الفصل الثامن

عهد الورق

انقلاب النظم النقدية والمالية

أفسدت الحرب قواعد الاقتصاد، وفنون المال، وتناولتها بتغيرات جوهرية قلبتها رأسًا على عقب؛ ففي النقود أودت بقاعدة الذهب فانهار الأساس الذي كانت العملات المختلفة تبني عليه تحديد أسعار كل منها بالنسبة للأخرى، طبقًا لما تحتويه من ذلك المعدن النفيس، ورفعت الحد الذي كان غطاء الذهب يقيمه في وجه النقود الورقية فانطلقت هذه النقود الورقية تارةً من الحكومات، وطورًا من البنوك المركزية تغرق الناس بكثرة لم يعهدوها في النقود.

ويستتبع كثرة النقود ارتفاع في أسعار السلع، وتقلب في أثمانها يختلف في دولة عنه في دولة أخرى؛ لاختلاف أسعار النقود وتقلبات صرفها، حتى لتباع سلعة من السلع في دولة بأضعاف الثمن الذي تباع به في غيرها من الدول؛ لأن سعر العملة مختلف، ولأن الحاجة إلى السلعة أيضًا تختلف.

وتنزل الحرب بالصناعة ضربةً قاصمةً؛ فتحول المصانع إلى ما يخرج عدد القتال، وينفع المحاربين في هزم عدوهم، ويضيق الحصار على كل شعب فيجعله يحاول إنتاج ما يحتاج إليه؛ فتفقد التخصص في الصناعة والإنتاج، ويضيع التعاون البديع الذي انتهى إليه العالم قبل الحرب.

وتفرط الدول والأفراد في الاستدانة، وعقد القروض غير المنتجة التي تعرف عند الاقتصاديين بالقروض العقيمة؛ لأنها لا تصرف على إنتاج مفيد للإنسان في سد حاجة من حاجاته، وإنما تنفق على شهوات ورغبات طارئة.

وتؤثر الحرب على الأوراق المالية فيبيع الأفراد والحكومات ما يملكونه من الأوراق الأجنبية، ويحولون ثمنه إلى بلادهم ليدخروه، أو ليشتروا به أوراقًا من أوراق بلادهم خائفين من استثمار نقودهم في الخارج، أو مدفوعين إلى ذلك بعاطفة وطنية، أو بضغط من حكومتهم، وقد تخلبهم شروط تضعها الدول لترغبهم في الإقبال على سنداتها، ثم يتضح لهم بعد ذلك أنهم خدعوا؛ لأن الدول لا تتقيد بشروطها.

وتخرج الحكومات قوانين تعرف بقوانين منع مهاجرة رأس المال؛ تمنع بها تصدير المال للخارج إلا بتصريح منها، وتحصر هذا التصدير والتعامل مع الخارج في بنوكها المركزية، التي لا تستطيع إخراج حوالات عادية فتستعمل الحوالات البرقية؛ لتحفظ نفسها من خطر سقوط العملة، أو ضياع الحوالات في الطريق.

وليت هذه البنوك المركزية تتصرف بحرية تامة في إدارة شئونها ليمكنها أن توازن بين مقدار النقود وبين الائتمان، لكنها تخضع بطريق غير مباشر لرجال السياسة والعسكرية الذين لا يفقهون من أمر النقد شيئًا، ولا يهمهم إلا زيادة النقود للإنفاق على الحرب، أو إعداد رخاء موهوم.

مؤتمر بروكسل وجنوه

وإذ تضع الحرب أوزارها تتعين على الدول أن ترجع في أقرب وقت إلى الحالة الطبيعية لتستأنف نشاطها الاقتصادي، وتسترد علاقاتها التجارية بعد زوال تناصرها الحربي، ولكن كيف يمكنها الرجوع إلى الحالات العادية والنقود غير نامية لا يضبطها ضابط، ولا تحكمها قواعد.

نقود من الورق منتشرة في كل دولة منها ما هو صادر من البنوك المركزية، ومنها ما هو صادر من الحكومات، وقروض قدمتها الأفراد والبنوك المركزية للحكومات، والحكومات تدفع ربح وأقساط ديونها بالورق، وتصرح للبنوك المركزية أن تتخذ من سندات هذه الديون غطاءً لما تصدره من بنكنوت؛ فيأتي التضخم من كل ناحية؛ تضخم في الإصدار وتضخم في الائتمان.

عجلت الدول بعقد المؤتمرات لبحث الموقف، ووصف العلاج الذي يقتضيه، واجتمع لهذا الغرض مؤتمران؛ أولهما في بروكسل سنة ١٩٢٠، وثانيهما في جنوه سنة ١٩٢٢.

خرجنا من المؤتمر الأول بقرارات يدعو فيها الدول إلى منع التضخم، وسرعة الرجوع إلى قاعدة الذهب مع ضرورة قيام بنك مركزي في كل دولة، ولم يغب عن المؤتمر صعوبة منع التضخم فجأةً، فألفت نظر الدول إلى التحوط في هذا السبيل مع التدرج في العمل حتى تصل إلى قاعدة الذهب بغير أن تحدث أزمة من طفرة العود إلى الذهب الذي رأى المؤتمر أن المخرج الوحيد للعالم من وهدته المالية لا يكون إلَّا باتخاذ قاعدته.

وجاء المؤتمر الثاني فكرر هذه المقترحات وأكبرها، ثم نادى بضرورة توازن الميزانيات والاقتصاد في النفقات العامة، ولكنه انفرد باقتراح احتياطي له خطورته، وهو بتنقيص العملة وتثبيتها على سعر جديد، إذا استحال الرجوع بها إلى السعر القديم، ولقد تأثر الفرنسيون والإيطاليون والبلجيكيون بهذا الرأي الجديد عندما أرادوا تثبيت عملاتهم، بعكس الإنجليز الذين أبى عليهم كبرياؤهم إجراء أي نقص في عملتهم عندما رجعوا إلى قاعدة الذهب.

ومما يجب التنويه به في هذا الصدد أن إنجلترا لم تكن أولى الدول رجوعًا إلى الذهب على أساس السعر القديم بعملتها، بل كانت الأولى نيكارجوا التي رجعت في سنة ١٩١٥، ثم سلفادور في سنة ١٩٢٠، ثم كولومبيا في سنة ١٩٢٤، أما إنجلترا فقد عادت إلى الذهب في سنة ١٩٢٥، ولكنها جرت وراءها باقي بلاد العالم في العودة على إثرها إلى قاعدة الذهب.

ومن الدول التي عادت إلى الذهب، ولكن بتعديل عملتها إلى وزن أو نوع جديد النمسا في سنة ١٩٢٢، ثم لاتافيا، وبعدهما الروسيا سنتي ١٩٢٣ ١٩٢٤، ثم المجر، وفنلندا في سنة ١٩٢٥، وبلجيكا في سنة ١٩٢٦، وإيطاليا في سنة ١٩٢٧، وفرنسا في سنة ١٩٢٨.

ولا توجد عملة بين عملات العالم لاقت ما لقيه المارك الألماني من محن قضى بسببها، ثم بعث خلقًا جديدًا؛ لذلك سنتكلم عليه بإسهاب باعتباره النموذج الذي تدرس تحت ضوئه أضرار التضخم النقدي ومنافعه، وسنتكلم أيضًا على النموذج العكسي من حالة التقلص الذي حدث لإنجلترا بسبب رجوعها إلى قاعدة الذهب، ثم نختار من العملات التي ثبتت على سعر أقل من سعرها السابق، الفرنك الفرنسي؛ لنعرف منه قيمة الرأي القائل بالتثبيت على سعر أقل إذا تعذر الرجوع إلى السعر القديم.

أثر تضخم المارك في الإنتاج

ليس تضخم النقود بالضار لذاته، فلو أنه وقف عند الحد المعقول لأفاد، وإلى التضخم يرجع الفضل في قيام المشروعات الكبيرة الجريئة؛ كبناء الضواحي، وإنشاء الشركات العظيمة للتجارة والصناعة، ولكن التضخم مضر غاية الضرر إذا زاد عن الحد الواجب، فأفلتت النقود من يد القابضين على زمامها، فكثرت كثرة تسقط قيمتها، وتعلي قيمة ما تمثله من ثروات وأرزاق، تلك سنة هذا الكون؛ كل شيء يزيد فيه عن حده ينقلب إلى ضده، ولو كان نعمة الحياة وزينتها.

لقد جن المنتجون في ألمانيا بالإنتاج أثناء الكثرة المضطردة في إصدار المارك، تلك الكثرة التي كانت تجعل أسعار السلع في صعود مضطرد أيضًا؛ فكل سلعة تباع بأكثر مما تكلفت في إنتاجها بسبب الزيادة المتوالية في إصدار النقود، وتزيد قابلية المستهلكين على الاستهلاك؛ لأنهم يملكون نقودًا جمةً لا يعرفون ماذا يفعلون بها، وماذا يكون شأنها في غدهم، ويأخذ الناس في شراء الضروريات؛ أولًا لأنها لازمة لهم، ثم يلجون باب الكماليات والأشياء غير اللازمة، ويستكثرون من السلع مهما كان نوعها؛ لأنها على كل حال خير من النقود التي تنحط قيمتها، وتفقد قوتها الشرائية من يوم إلى آخر.

وترى الأمم الأجنبية نزول سعر المارك فتهجم على السلع الألمانية؛ لتستفيد من رخص أثمانها بحساب سعر العملة، فيشتري الإنجليزي مثلًا سلعة من سلع الألمان بنصف جنيه يدفعه بالماركات، بينما لو أراد شراء سلعة مماثلة لها في إنجلترا لدفع فيها عشرة جنيهات.

تزيد الطلبات من الداخل والخارج، فلا يجد الألمان بدًّا من توسيع مصانعهم وزيادة عددها؛ ليسرعوا في إخراج المصنوعات، وجني الربح المتدفق، وتنظم المصانع تنظيمًا حديثًا تدار فيه بالكهرباء بدل الفحم؛ اقتصادًا في النفقات، وإكثارًا للمقطوعية حتى ليصبح مقدار الكيلووات المستخدمة في مصانع ألمانيا سنة ١٩٢٣، وبعد ثلاث سنوات من انتهاء الحرب ضعف ما كانت عليه قبل الحرب، وتزيد كمية الأسمدة الكيميائية المستخرجة من مصانع ألمانيا بمقدار ١٧٣٪ في تلك المدة، ولا يدخل في هذا التقدير طبعًا ما فقدته ألمانيا من أرض بسبب معاهدات الصلح.

ولكن المكاسب الفاحشة والأموال الطائلة التي أصابها الألمان من إنتاجهم في تلك الظروف كانت وهمًا خادعًا لا وجود له في الواقع؛ لأنها بعملة الورق المتدهورة القيمة، تلك حقيقة مؤلمة تتبينها المصانع الألمانية، وتدرك منها أنه ما دامت ثروتها بالمارك فهي والعدم سواء، فلا تتعامل مع الخارج إلا بعملة محترمة كالجنيه، أو الدولار، أو الفرنك السويسري، وتحرم الحكومة كل إتجار مع البلاد الأجنبية يكون أساسه الدفع مباشرةً بالمارك، وتحصر في بنك الريخ كل الحوالات التي تلزم للتعامل مع الخارج، وتقصد الحكومة من ذلك أن تدافع عن المارك، وأن تمنع الأجانب من اغتيال السلع الألمانية، ولا شيء أقتل للمارك من الحالة التي تزهد الألمان في عملتهم، وتجعلهم يرغبون عنها إلى العملات الأجنبية، وليس بعد في وسع أحد أن يمنع الموت عن المارك؛ فقد أصبح موته بهذه الكيفية السامة محتمًا.

ويحتال أصحاب المصانع الكبيرة على الخروج من هذا الموقف العسير بكل ما يمكنهم من الطرق، فيترسمون نقل مصانعهم إلى الدول المجاورة لألمانيا، ولكن الحكومة الألمانية تمنعهم من ذلك؛ لأنها تعتبر عملهم إخراجًا للثروة القومية وإفلاسًا لرأس المال الألماني، فينشئ أصحاب المصانع ذات السمعة الدولية مصانعًا جديدةً في الخارج مدعين أنها مجرد فروع لمصانعهم الرئيسية الباقية في ألمانيا صوريًّا، بينما تشتغل الفروع بهمة وجد حتى لتكون في الواقع هي المصانع الألمانية الحقيقية تستصدر عند اللزوم فواتير، وشهادات من مركزها الوهمي في ألمانيا الذي أصبح فقط مكتبًا لإدارتها تتهرب وراءه من نصوص القانون.

الأسهم والسندات في تضخم المارك

تقل الرغبة أثناء تضخم العملة في اقتناء السندات الأهلية والحكومية؛ لأن السندات تعطي ربحًا ثابتًا مقدرًا فيها، بعكس الأسهم يزيد إقبال الناس على شرائها واقتنائها؛ لأن ما تعطيه من ربح يصعد بصعود أرباح الشركات المصدرة لها، وقد رأينا في فترة التضخم الذي حدث بعد الحرب شركات صرفت لمساهميها ربحًا فاق ما دفعوه في شراء أسهمها، وهناك سبب آخر يدعو الناس إلى امتلاك الأسهم عند تضخم النقود، وهو كون مالك السهم يعتبر مالكًا على الشيوع بقيمة أسهمه من موجودات الشركة عندما تصفي، ويدفع ما عليها من ديون، والملكية في موجودات الشركة بهذه الكيفية يعتبرها بعض الناس نوعًا من التأمين ضد تضخم العملة ونزول قيمتها.

وتكون النتيجة أن عدد الشركات المساهمة، ورءوس الأموال المستغلة في الشركات المساهمة يزيد في أوقات التضخم، وهذا ما حدث في ألمانيا؛ ففي كل يوم شركات تنشأ، وفي كل يوم شركات تزيد في رأس مالها بإصدار أسهم جديدة، وإذا استثنينا شئون الملاحة التي لم يستطع الألمان استئنافها مباشرة عقب الحرب فإن عدد ورءوس أموال شركات الصناعة والتجارة في ألمانيا صارا إلى كثرة هائلة لا تقاس بما كانت عليه قبل الحرب، بل غدت هذه الشركات فوق مطالب الألمان واستعدادهم.

ولما كان أغلب الشركات الحديثة شركات فجة التكوين لم تدرس مشاريعها الدراسة الكافية، فقد أخذت هذه الشركات تنافس الشركات القديمة ذات الخبرة والمران منافسةً غير مشروعة؛ لذلك اضطرت بعض الشركات القديمة دفاعًا عن نفسها أن تتحد أو تندمج في بعضها في شكل Konzern أو Aktienaustausch لتنتصر على على تلك الشركات الجديدة التي أملتها المجازفات التي تصحب عادة تضخم النقود.
وقد انتهز أيضًا بعض الرأسمالين الأجانب فرصة نزول سعر المارك بالنسبة لعملاتهم، فاشتروا أسهمًا وسندات في بعض شركات الصناعة والمناجم الألمانية، ولما رأت الحكومة الألمانية الخطر الذي أصبح يهدد الثروة الألمانية من جراء ذلك الشراء حرمته على الأجانب إلا إذا دفعوا الثمن بعملة تستند إلى الذهب، وسنت أيضًا قانونًا جعلت به أصوات المساهمين الألمان مفضلةً، وأسهمهم محميةً Schutzaktien.

ارتفاع الأسعار والأجور في تضخم المارك

إذا كانت كثرة النقود في بلد من البلاد من شأنها حتى في الأوقات العادية أن ترفع الأسعار والأجور فيه؛ لأن النقود ثمن المبيعات، وتقدير لقيم الأعمال، فكيف يفعل تلك الكثرة في النقود إذا وصلت إلى أرقام فلكية في دولة مدينة مهزومة كألمانيا.

لا مفر في مثل تلك الظروف التي كان يتوالى فيها يوميًّا زيادة النقود بالملايين المارك من أن ترتفع الأسعار والأجور ونفقات المعيشة ارتفاعًا غير طبيعي لم يسمع بمثله، ولا مفر من أن يطالب العمال برفع أجورهم كلما زادت الأسعار.

ومن غرائب تلك الأوقات الشاذة أن يكون ارتفاع الأسعار غير منطقي، فتبلغ في أكتوبر سنة ١٩٢١ أسعار الجملة ٤٤٠٠٠ بينما أسعار التجزئة لا تبلغ إلا ٢٨٠٠٠، والأدهى من ذلك أن يكون مستوى الأجر في تلك المدة متراوحًا بين ١٧٠٠٠، وبين ٢٠٠٠٠، ومن غير الطبيعي أن يستطيع عامل أن يقتات، وأن ينفق على نفسه وعائلته، وقد نقصت قدرته على الشراء، وأصبح فوق ذلك مهددًا بالعطل نظرًا لتقدم المستحدثات الميكانيكية.

وكلما ارتفعت نفقات المعيشة كلما طالب العمال والموظفون برفع أجورهم، ولا تجري الزيادة في الأجور والمرتبات بنسبة واحدة، فإذا اعتبرنا سنة ١٩١٣ = ١٠٠ فإن نفقات المعيشة قد زادت في أكتوبر سنة ١٩٢٣ إلى حد جنوني بلغ ٢٨٥٤٠٠، بينما بلغت زيادة العامل غير الماهر ١٨٥٢٠٠، وزيادة العامل المتوسط المهارة ١٤٢٧٠٠، وزيادة العامل الماهر ١٣٤١٠٠، ومثل هذا الاختلاف في الارتفاع حدث بالنسبة للموظفين؛ فقد زادت مرتبات صغارهم ١٤٧٥٠٠، وزادت مرتبات المتوسطين منهم ٩٧٤٠٠ بينما لكبار الموظفين زادت مرتباتهم فقط ٧٨٣٠٠.

ولا تحسبن العامل أو الموظف قد أصبح غنيًّا؛ لأنه كان يقبض مئات الألوف أو ملايين الماركات، فقد كان في شظف من العيش لا يقارن مستواه بالمستوى الذي كان عليه قبل الحرب حين كان يقبض مئات الماركات، وإنه لفقير معدم إذا قيس إلى زميله في إنجلترا أو أمريكا.

ولقد نشأ عن اختلال الأقيسة في الزيادات والنسب بين الأجور إخلال خطير بالفروق بين الطبقات التي تتكون منها مجموعة الأمة الألمانية هدد كيانها الاجتماعي، ومس ناحية الذمة من الموظف الذي كان مرتبه قبل الحرب مثلًا أضعاف مرتب عامل معين؛ فصار في تدهور المارك مرتبه لا يوازي مرتب ذلك العامل، وكان أشقى الناس بتلك الحالة السيئة جماعة من المهذبين من رجال الأعمال الحرة كالمحامين والأطباء، وأساتذة الجامعات أصيبوا من اختلال نسب الأرزاق بالكوارث، ولم تصعد أجورهم كما صعدت أجور غيرهم فصاروا مضرب المثل على الفاقة، وقيل عن بؤسهم «البؤس العلمي»، وقد انتحر بعضهم؛ لأنه لم يستطع احتمال تلك الحياة المريرة.

وفي منتصف سنة ١٩٢٣ كانت الأسعار تتغير مرتين في اليوم الواحد، وكان الارتفاع يجرى طبقًا لنزول قيمة المارك في البورصات.

تحرج موقف الأجانب في ألمانيا، ونظر لهم الألمان نظرة حقد؛ لأنهم جاءوا يستفيدون من تدهور المارك، ويزاحمون الوطنيين في أرزاقهم، وهي ضيقة في تلك الظروف، وقد عالجت الحكومة الألمانية ذلك الموقف بوضع تعريفة لنفقات الأجانب المقيمين في ألمانيا والنازحين إليها ابتغاء الكسب، فرضت بها على هؤلاء الأجانب أن يدفعوا أسعار غير التي يدفعها الألماني مضاعفةً آلاف المرات، وأصدرت الحكومة أيضًا قانونًا تمنع به شراء الأجانب للسلع الثمينة والعدد الفنية التي امتازت بها ألمانيا كالعدسات والآلات الحاسبة، وحرمت تصديرها، وتصدير المعادن النفيسة والأحجار الكريمة إلا بتصريح خاص من وزير المالية بعد دفع ثمنها بالذهب أو بعملة تستند إلى الذهب، والحكومة الألمانية على حق فيما فعلت، ولولا ذلك لاستنزف الأجانب ثروة ألمانيا، ونقلوا منها ما يستطاع نقله إلى بلادهم.

البنوك الألمانية في تضخم المارك

الشعب الألماني شعب اقتصاد وتوفير وصناعة، وقد تعود عدة أنواع من البنوك منها بنوك للأعمال تشترك في الصناعة والتجارة، ومنها بنوك للودائع، ومنها بنوك عمومية كبيرة، ومنها بنوك عقارية.

ولما تدهور المارك كثرت الودائع في البنوك كثرةً هائلةً تخمت بها تلك البنوك، ولم تعد تستطيع تشغيلها في الأعمال العادية، فانصرف بعض هذه البنوك إلى عمليات غير قويمة، فكان يلجأ إلى المضاربات، وبعضها اندفع إلى المشاريع الخلابة والمجازفات فأفلس.

أما البنوك الكبيرة، وأيضًا البنوك العمومية التي كانت قديمًا من مؤسسات الدول الجرمانية، فقد استمرت في أعمالها تحت إشراف بنك الريخ وبإرشاده، كما أمرتها الحكومة التي حصرت في ذلك البنك كل سلطة لتلقي عليه التوجيه الذي تتطلبه الظروف وتمكنه من السيطرة على الذهب اللازم في المعاملات الدولية.

وفي أثناء الفترة التي زاد فيها طوفان المارك ضاعت فيه الثقة حين تبادل البعض السلع، وعقدت بعض الشركات عقودها على أساس سعر الفحم أو القمح؛ ففقد بذلك النقد عندهم وظيفته في تقدير القيم.

وقد حدثت متاعب جمة لتلك البنوك العامة أثناء تضخم المارك وتدهوره؛ نظرًا لتأخير تحصيل الضرائب في أوقات كانت ميزانية ألمانيا يطرد فيها العجز الهائل شهرًا عن شهر حتى لم يكن أمامها سوى الإفلاس كما سنذكره بعد قليل.

وإذا استطاعت البنوك العمومية، وبعض البنوك الأخرى الهامة أن تنجو بعد التضحيات والخسائر التي منيت بها، فإن البنوك العقارية لم تقوَ على البقاء؛ فقد دفع لها مدينوها ما عليهم بعملة قانونية مبرئة للذمم، مستفيدين من كثرتها وتدهور قيمتها، ولم يكن أمام هذه البنوك سوى تصفية أعمالها، وحل شركاتها أو تحويلها إلى شركات تتجر في أراضي البناء أو الزراعة.

اختلال ميزانية ألمانيا وإفلاس حكومتها

لا تستطيع أية حكومة في مثل موقف الحكومة الألمانية أن تسير بغير أن تختل ميزانيتها، ويحدث لها ارتباك خطير.

وكل تقدير إنما هو رجم بالغيب؛ لأن الصعود المطرد في الأجور والأسعار لا يعرف مداه، ولا يمكن التنبؤ به، وبالرغم من ذلك فقد استطاعت الحكومة الألمانية حتى في أوقات النزول النسبي في قيمة المارك أن تدير ميزانية متوازنة، ولكن التعويضات الباهضة التي فرضتها معاهدة الصلح جعلت من المستحيل على ألمانيا أن تسد العجز الذي أرهقت من أجل سداده شعبها بمختلف الضرائب.

وقد بلغ العجز ١٧ مليار مارك في أبريل سنة ١٩٢٢، وأخذ يزداد حتى بلغ ١٨٨ مليار في ديسمبر من تلك السنة، ثم جرى في صعوده حتى صار ٤٥٠ مليار في مارس سنة ١٩٢٣، وقد أرادت الحكومة أن تجرب طريقة زيادة الضرائب بنسبة هبوط المارك؛ فأصدرت قانونًا في ذلك الشهر تأمر به جباة الضرائب أن يراعوا عند تحصيلها قيمة هبوط المارك، وكان هذا القانون غلطةً كبرى؛ فقد استحال عليهم تنفيذه، وكان أيضًا بمثابة إشهار للإفلاس العام.

الرانتنمارك

ساء مركز الألمان حكومةً وشعبًا حين بلغ المتداول في بلادهم من النقود الورقية الصادرة من بنك الريخ والحكومة حدَّ الحصر؛ فإن كان بعضهم قد قدَّره في أكتوبر سنة ١٩٢٣ بمبلغ ٤٠٠ مليار المليارات مارك، فذلك تقدير لا يمكن الأخذ به؛ لأن كل تقدير في مثل تلك الفوضى كان مستحيلًا، وقد كانت نفقات طبع البنكنوت أكثر من قيمته، فكان البنك يضيف أصفارًا إلى يمين الرقم المكتوب على البنكنوت.

تلك حال لا يمكن أن تدوم، فلا بد من الإفلاس العام، وتسوية الموقف بتصفية، ولا سبيل إلى ذلك إلا بإخراج عملة جديدة، وقطع الصلة بالمارك المعدوم القيمة.

وقد سنت الحكومة الألمانية لهذا الغرض قانونًا في ٥ أكتوبر سنة ١٩٢٣ بتأسيس بنك سمي Rnten Bank ليصدر ٣٢٠٠ مليون مارك جديدةً سميت رانتنمارك Renten Mark جعلت كل مارك منها توازي في التعامل بليون مارك في الماركات القديمة، وجعلت كل أربعة ماركات من هذه الرانتنمارك موازيةً في الصرف دولارًا واحدًا، وهذا العمل يعتبر نوعًا من أنواع تثبيت العملة بتعليقها في الصرف على سعر عملة أجنبية، وهو تثبيت تتبعه الدول التي لا يوجد عندها مقدار كافٍ من المعادن النفيسة يسمح لها بتثبيت عملتها.
وخصص ذلك القانون لغطاء وضمان الماركات الجديدة رهنًا على طائفة من أهم موارد ألمانيا الزراعية والتجارية والصناعية، وأجاز ذلك القانون للبنك المذكور أن يصدر خطابات لحاملها Rentenbrief ذات فائدة ليقبل الناس على امتلاكها، وكانت هذه الخطابات قريبة الشبه بالأوراق التي أصدرتها الثورة الفرنسية Assignats من حيث كون حامل هذه الخطابات كان له الحق في الحصول على فائدة، وكان دينه مضمونًا برهن على أملاك الدولة، ولكن هذه الخطابات لم تسقط كما سقط ورق الثورة بفعل كثرة إصداره وقلة غطائه، ثم إن الحلفاء لم يقبلوا الرانتنمارك، وأجبروا ألمانيا على اتخاذ عملة الذهب كما سنبينه في الفصل التاسع.

هل أفادت ألمانيا من تدهور المارك؟

يرى كتاب الاقتصاد من غير الألمان أن ألمانيا قد جنت من تدهور المارك الفوائد الآتية:
  • (١)

    دخول أموال طائلة من الخارج.

  • (٢)

    إنقاص الحكومة أعباء الدين العام.

  • (٣)

    تحسين الصناعة الألمانية.

  • (٤)

    تقليل العطل بين العمال.

  • (٥)

    نشاط الصادرات.

ويرى كتاب الألمان أن ألمانيا قد أصابها ضرر بليغ من تدهور المارك قضى عليها بالاضطراب عدة سنوات، وأضر بتقدمها السياسي والاجتماعي.

ونرى أن الرأيين كلاهما على صواب في بعض نواحيه، فقد أفادت ألمانيا وضرت من تدهور المارك.

لا جدال في أن ألمانيا دخلتها أموال طائلة من الخارج اشترى أصحابها السلع الألمانية، أو ضاربوا بها في سعر المارك الذي اعتقدوا أن ثمنه سيرتفع؛ فالذين اشتروا سلعًا من ألمانيا قد أخذوا منها بضاعةً ربما كانت قيمتها فوق ما دفعوه ثمنًا لها.

والذين ضاربوا في المارك من المؤكد أن ألمانيا لا تسأل عن جميع ما خسروه في تلك المضاربة؛ لأن معظم الربح فيها عاد على المضاربين الدوليين، وقد بذلت الحكومة الألمانية جهدها لتمنع تدهور المارك؛ فسنت القوانين الصارمة لعقاب من يبيعه بأقل من سعره، وحصرت صرفه في البنوك الكبيرة لتأمن العبث به، ولكن بعض اليهود كانوا يبيعونه بيع السماح فأسقطوه، ولعل ذلك من أسباب كراهية الألمان لليهود.

أما أن الصناعة الألمانية قد تقدمت فهذا حق لا شك فيه؛ لأن التضخم يلهب الصناعة، ويمكن أصحاب المصانع من تجديدها؛ لأنه يبعث على النشاط والجرأة.

وأما أن العمال قد قل العطل بينهم فهذا أيضًا صحيح؛ لأن الإنتاج قد نشط بفعل التضخم، ولكن رد الفعل الذي يحدث بعد ذلك يزيد العاطلين، ويفضي إلى مشاكل خطيرة.

وأما أن الحكومة الألمانية قد كسبت من سقوط المارك جعل ما عليها للشعب الألماني الذي يحمل سنداتها يصبح في حكم العدم فهذا صحيح أيضًا، ولكن الحكومة الألمانية التي كان دينها عند انتهاء الحرب ١٥٠ مليار مارك كانت تنفق يوميًّا ١٦٥ مليار مارك، ويقول في هذا الصدد الأستاذ هلفريش Helfferich دفاعًا عن ألمانيا: «إنها لم تغنَ من دائنيها إلا بمقدار ما يستفيد المفلس من خسارة دائنه.»

ومهما يكن من مكاسب الألمان قلت أو كثرت، فإنهم قد تحملوا البؤس والشقاء وقتًا طويلًا، ونكبوا بالمبادئ الهدامة والنزعات الثورية، ومرت عليهم ظروف قاسية لو مرت على غيرهم لأصيب بالانحلال الذي لا تقوم من بعده قائمة لشعب مهزوم.

تقرير لجنة كنليف في إنجلترا

أما الإنجليز فقد ساروا عقب الحرب الماضية على عكس السياسة التي سارت عليها أغلب الدول؛ لأن ظروفهم الطيبة مكنتهم من اتباع تلك السياسة؛ فقد أخذوا ينقصون كمية المتداول من النقود عملًا برأي لجنة كنليف التي كانت حكومتهم قد شكلتها سنة ١٩١٨ برئاسة Lord Cunliffe محافظ بنك إنجلترا لبحث شئون العملة.
وقد أشارت تلك اللجنة على الحكومة البريطانية أن تعمل جهدها لإنقاص المتدوال من ورقها المسمى Currency note كما حضتها على اتخاذ كل ما يمكن اتخاذه من الإجراءات لتقليل حجم النقود في إنجلترا، مع الاستزادة من غطاء الذهب؛ ليمكن إرجاع الجنيه الإنجليزي إلى سعره السابق الذي كان عليه قبل الحرب.

ورأت اللجنة أيضًا أنه لا محل لوجود مصدرين للنقود في إنجلترا أحدهما الحكومة والآخر بنك إنجلترا؛ فاقترحت توحيد المصدر بأن تضيف الحكومة ورقها إلى حساب بنك إنجلترا مع ضمانة للبنك بسندات من سندات الدين العام.

ولفتت اللجنة نظر الحكومة البريطانية إلى ضرورة التدرج في إنقاص النقود حتى لا يحدث للبلاد ضرر، وقالت بأن يُدرس في آخر كل سنة مقدار النقود المتداولة، ثم يُبنى على هذا الدرس التخفيض الذي يتبع في السنة التالية.

وشددت اللجنة على الحكومة البريطانية في موازنة ميزانيتها بدقة مع تنمية مواردها بزيادة الضرائب إذا اقتضى الأمر زيادتها، وإنشاء صندوق لاستهلاك الديون مع تقليل الاقتراض من بنك إنجلترا.

تلك السياسة التي رسمتها لجنة كنليف هي بالذات السياسة الكلاسيكية للتقلص عن طريق تنقيص النقود والقروض، وزيادة الضرائب لامتصاص الزائد من الأموال.

إنجلترا تنفذ سياسة التقلص

وقد اعتبرت الحكومة الإنجليزية تلك السياسة التي رسمتها لجنة كنليف بمثابة دستور مالي للحكومة يجب تنفيذه بدقة وإخلاص، وأعلن وزير المالية الإنجليزية في البرلمان سنة ١٩٢٠ أن الحكومة البريطانية قد أخذت في التنفيذ، وأنها قد أنقصت بالفعل حجم المتداول من ورقها النقدي.

وثبت من إحصائيات السنين التالية مبلغ نجاح تلك الحكومة في إنقاص المتداول من ورقها؛ فقد كان المتداول من ورق الحكومة في يناير سنة ١٩٢١ مقداره ٣٥٧٩٣٨٠٠٠ جنيه، فصار في فبراير سنة ١٩٢٢ مقداره ٣١٨١٣٤٠٠٠ جنيه، ثم نزل في يناير ١٩٢٣ فصار ٣١٨١٣٤٠٠٠ جنيه، ثم صار في يوليو سنة ١٩٢٣ مقداره ٢٨٧٧٦٩٠٠٠ جنيه.

وكذلك نجحت الحكومة البريطانية في تنقيص قيمة دينها الذي كان في سنة ١٩١٩ بحد الملايين ٨٠٣٣ جنيه، فصار ديسمبر ١٩٢٢ بحد الملايين ٧٧٦٨ جنيه، ولا جدال في أن إنقاص الدين البريطاني بتلك الكيفية اعتبر نوعًا من المهارة المالية؛ لأن الحكومة البريطانية فضلًا عن قيامها بدفع الأقساط المستحقة عليها في مواعيدها قد حولت كثيرًا من الديون السائرة إلى ديون طويلة الأجل في وقت أخذت تباشر فيه تقليل المتداول من النقود في بلادها.

مصر تبدأ نهضتها

فقدت مصر أثناء الحرب الماضية استقلالها السياسي بالحماية التي فرضتها عليها إنجلترا، كما فقدت استقلالها المالي بتصريح الحكومة المصرية للبنك الأهلي بأن يتخذ السندات البريطانية غطاءً بدل الذهب فيما يصدره من بنكنوت.

والسياسة البريطانية هي المسئولة عن ذلك؛ لأن المستشار المالي هو الذي أجبر وزارة رشدي باشا على ذلك التصرف، وهو الذي جعل البنك الأهلي يبيع إلى إنجلترا ما قيمته خمسة ملايين جنيه ذهبًا، ويصدر لها كل ما أمكن جمعه من ذهب مصر بمختلف الوسائل التي بلغت أحيانًا حد العسف.

وكان من النتائج الحتمية لتلك السياسة أن أصبحت نقود مصر لا تخضع لظروفها، ولا تسير طبق حاجاتها بل تخضع لظروف إنجلترا، وتسير طبق سياستها المالية.

ولم يقف الأمر عند حد اتخاذ السندات البريطانية غطاءً للبنكنوت، بل استثمر البنك الأهلي والبنوك الأخرى جانبًا من الودائع في سندات على الخزانة البريطانية قصيرة الأجل، ومن طبيعة هذه السندات القصيرة الأجل أن تزيد أو تنقص تبعًا لما تريده الخزانة البريطانية، ومن ثم كانت النقود المصرية تابعةً للمد والجزر الذي يحدث في مالية بريطانيا.

ومن الأدلة على ذلك أن يكون الميزان التجاري في صالح مصر، ثم تنقص نقودها، وهو أمر لا يحدث إلا في بلد فقد السيطرة على ماليته؛ فقد كانت الصادرات المصرية في سنة ١٩٢٣ قيمتها ٥٨٫٤ مليون جنيه، والواردات في تلك السنة قيمتها ٤٥٫٣ مليون جنيه أي بزيادة بلغ مقدارها ١٣٫١ في الصادرات عن الواردات، ومع ذلك نقصت النقود عندنا ١٫٥ مليون جنيه عما كانت عليه في سنة ١٩٢٢ السابقة عليها التي كان فيها الميزان التجاري ضدنا؛ لأن صادراتنا كانت فيها أقل من وارداتنا بمبلغ ١٩٫١ مليون جنيه، بينما في سنة ١٩٢٤ كانت صادراتنا قيمتها ٦٥٫٧ مليون جنيه بزيادة ١٥ مليون جنيه على وارداتنا التي كانت قيمتها ٥٠٫٧ مليون جنيه، ومع ذلك فإن النقود عندنا لم تزد إلا ٢٫٩ مليون جنيه، ولا تعليل لتلك الظاهرة وغيرها من الظواهر الشاذة التي أضرت بنا بين سني ١٩٢٠ و١٩٢٥ إلا بكون مصر قد تأثرت بسياسة التقلص التي أخذت بها إنجلترا تنفيذًا لمقترحات لجنة كنليف.

ولا يمكن أن يقوم عندنا أقل شك في أن سياسة امتلاك البنوك في مصر لسندات بريطانية قصيرة الأجل عرضةً للنقص بين وقت وآخر؛ هو من أهم أسباب حدوث الأزمات في مصر، وتفاقم ضررها؛ لأن البنوك الأجنبية في مصر تغل يدها عن إقراض المصريين إذا شعرت بأن النقود ستقل كميتها، وتشدد عليهم في دفع ديونهم عند استحقاقها بغير رحمة.

ولسنا ننسى للسياسة البريطانية في مصر أنها مكنت للبنك الأهلي من أن يتمتع بكافة امتيازات البنوك المركزية دون أن يكون عليه أية تبعة من تبعاتها قبل الحكومة المصرية نفسها، أو قبل البنوك التجارية الأخرى التي ينافسها في كافة أعمالها، ثم لا يمد لها يد المساعدة إذا وقعت في شدة من الشدائد التي تتعرض لها جميع البنوك.

لذلك كان زعيمنا الاقتصادي المرحوم طلعت حرب باشا على حق عندما رأى أن الاستقلال الاقتصادي هو سبيل الاستقلال السياسي الذي نطالب به؛ فأسس بنك مصر وشركاته العتيدة؛ ليستخلص لمصر خيراتها، ويحدث فيها نهضة صحيحة.

وكان العمل شاقًّا أمام طلعت حرب فقد توطدت أقدام البنوك الأجنبية الاستعمارية، بعضها فروع لبنوك عالمية، وبعضها تساعده حكوماته، وتبيح له أن يتستر وراء «شركة مصرية مساهمة» لينجو من الضرائب المفروضة في بلاده.

تلك البنوك الأجنبية — وعلى رأسها البنك الأهلي — وهي كما تدعي شركات مصرية لا تقبل توظيف المصريين، ولا تخاطبهم بلغتهم، وإنما يحلو لها أن تضم فقط إلى مجالس إدارتها بعض ذوي النفوذ من السياسيين المصريين.

ولقد كانت هذه البنوك الأجنبية تهزأ بطلعت حرب عندما أسس بنكه برأس مال صغير جدًّا ٨٠٠٠٠ جنيه لم تكن تذكر في سنة ١٩٢٠، وكانت تلك البنوك الأجنبية، ومن نشَّأتهم من ساسة المصريين يعدون مشروعات طلعت حرب محاولات خائبة، ولكنهم آمنوا به يوم أصبح رأس مال البنك بعد سنوات قليلة ١٠٠٠٠٠٠ جنيه، وراحوا يتقربون إليه، ولم يلبث طويلًا ذلك البنك حتى أصبح أكثر بنوك مصر إقراضًا على المحاصيل الزراعية وخصمًا للكمبيالات، وفتحًا للحسابات الجارية، ووصل إلى درجة هدد فيها البنك الأهلي بانتزاع مكانته، لولا أن البنك الأهلي يتمتع بنفوذ سياسي كبير، ويربح ربحًا طائلًا من عملية إصدار البنكنوت التي احتكرها وحده.

أما البنوك الأجنبية الأخرى، فقد أصيبت من جراء منافسة بنك مصر لها بنقص في أعمالها، وبعضها بالفعل أفلس، ثم عاد إلى عمله تحت اسم جديد، وبعضها اندمج مع بنك آخر، أو حل محله بنك استعماري بتكليف من حكومته التي عز عليها أن تصاب سمعة جاليتها في مصر.

وقد جعل طلعت حرب في أعمال بنك مصر أن يؤسس، أو يساهم في الشركات الصناعية، فنجح إلى حد كبير في إقامة كثير من الصناعات التي كنا في مسييس الحاجة إليها، واستطاع هذا الرجل العظيم أن يدحض فريةً كانت تملأ كتبنا المدرسية لتصرفنا عن الصناعة على اعتبار أن مصر بلد زراعي لا أمل فيه لمن يريد الصناعة، وكان من نتائج نجاح طلعت حرب أن مصر استطاعت أن توفر سنويا ٦٠٠٠٠٠٠ جنيه من ثمن الأقمشة التي تستوردها من الخارج.

أغاظ ذلك النجاح البنوك والشركات الأجنبية فاتهمت طلعت حرب بالتعصب؛ لأنه جعل أسهم البنك وشركاته لا يملكها غير المصريين، ورد على ذلك طلعت حرب بقوله: «لسنا متعصبين، وإنما نريد أن نعيش تحت سماء بلادنا، كما يعيش كل شعب حر في بلاده.» وانتقده أيضًا بعض الذين أُشربوا تقاليد البنوك الإنجليزية، وجاءوا يطبقون أوضاعها على مصر، فقالوا ما كان للبنك أن يجمع بين أعمال البنوك، وتأسيس الشركات الصناعية، واستندوا في زعمهم هذا على ما يجري عليه العمل في بلاد الإنجليز، حيث تبتعد البنوك عن الاشتراك في الأعمال الصناعية حتى لا ينعكس عليها ضرر، أو تصاب في سمعتها إذا أخفقت بعض الصناعات التي تشترك فيها.

وقد فات هؤلاء النظريين أن مصر غير إنجلترا، وأن نظام الخمس بنوك الكبرى نظام لا نظير لمثله في أي بلد من البلاد الأخرى، وأن أعمال النقل البحري وتأمينه، وخصم الحوالات الخارجية التي تخصصت فيها لندره قد مكن البنوك الإنجليزية من أن تكسب فئات مهما كانت قليلة في ذاتها إلا أنها لكثرة تلك العمليات قد أصبحت تدر على البنوك الإنجليزية أرباحًا طائلةً، تغنيها عن التطلع إلى الكسب من الاشتراك في الأعمال الصناعية، ومع ذلك فقد أخذت بعض تلك البنوك تميل إلى الاشتراك في الأعمال الصناعية.

أما في الدول الأخرى فإن نظام بنوك الأعمال (Banque d’affaires) التي تشتغل بالمشروعات الصناعية، وغيرها من الأعمال التي تأتي بأرباح كبيرة نظام مألوف متبع لا ينتقده أحد؛ لأن عمليات بنوك الودائع من خصم الأوراق التجارية والإقراض والكمبيو لا تدر عليها ما يمكنها بعد نفقاتها من صرف ربح طيب لمساهميها.
هذا ما قدره طلعت حرب، وما كان له أن يفعل غير ما فعل في بلد كمصر تزاحمت فيه بنوك أجنبية استعمارية تساعد جالياتها على احتلال مرافقه التجارية والصناعية؛ لذلك اختار طلعت حرب النظام الألماني الذي تباشر فيه البنوك مختلف الأعمال (Banque à tout faire) لتقوى الصناعة، وتنافس بها الدول الأخرى؛ فأسس بنك مصر على ذلك النمط الألماني، وجعله وشركاته مجموعةً متساندةً متعاضدةً تسعى إلى غاية كبرى هي إحداث نهضة مصرية صميمة لا مجرد الكسب لذاته من كل عمل على حدة.

وكان من برنامج طلعت حرب أن يجعل بنك مصر بنكًا مركزيًّا بكل معنى الكلمة، وقد رأيته يعد السنين والأيام الباقية في امتياز البنك الأهلي بفارغ الصبر ليحصل من حكومتنا لبنك مصر على امتياز إصدار البنكنوت، ولكن البنك الأهلي كان أحرص من أن يضيع فرصةً واتته فانتهزها قبل انتهاء امتيازه بثمان سنوات، وحصل من حكومتنا على مدة أربعين سنةً أخرى.

وكان من أغراض طلعت حرب أن يمد نفوذ مصر الاقتصادي إلى البلاد العربية لينهض بها؛ فأنشأ للبنك فروعًا في بعضها، وكان يرمي إلى استغلال مناجم تلك البلاد، وآبار البترول فيها بالاشتراك مع أهلها، ولكن السياسة عرفت كيف تضع العقبات في سبيل ذلك الرجل الخطر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤