الفصل الأول

نظرة على حياة توكفيل

وُلِد ألكسي دي توكفيل بعد فترة قصيرة من قيام الثورة الفرنسية في أسرة أرستقراطية أصيلة من نورماندي، وعاش من ٢٩ يوليو ١٨٠٥ وحتى ١٦ أبريل ١٨٥٩. وكان مرتبطًا بالنظام القديم في فرنسا بسبب أسرته، وبالنظام الجديد من خلال رؤيته للحرية. وقد شهد دخول الديمقراطية إلى فرنسا، وتنبَّأ بأنها ستنتشر في النهاية في جميع أنحاء العالم. كان اسم أسرته في الأصل هو كليرل، وقد حارَبَ أحد أفراد تلك الأسرة مع ويليام الفاتح في معركة هاستنجز في عام ١٠٦٦. وبالتدريج، حازتِ الأسرةُ على إقطاعية توكفيل في نورماندي، وفي عام ١٦٦١ أصبح اسم الأسرة توكفيل، ولا يزال قصر الأسرة موجودًا ويسكنه أحفاد شقيق ألكسي.

fig2
شكل ١-١: قصر توكفيل في نورماندي. عاش ألكسي في قصر الأسرة ولم يترك وريثًا يرثه.

حافَظَ ألكسي على لقبه وعاش في قصره المحبوب إلى قلبه، لكن بالرغم من أنه قضى وقتًا كبيرًا وأنفق مالًا كثيرًا للمحافظة على القصر، لم يترك وريثًا يرثه. من العجيب أنه لم يندم على ذلك، وقد قال ذات مرة إنه لم تكن لديه «أي رغبة حقيقية في المشاركة في يانصيب الأبوة الكبير.» إن تلك النظرة للأبوة تشي بمزيج من الازدراء الأرستقراطي للإنسان العادي وعدم الاكتراث الديمقراطي بمستقبل الأسرة، هذا إلى جانب الرصانة الفلسفية، لكن زواجه كان ببساطة أكثر ديمقراطيةً؛ فقد تزوَّجَ — كما اعترف هو بنفسه — من امرأة إنجليزية من طبقةٍ أقل من طبقته الاجتماعية، ليست من طبقة النبلاء (أصَرَّ على الارتباط بها، بالرغم من اعتراضات بعض أفراد أسرته).

fig3
شكل ١-٢: ماري موتلي، زوجة توكفيل المولودة نحو عام ١٨٣٠. وهي إنجليزية، بروتستانتية، تنتمي إلى الطبقة الوسطى، وهي تُعَدُّ اختيارًا غير اعتيادي كزوجة بالنسبة إلى رجل أرستقراطي فرنسي، لكن توكفيل كتب يقول لها: «إنكِ بلا مبالغةٍ الإنسانةُ الوحيدة في العالم التي تعرف خبايا روحي.»

توكفيل السياسي

رفض توكفيل أن يحمل لقبَ «كونت»، لكنه لم يرفض كلَّ المزايا التي مُنِح إياها بسبب انتسابه إلى أسرة أرستقراطية، ولقد استغلها لخدمة غايةٍ ديمقراطيةٍ فيما أطلق عليه «العالَم الجديد» القائم على الديمقراطية. وبالرغم من أنه عاش حياته باعتباره أرستقراطيًّا، فقد اتخذ جانب الديمقراطية، وحتى يقوم بهذا، دخل في المعترك السياسي. في النظام الأرستقراطي الذي كان قائمًا في النظام القديم في فرنسا، كان السبيل لِشَغل أيِّ منصبٍ سياسي هو من خلال التوارث الإقطاعي؛ فدخول السياسة — في اعتقاد توكفيل — كان بطبيعته أرستقراطيًّا لسبب بسيط، وهو أن الحكم يستوجب تحمُّلَ مسئولية الآخرين، وهكذا يكون السياسي في مرتبةٍ أعلى من الناس. كانت أول تجربة لتوكفيل في السياسة في ظلِّ الملكية البوربونية يرجع الفضل فيها لمكانة والده إيرفيه، الذي كان مسئولًا بالحكومة المحلية؛ ومن خلال نصحه ونفوذه، أصبح ألكسي في عام ١٨٢٧ قاضيًا تحت الاختبار لا يتقاضى راتبًا. بعد ذلك، كان عليه الترشُّح لمنصب رسمي في انتخاباتٍ كانت ديمقراطية بعض الشيء. نرى هنا تطبيقًا لمبدأين من مبادئه: إضفاءِ الصبغة الديمقراطية على نظام سياسي هو بالأساس وفي الأصل أرستقراطيٌّ، وتعلُّمِ السياسة بممارستها، وهي الفضيلة التي وجدها في الديمقراطية الأمريكية وكانت تتفرَّد بها. تلاقى المبدآن لأن النظام السياسي يمكن تحويله إلى النظام الديمقراطي، فقط إذا تنافَسَ الديمقراطيون من خلال الانتخابات على المناصب التي كانت ستئول دون ذلك إلى نبلاء الطبقة الأرستقراطية دون أي مجهود. ومن أعظم رؤى توكفيل أن تلك الفضيلة الضرورية للديمقراطية لا يمكن أن تُعتبَر أمرًا مسلَّمًا به في أي ديمقراطية، وأنها يمكن أن تكون مهدَّدةً بالفعل فيها.

كان دخول الحياة السياسية في عصر توكفيل مهمةً صعبةً؛ فبعد الثورة الفرنسية، عانَى نظامُ الحكم في فرنسا من سلسلةٍ من التقلُّبات الشديدة؛ بدءًا من الملكية البوربونية قبل عام ١٧٨٩، أو ما يُسمَّى ﺑ «النظام القديم»، إلى نظامٍ جمهوري دستوري، ثم لنظام جمهوري يعقوبي في عهد سُمِّي بعهد الإرهاب، ثم لأحداث ثيرميدور التي كانت ضد اليعقوبيين، ثم للإمبراطورية النابليونية، ثم لملكية بوربونية ثانية، ثم للنظام الملكي البرجوازي للويس-فيليب، ثم للجمهورية الثانية التي انقلب عليها وأطاح بها لويس نابليون الذي أسَّس إمبراطوريةً ثانيةً. إن تلك الاضطرابات جعلت رغبةَ أي شخص يطمح إلى الدخول في مجال السياسة مخاطرةً، كما كانت مصدرَ قلقٍ لأي مراقب للشأن الفرنسي. وبالنسبة إلى كاتب ومفكِّر مثل توكفيل، كانت تلك الأوضاع كفيلةً بابتعاده عن السياسة من أجل الحصول على الراحة والسكينة في حياته الخاصة، لتتوافر له فرصةٌ للتفكير وإطلاق العنان لموهبته الكبيرة في الكتابة. لكن توكفيل، الذي شعر بالقلق على حال فرنسا طوال حياته، شارَكَ بكل قوة في العمل السياسي، حتى عندما كان يتعارض هذا مع رغبته في الكتابة. على سبيل المثال، في عام ١٨٣٧ ترك توكفيل العملَ في الجزء الثاني من كتابه «الديمقراطية في أمريكا» ورشَّحَ نفسه في مجلس النواب في نظام لويس-فيليب، ورغم خسارته في المرة الأولى، مع أنه كان نبيلًا يترشح في منطقته، فقد أعاد الكَرَّة في عام ١٨٣٩ بشجاعة كبيرة وإصرار ديمقراطي، ونجح ثم أُعِيد انتخابه مرتين أخريين. وبعد سقوط نظام لويس-فيليب في عام ١٨٤٨، انتُخِب توكفيل في المجلس التأسيسي الذي كان منوطًا به التأسيس للجمهورية الثانية والمعاونة في وضع دستورها. ثم انتُخِب في المجلس الجديد بمقتضى هذا الدستور، وعمل وزيرًا للشئون الخارجية لمدة خمسة أشهر، حتى أقالَ الرئيسُ الجديد لويس نابليون الوزارةَ التي كان توكفيل عضوًا فيها. وفي ديسمبر من عام ١٨٥١، ألغى لويس نابليون النظامَ الجمهوري من خلال انقلابٍ، وحينها ترك توكفيل السياسةَ للأبد، بعد أن استمرَّ في ممارستها بقدرِ ما سمحَتْ له مبادئه وتطلَّبت ذلك. وكانت آخر تجربة سياسية له هي سجنه لمدة يومين على يد لويس نابليون لكونه نائبًا معارِضًا.

ما الذي جعل توكفيل الكاتب بالفطرة يدخل معتركَ الحياة السياسية الديمقراطية التي كان يشك في أنه يمكن أن ينجح فيها؟ بالنسبة إلى توكفيل، حريةُ الكتابة والنشر لا تكتمل دون حرية سياسية، وقد أراد أن يشعر بنفسه بتلك الحرية، وذلك بأن يتولَّى مناصبَ سياسيةً بدلًا من أن يراقب الأمور من الخارج فحسب. فلم يكن كافيًا لفهم حقيقة الأمور تأمُّلُها من معتزل هادئ، كما يفعل المُنظِّرون؛ فقد كان يرى أن رضا الروح وسكينتها، اللذين يقال في التقليد الفلسفي إنهما بمنزلة مكافأة للتأمُّل، لا يمكن الوصول إليهما، واعتقد أن الروح الإنسانية، وخاصةً روحه، «مضطربة ونهمة». كان يحتقر «كلَّ مُتَع هذا العالم»، لكن حتى يتجنَّب «البلادة الخطيرة» التي تصيب الروحَ عندما تحاول تأمُّل ذاتها، كان يسعى وراء تلك المتع. إن المتعة الأساسية كانت بالطبع هي الإحساس بالفخر، ذلك «الميل الطبيعي» الذي لديه ﻟ «القيام بأفعال عظيمة والتحلِّي بفضائل عظيمة»، وكل المتع الأخرى ثانوية؛ أيْ إنها مجرد وسائل للوصول لهذا الإحساس بالفخر. تطلَّع توكفيل وسعى على نحو واعٍ ومقصود وموجَّه إلى تمييز نفسه في الحياة؛ فهو يزدري الإحساس بالفخر ويسعى إليه في الوقت نفسه.

يبدو أن توكفيل فَهِم الرغبة في التميز بالمعنى السياسي فقط — أيْ ممارسة النشاط السياسي — بدلًا من المعنى العام المتمثِّل في إبراز الموهبة والذكاء من أجل تقدير الناس له. غير أنه كان يعتقد أن «فكره أهم من فعله»، ولقد كان محقًّا بالتأكيد في ذلك؛ فباعتباره سياسيًّا، كانت تعوزه القدرة على التواصل الفعَّال مع الناس العاديين، وقد كان مُدرِكًا لذلك؛ إذ اعترف (على نحو غير معلن، وذلك في عمله «ذكريات») أنه بالكاد يستطيع تذكُّر أسماء ووجوه زملائه العاديين في المجلس الوطني الذي كان عليه التعامُل معهم، قائلًا: «إنهم يُشعرونني بملل شديد.» وقال أيضًا إن الكتابة نوع من الفعل، ووسيلة مهمة للانخراط في السياسة. ويبدو أن الحرية السياسية بالنسبة إليه لها جانبان — النشاط السياسي والكتابة — وأنهما يلتقيان في العظمة.

في نظر أي فيلسوف، أو معظَم الفلاسفة، العظمةُ الإنسانية شيء ضئيل؛ تضخيم ذاتي للإنسان من المفترض أن يفقد حجمه وقيمته مقارَنةً بالخلود، لكن توكفيل يرى عكس ذلك؛ فقد قال في أحد الخطابات: «خيالِي يقفز بسهولة لِقِمَّة العظمة الإنسانية.» لم يكن الأمر أنه كان يظن نفسه إسكندرًا آخَر، لكنه لم يكن راضيًا عن مصادر الفخر الدنيوية التي كان يسعى إليها في نفس الوقت، غير أنه كان يشك في أن الرب ضَمِنَ عظمةَ الإنسان. إن الاضطراب في روحه له جانبان: تكبُّر أرستقراطي في ازدرائه، وفي نفس الوقت مسئولية ديمقراطية للاضطلاع بالمهام السياسية التي لم يَعُدِ النظامُ الأرستقراطي الطبقي الآن — في ظل الديمقراطية — قادرًا على القيام بها.

توكفيل الكاتب

إن الفشل النبيل كان أقصى ما كان يمكن أن يصل إليه توكفيل باعتباره سياسيًّا، وبقية حياته يجب النظر إليها باعتبارها أحداثًا في مسيرة كاتب. في واقع الأمر، كانت تجربته السياسية الأكثر إثارةً هي رصد وتسجيل الثورتين اللتين حدثَتَا في فرنسا في أعقاب الثورة الفرنسية، وذلك في عامَيْ ١٨٣٠ و١٨٤٨. وبصفته قاضيًا في عام ١٨٣٠، كان عليه أن يقرر ما إن كان سَيَدِين بالولاء للملك الأورلياني الجديد، متخليًا عن الوريث الشرعي للمُلك من آل بوربون؛ وهو ما فعله بالفعل. وفي يناير من عام ١٨٤٨، ألقى خطبة حذَّر فيها الحكومةَ من حدوث ثورة، لكن بالرغم من كونه عضوًا في مجلس النواب، فإنه لم يكن بوسعه شيء غير هذا التحذير، وكان مُرغَمًا على مراقبة الجمهورية الثانية وهي تُولَد دون أن يستطيع إيقافها، وهو ما فعله بالرغم ممَّا كان لديه من هواجس كثيرة حول مستقبلها الاجتماعي. في عام ١٨٥٠، وبينما كان يعاني من مرض السل الذي كان السبب في موته في النهاية، ألَّفَ كتابَه «ذكريات»، الذي كان محوره هو تلك الثورة، وكان نوعًا من «أحلام اليقظة» — بحسب قوله — وكان موجَّهًا بالأساس لأصدقائه وربما للنشر اللاحق (وهو الأمر الذي لم يحدث حتى عام ١٨٩٣ في واقع الأمر). هنا جاءت اللحظة التي اقترب فيها من مركز قيادة الثورة الديمقراطية التي طالما انشغل بدراستها، لكن كل ما كان يستطيع فعله هو المراقبة والكتابة، وقد فعل هذا بنجاح كبير.

تلقَّى توكفيل تعليمه المبكر على يد الأب ليسيور الذي كان معلم والده، وقد علَّمَه ليسيور تعليمًا دينيًّا تقليديًّا، لكنه دلَّـلَه وأصبح الاثنان صديقين مقربين. وعندما بلغ توكفيل السادسة عشرة، أرسله والده — الذي كان حينها حاكمًا على ميتز — إلى الجامعة لدراسة البلاغة والفلسفة. في ذلك الوقت، وكما حكى لاحقًا توكفيل، ذهب إلى مكتبة والده ووجد هناك كتبًا عن الفلسفة أحدثَتْ «زلزالًا» داخله، مما سمح ﻟ «موجةِ شكٍّ عامٍّ» بأن تجتاح روحه التي كانت قبل ذلك عامِرةً بالإيمان، وهذا الشك الذي استمر معه وعانى منه لبقية حياته، لم يُضعِف إيمانه بالرب فحسب، وإنما أضعف أيضًا إيمانه ﺑ «العالم الفكري» الخاص ﺑ «كل الحقائق» التي حدَّدَها لتكون أساسًا لمعتقداته وأفعاله.

fig4
شكل ١-٣: توكفيل، في سن السادسة عشرة أو السابعة عشرة، وهو يجلس إلى مكتب بجانب والده، إيرفيه دي توكفيل، في عام ١٨٢٢.

تجاهَلَ والد توكفيل الزلزال الذي حدث في روح ابنه وأرسله لدراسة القانون في باريس، وهو ما حدث من عام ١٨٢٣ وحتى عام ١٨٢٦. بعد ذلك بعامين، حضر محاضراتٍ كان يُلقِيها فرانسوا جيزو، الذي أصبح بعد ذلك رئيسَ وزراء فرنسا، وكان يدوِّن ملاحظاتٍ توضِّح أنه كان مُعجَبًا بأفكار جيزو عن تاريخ الإنسانية أو «الحضارة». وفي خطاب في ذلك الوقت، وصف أعمالَ جيزو بأنها غنية بالأفكار والألفاظ المدهشة؛ وكان جيزو وبنجامين كونستان أهم مفكِّرَيْن ليبراليَّيْن فرنسيَّيْن في أوائل القرن التاسع عشر، وكان توكفيل عادةً ما يُقارَن بهما، لكنهما كانَا يعتقدان، بخلاف توكفيل تمامًا، أن الليبرالية يمكن أن تقيِّد الديمقراطية دون أن يتعيَّن عليها التوافق معها. وأيًّا كان ما تعلَّمه توكفيل من هذين المفكرَيْن، فإنه لم يقترب من تلك النقطة الجوهرية. لكن كانت تلك المحاضرات فرصةً لأنْ يتقابل على نحوٍ مباشِر مع أشهر أقطاب الفِكر الليبرالي في عصره.

لكن كان تعليم توكفيل يعتمد إلى حدٍّ كبير على قراءاته الشخصية لأعمال مؤرخي عصره وكلاسيكيات الفلسفة السياسية، والكُتَّاب المفضلون لديه كانوا فرنسيين، وهم: باسكال، ومونتسكيو، وروسو، الذين قال عنهم في عام ١٨٣٦ إنهم هم: «الرجال الثلاثة الذين أقضي معهم بعضَ الوقت كلَّ يوم.» لكن بالإضافة إلى الكُتَّاب الذين كان يقرأ لهم، كان لديه أصدقاء يراسلهم كثيرًا، وكان يُعلِّم نفسه بتعليمهم، ومن بين هؤلاء الباحث الأدبي جيه جيه أمبير، والمُنظِّر الاجتماعي آرثر دي جوبينو، والاقتصادي الإنجليزي ناسو سنيور، والسياسي بيير-بول روييه-كولار، وأصدقاؤه المقرَّبون: فرانسيسك دي كورسيل، ومدام صوفي سويتشين، وأدولف دي سيركور، وأوجين ستوفل، وصديقه منذ الطفولة لوي دي كيرجورلي.

من أهم صداقاته كانت صداقته مع جوستاف دي بومون؛ فقد أرسل توكفيل لجوستاف ثلاثة مجلدات من الخطابات، واصطحبه في رحلته لأمريكا التي استمرت لمدة تسعة أشهر فيما بين عامَيْ ١٨٣١ و١٨٣٢، قبل تأليفه لكتاب «الديمقراطية في أمريكا». وقد دَرَسَ توكفيل وبومون معًا القانونَ وعملَا قاضيين في نفس المحكمة، وحضرَا المحاضرات التي كان يُلقِيها جيزو قبل رحلتهما الشهيرة، وسافرَا لأمريكا ليتعرَّفَا على «سمات الجمهورية العظيمة» — وذلك على حد قول توكفيل في أحد خطاباته — وهما يحملان فكرة غير واضحة المعالم عن القيام بمشروع مشترك. إن خطتهما الأكثر تحديدًا كانت تأليف كتابٍ عن إصلاح نظام السجون في أمريكا، وبالرغم من أن هذا لم يكن سوى «ذريعة» للسفر إلى هناك (كما أسرَّ توكفيل لكيرجورلي)، فإنهما ألَّفَا كتابًا عن هذا الموضوع بعنوان «عن نظام العقوبات في الولايات المتحدة وتطبيقه في فرنسا» بعد عامٍ من عودتهما من أمريكا، أكَّدَا فيه على ضرورة الإصلاح، لكنهما — وعلى نحو مميز لِلِيبرالية توكفيل — هاجمَا الآمال المُبالَغ فيها لدعاة الإصلاح.

طاف توكفيل وبومون معظم أنحاء أمريكا بحدودها المعروفة حينذاك، وبدأ الاثنان جولتَهما من نيويورك، ثم سافرَا باتجاه الشمال عبر بافلو، مرورًا بالبحيرات العظمى، وصولًا إلى ميشيجان وويسكونسن حيث توجد الحدود التي تفصل بين الطبيعة والحضارة، وبينما كان توكفيل هناك يكتب «على ظهر سفينة بخارية»، كتب تأمُّلات موجزة ولكن رائعة، عن هدوء الطبيعة وحديث الحضارة المختلف، مقارِنًا بين الأمريكيين من جهة والإنجليز والفرنسيين من جهة أخرى، ومعتبِرًا الهنودَ بشرًا غير متحضرين ومُعادِين للحضارة. وقد كان نتاج تلك التأمُّلات كتابًا بعنوان «أسبوعان في البرية» (ألَّفَه في عام ١٨٣١ حين كان في السادسة والعشرين من عمره)، وكان يسعى لنشره، لكنه لم يُنشَر حتى وفاته.

كتب توكفيل وبومون يومياتهما أثناء الرحلة، وبالرغم من أن يوميات توكفيل نُشِرت في كتابٍ بعنوان «رحلة إلى أمريكا»، فقد حوى الكتابُ ملاحظاتٍ غير ذات صلة، مخصَّصةً لأعماله اللاحقة، ولم يكن منظَّمًا مثل كتاب «أسبوعان في البرية». وفي مرحلةٍ ما أثناء الرحلة، أصبح المشروع المشترك بين توكفيل وبومون لإنتاج كتاب عن الجمهورية العظيمة في أمريكا مشروعًا خاصًّا بتوكفيل وحده، وهو ما لنا أن نخمن أنه كان قصده طوال الوقت. وبعد أن تجاوَزَ توكفيل وبوبون الحدودَ الأمريكية التي كانَا يعتبرانها مؤقتةً فقط، وأنها لن تستقر حتى تصل إلى ساحل المحيط الهادئ؛ ذهبَا إلى كندا، ثم جنوبًا إلى بوسطن وفيلادلفيا وبلاتيمور، ثم غربًا إلى بيتسبرج، ثم جنوبًا إلى ناشفيل وممفيس ونيو أورليانز، ثم سافرَا عبر ولاية جورجيا وولايتَيْ نورث وساوث كارولينا إلى واشنطن، وأخيرًا إلى نيويورك، التي عادَا منها إلى فرنسا. كانَا يتنقلان باستخدام السفن البخارية، ويمكثان في أكواخ خشبية، وقد أجريَا مقابلةً قصيرة مع الرئيس الأمريكي أندرو جاكسون، كما تحدَّثَا باستفاضة مع العديد من الأمريكيين، سواء أكانوا شخصيات بارزة أم أشخاصًا عاديين. وتمثَّلَ منهج توكفيل في البحث المسحي في طرح أسئلة تتناسب مع الشخص الذي يتمُّ سؤاله، ثم الاستماع لما يقوله ومحاورته بحثًا عن حقائق وآراء، بدلًا من تصنيف ردود الفعل على المجموعة ذاتها من الأسئلة، كما يفعل أي عالِم اجتماع معاصِر.

نُشِر كتاب توكفيل «الديمقراطية في أمريكا» في جزأين، يفصل بين نشْرِ كلٍّ منهما خمس سنوات، وذلك في عامَيْ ١٨٣٥ و١٨٤٠. حقَّقَ الجزء الأول الذي تحدَّثَ في معظمه عن أمريكا ومميزاتها وعيوبها، نجاحًا باهرًا، لكن الجزء الثاني، بتضمُّنه تحليلًا منظَّمًا وهواجسه بشأن مستقبل الديمقراطية، لم يُقابَل بالقدر المناسب من الترحيب. جلب الجزءُ الأول الشهرةَ والصيتَ لتوكفيل؛ حيث أثنى عليه كبار الكُتَّاب في فرنسا مثل شاتوبريان وسانت-بوف. وفي عام ١٨٣٨، عُيِّن عضوًا في أكاديمية العلوم الأخلاقية والسياسية، وفي عام ١٨٤١، وهو في سن السادسة والثلاثين، انتُخِب عضوًا في الأكاديمية الفرنسية حيث مارَسَ حياته الاجتماعية، خاصةً في سنوات حكم لويس نابليون بعد أن خرج توكفيل من الحياة السياسية. ألقى توكفيل محاضرةً عن علم السياسة في أكاديمية العلوم الأخلاقية والسياسية في عام ١٨٥٢، مميِّزًا هذا العلم عن «فن الحكم»؛ لأنه يركِّز على منطق الأفكار بدلًا من الجوانب المعتادة الأساسية الضرورية للحكم. لكن علم السياسة الخاص بتوكفيل اعتمد في منطقه على تلك الجوانب المعتادة بعد تنقيحها، بدلًا من معارضتها وتفنيدها كما كان يفعل مُنظِّرو الليبرالية.

لم تكن أمريكا هي الوجهة الوحيدة التي قصدها توكفيل؛ فقد سافر إلى صقلية في عام ١٨٢٧، وهي الرحلة التي نتج عنها كتابه الأول. وبعد رحلته لأمريكا، سافَرَ إلى إنجلترا في عام ١٨٣٣، ثم إلى إنجلترا وأيرلندا في عام ١٨٣٥؛ متلهِّفًا إلى رصد تطوُّر الديمقراطية في أكثر الدول ليبراليةً في أوروبا، ومهتمًّا بالإدارة الحكومية اللامركزية التي وجدها في أمريكا، وراغبًا في دراسة الفارق بين الأرستقراطية الإنجليزية والأرستقراطية الفرنسية. وقد سافَرَ أيضًا إلى سويسرا في عام ١٨٣٦، وإلى الجزائر في عامَيْ ١٨٤١ و١٨٤٦، وقد كتب تقارير عن الفقر («تقرير عن الإملاق»، ١٨٣٥) والعبودية والمستعمرات. وفي عام ١٨٥٠، بعد أن ترك السياسة، انكبَّ على تأليف كتاب عن الثورة الفرنسية التي طالما تأمَّلَها، وهو المشروع الذي مات قبل أن يُكمِله، غير أنه نشر الجزء الأول منه، الذي كان بعنوان «النظام القديم والثورة»، وذلك في عام ١٨٥٦. كان توكفيل، بحسب قوله في خطاب لكيرجورلي، يسعى لأن يكون هذا الكتاب «عملًا عظيمًا» يُعَدُّ «مزيجًا، إن أردنا الدقة، بين التاريخ والتاريخ الفلسفي»، مما يقدِّم تقييمًا عامًّا ﻟ «مجتمعاتنا الحديثة» ومستقبلها المحتمل. وقد أعلن أن «قضيته الأساسية هي قضية الحرية والكرامة الإنسانية»، وبالرغم من أنه ترك السياسة، فقد بقي فيها بكتاباته، ومن خلال دراسته للتاريخ، درَّسَ للآخرين الفلسفة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤