهب من صلات أن تبيع ما عندها من فضة، وتشتري بثمنه ذهبًا لتتعامل به مع تلك الدول.

وتستمر ألمانيا في نهضتها المالية فتؤسس في سنة ١٨٧٥ الريشبنك؛ ليكون بنكًا مركزيًّا للبنوك الموزعة في التحالف الجرماني، ويمنح حق إصدار البنكنوت.

أنصار نظام المعدنين

وإذا كنا خلال النص الأخير من القرن التاسع عشر نجد العالم قد انقسم في صدد النقود إلى ثلاثة فرق؛ فريق في آسيا بزعامة الهند والصين، لا يعرف سوى نقود الفضة، وفريق في أوروبا بزعامة إنجلترا وألمانيا يعتمد على قاعدة الذهب، وفريق ثالث بعضه في أوروبا بزعامة فرنسا، وبعضه في أمريكا بزعامة الولايات المتحدة يتوسط بين هذين الفريقين فيتخذ الذهب والفضة معًا في نقوده، ويجعلهما على قدم المساواة في التعامل بين الناس.

ولما كان نظام المعدنين لا يصلح في دولة من الدول إذا انفردت به وسط دول أخرى لا تقره، فقد سعت فرنسا عند جارتها، وعند بعض بلاد تتصل معها بمصالح مالية وتجارية إلى عقد تحالف معهن في سنة ١٨٦٥ مكون منها ومن بلجيكا وإيطاليا، وسويسرا، سمي بالتحالف اللاتيني انضمت إليه اليونان بعد قليل، وتعاهدت كل دولة من هذه الدول على التمسك بنظام المعدنين مع قبول تداول القطعة الفضية ذات الخمسة فرنكات في بلادها تداولًا رسميًّا.

لكن تداول هذه القطع، وهي من عيار٠٫٩٠٠ في حرية تامة كما نص عليه في ذلك الاتفاق، سبَّب لهذه الدول أزمات ومتاعب في نقودها؛ لأن تجار الفضة والمتعاملين مع البلاد الآسيوية اقتنصوا هذه القطع بسهولة، واستفادوا من استعمالها مع البلاد الهندية، مما أرغم الدول المتعاهدة على إهمال ضربها.

أخلصت تلك الدول في أول الأمر، ونفذت ما تعاهدت عليه بدقة، ولكنها وقد أصيبت من جرائه بضرر بليغ، رجعت تحتال على التخلص من التحالف، تتظاهر بأنها تحترمه، وفي الواقع لا تتقيد به إذا اصطدم مع مصلحة من مصالحها، وهي معذورة في ذلك؛ لأن ألمانيا والبلاد التي اعتنقت الذهب باعت كميات كبيرةً من الفضة أنزلت سعرها في أسواق العالم.

استهدفت الهند للخطر بسبب نزول سعر الفضة، وباتت تجارتها رخيصة، وزادت أعباء الدين على الحكومة الهندية حتى أصبحت في سنة ١٨٨٠ لا تقدر على دفع ما يطلب منها من أقساط، واشتكى أيضًا الموظفون الإنجليز من أنهم عندما يقبضون مرتباتهم، ويحولونها إلى عملة ذهب تفقد كثيرًا من قيمتها.

ولم يكن الضرر الناجم من سقوط سعر الفضة قاصرًا على الهند والبلاد التي تتعامل بنقود الفضة، بل حاق شره المستطير بفرنسا، وحليفاتها اللاتين، ثم أوقع الولايات المتحدة في أزمة من أشد الأزمات التي مرت بها؛ فسعت هي وفرنسا لعقد مؤتمر عالمي في باريس سنة ١٨٨١ لبحث حالة النقود، وتوحيد نظمها بقدر الإمكان منعًا للأضرار التي تعود على التجارة الخارجية من وجود نظم متباينة، ولكن ذلك المؤتمر فشل تمامًا في مهمته؛ لتمسك كل من إنجلترا وألمانيا برأيهما في البقاء على الذهب، وعدم قبولهما أي مناقشة فيه.

سقوط الفضة

يأخذ الذهب في الانتصار على الفضة، وعلى نظام المعدنين فتقترب خاتمة الفضة، ويدنو أجلها إذ تتبع دولة إثر دولة أخرى قاعدة الذهب.

فمصر وعلاقاتها السياسية والتجارية بالإنجليز كما تعلم وثيقة لم يسعها إلَّا أن تأخذ بنظام قاعدة الذهب في التعديل الذي أدخلته سنة ١٨٨٥ على نظامها النقدي، ذلك التعديل الذي أنزلت به وزن الجنيه المصري إلى٨٫٥٠ جرامًا، ونصت فيه على أن الفضة لا تكون ملزمةً قانونًا في دفع الديون إلَّا لغاية ٢٠٠ قرش، وما زاد عن ذلك المبلغ وجب الدفع بالعملة الذهبية، وهي تحافظ على هذه الروح عندما تصرح للبنك الأهلي في دكريتو سنة ١٨٩٨ أن يصدر بنكنوتًا فتلزمه أن يستبدل ورقه بالذهب متى طلب منه ذلك، وأن يستعمل في غطائه رصيدًا من الذهب بقيمة النصف.

وتسمح كثرة الذهب في المعاملات للنمسا والمجر أن تعتنق قاعدة الذهب في سنة ١٨٩٢ بينما تتدرج الروسيا في نظام إلى آخر حتى تضع نظامها الأخير في سنة ١٨٩٩ على قاعدة الذهب، وكذلك فعلت اليابان، أما الهند فإنها أوقفت حرية ضرب القطع الفضية في سنة ١٨٩٣، ثم جاءت في سنة ١٨٩٩ فجعلت للجنيه الإنجليزي القوة المبرئة في المعاملات، بعد أن سعرته رسميًّا بمبلغ ١٥ روبيةً أخذًا بمقترحات اللجنة الاقتصادية التي عهدت إليها بإصلاح مالية بلادها، وتخرج الهند هي الأخرى من نظام المعدن الواحد الفضي إلى النظام المعروف عند كتاب الاقتصاد بنظام المعدنين الأعرج.

وتبدأ الولايات المتحدة في التقليل من ضرب الفضة التي يهوي سعرها يومًا عن يوم، وتفهم أن سياسة الدفاع عن الفضة التي سيقت إليها بواسطة أصحاب مناجم الفضة سياسة مخطئة غير مجدية، ويفوز في الانتخابات لرياسة جمهوريتها المستر ماكنيلي الذي كان قد أعلن في برنامجه الانتخابي أنه سيعدل نظام البلاد بما يتمشى مع الروح السائدة في عصره، ويرسل هذا الرئيس لجنة إلى أوروبا لتبحث حالتها الاقتصادية والنقدية ليستأنس بها في الإصلاح الذي يريد إدخاله على نظام بلاده، وهو آمن عليها في علاقاتها مع الدول الأوروبية، وترى تلك اللجنة — ومعها فريق كبير من النواب — أن تعتمد الولايات المتحدة على قاعدة الذهب؛ فيصدر بذلك قانون في سنة ١٩٠٠ ينص على اعتبار الدولار الذهبي وحدة التعامل.

ولا يطول الحال، بالمكسيك مع أنها من أكبر الدول إنتاجًا للفضة حتى ترى نفسها مضطرةً إلى اتخاذ قاعدة الذهب.

فإذا جاء القرن العشرين ألفيت الذهب قد صرع الفضة، فسقطت قيمتها سقوطًا لا عهد للعالم بمثله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤